الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أُخْرَى لتعارض الإرادات فِي قُلُوبهم إِذْ مَعَهم أصل الْإِيمَان الَّذِي يَأْمر بِفعل الْوَاجِب وَينْهى عَن فعل الْقَبِيح وَمَعَهُمْ من الشُّبُهَات والشهوات مَا يَدعُوهُم إِلَى خلاف ذَلِك
وَأما مَا فعله الْإِنْسَان مَعَ اعْتِقَاد وُجُوبه وَتَركه مَعَ اعْتِقَاد تَحْرِيمه فَهَذَا يكون ثَابت الدَّوَاعِي والصوارف أعظم من الأول بِكَثِير وَهَذَا تحْتَاج تَوْبَته إِلَى صَلَاح اعْتِقَاده أَولا وَبَيَان الْحق وَهَذَا قد يكون أصعب من الأول إِذْ لَيْسَ مَعَه دَاع إِلَى أَن يتْرك اعْتِقَاده كَمَا كَانَ مَعَ الأول دَاع إِلَى أَن يتْرك مُرَاده وَقد يكون أسهل إِذا كَانَ لَهُ غَرَض فِيمَا يُخَالف مُوجب الِاعْتِقَاد مثل الآصار والأغلال الَّتِي على أهل الْكتاب وإذلال الْمُسلمين لَهُم وَأخذ الْجِزْيَة مِنْهُم مَعَ مُخَالفَة الْمُسلمين لَهُ فَهَذَا قد يكون دَاعيا إِلَى أَن ينظر فِي اعْتِقَاده هَل هُوَ حق أَو بَاطِل حَتَّى يتَبَيَّن لَهُ الْحق وَقد يكون أَيْضا مرغبا لَهُ فِي اعْتِقَاد يخرج بِهِ من هَذَا الْبلَاء
الِاعْتِقَاد والإرادة يتعاونان
وَكَذَلِكَ قهر الْمُسلمين لعدوهم بالأسر يَدعُوهُم إِلَى النّظر فِي محَاسِن الْإِسْلَام فللرغبة والرهبة تَأْثِير عَظِيم فِي معاونة الِاعْتِقَاد كَمَا للاعتقاد تَأْثِير عَظِيم فِي الْفِعْل وَالتّرْك فَكل وَاحِد من الْعلم وَالْعَمَل من الِاعْتِقَاد والإرادة يتعاونان فالعلم والاعتقاد يَدْعُو إِلَى الْعَمَل بِمُوجبِه والإرادة رَغْبَة وَرَهْبَة وَالْعَمَل بموجبها يُؤَيّد النّظر وَالْعلم الْمُوَافق لتِلْك الْإِرَادَة وَالْعَمَل كَمَا قَالَ من عمل بِمَا علم أورثه الله علم مَا لم يعلم
وَفِي الْقُرْآن شَوَاهِد هَذَا مُتعَدِّدَة فِي مثل قَوْله وَلَو أَنهم فعلوا مَا يوعظون بِهِ لَكَانَ خيرا لَهُم وَأَشد تثبيتا وَإِذا لآتيناهم من لدنا أجرا عَظِيما ولهديناهم صراطا مُسْتَقِيمًا [سُورَة النِّسَاء 66 - 68]
وَفِي قَوْله اتَّقوا الله وآمنوا بِرَسُولِهِ يُؤْتكُم كِفْلَيْنِ من رَحمته وَيجْعَل لكم نورا تمشون بِهِ وَيغْفر لكم وَالله غَفُور رَحِيم [سُورَة الْحَدِيد 28] وَغير ذَلِك
فَإِذا كَانَ الْإِنْسَان معاقبا على الِاعْتِقَاد كَمَا يُعَاقب الْكفَّار على كفرهم كَانَت التَّوْبَة مِنْهُ ظَاهِرَة كَمَا قَالَ تَعَالَى لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة وَمَا من إِلَيْهِ إِلَّا إِلَه وَاحِد وَإِن لم ينْتَهوا عَمَّا يَقُولُونَ ليمسن الَّذين كفرُوا مِنْهُم عَذَاب أَلِيم أَفلا يتوبون إِلَى الله ويستغفرونه وَالله غَفُور رَحِيم [سُورَة الْمَائِدَة 73 - 74] وَقَالَ تَعَالَى فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم فَاقْتُلُوا الْمُشْركين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وخذوهم واحصروهم واقعدوا لَهُم كل مرصد فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة فَخلوا سبيلهم [سُورَة التَّوْبَة 5]
فَأَما الإعقتاد المغفور كالخطأ وَالنِّسْيَان الَّذِي لَا يُؤَاخذ الله بِهِ هَذِه الْأمة كَمَا فِي قَوْله رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا [سُورَة الْبَقَرَة 286] وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح أَن الله قد فعل ذَلِك وكما قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِذا اجْتهد فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر فَهَذَا
قد يُقَال فِي مثله إِن قيل إِنَّه يُتَاب مِنْهُ فَكيف يُتَاب مِمَّا لَا ذمّ فِيهِ وَلَا عِقَاب وَإِن قيل لَا يُتَاب مِنْهُ فَكيف لَا يرجع الْإِنْسَان إِلَى الْحق إِذا تبين لَهُ
وَجَوَاب ذَلِك أَنه يُتَاب مِنْهُ كَمَا يُتَاب من غَيره لِأَن صَاحبه قد ترك مَا هُوَ مَأْمُور بِهِ فِي نفس الْأَمر من الْعلم وَمَا يتبعهُ من أَعمال الْقُلُوب والجوارح إِمَّا لعَجزه عَن بُلُوغه وَإِمَّا لتَقْصِيره فِي طلبه
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قد فعل من الِاعْتِقَاد وَمَا يتبعهُ من أَعمال الْقُلُوب والجوارح مَا هُوَ مَنْهِيّ عَنهُ فِي نفس الْأَمر لَكِن سقط عَنهُ النَّهْي لعدم قدرته على معرفَة قبحه والتكليف مَشْرُوط بالتمكن من الْعلم وَالْقُدْرَة فَلَا يُكَلف الْعَاجِز عَن الْعلم مَا هُوَ عَاجز عَنهُ وَالنَّاسِي والمخطىء كَذَلِك لَكِن إِذا تجدّد لَهُ قدرَة على الْعلم صَار مَأْمُورا بِطَلَبِهِ وَإِذا تجدّد لَهُ الْعلم صَار مَأْمُورا حِينَئِذٍ باتباعه وَصَارَ فِي هَذِه الْحَال مذموما على ترك مَا يقدر عَلَيْهِ من طلب الْعلم الْوَاجِب وعَلى ترك اتِّبَاع مَا تبين لَهُ من الْعلم
وَأَيْضًا فَمَا دَامَ غير مستيقن للحق فَهُوَ مَأْمُور بِطَلَب الْعلم الَّذِي يبين لَهُ الْحق والمعتقد المخطىء لَا يكون مُسْتَيْقنًا قطّ فَإِن الْعلم وَالْيَقِين يجده الْإِنْسَان من نَفسه كَمَا يجد سَائِر إدراكاته وحركاته مِثْلَمَا يجد سَمعه وبصره وَشمه وذوقه فَهُوَ إِذا رأى الشَّيْء يَقِينا يعلم أَنه رَآهُ وَإِذا علمه يَقِينا يعلم أَنه علمه وَأما إِذا لم يكن مُسْتَيْقنًا فَإِنَّهُ لَا يجد مَا يجده الْعَالم كَمَا إِذا لم يستيقن رُؤْيَته لم يجد مَا يجده الرَّائِي وَإِنَّمَا يكون عِنْده ظن وَنَوع إِرَادَة توجب اعْتِقَاده
هَذَا هُوَ الَّذِي يجده بَنو آدم فِي نُفُوسهم كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس وَلَقَد جَاءَهُم من رَبهم الْهدى [سُورَة النَّجْم 23] وَإِذا كَانَ الْإِنْسَان مَأْمُورا بِطَلَب الْعلم الَّذِي يحْتَاج إِلَيْهِ بِحَسب إِمْكَانه وَهُوَ إِذا لم يجد الْعلم اليقيني يعلم أَنه لم يجد الْعلم فَهُوَ مَأْمُور بِالطَّلَبِ وَالِاجْتِهَاد فَإِن ترك مَا أَمر بِهِ كَانَ مُسْتَحقّا للذم وَالْعِقَاب على ذَلِك فَإِذا تبين لَهُ الْحق وَعلمه وَعلم أَنه كَانَ جَاهِلا بِهِ مُعْتَقدًا غير الْحق كَانَ تَائِبًا بِمَعْنى أَنه رَجَعَ من الْبَاطِل إِلَى الْحق وَإِن كَانَ الله قد عفى عَنهُ مَا رَجَعَ عَنهُ لعَجزه إِذْ ذَاك وَكَانَ أَيْضا تَائِبًا مِمَّا حصل فِيهِ أَولا من تَفْرِيط فِي طلب الْحق فكثير من خطأ بني آدم من تفريطهم فِي طلب الْحق لَا من الْعَجز التَّام وَكَانَ أَيْضا تَائِبًا من اتِّبَاع هَوَاهُ أَولا بِغَيْر هدى من الله فَإِن أَكثر مَا يحمل الْإِنْسَان على اتِّبَاع الظَّن المخطىء هُوَ هَوَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس وَلَيْسَ تَوْبَة هَذَا وحاله كَحال من كَانَ عَاجِزا عَن الْفِعْل ثمَّ قدر عَلَيْهِ كَالْمَرِيضِ الَّذِي لَا يُطيق الْقيام إِذا قدر عَلَيْهِ بعد ذَلِك وكالخائف إِذا أَمن وكالمصلي بِتَيَمُّم وَنَحْو هَؤُلَاءِ
وَذَلِكَ أَن هَؤُلَاءِ إِذا كَانَت إرادتهم للْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ على وجهة الْكَمَال ثَابِتَة فِي قُلُوبهم وَقد عمِلُوا مَا يقدرُونَ عَلَيْهِ من المُرَاد وَإِنَّمَا تركُوا تَمَامه لعجزهم كَانَ لَهُم مثل ثَوَاب الْفَاعِل كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ عَن أبي مُوسَى إِذا مرض العَبْد أَو سَافر كتب لَهُ من الْعَمَل مَا كَانَ يعْمل وَهُوَ صَحِيح مُقيم وَفِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ إِن بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مسيرًا وَلَا قطعْتُمْ وَاديا إِلَّا كَانُوا مَعكُمْ حَبسهم الْعذر
وَقد قَالَ تَعَالَى لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ غير أولي الضَّرَر وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيل الله بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم [سُورَة النِّسَاء 95] فَهَؤُلَاءِ لَهُم علم بالمأمور بِهِ الْكَامِل واعتقاد الْأَمر بِهِ وَإِرَادَة فعله بِحَسب الْإِمْكَان وَهَذَا كُله من أدائهم للْمَأْمُور بِهِ فَإِذا تَجَدَّدَتْ لَهُم قدرَة لم يَتَجَدَّد رَغْبَة فِي الْفِعْل الْكَامِل وَإِنَّمَا يَتَجَدَّد الْعَمَل بِتِلْكَ الرَّغْبَة الْمُتَقَدّمَة وَإِن كَانَ لَا بُد لهَذَا الْفِعْل من إِرَادَة تخصه وَلم يكن هَؤُلَاءِ مأمورين بذلك إِلَّا فِي هَذِه الْحَال فَقَط كَمَا تُؤمر الْمَرْأَة بِالصَّلَاةِ عِنْد انْقِضَاء الْحيض وكما يُؤمر الصَّبِي بِمَا يجب عَلَيْهِ عِنْد بُلُوغه وكما يُؤمر المزكى بِالزَّكَاةِ بعد ملك النّصاب والحول وَالْمُصَلي بِالصَّلَاةِ بعد دُخُول الْوَقْت
وَأما النَّاسِي والمخطىء فَإِنَّهُ لم يكن قد أَتَى بِالْعلمِ والاعتقاد والإرادة فَلَا يُثَاب على هَذِه الْأُمُور الَّتِي لم تكن لَهُ بل يكون الَّذِي حصل لَهُ ذَلِك أفضل مِنْهُ بهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى هَل يَسْتَوِي الَّذين يعلمُونَ وَالَّذين لَا يعلمُونَ [سُورَة الزمر 9] فنفى الْمُسَاوَاة بَين الَّذِي يعلم وَالَّذِي لَا يعلم مُطلقًا لم يسْتَثْن الْمَعْذُور كَمَا اسْتثْنى فِي تَفْضِيل الْمُجَاهِد على الْقَاعِد الْمَعْذُور
وَكَذَلِكَ سَائِر مَا فِي الْقُرْآن من نَحْو هَذَا كَقَوْلِه وَمَا يَسْتَوِي
الْأَعْمَى والبصير وَلَا الظُّلُمَات وَلَا النُّور وَلَا الظل وَلَا الحرور وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَات [سُورَة فاطر 19 - 22] وَقَوله مثل الْفَرِيقَيْنِ كالأعمى والأصم والبصير والسميع هَل يستويان مثلا [سُورَة هود 24] وَقَوله أَو من كَانَ مَيتا فأحييناه وَجَعَلنَا لَهُ نورا يمشي بِهِ فِي النَّاس كمن مثله فِي الظُّلُمَات لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا [سُورَة الْأَنْعَام 122]
وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِذا اجْتهد فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر لم يَجْعَل أجر الْعَاجِز على إِصَابَة الصَّوَاب مَعَ اجْتِهَاده كَأَجر الْقَادِر عَلَيْهِ كَمَا جعل للْمَرِيض وَالْمُسَافر مثل ثَوَاب الصَّحِيح الْمُقِيم كَمَا جعل الْمَعْذُور من القاعدين عَن الْجِهَاد الَّذِي تمت رغبته بِمَنْزِلَة الْمُجَاهِد فَإِن الأَصْل هُوَ الْقلب وَالْبدن تَابع فالمستويان فِي عمل الْقلب إِذا فعل كل مِنْهُمَا بِقدر بدنه متماثلان بِخِلَاف المتفاضلين فِي عمل الْقلب علمه وإرادته وَمَا يتبع ذَلِك فَإِنَّهُمَا لَا يتماثلان وَلِهَذَا يُعَاقب العَبْد على مَا تَركه من الْإِيمَان بِقَلْبِه
وَإِن قيل إِن ذَلِك تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق وَلَا يُعَاقب على مَا عجز عَنهُ بدنه بِاتِّفَاق الْمُسلمين فَهُوَ يُعَاقب على ترك مَا أَمر بإرادته وَفعله وَإِن كَانَت نَفسه لَا تريده وَلَا تحبه وَلَيْسَ هُوَ معاقبا على ترك مَا عجز عَنهُ بدنه كجهاد المقعد وَالْأَعْمَى وَنَحْوهمَا وَنَفسه إِنَّمَا لَا تعلم الْحق الَّذِي بعث الله بِهِ رسله وَلَا تريده لتَفْرِيطه وتعديه إِذْ آيَات ذَلِك الْحق ظَاهره وَهُوَ مَحْبُوب وَقد خلق الله كل مَوْلُود على الْفطْرَة الَّتِي تَتَضَمَّن الْقُوَّة على معرفَة
هَذَا الْحق وعَلى محبته وَلَكِن غير فطرته بِمَا يقلده عَن غَيره كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة فأبوه يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ويمجسانه كَمَا تنْتج الْبَهِيمَة بَهِيمَة جَمْعَاء هَل تُحِسُّونَ فِيهَا من جَدْعَاء وَإِذا كَانَ قد خلق على الصِّحَّة والسلامة فَهُوَ يسْتَحق الْعقُوبَة على مَا غَيره من خلق الله بتفريطه وعدوانه لاتباعه الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس
وَقد بعث الله الرُّسُل مبشرين ومنذرين وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا [سُورَة الْإِسْرَاء 15] وَهَذَا مِمَّا يظْهر بِهِ الْفرق بَين الْمُجْتَهد المخطىء وَالنَّاسِي من هَذِه الْأمة فِي الْمسَائِل الخبرية والعملية وَبَين المخطىء من الْكفَّار وَالْمُشْرِكين وَأهل الْكتاب الَّذِي بلغته الرسَالَة إِذا قيل إِنَّه غير معاند للحق فَإِن ذَاك لَا يكون خَطؤُهُ إِلَّا لتَفْرِيطه وعدوانه لَا يتَصَوَّر أَن يجْتَهد فَيكون مخطئا فِي الْإِيمَان بالرسول بل مَتى اجْتهد وَالِاجْتِهَاد استفراغ الوسع فِي طلب الْعلم بذلك كَانَ مصيبا للْعلم بِهِ بِلَا ريب
فَإِن دَلَائِل مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول ودواعيه فِي نِهَايَة الْكَمَال والتمام الَّذِي يَشْمَل كل من بلغته وَلَا يتْرك أحد قطّ اتِّبَاع الرَّسُول إِلَّا لتفريط وعدوان فَيسْتَحق الْعقَاب بِخِلَاف كثير من تَفْصِيل مَا جَاءَ بِهِ فَإِنَّهُ قد يعزب علمه عَن كثير
من خَواص الْأمة وعوامها بِحَيْثُ لَا يكونُونَ فِي ترك مَعْرفَته لَا مقصرين وَلَا مفرطين فَلَا يعاقبون بِتَرْكِهِ مَعَ أَنهم قد آمنُوا بِهِ إِيمَانًا محملًا فِي إِيمَانهم بِمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُل فهم آمنُوا بِهِ مُجملا وَمَعَهُمْ أصُول الْإِيمَان بِهِ كَمَا أَن الْفَاسِق مَعَه الدَّوَاعِي لفعل الْمَأْمُور وَترك الْمَحْظُور
فَلهَذَا كَانَ المخطىء بالتأويل من هَذِه الْأمة وَالْفَاسِق بِالْفِعْلِ مَعَ صِحَة الِاعْتِقَاد كل مِنْهُمَا محسنا من وَجه مسيئا من وَجه وَلَيْسَ وَاحِد مِنْهُمَا كالكفار من الْمُشْركين وَأهل الْكتاب وَإِن كَانُوا فِي ذَلِك على دَرَجَات مُتَفَاوِتَة بل كل مِنْهُمَا لَيْسَ تَارِكًا لما أَمر بِهِ من الِاعْتِقَاد وَالْعَمَل مُطلقًا وَلَا فَاعِلا لضده مُطلقًا بل المتأول قد آمن إِيمَانًا عَاما بِكُل مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول واستسلم لكل مَا أمره بِهِ وَهَذَا الْإِيمَان وَالْإِسْلَام يتَنَاوَل مَا جَهله ويدعوه إِلَى الْإِيمَان وَالْإِسْلَام الْمفصل إِذا علمه لَكِن عَارض ذَلِك من جَهله وظلمه لنَفسِهِ مَا قد يكون مغفورا لَهُ وَقد يكون معذبا بِهِ
وَلذَلِك الْفَاجِر بِالْعَمَلِ مَعَه من الْإِيمَان بقبح الْفِعْل وبغضه مَا هُوَ دَاع لَهُ إِلَى فعل الأَصْل الْمَأْمُور بِهِ وداع لَهُ إِلَى تَركه لَكِن عَارض ذَلِك من هَوَاهُ مَا منع كَمَال طَاعَته بِخِلَاف المكذب للرسول صلى الله عليه وسلم وَالْكَافِر بِهِ فَإِنَّهُ لم يصدق بِالْحَقِّ وَلم يستسلم لَهُ لَا جملَة وَلَا تَفْصِيلًا لَكِن قد يكون مَا اتبعهُ من ظَنّه وهواه مُوجبا لبَعض مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول ومانعا لَهُ من النّظر فِيهِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيع مَعَ ذَلِك أَن يسمع بِهِ فَهَذَا وَاقع كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وعرضنا جَهَنَّم يَوْمئِذٍ للْكَافِرِينَ عرضا الَّذين كَانَت أَعينهم فِي غطاء عَن ذكري وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سمعا [سُورَة الْكَهْف 100 - 101]
وَقَالَ تَعَالَى وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أُولَئِكَ يعرضون على رَبهم وَيَقُول الأشهاد هَؤُلَاءِ الَّذين كذبُوا على رَبهم أَلا لعنة الله على الظَّالِمين الَّذين يصدون عَن سَبِيل الله ويبغونها عوجا وهم بِالآخِرَة هم كافرون أُولَئِكَ لم يَكُونُوا معجزين فِي الأَرْض وَمَا كَانَ لَهُم من دون الله من أَوْلِيَاء يُضَاعف لَهُم الْعَذَاب مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السّمع وَمَا كَانُوا يبصرون [سُورَة هود 18 - 20]
لَكِن عدم هَذِه الإستطاعة كَانَ بتفريطه وعدوانه وَمن كَانَ تَركه للْمَأْمُور بذنب مِنْهُ أَو ضَرُورَته إِلَى الْمَحْظُور بذنب مِنْهُ لم يكن ذَلِك مَانِعا من ذمه وعقابه وَمن هَذَا قَوْله سُبْحَانَهُ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كَمَا لم يُؤمنُوا بِهِ أول مرّة [سُورَة الْأَنْعَام 11] وَقَالَ تَعَالَى وَقَالُوا قُلُوبنَا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا مَا يُؤمنُونَ [سُورَة الْبَقَرَة 88] وَقَالَ وَقَوْلهمْ قُلُوبنَا غلف بل طبع الله عَلَيْهَا بكفرهم فَلَا يُؤمنُونَ إِلَّا قَلِيلا [سُورَة النِّسَاء 155]
وَبِهَذَا يظْهر ضعف قَول طَائِفَة من الْمُتَكَلِّمين الَّذين يَقُولُونَ الْخَطَأ وَالْإِثْم يتلازمان ثمَّ مِنْهُم من يَقُول كل مُجْتَهد فِي الْمسَائِل العملية مُصِيب كَمَا يَقُوله كثير من الْمُعْتَزلَة والأشعرية وَمِنْهُم من يَقُول بل فِيهَا مخطىء والمخطىء آثم كَمَا يَقُوله المريسي وَغَيره وَذَلِكَ أَنهم اعتقدوا أَنه حَيْثُ يكون مخطئا يكون تَارِكًا لما وَجب عَلَيْهِ
ثمَّ قَالَ الْأَولونَ فَإِذا لم يكن تَارِكًا للْمَأْمُور بِهِ فَلَا يكون لله فِي الْمَسْأَلَة حكم معِين أَو لَا يكون الحكم الْمَنْصُوص حكما فِي حَقه إِذا لم يتَمَكَّن من مَعْرفَته
وَقَالَ الْآخرُونَ بل إِذا كَانَ مخطئا يكون تَارِكًا للْمَأْمُور بِهِ فَيكون آثِما
وَالتَّحْقِيق أَنه مَأْمُور بِهِ أمرا مُطلقًا لَكِن شَرط الْإِثْم بِمَنْزِلَة التَّمَكُّن من مَعْرفَته فَإِذا لم يتَمَكَّن من مَعْرفَته لَا يكون شَرط الْإِثْم مَوْجُودا فِيهِ وَلَكِن ذَلِك لَا ينفى أَن يكون هُوَ الْمَأْمُور بِهِ وَهُوَ الَّذِي يُحِبهُ الله ويرضاه ويثيب فَاعله إِذا فعله وَإِنَّمَا سقط عَن بعض الْعباد لفَوَات الشَّرْط فِي حَقه خَاصَّة وَحِينَئِذٍ فَيكون النزاع فِي بعض الْمَوَاضِع نزاعا لفظيا
وَلِهَذَا اخْتلف الْعلمَاء هَل هُوَ مُصِيب فِي اجْتِهَاده وَإِن كَانَ مخطئا فِي نفس الْأَمر أَو هُوَ مخطىء فِي اجْتِهَاده وَفِي نفس الْأَمر على قَوْلَيْنِ ذكرهمَا القَاضِي رِوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد وَذَلِكَ أَن الْخَطَأ فِي الِاجْتِهَاد قد يَعْنِي بِهِ الْقُصُور وَالتَّقْصِير وَقد لَا يَعْنِي بِهِ إِلَّا التَّقْصِير إِذْ الْعَاجِز عَن معرفَة الحكم الَّذِي لله عَاجز قَاصِر لَيْسَ بمقصر وَلَا مفرط فِيمَا بعد عَلَيْهِ فَإِذا قَالَ أَخطَأ فِي اجْتِهَاده أَرَادَ أَخطَأ فِي استدلاله بِمَعْنى أَنه لم يسْتَدلّ بِالدَّلِيلِ الَّذِي يوصله إِلَى نفس الْحق وَلَا ريب أَنه أَخطَأ هَذَا الإستدلال الْموصل لَهُ إِلَى الْحق إِذْ لَو أَصَابَهُ لأصاب الْحق لكنه لم يكن قَادِرًا على هَذَا الإستدلال فَلَا يُعَاقب على تَركه
وَمن قَالَ لم يخطىء فِي اجْتِهَاده أَرَادَ أَنه لم يخطىء فِيمَا قدر عَلَيْهِ من الِاجْتِهَاد بل فعله على وَجهه لَكِن لم يكن مقدوره من الِاجْتِهَاد كَافِيا فِي إِدْرَاك الْمَطْلُوب فِي نفس الْأَمر