الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فينبغي للمؤمن الذي يَقصِد وجهَ الله إذا أراد اللهَ يُثيبُه ويَرحمُ ميتَه أن يتصدق عنه، ويقصد بذلك من ينتفع بالمال على مصلحةٍ عامة من أهل القرآن ونحوهم، ولا يشترط عليهم إهداء القرآن إلى الميت ولا قراءته عند القبر ونحو ذلك مما يُخرِج العمل عن أن يكون خالصًا لله أو أن يكون غير مشروع، فإن في الصحيحين
(1)
عن عائشة رضي الله عنها أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنّ أمّي افتلتت نفسها، وأراها لو تكلمتْ تصدَّقَتْ، فهلْ لها أجرٌ إن تصدقتُ عنها؟ قال: نعم. وفي البخاري
(2)
عن ابن عباس أن سعد بن عبادة توفيتْ أمُّه وهو غائبٌ عنها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله! إن أمّي توفيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها شيء إن تصدقتُ عنها؟ قال: نعم. قال: فإني أُشهِدك أنّ حائطِي المخراف صدقة عنها.
وأما الاجتماع يومَ الثالث والسابع وتمام الشهر والحول ونحو ذلك على ما ذكره فهو بدعة مكروهة من وجوه، أحدها: أن
إنشاد الشعر الفراقي في المأتم من النياحة
، وكذلك كلُّ ما فيه تهييج المصيبة، وكذلك الذين يتسمون الوعّاظ، وإنما هم نوَّاحون. وإذا كان النساء قد نُهِينَ عن ذلك مع ضعفِ قلوبهن فكيف بالرجال؟ مع أن النساء يُباحُ لهنّ من الغناء وضرب الدفّ مالا يباح للرجال، إلا ترى أنه رخّص فيما لا يمكن دفعُه من دمع العين وحُزنِ القلب، والنساءُ نُهِينَ عن الأسباب المهيجة للنياحة من اتباع الجنائز وزيارة القبور سدًّا للذريعة، بخلاف الرجال، فإنهم لقوة قلوبهم لم يُنهَوا عن ذلك.
(1)
البخاري (2760) ومسلم (1004).
(2)
بأرقام (2756، 2762، 2770).
فتبيَّن أن الرجال أحق بالنهي عن النياحة، لأنهم أقلُّ عذرًا في ذلك من النساء، فهو بمنزلة من ينوح في المصيبة الصغيرة، فهو أحقُّ ممن ناح في مصيبةٍ كبيرة. وفي صحيح مسلم
(1)
عن أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهنّ: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة". وقال
(2)
: "النائحة إذا لمِ تَتُبْ قبلَ موتها تُقامُ يومَ القيامة وعليها سِربالٌ من قَطِرانٍ ودِرع من جرَبٍ".
والبكاء المرخَّصُ فيه هو ما كان من دمع العين وحزن القلب، ومع ذلك فلا يصلح استدعاؤه حزنًا، بخلاف البكاء للرحمة، وما كان من اللسان واليد فمنهيُّ عنه، فكيف بالإعانة عليه؟! ففي الصحيحين
(3)
عن ابن عمر قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يَعودُه مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود، فلما دخل عليه وحدَه في غاشيةٍ -وفي لفظ مسلم: في غشية- فقال: "قد قضَى؟ " قالوا: لا يا رسولَ الله، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى القوم بكاءَه بَكَوا، فقال:"إلا تسمعون؟ إن الله لا يُعذِّب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يُعذِّب بهذا -وأشار إلى لسانه- أو يَرحَم".
وعن ابن عباس قال: لمّا ماتت زينب بنت رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فبكت النساء، فجعلَ عمر يَضرِبهن بسوطِه
(4)
، فأخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيده
(1)
برقم (934).
(2)
ضمن الحديث السابق.
(3)
البخاري (1304) ومسلم (924).
(4)
في الأصل: "بصوته"، وهو تحريف.
فقال: "مهلًا يا عمر"، ثم قال:"إياكنّ ونَعيقَ الشيطان"، ثم قال؟ "مهما كان من العين والقلب فمن الله ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان"
(1)
.
وعن جابر بن عبد الله قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد عبد الرحمن بن عوف، فانطلق به إلى ابنه إبراهيم، فوجدَه يَجُود بنفسِه، فأخذه صلى الله عليه وسلم فوضعَه في حجرِه، فبكَى، فقال له عبد الرحمن: أتبكي؟ أَوَ لم تكن نَهيتَ عن البكاءِ؟ قال: "لا، ولكن نهيتُ عن صوتين أحمقينِ فاجرين: صوتٍ عند مصيبة خمش وجوهٍ وشَقّ جيوب ورنّة". رواه الترمذي
(2)
وقال: حديث حسن، وذكر غيرُه
(3)
تمامَ الحديث: "وصوتٍ عند نغمة لهوٍ ولعب ومزامير الشيطان".
وفي الصحيحين
(4)
عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس منّا مَن ضَرَب الخدود وشَقَّ الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية".
وأما قراءة القرآن في الأسواق والجِبايةُ على ذلك فهذا منهيّ عنه من وجهين:
أحدهما: من جهة قراءته لمسألةِ الناسِ، ففي الحديث:"اقرأوا القرآن واسألوا به اللهَ قبل أن يجيء أقوامٌ يقرأونه يسألون به الناسَ"
(5)
.
(1)
أخرجه أحمد (1/ 237 - 238، 335) والطيالسي في "مسنده"(2694).
وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان ويوسف بن مهران.
(2)
برقم (1005).
(3)
أخرجه أبو يعلى والبزار كما في "مجمع الزوائد"(3/ 17)، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو سيء الحفظ، وبقية رجاله ثقات.
(4)
البخاري (1297 ومواضع أخرى) ومسلم (103).
(5)
أخرجه أحمد (4/ 432 - 433، 436، 439، 445) والترمذي (2917) عن=
والثاني: من جهة ما في ذلك من ابتذال القرآن بقراءته لمن لا يستمع إليه ولا يُصغِي إليه.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم "إن الميت يُعذب ببكاء أهلِه، ومن نِيْحَ عليه يُعذب بما يناحُ عليه" فهذا حديث صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية عمر بن الخطاب وابنِه والمغيرة بن شعبة وغيرهم
(1)
، ولكن أَشْكَلَ معناه على طوائف حتى تفرَّقوا فيه:
فمنهم من طعن فيه؛ وظَنَّ أن راويَه لم يحفظْه، كما قالت عائشة ومن معها، كالشافعي في كتاب "مختلف الحديث"
(2)
. ثم روت عائشة لفظين: أحدهما مناسبٌ معناه، وهو قوله:"إن الله يزيد الكافر ببكاء أهله عليه"، وجعلوا الموجبَ لضَعْفِه قولَه تعالى:(وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)
(3)
.
وأما جماهير السلف والخلف فعلموا أن مثل هذا التأويل لا يَصلُح أن يُرَدَّ به أحاديثُ ثابتةٌ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وإن كانوا من صغار الصحابة كجابر وأبي سعيد، فكيف بما يرويه عمر ونحوه؟ وذلك أن قوله (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) إنما فيه أن المذنب لا يَحمِلُ ذنبَه غيرُه، وهذا حق لا يخالف معنى الحديث، فإن الحديث ليس فيه أن الميت يحمل ذنب الحيّ، بل الحيُّ النائحُ يُعاقَبُ على نياحتِه عقوبةً لا يحملُها عنه الميّتُ، كما دلَّ على ذلك القرآن. وأما كون الميّت يتألَّم
=عمران بن حصين. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وانظر "الصحيحة" للألباني (257).
(1)
انظر صحيح البخاري (1286 - 1292) ومسلم (927 - 933).
(2)
ص 649.
(3)
سورة الأنعام: 164.
بعمل غيرِه فهذا شيء آخر، كما أنه يَنْعَم بعمل غيرِه لشيء آخر لا ينافي قولَه (وَأَن ليَس لِلإِنسَانِ إلا مَا سَعَى)
(1)
.
ومن الناس من تأوَّل على ما إذا لم يَنْهَ عنه مع اعتيادهم له، فيكون ذلك إقرارًا للمنكَر يُعذَّب عليه. وهؤلاء ظنُّوا أنّ عذابَ الميت عقوبةٌ، والعقوبة لا تكون إلا على ذنب، فاحتاجوا أن يجعلوا للميت ذنبًا يُعاقَب عليه، وليس كذلك، بل العذاب قد يكون عقابًا على ذنب، وقد لا يكون. قال النبي صلى الله عليه وسلم:"السفر قطعةٌ من العذاب"
(2)
.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: إنه يعاقب، بل يُعذَّب.
وقد جاء ذلك مفسرًا، كما رواه البخاري في صحيحه
(3)
عن النعمان بن بشير قال: أُغْمِيَ على عبد الله بن رواحة، فجعلتْ أختُه تبكي واجبلاه! واكذا واكذا! تعدّ عليه، فقال حين أفاق: ما قلتِ شيئًا إلا وقد قيل لي: أنت كذلك؟ فلما مات لم تَبْكِ عليه.
وعن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ الميتَ يُعذَّب ببكاء الحيّ، إذا قالت النائحةُ: واعَضُداه! واناصراه! واكاسياه! جُبذَ الميتُ وقيل له: أنت عضدها؟ أنتَ ناصرُها؟ أنت كاسيها؟ ". رواه الإمامَ أحمد في المسند
(4)
.
وروى الترمذي
(5)
عن أبي موسى أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من
(1)
سورة النجم: 39.
(2)
أخرجه البخاري (1804، 3001، 5429) ومسلم (1927) عن أبي هريرة.
(3)
برقم (4267).
(4)
4/ 414. وأخرجه أيضًا الحاكم في "المستدرك" (2/ 471). وفي إسناده زهير بن محمد، هو أبو المنذر الخراساني الشامي، وهو ضعيف. ولكن تابعه عبد العزيز الدراوردي عند ابن ماجه (1594).
(5)
برقم (1003).
ميِّتٍ يموتُ فيقومُ باكيهم فيقول: واجَبَلاه! واسنداه! أو نحو ذلك إلا وُكِّلَ به ملكان يَلْهَزَانِه أهكذا أنت؟ ". قال الترمذي: حديث حسن غريب.
وفي سنن أبي داود
(1)
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنسوةٍ في جنازةٍ: "ارجعنَ مأزوراتٍ غيرَ مأجوراتٍ، فإنكنّ تَفْتِنَّ الحيَّ وتُؤذِيْنَ الميتَ".
فهذا ونحوه هو تعذيب الميت بالنياحة. والحيُّ في الدنيا قد يُعذَّب بما يراه ويسمعه ويَشَمُّه من أمورٍ منفصلةٍ عنه، وهو التعذيب الذي يلحق من جنس سائر ما يلحقه من هولِ الفتنة والضغطة وهول القيامة وغير ذلك من أنواع الآلام. والكلام في هذا مبسوط في غير هذا الموضع
(2)
.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم "إن الله لا يؤاخذ على دمع العين ولا على حزن القلب، ولكن يؤاخذ على هذا أو يرحم"
(3)
وأشار إلى لسانه، فهذا أيضًا حق، وهذا كقوله:"ما كان من اليد واللسان فمن الشيطان، وما كان من العين والقلب فمن الله"
(4)
. والميت إنما يعذّب بما نُهِيَ عنه لا بما أبيح له، ولهذا جاء مفسَّرًا أنه النياحة، وهو البكاء بالمدّ، فإن من الناس من يقول: البكاء بالمدّ هو الصوت، وأما بالقصر فهو الدمع، زيادة اللفظ كزيادة المعنى، ويُنشدون:
(1)
لم أجده فيه، وقد أخرجه ابن ماجه (1578) والبيهقي (3/ 77) من حديث علي، وهو ضعيف. انظر الكلام عليه في "الضعيفة"(2742).
(2)
انظر "مجموع الفتاوى"(24/ 369 - 378).
(3)
سبق تخريجه.
(4)
سبق.
بَكَتْ عيني وحُقَّ لها بُكَاهَا
…
وما يُغنِي البُكاءُ ولا العَوِيلُ
(1)
وأما من يكون في المسجد من مُصَلٍّ وقارئ ومحدِّث ومُفتٍ ونحوهم من يفعل في المسجد ما بُنِيَ له المسجد، فليس لبعضهم أن يُؤذي بعضًا، ففي السنن
(2)
أن النبي صلى الله عليه وسلم خَرج على أصحابه وهم يُصلُّون ويجهرون بالقرآن، فقال:"أيها الناسُ! كلكم يُناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة". فنهى النبي صلى الله عليه وسلم المصلِّين أن يجهر بعضُهم على بعضٍ بالقراءة. ومن هذا أن يكون القوم قد صَلَّوا وهم يذكرون الله بعد صلاة الفجر وغيرِه، فيقوم بعضُ من يُصلي منفردًا أو مسبوقًا، فيرفع صوتَه عليهم بالقراءة حتى يَشغَلَهم.
والمنفرد لا يُستحبُّ له الجهر عند كثير من العلماء، كأحمد في المشهور عنه وغيره، فإن الجهر إنما يُشْرَع للإمام الذي يُسمِع المأمونين، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"وإذا قرأ فأنصتوا"
(3)
. ومن استحبَّ الجهر للمنفرد فإنه ينهاه عن جهرٍ يرفعُ به صوتَه على غيرِه كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم، بل يَجهر جهرًا خفيًّا أو يَدَعُه، لما فيه من إيذاء الغير الذي يُنهَى عن إيذائهم. ألا ترى أن استلامَ الحجر وتقبيله مستحب، فإذا كان هناك زحمة وفي ذلك إيذاءٌ للناس فإنه يُنهَى عنه، كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
البيت نُسِب لكعب بن مالك في "لسان العرب"(بكا) ولعبد الله بن رواحة في "تاج العروس"(بكى) ولحسان بن ثابت في "جمهرة اللغة"(ص 1027). وانظر الخلاف في نسبته في "شرح شواهد شرح الشافية"(ص 66).
(2)
لأبي داود (1332) من حديث أبي سعيد.
(3)
أخرجه أحمد (2/ 420) وأبو داود (604) وابن ماجه (846) من حديث أبي هريرة. قال أبو داود: "وهذه الزيادة (وإذا قرأ فأنصتوا) ليست بمحفوظة، الوهم عندنا من أبي خالد!. ومنهم من صحح هذه الزيادة، والكلام في هذا الحديث طويل.
عمر عن ذلك، ففي المسند
(1)
عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا عمر! إنك رجل قوي، لا تُزاحِم على الحجر فتُؤذي الضعيف، إن وجدتَ خلوةً فاستلمْه، وإلاّ فاستقبلْه وهَلِّلْ وكبِّرْ". وعن عبد الرحمن بن عوف قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغنا من الطواف بالبيت: "كيف صنعتَ يا أبا محمد في استلامِ الركن؟ "، قلت: استلمتُ وتركتُ، قال:"أصبتَ" رواه أبو حاتم ابن حبّان في صحيحه
(2)
والطبراني في معجمه
(3)
.
وهذا كما أن رفع الصوت بالتلبية والأذان ونحو ذلك سنة، ثم لما كان رفعُ المرأةِ صوتَها مفسدةً نُهِيَ عَمَّا فيه المفسدة، وجُعِلَ جهرُها بالتلبية بقدرِ ما تَسْمَع رفيقتُها. وأمثال ذلك في الشريعة كثير، والله أعلم.
قاله أحمد بن تيمية أيّده الله تعالى.
(1)
1/ 28.
(2)
كما في "موارد الظمآن"(999).
(3)
لم أجده في المطبوع منه.
فتوى فيمن يُعظِّم المشايخ ويستغيث بهم ويزور قبورَهم
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين- في قومٍ يُعظِّمون المشايخ، بكون أنهم يستغيثون بهم في الشدائد، ويتضرَّعون إليهم، ويزورون قبورَهم ويُقبِّلونها ويتبرَّكون بترابها، ويُوقِدون المصابيح طولَ الليل، ويتخذون لها مواسم يقدمون عليها من البعد يسمونها ليلةَ المَحْيَا، فيجعلونها كالعيد عندهم، وينذرون لها النذور، ويُصلُّون عندها.
فهل يَحِلُّ لهؤلاء القوم هذا الفعلُ أم يَحرُم عليهم أم يُكْرَه؟ وهل يجوز للمشايخ تقريرُهم على ذلك أم يجب عليهم منعُهم من ذلك وزَجْرُهم عنه؟ وما يجب على المشايخ من تعليم المريدين وما يُوصُونهم به؟ وهل يجوز لهم أن يكتبوا لهم إجازاتٍ بالمشيخة على بلادٍ أخرى؟ وهل يجوز تقريرهم على أخذ الحيّات والنار وغير ذلك أم لا؟ وماذا يجب على أئمةِ مساجدَ يحضرون سَماعَهم ويوافقونهم على هذه الأشياء؟ وما يجب على وليّ الأمر في أمرِهم هذا؟ أفتونا مأجورين.
أجاب الشيخ الإمام العالم العامل شيخ الإسلام بقيةُ السلف طِرازُ الخَلَف بحرُ العلوم ناصرُ الشريعة قامعُ البدعة تاجُ العارفين إمام المحققين العارف الرباني الناسك النوراني علَاّمة الوقت مفتي الفِرق تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحرَّاني الحنبلي رضي الله عنه وأرضاه، ورَزَقَه ما رَزَقَ أولياءَه-، قال:
الحمد لله رب العالمين. من استغاث بميِّتٍ أو غائب من البشر بحيثُ يدعوهُ في الشدائدِ والكُرُبات، ويَطلُب منه قضاءَ الحوائج،
فيقول: يا سيِّدي الشيخ فلان! أنا في حسبك وجِوارِك؟ أو يقول عند هجوم العدوِّ عليه: يا سيِّدي فلان! يَستوحِيْه ويَستغيثُ به؟ أو يقول ذلك عند مرضِه وفقرِه وغيرِ ذلك من حاجاتِه-: فإن هذا ضالٌّ جاهلٌ مشركٌ عاصٍ لله باتفاقِ المسلمين، فإنهم متفقون على أن الميت لا يُدعَى ولا يُطلَب منه شيء، سواءٌ كان نبيًّا أو شيخًا أو غيرَ ذلك.
ولكن إذا كان حيًّا حاضرًا، وطلب منه ما يَقدِرُ عليه من الدعاء ونحو ذلك، جاز، كما كان أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يطلبون منه في حياته، وكما يُطلَب منه الخيرُ يومَ القيامة. وهذا هو التوسُّلُ به والاستغاثة التي جاءت به الشريعة، كما ثبت في صحيح البخاري
(1)
وغيرِه عن أنس بن مالك: أن الناس لمَّا أَجْدَبُوا استسقَى عمرُ بالعبّاس، فقال:"اللهمَّ إنّا كنّا إذا أَجْدَبْنا نتوسَّلُ إليك بنبيّنا فتسقينا، وإنّا نتوسَّل إليك بِعَمِّ نبيِّنا فَاسْقِنا"، قال: فيُسْقَون. فكان توسُّلُهم بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته هو توسُّلهم بدعائه وشفاعتِه، فلما ماتَ توسَّلُوا بدعاءِ عمِّه العباس وشفاعتِه، لقُربِه منه، ولم يتوسَّلُوا حينئذٍ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولا استغاثوا به، ولا ذهبوا إلى قبرِه يدعون عنده. فإنه صلى الله عليه وسلم كان قد سَدَّ الذريعة في هذا الباب، حتى قال:"لا تتخذوا قبرِي عيدًا، وصَلُّوا عليَّ حيثُما كنتم، فإن صلاتكم تَبلُغني"
(2)
. وقال: "اللهمَّ لا تجعل قبري وثنًا يُعبَد"
(3)
. وقال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجدَ" يُحذِّر ما فَعَلُوا
(4)
. وقال: "إن من كان قبلكم كانوا
(1)
برقمي (1010 و 3710). ورواه ابن خزيمة في "صحيحه"(1421).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
سبق تخريجه.
(4)
سبق تخريجه.
يتخذون القبور مساجدَ، إلا فلا تتخذوا القبورَ مساجدَ، فإني أنهاكم عن ذلك"
(1)
.
فلهذا قال العلماء رضي الله عنهم: إنه يَحرُمُ بناءُ المساجد على القبور. فإذا كان قبورُ الأنبياء والصالحين لم تُتَّخذْ مساجدَ، والصلاةُ عندها لله تعالى قد نهى عنها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لئلا تكون ذريعةً إلى الشرك، فكيف إذا كان صاحبُ القبر يُدعَى ويُسْأَل ويُقْسَم على الله به ويُسْجَد لقبرِه أو يُتَمسَّح به؟ فإنّ هذا شركٌ صريح.
وقد قال الله تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ
(2)
. وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57))
(3)
.
وقال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والنبيين كالمسيح وعُزَير، فقال الله تعالى: إنّ هؤلاء عبادي كما أنتم عبادي، يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويتقربون إليَّ كما تتقربون إليَّ، ويخافوني كما تخافوني.
وقد قال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سورة سبأ: 22 - 23.
(3)
سورة الإسراء: 56 - 57.