المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ إخبار الله في القرآن أنه مع عباده جاء عاما وخاصا - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ٣

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌ وصف الأصول المعتمدة

- ‌ نماذج من النسخ الخطية

- ‌ زيارة قبور المؤمنين

- ‌ الصلاةَ عند القبور

- ‌لا يستغني القلب إلا بعبادة الله تعالى

- ‌ مبدأ عبادة الأوثان: العكوف على قبور الأنبياء والصالحين

- ‌زيارة القبور جائزةٌ على الوجه المأذون فيه

- ‌ أصل النذر مكروه منهيٌّ عنه

- ‌لا ثوابَ على إعانة العاكفين على القبور والمجاورين عندها بصدقةٍ ولا غيرِها

- ‌ إنشاد الشعر الفراقي في المأتم من النياحة

- ‌ زيارة القبور على وجهين:

- ‌الزيارة الشرعية

- ‌ الزيارة البدعية

- ‌ الشيوخ الذين يَستحقُّون أن يَكُونوا قدوةً

- ‌ إخبارُ الله في القرآن أنه مع عبادِه جاءَ عامًّا وخاصًّا

- ‌الجواب الرابعأن الناس متفقون على أنه لا يَسُوغُ كل تأويل

- ‌ الثاني: أن يقولوا بالتأويل الذي قام عليه دليلٌ شرعي

- ‌ الثالث: أن يُسلِّموا أن كل تأويل قام عليه دليلٌ سمعي أو عقليٌّ فإنه يجب قبولُه

- ‌ هذا التصور باطلٌ

- ‌منشأ الضلال أن يظنّ أن صفاتِ الربّ كصفاتِ خلقِه

- ‌الناس في ذلك ثلاثة أصنافٍ:

- ‌ ذكر لفظ "الجسم" في أسماء الله وصفاتِه بدعة

- ‌ مسألة أطفال المشركين

- ‌ الخامسة دار التكليف

- ‌ السادسةأن غير المكلَّف قد يُرحَم

- ‌لابد من حصول الألم لكل نفسٍ

- ‌ المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية النعم والمصائب

- ‌ التسبيح مقرون بالتحميد

- ‌ التسبيح والتحميد يجمع النفي والإثبات

- ‌التهليل يمنع أن يُعبَد غيرُه

- ‌الحمد مفتاح الكلام

- ‌ليس المراد أن الحمد غير التسبيح، بل نفس تسبيح الله هو حمد الله

- ‌ الناسُ مأمورون أن يقرأوا القرآن على الوجه المشروع

- ‌عدمُ الشرط هل يدلُّ على عدم المشروط

- ‌ الصلاة مؤلفة من أقوالٍ وأفعالٍ

- ‌أعظم أقوالها القرآن، وأعظمُ أفعالِها الركوعُ والسجودُ

- ‌الركوع مع السجود تقدمةٌ وتوطئةٌ وبابٌ إليه

- ‌متى انتقض عهدُهم جاز أخذُ كنائس الصلح منهم فضلًا عن كنائس العنوة

- ‌ليس ليومِ عيدِهم مزيةٌ على غيرِه

- ‌ليس لأحدٍ أن يعتدي على أحدٍ سواء كان شريفًا أو لم يكن

- ‌ ذكر هذه الروايات

- ‌ لا حضانةَ لفاسقٍ

- ‌ جعلُ البنت المميزة عند الأب- أرجح

الفصل: ‌ إخبار الله في القرآن أنه مع عباده جاء عاما وخاصا

قال: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ)، فالظرفُ مذكورٌ بعدَ جملةٍ لا بعدَ مفردٍ، فهو متعلق بما في اسم "الله" من معنى الفعل، هو الله في السماوات: أي المعبود الإله في السماوات، والإله المعبود في الأرض، كقوله:(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ)، بخلاف قوله:(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ)

(1)

وقوله: (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا)

(2)

، فإنه لم يذكر ما يتعلق به قوله "في السماء" غير نفسِه.

وكذلك الأثر الذي يُروَى عن ابن عباس أنه قال: "الحجر الأسودُ يمينُ اللهِ في الأرض، فمن صافحَه واستلَمه فكأنما صافحَ اللهَ وقَبَّلَ يمينَه"

(3)

، فمن قال: إن هذا يحتاج إلى تأويل فقد أخطأ، فإنه ليس ظاهر هذا أن الحجر هو صفةُ الله، فإنه قال:"يمين الله في الأرض"، فقيَّده بكونه "في الأرض"، وهذا بيَّن أنه ليس هو صفةَ اللهِ. ثم قال:"فمن صافحَه وقَبَّلَه فكأنما صافحَ الله وقَبَّل يمينَه"، والمشبَّه غيرُ المشبَّه به، فقد صرَّح بأن المستلم له لم يصافحِ الله، وإنما هو مشبَّهٌ بذلك.

الوجه الثالث أن يقال:‌

‌ إخبارُ الله في القرآن أنه مع عبادِه جاءَ عامًّا وخاصًّا

، فالعام كقوله:(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7))

(4)

، وقال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى

(1)

سورة الملك: 16.

(2)

سورة الملك: 17.

(3)

سبق تخريجه. وتكلم عليه المؤلف في "مجموع الفتاوى"(6/ 397 وما بعدها).

(4)

سورة المجادلة: 7.

ص: 163

عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4))

(1)

. ففَتَحَ الكلامَ بالعلم وخَتَمه بالعلم.

وأما الخاصّ فكقوله: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)

(2)

، فهذا بيّن أنه ليس مع الفجّار والظّالمين، ولو كان بذاتِه في كل مكان لكان مخالفًا لهذه الآية.

وكذلك قوله لموسى وهارون: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46))

(3)

، فهو مع موسى وهارون دون فرعون وقومه.

وكقوله عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)

(4)

، فهو مع النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، لا مع الكفّار كأبي جهل وأمثالِه.

فلو كانت المعيَّةُ معناها الاختلاط والامتزاج، وكان في كل مكانٍ بذاته، لم يَجُزْ أن يكون في المعيَّةِ تخصيصٌ. فمن زَعَم أن معناها الامتزاج والاختلاط وأن ظاهرها أن يكون في كل مكانٍ فقد أخطأ، ولكن المعية وإن دلَّت على المصاحبة والمقارنة فهي في كل مكانٍ بحسب ما دلَّ عليه السياقُ. فلما كان في تلك

(5)

الآيتين قد افتتح الآية بالعلم وختمَها بالعلم، دَلَّ ذلك على أن من حكم المعية أنه

(1)

سورة الحديد: 4.

(2)

سورة النحل: 128.

(3)

سورة طه: 46.

(4)

سورة التوبة: 40.

(5)

كذا في الأصل بالإفراد، والأولى "تَينك".

ص: 164

عليم بكل شيء. وهنا لمَّا كان السياقُ يدلُّ على أن المقصودَ الإعانةُ والنصر دل على أن من حكم المعيَّة النصر والمعونة، فقول القائل "أنا معك" معناه: أني مصاحبك ومقارِنُك، وإذا كان كذلك اقتضَى أنّي أعلم حالك، وقد يقتضِي إذًا أنِّي أُعِينك وأنصرك على أعدائك.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "اللهم أنتَ الصاحبُ في السفر، وأنت الخليفة في الأهل، اللهم اصحَبْنا في سفرِنا واخْلُفْنا في أهلنا"

(1)

. وهذا وأمثالُه بيَّن أن لفظ المعية في القرآن ليس فيه هذا التأويل المتنازع فيه، وهو صَرْفُ اللفظ عن الاحتمال

(2)

الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليلٍ يَقترِن بذلك، فإن هذا إنما يكون إذا كان ظاهرُ قوله (وَهُوَ مَعَكُمْ) يقتضي أن يكون الله ممتزجًا بنا حَالاًّ في أجوافِنا، أو أن يكون إلى جوانبنا، وليس هذا مدلولَ لفظ المعية أصلًا، فبطل ما قال. بل يُقال:

الجواب الثاني

وهو أن قوله (وَهُوَ مَعَكُمْ) يَدُلُّ على نقيض قولِ الجهمية، فإنه ذكر نفسه وذكر أنه معهم، ولفظ الخطاب -إذا قيل: هم وأنتم ومعكم ونحو ذلك- يتناول ما يتناوله الاسمُ الظاهر، واسمهُم يتناول جميعَ ذاتهم وصفاتِهم فأبعاضهم، وذلك يمتنع

(3)

أن يكون في أحدهم شيءٌ من غيره. فإذا كان هو معهم دلَّ ذلك على أنه منفصل عنهم بائن منهم خارج عنهم، كما في نظائرِه. بل قوله "رب الناس" "ملك

(1)

أخرجه مسلم (1342) عن ابن عمر.

(2)

في الأصل: "احتمال".

(3)

كذا في الأصل، والأولى "يمنع".

ص: 165

الناس" و"رب العالمين" ونحو ذلك يقتضي أنه مغايرٌ للناس مباين لهم، لأنَ الربَّ مُغايرٌ للمربوب، فإذا قيل: "هو معهم أنه اقتضى أنه مغايرٌ لهم، ولمسمَّى "مع" الذي هو معنى الظرف اللفظي، فإنه إذا قيل:"هذا فوق هذا" اقتضى أنه مغايرٌ مباينٌ لما هو فوقه ولنفس المسمَّى بلفظ فوقه، ولفظُ "مع" هو من هذا الجنس ظرفٌ من الظروف، فيقتضي ذلك أن يكون المتعلق بهذا الظرف مغايرًا مباينًا له ولما أضيف إليه الظرف، ولا نزاع أن الشيء إذا كان فوق الشيء جاز أن يقال: هو معه، وقد يُجعَل الأعلى مع الأسفل، كما يقال:"هذا الحِمْلُ معي"، وقد يُجعَل الأسفل مع الأعلى، كما يقال:"هذا المركوب معي"، وقد يقال لما هو مباينٌ منفصلٌ عنه، كما يقال: "هذه الغاشية

(1)

معي"، وقد يقال: "سِرْنا البارحةَ والقمرُ معنا"، وأمثال ذلك مما يقتضي المباينة والانفصال.

فعُلِم بذلك أن كونه (وَهُوَ مَعَكُمْ) لا ينفي أن يكون الربّ مباينًا لهم، ولا يقتضي أن يكون على جوانبهم، بل غايتُه أن يكون بحيث هو مضافٌ إليه مما يُسمِّيه النحاةُ ظرفًا كالفوق ونحوه، فلا يكون بين قوله "فوقهم" وقوله "معهم" منافاة، بل يكون لفظ "المعية" دلَّ على مطلق أنه حيث يضاف إليهم، ولفظ "الفوقية" دلَّ على خصوص ذلك ولو معية هي فوقية، ليست تيامنًا ولا تياسُرًا.

وحقيقة الأمر أن لفظ "مع" في الأصل معناه واحدٌ، وهو المصاحبة والمقارنة والمشاركة في مسمى "مع" الذي هو معنى الظرف، وهو ظرف إضافي. فقوله "هذا معه" بمنزلة قوله "هذا مصاحبٌ له مفارقٌ له"، وهو يقتضي مطلقَ المصاحبة والمقارنة لا نوعًا منهم إلا بتفصيل وتخصيص.

(1)

أي الزوَّار والأصدقاء.

ص: 166

وكذلك إذا قيل: هو يقتضي مطلق الموافقة أو المشاركة فيما قد يُسمَّى مكانًا ونحو ذلك من الأسماء، فإنه لا يدلُّ إلا على مطلق هذه الموافقة، لكن قد يكون من لوازم ذلك موالاة أحدهما للآخر محبةً ونصرةً، كما يقال: فلان معي وفلان علىَّ، إذ كان من شأن المتحابين قربُ كلٍّ منهما إلى الآخر حتى يتفقا في محل واحد، وقد يكون من لوازم ذلك معرفة كل منهما بالآخر أو معاونته، إذ من شأن المجتمعين من الآدميين في محلٍّ معرفة أحدهما الآخر ومعاونته له.

وهذا كما أن لفظ "العلم" في الأصل إنما يقتضي معرفة المعلوم، ثم قد يكون من لوازم ذلك ما يقتضيه العلم من محاسبة الشخص ومجازاته ونحو ذلك، كما في قوله (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108))

(1)

، وكما في قوله (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى)

(2)

، وقوله تعالى (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا) إلى قوله (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (14))

(3)

.

وكذلك "السمع" و"البصر"، مثل قوله:(لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ)

(4)

، وقوله:(الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219))

(5)

، وقوله:

(1)

سورة النساء: 108.

(2)

سورة الإسراء: 47.

(3)

سورة النور: 63 - 64.

(4)

سورة آل عمران: 181.

(5)

سورة الشعراء: 218 - 219.

ص: 167

(وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عملَكمْ ورَسُولُهُ وَالمُؤمِنُونَ)

(1)

. فهذا ونحوه وإن ذُكِر فيه لفظ "السمع" و"الرؤية" فالمقصود لوازم ذلك، من إحصاء ذلك والجزاء عليه بالثواب والعقاب، وقد يكون المقصود بذلك قبول الدعاء، كقول الخليل:(إِنَ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39))

(2)

، وقول المصلي "سمع الله لمن حمده"، كما يُعنَى بالنظر نظر الرحمة والمحبة، كقوله (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ)

(3)

. فهذه الأمور لما كانت من لوازم العلم والسمع والبصر، [و] من شأنه إحصاء الأعمال والجزاء عليها ونحو ذلك، صارت متضمنة لهذا المعنى. وكذلك المصاحبة لما كان لها لوازم -مثل معرفة الصاحب بحال صاحبه، وموالاته له، وموافقته له- دخلت هذه المعاني فيها حيث دلَّ عليه السياق.

ولفظ "مع" في الأصل يدل على المصاحبة، ويدل على لوازم هذا المعنى: من العلم الذي يتضمن الإحصاءَ والجزاء على الأعمال عمومًا، ومن الموالاة والمعونة والنصر الذي يختص المؤمنين ونحو ذلك، فقوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4))

(4)

ذكر بعد أن أخبر بخلق السماوات والأرض واستوائِه على العرش أنه يعلم ما يدخل في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يصعد فيها، وأنه مع الخلق أينما كانوا، وأنه بكل شيء عليم. فدلّ هذا السياق على

(1)

سورة التوبة: 105.

(2)

سورة إبراهيم: 39.

(3)

سورة آل عمران: 77.

(4)

سورة الحديد: 4.

ص: 168

أنه مع كونه استوى على العرش يعلم باطن الخلق وظاهرهم، وهو معهم لا يغيب عنه شيء من أمرهم.

وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث العباس بن عبد المطلب لما ذكر السماوات والعرش قال: "والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه"

(1)

.

وكذلك قال عبد الله بن مسعود: "ما بين السماء إلى السماء كذا وكذا" إلى أن قال: "والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه"

(2)

.

وكذلك ما ذكره في سورة المجادلة

(3)

من قوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7))، فافتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم.

ومثل هذا قوله: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ)

(4)

.

وأما قوله: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128))

(5)

، وقوله لموسى وهارون:(إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46))

(6)

، وقوله

(1)

أخرجه أحمد (1/ 206، 207) وأبو داود (4723 - 4725) والترمذي (3310) وابن ماجه (193).

(2)

أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي في الرد على بشر المريسي" (ص 105) وفي "الردّ على الجهمية" (ص 21) وابن خزيمة في "التوحيد" (ص 105، 106) والطبراني في "المعجم الكبير" (9/ 228) وأبو الشيخ في "العظمة" (2/ 688، 689) مطولًا ومختصرًا.

(3)

الآية 7.

(4)

سورة النساء: 108.

(5)

سورة النحل: 128.

(6)

سورة طه: 46.

ص: 169

عن الرسول: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)

(1)

، فقد عُلِمَ أن حكم المعية هنا ومقصودها ليس عامًا لجميع المخلوقات كالعلم والقدرة، بل مختصًّا بالمتقين المحسنين

(2)

دون الفجار الظالمين، وبموسى وهارون دون فرعون وقومه، وبالنبي وصديقه دونَ مشركي قومِه. فهذه الأمور التي فيها خصوصٌ وعمومٌ تضمَّنها لفظ المعية ودلَّ عليها، كما دلَّ لفظ العلم والسمع والبصر على ما تقدم، وهي في نفسها تقتضي من المصاحبة والمقارنة ما هو معناها في الأصل، ولا تقتضي ممازجة ولا مخالطة ولا تيامنًا ولا تياسرًا.

بل إذا قيل: إنها تتضمن قُربَه من خلقِه، فقربُه ثابت بنصوصٍ صريحة أصرح من لفظ المعية، كقوله تعالى:(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)

(3)

، وقو له تعالى:(قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50))

(4)

. وفي الصحيح

(5)

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه لما كانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير: "أيها الناس! ارْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا قريبًا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته". وهو سبحانه قريب في عُلُوِّه عليٌ في دُنُوِّه.

وقد تكلمنا على قربه من خلقه وقربِ عبادِه منه بكلام مبسوط،

(1)

سورة التوبة: 40.

(2)

في الأصل: "المسبحين". والتصويب من السياق.

(3)

سورة البقرة: 186.

(4)

سورة سبأ: 50.

(5)

البخاري (6384 ومواضع أخرى) ومسلم (2704) عن أبي موسى الأشعري.

ص: 170

وذكرنا أقوال الناس كلهم في ذلك في غير هذا الموضع

(1)

، وبَيَّنَّا أن قربَه لا يُنافِي عُلُوَّه.

الجواب الثالث

أن لفظ "التأويل" فيه اصطلاحات متعددة، فالتأويل الذي يتنازع فيه مُثبتة الصفات ونفاتُها المرادُ به صرفُ اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الَاحتمال المرجوح، وذلك لا يجوز إلا بدليلٍ يُوجِب ذلك.

وقد يُراد بلفظ التأويل تفسير اللفظ، وإن كان التفسير يوافق ظاهره. وهذا اصطلاح ابن جرير الطبري في تفسيره وابن عبد البر ونحوهما.

وقد يُراد بلفظ التأويل ما يَؤُوْلُ إليه اللفظ، وهو الحقيقة الموجودة في الخارج التي دلَّ الكلام عليها، وبهذه اللغة جاء القرآن، كقوله تعالى:(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ)

(2)

، وقوله تعالي:(وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)

(3)

، وأمثال ذلك.

إذا عُرِف ذلك فنقول

(4)

: أما التأويل بالمعنى الثالث والثاني فلا نزاعَ فيه بين الناس. وأما التأويل بالمعنى الأول فيقال: هو صرف اللفظ عن ظاهرِه إلى ما يخالف ظاهرَه، أو عن حقيقته أو عن

(1)

انظر "مجموع الفتاوى"(5/ 226 وما بعدها).

(2)

سورة الأعراف: 53.

(3)

سورة آل عمران: 7.

(4)

انظر الكلام على معنى التأويل عند المؤلف في "مجموع الفتاوى"(13/ 288 - 294، 17/ 364 وما بعدها، 5/ 35 - 37، 3/ 55 - 57، 4/ 68 - 70).

ص: 171

الاحتمال الراجح، وحينئذٍ فالظهور والبطون من الأمور الإضافية، فإن كان الإنسان يظهر له من نصوص الصفات أن صفاتِ الخالق مماثِلةٌ لصفاتِ المخلوقات -مثل أن يظنّ أن استواءَه على العرش كاستواء الإنسان على بعيرِه أو على الفُلكِ، أو أن معيته مع الخلق تَقتضي دخولَه فيهم، أو أن قوله "الحجر الأسود يمين الله في الأرض" ظاهرُه أن صفة الله حلَّت في الأرض، وأن ذلك الحجر صفة للرب، وأنّ قوله (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)

(1)

يقتضي أن يكون الله في جوف الأفلاك، ونحو ذلك- فمن ظنَّ أن هذه المعاني الفاسدة هي ظاهر القرآن، وأن مسماها ظاهره وحقيقته، فيجب على مثل هذا أن يعتقدَ التأويل في ذلك كلِّه، ويعلمَ أن هذه النصوص مصروفةٌ عن هذا المعنى الذي ظنَّه هو الاحتمالَ الراجحَ إلى ما يخالف ذلك المعنى. لكن عليه أن يعتقد ويعلم أن السلف والأئمة الأربعة الذين منعوا من التأويل لم يعتقدوا أن هذا المعنى الفاسد ظاهرُ هذه النصوص، ولا أنها تَدُلُّ على ذلك.

بل من فَهِم منها هذا المعنى الفاسد بَيَّنُوا له أنها لا تدلّ على هذا المعنى الفاسد، وفي كلام الله ورسوله ما ينفي عن الله هذا المعنى الفاسد.

فمن ادَّعى أن هذه المعاني الفاسدة قد دلَّ عليها القرآن كان ما في القرآن من التصريح بنفي ذلك مُثبتًا لنفي هذه المعاني الفاسدة، فإنه قد أخبر في القرآن أنه استوى على العرش، وأن كرسيه وسع السماوات والأرض، وأن الأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، وأخبر بعُلُوِّه في غير موضعٍ من الكتاب. وهذه كلها نصوصٌ تنفي أن تكونَ صفاته تُشبِه صفاتِ خلقِه

(2)

، أو يكونَ حالًا

(1)

سورة الملك: 16.

(2)

هنا انقطع الكلام في الأصل، وتتمته بعد 11 ورقة.

ص: 172

في المخلوقات. وأخبر بقوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)

(1)

وبقوله (وَلَم يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4))

(2)

ونحو ذلك أن يُماثِلَه العبادُ في صفاتهم، فتكون صفاته كصفاتِ خلقه.

فهذه النصوص المفسَّرة تُبيِّن أن تلك المعاني الفاسدة ليست مرادةً، سواء سَمَّى المسمِّي ذلك تأويلًا أو لم يُسمِّه.

فقول القائل "إذا تأولنا هذه الآيات احتملت هذه الأحاديث أيضًا التأويل" حقيقته أنا إذا نفينا عن النصوص أن يُراد بها معنى فاسدٌ بيَّن الله تنزُّهَهُ عنه في موضع آخر، وجب [أن] ننفيَ عن نصوصِ أخرى معاني ونفسِّرها بأمور من غير أن يدل القرآن والسنة لا على نفي هذا ولا على إرادة هذا، ومعلومٌ أن هذا باطلٌ سواء سمَّاه تأويلًا أو لم يُسَمِّه، لوجوه:

أحدها: أن ما نفي من المعاني الفاسدة هناك نفاه القرآن، فإن بينوا في بقية

(3)

النصوص معنى فاسدًا نفاه القرآن وجب نفيُه أيضًا.

الثاني: أن ما فسَّروا به تلك النصوص هو تفسيرٌ يوافق سائر النصوص، لتفسيرهم لها بان الله إله من في السماء وإله من في الأرض، وأنه بكل شيء عليم، ونحو ذلك. وأما تأويلات الجهمية فهي متناقضة، منها قولهم

(4)

: "استوى" بمعنى استولى، فإن هذا فاسد من قريب عشرين وجهًا مذكورة في غير هذا الموضع

(5)

.

(1)

سورة الشورى: 11.

(2)

سورة الإخلاص: 4.

(3)

في الأصل: "نفيه"، وهو تصحيف.

(4)

في الأصل: "كقولهما".

(5)

انظر "مجموع الفتاوى"(5/ 144 - 149) ففيه ذكر اثني عشر وجهًا.

ص: 173