المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ السادسةأن غير المكلف قد يرحم - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ٣

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌ وصف الأصول المعتمدة

- ‌ نماذج من النسخ الخطية

- ‌ زيارة قبور المؤمنين

- ‌ الصلاةَ عند القبور

- ‌لا يستغني القلب إلا بعبادة الله تعالى

- ‌ مبدأ عبادة الأوثان: العكوف على قبور الأنبياء والصالحين

- ‌زيارة القبور جائزةٌ على الوجه المأذون فيه

- ‌ أصل النذر مكروه منهيٌّ عنه

- ‌لا ثوابَ على إعانة العاكفين على القبور والمجاورين عندها بصدقةٍ ولا غيرِها

- ‌ إنشاد الشعر الفراقي في المأتم من النياحة

- ‌ زيارة القبور على وجهين:

- ‌الزيارة الشرعية

- ‌ الزيارة البدعية

- ‌ الشيوخ الذين يَستحقُّون أن يَكُونوا قدوةً

- ‌ إخبارُ الله في القرآن أنه مع عبادِه جاءَ عامًّا وخاصًّا

- ‌الجواب الرابعأن الناس متفقون على أنه لا يَسُوغُ كل تأويل

- ‌ الثاني: أن يقولوا بالتأويل الذي قام عليه دليلٌ شرعي

- ‌ الثالث: أن يُسلِّموا أن كل تأويل قام عليه دليلٌ سمعي أو عقليٌّ فإنه يجب قبولُه

- ‌ هذا التصور باطلٌ

- ‌منشأ الضلال أن يظنّ أن صفاتِ الربّ كصفاتِ خلقِه

- ‌الناس في ذلك ثلاثة أصنافٍ:

- ‌ ذكر لفظ "الجسم" في أسماء الله وصفاتِه بدعة

- ‌ مسألة أطفال المشركين

- ‌ الخامسة دار التكليف

- ‌ السادسةأن غير المكلَّف قد يُرحَم

- ‌لابد من حصول الألم لكل نفسٍ

- ‌ المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية النعم والمصائب

- ‌ التسبيح مقرون بالتحميد

- ‌ التسبيح والتحميد يجمع النفي والإثبات

- ‌التهليل يمنع أن يُعبَد غيرُه

- ‌الحمد مفتاح الكلام

- ‌ليس المراد أن الحمد غير التسبيح، بل نفس تسبيح الله هو حمد الله

- ‌ الناسُ مأمورون أن يقرأوا القرآن على الوجه المشروع

- ‌عدمُ الشرط هل يدلُّ على عدم المشروط

- ‌ الصلاة مؤلفة من أقوالٍ وأفعالٍ

- ‌أعظم أقوالها القرآن، وأعظمُ أفعالِها الركوعُ والسجودُ

- ‌الركوع مع السجود تقدمةٌ وتوطئةٌ وبابٌ إليه

- ‌متى انتقض عهدُهم جاز أخذُ كنائس الصلح منهم فضلًا عن كنائس العنوة

- ‌ليس ليومِ عيدِهم مزيةٌ على غيرِه

- ‌ليس لأحدٍ أن يعتدي على أحدٍ سواء كان شريفًا أو لم يكن

- ‌ ذكر هذه الروايات

- ‌ لا حضانةَ لفاسقٍ

- ‌ جعلُ البنت المميزة عند الأب- أرجح

الفصل: ‌ السادسةأن غير المكلف قد يرحم

وهذا الاختلاف في امتحانهم في البرزخ يُشبه الاختلاف في امتحانهم في العرصة، وقولُ من يقول بامتحانهم أقرَبُ إلى النصوص والقياس من قولِ مَن يقول: يُعاقَبون بلا امتحان.

المسألة‌

‌ السادسة

أن غير المكلَّف قد يُرحَم

، فإن أطفالَ المؤمنين مع آبائهم في الجنة، كما دلَّ عليه قوله:(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ) الآية

(1)

، وكما في الصحيحين

(2)

من حديث أبي هريرة وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "احتجَّت الجنَّةُ والنارُ، فقالتِ الجنةُ: لا يدخلني إلا الضعفاء والمساكين؛ وقالت النار: يدخلني الجبّارون المتكبرون. فقال الله للجنة: إنما أنتِ رحمتي أرحمُ بكِ مَن شِئتُ، وقال للنار: إنما أنتِ عذابي أعذِّبُ بكِ من شِئتُ، ولكلِّ واحدة منكما مِلْؤُها". فأما النار فلا يزال يُلقَى فيها وتقول: "هل من مزيد"، حتى يضع ربُّ العزَّة فيها -وفي روايةٍ: عليها- قَدَمَه، فيَنزوي بعضُها إلى بعضٍ وتقولُ: قَط! قَط. وأما الجنَّة فيَفضُل فيها فَضْلٌ، فيُنشِئُ اللهُ لها خلفا آخر". فهذا الحديث المستفيض المتلقَّى بالقبولِ نصٌّ في أنَّ الجنَّة يُنْشَأُ لها في الدار الآخرة خَلْق يدخلونَها بلا عمل، وأنّ النارَ لا يدخلُها أحدٌ بلا عملٍ.

وقد غَلِطَ في هذا الحديث المعطِّلةُ الذين أوَّلوا قوله "قدمه" بنوع من الخلق، كما قالوا: الذين تقدَّم في علمِه أنهم أهل النار. حتى قالوا

(1)

سورة الطور: 21.

(2)

البخاري (4850، 7449) ومسلم (2846) عن أبي هريرة. أما حديث أنس فبغير هذا اللفظ، أخرجه البخاري (4848، 6661، 7384) ومسلم (2848).

ويوافق حديثَ أبي هريرة حديثُ أبي سعيد الخدري الذي أخرجه مسلم (2847).

ص: 239

في قوله "رجله": كما يقال: رِجْل من جَرادٍ. وغَلَطُهم من وجوهٍ:

فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حتى يضع"، ولم يقل: حتى يُلقي، كما قال في قوله:"لا يَزَال يُلقَى فيها".

الثاني: أن قوله "قدمه" لا يُفْهَم منه هذا، لا حقيقةً ولا مجازًا، كما تَدُلُّ عليه الإضافة.

الثالث: أن أولئك المؤخرين إن كانوا من أصاغر المعذَّبين فلا وجهَ لانزوائِها واكتفائها بهم، فإنّ ذلك إنما يكون بأمرٍ عظيمٍ، وإن كانوا من أكابر المجرمين فهم في الدرك الأسفلِ، وفي أوّلِ المعذَّبين لا في أواخرِهم.

الرابع: أن قوله "فينزوي بعضُها إلى بعض" دليلٌ على أنها تَنضمُّ على من فيها، فتضيقُ بهم من غيرِ أن يُلقَى فيها شيء.

الخامس: أن قوله "لا يزال يُلقَى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يَضَعَ فيها قدمَه" جَعَلَ الوضعَ الغايةَ التي إليها ينتهي الإلقاءُ، ويكون عندها الانزواءُ، فيقتضي ذلك أن تكون الغايةُ أعظمَ مما قبلَها.

وليس في قول المعطِّلةِ معنًى للفظ "قدمه" إلا وقد اشترك فيه الأول والآخر، والأوّل أحقُّ به من الآخر.

وقد يَغْلَط في الحديث قومٌ آخرون مُمثِّلةٌ أو غيرُهم، فيتوهَّمون أن "قَدمَ الربِّ" تَدخُلُ جَهنَّم. وقد توهَّم ذلك على أهل الإثبات قومٌ من المعطِّلة، حتى قالوا: كيف يَدخُل بعضُ الربِّ النَّارَ واللهُ تعالى يقول: (لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا)

(1)

؟.

(1)

سورة الأنبياء: 99.

ص: 240

وهذا جهل ممن توهَّمه أو نَقَلَه عن أهل السنة والحديث، فإنّ الحديث:"حتى يضع ربُّ العزّة عليها -وفي رواية: فيها-، فينزوي بعضُها إلى بعضٍ، وتقول: قط قط وعزَّتِك"، فدلَّ ذلك على أنها تضايقت على من كان فيها فامتلأتْ بهم، كما أقسم على نفسه إنّه ليملأنَّها من الجثة والناس أجمعين، فكيف تمتلئ بشيء غيرِ ذلك من خالقٍ أو مَخلوق؟. وإنما المعنى أنه تُوضَع القدمُ المضافُ إلى الربِّ تعالى، فتَنزوي وتَضِيقُ بمن فيها. والواحدُ من الخلق قد يَركُضُ متحركًا من الأجسام فيسكن، أو ساكنًا فيتحرك، ويَركضُ جبلًا فيتفجَّر منه ماءٌ، كما قال تعالى:(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42))

(1)

، وقد يضع يَدَه على المريض فيبرأ، وعلى الغضبان فيرضى.

المسألة السابعة

أنَّ التكليفَ بالأمر والنهي ثابت بالشرع باتفاق المسلمين، وفي ثبوته بالعقل اختلافٌ بين العلماء من أصحابنا وغيرِهم، والمسألة مشهورة، مسألة التحسين والتقبيح ووجوب الواجبات وتحريم المحرمات، هل ثبتتْ بالعقل؟ ومسألة وجوب معرفة الله وشكره، ومسألة الأعيان قبل السَّمع. وفي المسألة تفصيل كتبته في غير هذا الموضع، إذ المقصود هنا النكت المستغربة.

وأما الثواب والعقاب فمعلوم بالسمع بلا خلافي بين المسلمين، وهل يُعلَم بالعقل؟ مبنيٌّ على المعاد، فإنّ المعادَ معلوم بالسمع بلا ريب، وهل يُعلَم بالعقل؟ قد اختُلِفَ فيه:

فذهب كثير من أهل الكلام وذهب أكثر الناس إلى أن المعاد من

(1)

سورة ص: 42.

ص: 241

الأمور السمعية التي لا تُعلَم إلَاّ بالسمع، وهو قول كثير من أصحابنا والأشعرية وغيرهم.

وذهبَ طوائفُ إلى أنه يُعلَم بالعقل، ثُمَّ تنوعت مسالكُهم:

منهم من بناه على وجوب العدل، وأن ذلك يَقتضي معادًا غيرَ هذه الدار، يُجزَى فيها الظالموَن بظلمهم، أو يُعَوَّض المعذَّبون على عذابهم. وهذا مسلك كثير من المعتزلة وغيرهم.

ومنهم من بناه على أن الروح غير البدن، وأنها باقيةٌ بعده، وأن لها من النعيم والعذاب الروحانيينِ ما لا يُفارِقُها. وهذا مسلك كثير من المتفلسفة ومن نحا نحوَهم، ومن هؤلاء من يثبِتُ معادَ الأرواح العالمةِ دون الجاهلة، وفيهم من يُنكِر المعادَيْنِ.

والصواب أنَّ معرفتَه بالسمع واجبةٌ، وأمَّا بالعقل فقد تُعرَف وقد لا تُعرَف، فليست معرفتُه بالعقل ممتنعةً، ولا هي أيضًا واجبةٌ. وأما المتفلسفةُ فتُثبتُ المعادَ بالعقلِ، وتُثبِت التكليفَ العقلي، وأما ما جاء به السَّمع من المعاد والشرائع فلها فيه تأويلاتٌ محرَّفةٌ.

فصارت الأقسام في الإيمان باليوم الآخر وفي العمل الصالح: هل هو معلومٌ بالشرع وحدَه أو بالعقل وحدَه أو يُعلَمُ بكل منهما؟ فيه هذا الخلاف بين أهل الأرض. وإن كان الصواب أن ذلك معلومٌ جميعُه بالشرعِ قطعًا، وقد يُعلَم بعضه [بالعقل].

بل مثل هذا الخلاف ثابتٌ في معرفة الله تعالى، لكن التجاء المتكلمين هناك إلى العقل أكثر. وكثير من المتكلمين -كأكثر المعتزلة وكثير من الأشعرية- لا يُعلَم عندهم وجودُ الربِّ وصفاته إلا بالعقل، كما يزعمه الفلاسفة، مع اضطراب هؤلاء وآخرين في مقابلتهم.

ص: 242

وقد كتبتُ تفاصيلَ أقوالِ الناس وبَيَّنتُ مذهبَ أئمة السنَّة والحديث في هذا الأصل في "قاعدة نفي التشبيه ومسألة الجسم"، وإنما الغرض هنا التكليف وتوابعُه.

وإنما قَرنتُ بين الأصول الثلاثة التي قال الله تعالى فيها: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62))

(1)

، فأشرتُ إلى طرق الناس في معرفتها.

والحمد لله وحده أولًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا، حمدًا كثيرًا مباركًا دائمًا بدوامِه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

(فرغتُ يوم الثلاثاء سادسَ عشرَ من شهر صفر سنة ست وستين وسبع مئة. علَّقَها العبد الفقير إلى رحمةِ ربه الغفور، وعفوِه وصفحه وجودِه وكرمِه وسترِه وبرّه ومَنِّه: عبد المنعم البغدادي الحنبلي، عفا الله عنه بمنّه وكرمِه وعن جميع المسلمين).

***

(1)

سورة البقرة: 62.

ص: 243

مسألة فيمن قال: إن عليًّا أشجعُ من أبي بكر

ص: 245

مسألة

في رجلين تكلما فقال أحدهما: إن عليًّا أشجع من أبي بكر، وقال آخر:[إن] أبا بكر أشجع الصحابة.

الجواب

الحمد لله. الذي عليه سلف الأمة وأئمتُها أن أبا بكر الصديق أعلم الصحابة وأدينُ الصحابة وأشجعُ الصحابة وأكرمُ الصحابة، وقد بُسِط هذا في الكتب الكبار وبُيِّن ذلك بالدلائل الواضحة. وذلك أن الشجاعةَ ليستْ [عند] أهلِ العلم بها كثرةَ القتل باليد ولا قوةَ البدن، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم أشجع الخلق، كما قال علي بن أبي طالب

(1)

: كُنّا إذا احمرَّ البأسُ ولَقِيَ القومُ القومَ كُنَّا نتّقي برسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فكان يكون أقربَ إلى القوم منا. وقد انهزمَ أصحابُه يومَ حُنَين وهو على بَغْلِه يسوقُها نحو العدوّ، ويتسمَّى بحيث لا يُخفِي نفسَه، ويقول:

أنا النبيّ لا كَذِبْ

أنا ابنُ عبد المطلبْ

(2)

ومع هذا فلم يَقتُل بيده إلا واحدًا، وهو أُبيّ بن خلف، قتلَه يومَ أُحُد.

وكان في الصحابة من هو أكثر قتلًا من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وإن كان لا يفضل عليهم في الشجاعة، مثل البراء بن مالك أخي أنس بن مالك، فإنه قتلَ مئةَ رجلٍ مبارزةً غيرَ مَن شركَ في دَمِه.

(1)

أخرجه أبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم "(ص 58) ومن طريقه البغوي في "شرح السنة"(13/ 257). وهو في "المسند"(2/ 228، 343 طبعة المعارف) بنحوه.

(2)

أخرجه مسلم (1775) عن البراء بن عازب.

ص: 247

ولم يقتل أحد من الخلفاء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم هذا العدد، بل ولا حمزةُ سيّدُ الشهداء -الذي يُقال: إنه أسدُ الله ورسولِه- لم يَقتلُ هذا العدد، وهو في الشجاعة إلى الغاية. وكذلك الزبير بن العوَّام هو في الشجاعة إلى الغاية، حتى قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"إن لكل نبيٍّ حواريًا، وحَوارِي الزبيرُ"

(1)

، ولم يَقتُل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هذا العددَ.

وغزواتُ النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه مضبوطة عند أهل العلم بالسيرةِ والحديث، والله تعالى كان يُبارِك لنبيّه وأصحابه في مغازيهم، فمع العمل القليل يَظهرُ الإسلام وتفشو الدعوة ويدخلون في دين الله أفواجًا. ومجموعُ من قَتَلَ الصحابةُ كلُّهم مع النبي صلى الله عليه وسلم لا يَبلُغون ألفَ نفسٍ، بل أقلّ من ذلك، ومع هذا ببركة الإيمان فُتِحتْ أرضُ العرب كلُّها في حياتِه.

وكان القتلُ يومَ بدرٍ، وهي أول مغازي القتال، وأسروا منها سبعين أو نحوها. وأما يومَ أحد فقُتِلَ الكفّارُ قليلًا جدًّا، وكذلك يومَ الخندق ويومَ فتح مكة، والقتلى في خيبر وحنين ليسوا بالكثير. وأعظمُ عددًا قُتِلوا جميعًا قَتْلَى قُريظةَ، فإنهم بلغوا ثلاث مئة أو أربع مئة قتلهم جميعًا.

وجملةُ مغازي النبي صلى الله عليه وسلم بضعٌ وعشرون غزاةً، وكان القتال فيها في تسعٍ: مغازي بدر وأحد والخندق وبني المصطلق وقريظة

(2)

وخيبر والفتح وحنين والطائف، وأعظم ما كان مع النبي صلى الله عليه وسلم يومَ تبوك بَلَغوا عشراتِ ألوفٍ، ولكن لم يكن في تبوك قِتالٌ، بل أقامَ النبي صلى الله عليه وسلم بتبوكَ عشرين يومًا يَقْصُر الصلاةَ، وكان قد جاء لقتالِ النصارى من الروم والعرب وغيرهم، فلم يُقدِمُوا على قتاله.

(1)

أخرجه البخاري (2846 ومواضع أخرى) ومسلم (2415) عن جابر بن عبد الله.

(2)

في الأصل رسم كلمة غير واضحة، والمقصود ما أثبتُ.

ص: 248

وأما هذه المحاربات التي يذكرها الكذّابون، وكثرة القتلى التي يذكرها أهل الفِرية، فكذبُها معروفٌ عند كل عالمٍ. وإذا كان القتلى نحوًا ممن ذكروا [و] المُقاتِلةُ في الصحابة كثيرون من المهاجرين والأنصار، مثل عمر وعلي وحمزة والزبير والمقداد وأمثالهم، ومثل أبي أيوب وأبي طلحة وأبي قتادة وأبي دُجانة، ثم مثل خالد بن الوليد وأمثاله، وقَتْلُ الواحدِ من هؤلاء يُقارِبُ قتلَ عمر وعلي وغيرهما، ينقص عنه أو يزيد عنه، ولهذا لما جاء علي رضي الله عنه أخذ بسيفِه إلى فاطمة وقال: اغسليه عن دمهم، قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"إن تكن أحسنتَ فقد أحسنَ فلان وفلان"

(1)

وسمَّى طائفة من المسلمين-: عُلِمَ

(2)

أنه لم يمتنع أن يكون أحد من الخلفاء قَتَلَ مئة من الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما خالد بن الوليد والبراء بن مالك وأمثالهما فهؤلاء قتلَ الواحدُ منهم مئةً وأكثر، لمغازيهم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم لما غَزَوا أهلَ الردَّة وفارس والروم كان القتلى من الكفّار كثيرًا جدًّا لكثرة الجموع. والخلفاء الراشدون لم يَغزُ أحدٌ منهم بعد موتِ النبي صلى الله عليه وسلم، ولا باشرَ بنفسه قتال الكفّار بعده، وإنما كانوا هم أولي الأمر، فكان أبو بكر يُشاوِر عمر وعثمان وعليا وغيرهم، وكذلك عمر كان يُشاوِر هؤلاء وغيرهم، وهم عنده. ولكن الزبير بن العوَّام شَهِدَ فتح مصرَ، وسعد ابن أبي وقاص فتح العراق، وأبو عبيدة بن الجراح فتح الشام.

وإذا تبيَّن هذا فالشجاعة هي ثباتُ القلب وقوتُه، وقوَّةُ الإقدامِ

(1)

كما في سيرة ابن هشام (3/ 106) عن ابن إسحاق، و"دلائل النبوة" للبيهقي (3/ 215) عن موسى بن عقبة. وأورد ابن كثير في "البداية والنهاية"(5/ 449، 450) روايات أخرى في هذا الباب. وانظر "منهاج السنة"(4/ 481، 8/ 94).

(2)

جواب "إذا كان القتلى

".

ص: 249

على العدوِّ، والبعدُ عن الجزع والخوف، فهي صفة تتعلق بالقلب، وإلَاّ فالرجل قد يكون بدنُه أقوى الأبدان، وهو من أقدر الناس على الضرب والطعن والرمي، وهو ضعيف القلب جَبَان، وهذا عاجزٌ. وقد يكون الرجل يَقتُل بيده خلقًا كثيرًا، وإذا دَهَمَتْه الأمور الكبار مالتْ عليه الأعداءُ، فيضعُف عنهم أو يَخاف.

وأبو بكر الصديق كان أقوى الصحابة قلبًا وأربطَهم جَأْشًا وأعظمهم ثباتًا وأشدَّهم إقدامًا وأبعدَهم عن الجزع والضعف والجبن، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يَصْحَبُه وحدَه في المواضع التي يكون أخوف ما يكون فيها، كما صحبه في الهجرة، وكان معه في الغار، والأعداء يطلبهما ويَبذل ديتهما لمن يأتي بهما، وكان معه في العريش يومَ بدرٍ وحدَه والكفَّارُ قاصدون الرسولَ خصوصًا. ولهذا لما مات النبي صلى الله عليه وسلم ظهر من شجاعتِه وبَسَالتِه وصبرِه وثباتِه وسياستِه وتدبيرِه وإمامتِه للدين وقَمْعِه للمرتدّين ومعونتِه للمؤمنين وسَدِّ ظهورهم ما لا تَتَّسَح هذه الورقة. وكل من له بالشجاعةِ أدنى خبرة يَعلَم أَنه لم يكن منهم من يُقارِبُه في الشجاعة فضلًا أن يُشَارِيَه. وكذلك كان عمر، كان أشجعهم بعده، كما أن أبا بكر كان أعلمهم، كما ذكر الإمام منصور بن عبد الجبار السمعاني إجماع العلماء على أن أبا بكر أعلمُ الأمة بعد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهو مبسوط في غير هذا الموضع

(1)

. والله أعلم.

***

(1)

انظر "منهاج السنة"(8/ 82 - 89).

ص: 250

تفسير أول سورة العنكبوت

ص: 251

قال شيخ الإسلام بحر العلوم مفتي الفرق أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله:

فصل

قال الله تعالى: (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11))

(1)

.

وقال الله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214))

(2)

. وقال الله تعالى لما ذكر المرتد والمكره بقوله: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ)

(3)

قال بعد ذلك:

(1)

سورة العنكبوت: 1 - 11.

(2)

سورة البقرة: 214.

(3)

سورة النحل: 106.

ص: 253