المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ذكر هذه الروايات - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ٣

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌ وصف الأصول المعتمدة

- ‌ نماذج من النسخ الخطية

- ‌ زيارة قبور المؤمنين

- ‌ الصلاةَ عند القبور

- ‌لا يستغني القلب إلا بعبادة الله تعالى

- ‌ مبدأ عبادة الأوثان: العكوف على قبور الأنبياء والصالحين

- ‌زيارة القبور جائزةٌ على الوجه المأذون فيه

- ‌ أصل النذر مكروه منهيٌّ عنه

- ‌لا ثوابَ على إعانة العاكفين على القبور والمجاورين عندها بصدقةٍ ولا غيرِها

- ‌ إنشاد الشعر الفراقي في المأتم من النياحة

- ‌ زيارة القبور على وجهين:

- ‌الزيارة الشرعية

- ‌ الزيارة البدعية

- ‌ الشيوخ الذين يَستحقُّون أن يَكُونوا قدوةً

- ‌ إخبارُ الله في القرآن أنه مع عبادِه جاءَ عامًّا وخاصًّا

- ‌الجواب الرابعأن الناس متفقون على أنه لا يَسُوغُ كل تأويل

- ‌ الثاني: أن يقولوا بالتأويل الذي قام عليه دليلٌ شرعي

- ‌ الثالث: أن يُسلِّموا أن كل تأويل قام عليه دليلٌ سمعي أو عقليٌّ فإنه يجب قبولُه

- ‌ هذا التصور باطلٌ

- ‌منشأ الضلال أن يظنّ أن صفاتِ الربّ كصفاتِ خلقِه

- ‌الناس في ذلك ثلاثة أصنافٍ:

- ‌ ذكر لفظ "الجسم" في أسماء الله وصفاتِه بدعة

- ‌ مسألة أطفال المشركين

- ‌ الخامسة دار التكليف

- ‌ السادسةأن غير المكلَّف قد يُرحَم

- ‌لابد من حصول الألم لكل نفسٍ

- ‌ المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية النعم والمصائب

- ‌ التسبيح مقرون بالتحميد

- ‌ التسبيح والتحميد يجمع النفي والإثبات

- ‌التهليل يمنع أن يُعبَد غيرُه

- ‌الحمد مفتاح الكلام

- ‌ليس المراد أن الحمد غير التسبيح، بل نفس تسبيح الله هو حمد الله

- ‌ الناسُ مأمورون أن يقرأوا القرآن على الوجه المشروع

- ‌عدمُ الشرط هل يدلُّ على عدم المشروط

- ‌ الصلاة مؤلفة من أقوالٍ وأفعالٍ

- ‌أعظم أقوالها القرآن، وأعظمُ أفعالِها الركوعُ والسجودُ

- ‌الركوع مع السجود تقدمةٌ وتوطئةٌ وبابٌ إليه

- ‌متى انتقض عهدُهم جاز أخذُ كنائس الصلح منهم فضلًا عن كنائس العنوة

- ‌ليس ليومِ عيدِهم مزيةٌ على غيرِه

- ‌ليس لأحدٍ أن يعتدي على أحدٍ سواء كان شريفًا أو لم يكن

- ‌ ذكر هذه الروايات

- ‌ لا حضانةَ لفاسقٍ

- ‌ جعلُ البنت المميزة عند الأب- أرجح

الفصل: ‌ ذكر هذه الروايات

الدين مثل: "كتاب السنة" نحو ثلاث مجلدات، ومن أصول الفقه والحديث مثل:"كتاب العلم" الذي جمعه، ومن الكلام على علل الأحاديث مثل "كتاب العلل" الذي جمعه، ومن كلامه في أعمال القلوب والأخلاق والآداب، ومن كلامه في الرجال والتاريخ= فهو مع كثرته لم يستوعب ما نقله الناس عنه.

والمقصود هنا أن النزاع عنه موجودٌ في المسألتين كلتاهما: في مسألة البنت، وفي مسألة الابن. وفي مذهبه في المسألتين ثلاثة أقوال: هل تكون مع الأم أو مع الأب أو تُخيَّر؟ لكن في الابن ثلاث روايات. وأما البنت فالمنقول عنه روايتان: هل هي للأم أو للأب؟ وأما التخيير فهو وجهٌ مخرَّجٌ في مذهبه

(1)

.

فعنه في الابن ثلاث روايات معروفة، وممن ذكرهن أبو البركات في "محرَّره"

(2)

. وعنه في الجارية روايتان، وممن ذكرهما أبو عبد الله ابن تيمية في كتابه "التلخيص" و"ترغيب القاصد"

(3)

. والروايات موجودة بألفاظها ونقلتها وأسانيدها في عدة كتب.

وممن‌

‌ ذكر هذه الروايات

القاضي أبو يعلى في "تعليقه"، نقل عن أحمد في الغلام: أمُّه أحقُّ به حتى يَستغني عنها، ثم الأب أحقُّ به. قال في رواية الفضل بن زياد: إذا عَقَلَ الغلامُ واستغنى عن الأم

(1)

انظر "زاد المعاد"(5/ 417 - 418).

(2)

2/ 120.

(3)

لم يصلا إلينا. ومختصره الوجيز "بلغة الساغب" مطبوع نصفُه تقريبًا، بالاعتماد على نسخة ناقصة من أثناء كتاب الفرائض (ص 337) إلى الباب السادس من كتاب الشهادات، فلا يحتوي على أبواب النكاح والطلاق والنفقات والرضاع وغيرها.

ص: 400

فالأب أحقُّ به. وقال في رواية أبي طالب: والأب أحقُّ بالغلام إذا عَقَلَ واستغنى عن الأم.

وهذا يُشبِه الذي نقله القاضي أبو يعلى والشاشي وغيرهما عن أبي حنيفة، قَال: إذا أكل وحدَه ولَبِسَ وحدَه وتوضَّأ وحدَه فالأب أحقُّ به. ونقلَ ابن المنذر أنه يُخيّر حينئذٍ بين أبويه عن أبي حنيفة وأبي ثور.

والأول هو مذهب أبي حنيفة الموجود في كتب أصحابه. وهو إحدى الروايتين عن مالك، فإنه نَقَلَ عنه ابنُ وهب: الأمُّ أحقُّ به حتَى يثْغِر. ولكن المشهور عنه: أن الأم أحقُّ به ما لم يبلُغ. وهذه هي الرواية الثانية عن أحمد.

والرواية الثالثة عن أحمد أن الأم أحق بالغلام مطلقًا، كمذهب مالك. قال في رواية حنبل: في الرجل يطلِّق امرأتَه وله منها أولاد صغار، فالأمُّ أعطفُ عليهم مقدار ما يعقل الأدب، فيكون الأبُّ أحقَّ بهم ما لم تتزوَّج، فإذا تزوجت فالأب أحقُّ بولده غلافا كان أو جارية.

قال الشيخ أبو البركات

(1)

: فهذه الرواية تدلُّ على أنه إذا كبر وصار يعقل الأدب فإنه يكون مقره أيضًا عند الأمّ، لكن في وقت الأدب -وهو النهار- يكون عند الأب.

وهذا مذهب مالك بعينه الذي حكيناه. فصار في المسألة ثلاث روايات. ومذهب مالك في "المدونة"

(2)

أن الأمَّ أحقُّ به ما لم يبلغ،

(1)

المحرر (2/ 120).

(2)

2/ 244.

ص: 401

وللأب تعاهدُه عندها وأدبُه وبعثُه إلى المكتب، ولا يبيت إلا عند الأم.

قلت: وحنبل وأحمد بن الفرج كانا يسألان الإمام أحمد عن مسائل مالك وأهل المدينة، كما كان يسأله إسحاق بن منصور وغيره عن مسائل سفيان الثوري وغيره، وكما كان يسأله الميموني عن مسائل الأوزاعي، وكما كان يسأله إسماعيل بن سعيد الشالنجي عن مسائل أبي حنيفة وأصحابه، فإنه كان قد تفقَّه على مذهب أبي حنيفة، ثم اجتهد في مسائل كثيرة رجَّح فيها مذهب أهل الحديث، وسأل عن تلك المسائل أحمدَ وغيرَه، وشرحها إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني إمام دمشق. وأما الذين كانوا يسألونه مطلقًا -مثل الأثرم وعبد الله وصالح وغيرهم- فكثيرون.

وأما حضانة البنت إذا صارتْ مميَّزةً فوجدنا عنه روايتين منصوصتين، وقد نقلهما غيرُ واحدٍ من أصحابه، كأبي عبد الله ابن تيمية وغيرِه:

إحداهما: أن الأب أحقُّ بها، كما هو موجود في الكتب المعروفة في مذهبه.

والثانية: أن الأمَّ أحق بها.

قال في رواية إسحاق بن منصور: يُقضَى بالجارية للأم والخالة، حتى إذا احتاجت إلى التزويج فالأب أحقُّ بها.

وقال في رواية مهنّا بن يحيى: الأمّ والجدَّة أحق بالجارية حتى يتزوَّج الأب.

قال أبو عبد الله في "ترغيب القاصد": وإن كانت جارية فالأب أحقُّ بها بغير تخيير، وعنه: الأمّ أحقُّ بها حتى تحيض.

ص: 402

وهذه الرواية الثانية هي نحو مذهب مالك وأبي حنيفة في ذلك. ففي "المدونة"

(1)

: مذهب مالك أن الأم أحق بالولد ما لم يبلغ، سواء كان ذكرًا أو أنثى. فإذا بلغَ وهو أنثى نُظِرتْ، فإن كانت الأم في حِرزٍ ومنعةٍ وتحصينٍ فهي أحق بها أبدًا ما لم تنكح وإن بلغتْ أربعين سنة؟ وإن لم تكن في موضع حرزٍ وتحصين أو كانت غير مرضية في نفسها، فللأب أخذها منها.

وكذلك الأولياء والوصي كالأب في ذلك إذا أخذ إلى أمانة وتحصين.

ومذهب الليث بن سعد نحو ذلك، قال: الأم أحقُّ بالجارية حتى تبلغ، فإن كانت الأم غير مرضية في نفسها وأدبها لولدها أُخِذَتْ منها إذا بلغتْ، إلا أن تكون صغيرة لا يُخافُ عليها.

وأما أبو حنيفة فقال: الأم والجدَّة أحقُّ بالجارية حتى تحيض، ومَن سِوَى الأم والجدة أحق بها حتى تبلغ حدًّا تشتهي. هذا هو المشهور، ولفظ الطحاوي

(2)

: "حتى تستغني" كما في الغلام مطلقًا.

ولهذا قيل فيها كما قيل في الغلام: حتى تأكلَ وحدَها وتلبسَ وحدَها وتتوضأ وحدَها، ثم تكون مع الأب.

وأبو حنيفة أيضا يجعل الأب أحقَّ بها بعد التمييز، كما يقول مثل ذلك في الابن، لكن يستثني الأم والجدة خاصة.

وأما المشهور عن أحمد -وهو تخيير الغلام بين أبويه- فهو مذهب الشافعي وإسحاق بن راهويه. وموافقتُه للشافعي وإسحاق أكثر من موافقته لغيرهما، وأصوله بأصولهما أشبهُ منها بأصول غيرهما. وكان يثنِي عليهما ويُعظِّمهما ويُرجح أصولَ مذاهبهما على من ليست أصولُ

(1)

2/ 244.

(2)

"مختصره"(ص 226، 227).

ص: 403

مذاهبه كأصول مذاهبهما. وعندهم أصول فقهاء الحديث أصحُّ من أصول غيرِهم، والشافعي وإسحاق هما عنده من أجل فقهاء الحديث. وجمع بينهما بمسجد الخيف فتناظرا في مسألة رباع مكة، والقصة مشهورة

(1)

. وذكر أحمد أن الشافعي علا إسحاقَ بالحَجة في موضع، وأن إسحاق علاه بالحجة في موضع؛ فإن الشافعي كان يبيح البيع والإجارة، وإسحاق يمنع منهما، وكانت الحجة مع الشافعي في جواز بيعها، ومع إسحاق في المنع من إجارتها.

وأما التخيير في الجارية فهو قول الشافعي، ولم أجده منقولًا لا عن أحمد ولا عن إسحاق، كما ونُقِل عنهما التخيير في الغلام. ولكن نُقِل عن الحسن بن حيّ أنها تُخيَّر إذا كانت كاعبًا.

والتخيير في الغلام هو مذهب الشافعي وأحمد -في المشهور عنه- وإسحاق، للحديث الوارد في ذلك، حيث خيَّر النبي صلى الله عليه وسلم غلامًا بين أبويه

(2)

، وهي قضية معينة، ولم يرد عنه نصّ عام في تخيير الولد مطلقًا. والحديث الوارد في تخيير الجارية ضعيف

(3)

مخالفٌ لإجماعهم.

(1)

انظر مناقب الشافعي للبيهقي (1/ 213 وما بعدها) ومعجم الأدباء (17/ 293 - 298) وطبقات الشافعية للسبكي (2/ 89 - 90).

(2)

أخرجه أحمد (2/ 246، 447) وأبو داود (2277) والترمذي (1357) والنسائي (6/ 185) وابن ماجه (2351) من حديث أبي هريرة، وحسَّنه الترمذي وصححه ابن حبان. وانظر:"تلخيص الحبير"(4/ 12).

(3)

أخرجه أحمد (5/ 446) وأبو داود (2244) والنسائي في الكبرى كما في "تحفة الأشراف"(3594) من طريق عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن رافع بن سنان. وفي سنده اختلاف كثير وألفاظ مختلفة، قال ابن المنذر: لا يُثبته أهل النقل، وفي إسناده مقال. انظر:"تلخيص الحبير"(4/ 11). وسيأتي الكلام على الحديث في آخر هذه الرسالة.

ص: 404

والفرق بين تخيير الغلام والجارية أن هذا التخيير تخيير شهوة، لا تخيير رأي ومصلحة، كتخيير من يتصرف لغيره، كالإمام والولي، فإن الإمام إذا خُيّر في الأسرى بين القتل والاسترقاق والمنّ والفداء فعليه أن يختار الأصلح للمسلمين، ثم قد يُصيب ذلك الأصلح للمسلمين، فيكون مصيبًا في اجتهاده حاكمًا بحكم الله، ويكون له أجران، وقد لا يُصيبه، فيثاب على استفراغ وُسعِه، ولا يأثم بعجزه عن معرفة المصلحة. كالذي ينزل أهل حصنٍ على حكمه، كما نزل بنو قريظة على حكم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سأله فيهم بنو عبد الأشهل قال:"ألا تَرضَون أن أجعل الأمرَ إلى سيدكم سعد بن معاذ؟! فرَضُوا بذلك، وطمع من كان يحب استبقاءَهم أن سعدًا يُحابيهم، لما كان بينه وبينهم في الجاهلية من الموالاة. فلما أتى سعا حكمَ فيهم أن تُقتَل مقاتلتُهم، وتُسبَى ذراريهم، وتُغنَم أموالُهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمتَ فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات"

(1)

. وهذا يقتضي أنه لو حكم بغير ذلك لم يكن ذلك حكمًا لله في نفس الأمر، وإن كان لابدَّ من إنفاذه.

ومثل هذا ما ثبت في صحيح مسلم

(2)

وغيره من حديث بُريدة المشهور، قال فيه:"وإذا حاصرتَ أهلَ حصنٍ فسألوك أن تُنزِلَهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم، ولكن أَنزِلْهم على حكمك وحكم أصحابك".

(1)

انظر: سيرة ابن هشام (2/ 239، 240). وأخرجه البخاري (3043، 3804، 4121، 6262) ومسلم (1768) بنحوه مختصرًا من حديث أبي سعيد الخدري.

(2)

برقم (1731) وأخرجه أيضًا أحمد (5/ 352، 358) وأبو داود (6212، 6213) والترمذي (1408، 1617) والنسائي في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف"(1929) وابن ماجه (2858).

ص: 405

ولهذا قال الفقهاء: إنه إذا حاصرَ الإمامُ حصنًا، فنزلوا على حكم حاكمٍ، جاز إذا كان رجلًا مسلمًا حرًّا عدلًا، من أهل الاجتهاد في أمر الجهاد، ولا يحكم إلا بما فيه حظٌّ للإسلام من قتلٍ أو رِقّ أو فداء. وتنازعوا فيما إذا حكم بالمن، فأباه الإمام، هل يلزم حكمه أو لا يلزم؟ أو يُفرَّق بين المقاتلة والذرية؟ على ثلاثة أقوال. وإنما تنازعوا في ذلك لظنّ المنازع أن المنَّ لا حظَّ فيه للمسلمين.

والمقصود أن تخيير الإمام والحاكم الذي نزلوا على حكمه هو تخيير رأي مصلحة، بطلب أي الأمرين كان أرضى لله ورسوله فعله، كما ينظر المجتهد في أدلة المسائل، فأيّ الدليلين كان أرجح اتبعَه.

ولكن معنى قولنا "يُخيَّر" أنه لا يتعين فعلُ واحدٍ من هذه الأمور في كل وقت، بل قد يتعين فعلُ هذا تارةً وفعلُ هذا تارةً. وقولُ الله في القرآن (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)

(1)

يقتضي فعلَ أحد الأمرين، وذلك لا يمنع تَعيُّنَ هذا في حالٍ وهذا في حالٍ، كما في قوله تعالى:(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا)

(2)

. فتربُّصُ أحد الأمرين لا يمنع بعينه إذا كان الجهاد فرض عينٍ علينا بعض الأوقات، فحينئذٍ يصيبهم الله بعذابٍ بأيدينا، كما في قوله:(قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ)

(3)

.

ولهذا كان عند جميع العلماء قولُه تعالى في المحاربين: (إِنَّمَا

(1)

سورة محمد: 4.

(2)

سورة التوبة: 52.

(3)

سورة التوبة: 14 - 15.

ص: 406

جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)

(1)

لا يقتضي أن الإمام يُخيّر تخيير مشيئة، فيفعل أيَّ هذه الأربعة شاء، بل كلهم متفقون على أنه يتعين هذا في حال وهذا في حال.

ثم أكثرهم يقولون: تلك الأحوال مضبوطة بالنصّ، فإن قَتَلوا تعيَّن قتلُهم، وإن أخذوا المالَ ولم يقتلوا تعيَّن قطعُ أيديهم وأرجلهم من خلاف، كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد

(2)

، وروي في ذلك حديث مرفوع

(3)

.

ومنهم من يقول: بل التعيين باجتهاد الإمام، كقول مالك، فإن رأى أن القتل هو المصلحة قتل، وإن لم يكن قد قَتل.

ومن هذا الباب تخيير الإمام في الأرض المفتوحة عنوة بين جعْلِها فيئًا وجَعْلِها غنيمةً، كما هو قول الأكثرين كأبي حنيفة والثوري وأبي عبيد وأحمد في المشهور عنه، فإنهم قالوا: إن رأى المصلحةَ في جَعْلِها غنيمةً قَسمها بين الغانمين، كما قَسَمَ النبي صلى الله عليه وسلم خيبر؛ وإن رأى أن لا يَقسِمها جاز، كما لم يَقْسِم النبي صلى الله عليه وسلم مكةَ مع أنه فتحها عنوةً، كما شهدتْ بذلك الأحاديث الصحيحة والسيرة المستفيضة، وكما قاله جمهور العلماء. ولأن خلفاءه بعدَه أبا بكر وعمر وعثمان

(1)

سورة المائدة: 33.

(2)

انظر "المغني"(12/ 475 وما بعدها).

(3)

يُروى مرفوعًا وموقوفًا على ابن عباس، أخرجه أبو يوسف في كتاب "الخراج" (ص 177) والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 283). وانظر "الدر المنثور" (3/ 68). وفي "المغني" (1/ 4772):"قيل إنه رواه أبو داود". ولا يوجد عنده.

ص: 407

فتحوا ما فتحوه من أرض المغرب والروم وفارس، كالعراق والشام ومصر وخراسان، ولم يقسم أحد من الخلفاء شيئًا من العقار المغنوم بين الغانمين، لا السواد ولا غير السواد، بل جعلوا العقار فيئًا للمسلمين داخلًا في قوله (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) الآية

(1)

. ولم يستأذنوا في ذلك الغانمين، بل طلبَ أكابرُ الغانمين قسمةَ العقار، فلم يُجيبوهم إلى ذلك، كما طلبَ بلالٌ من عمر أن يَقسِمَ أرضَ الشام، وطلب منه الزبير أن يقسم أرض مصر، فلم يجيبوهم إلى ذلك. ولم يستطب أحد من الخلفاء أحدًا من الغانمين في ذلك، فضلًا عن أن يستطيبَ أنفُسَ جميع الغانمين.

وهذا مما احتَجَّ به مَن جعلَ الأرضَ فيئًا بنفس الفتح، ومن نَصَرَ مذهبَه كإسماعيل بن إسحاق وغيره، وقالوا: الأرض ليست داخلةً في الغنيمة؛ فإن الله حرَّم على بني إسرائيل المغانمَ ومَلَّكَهم العقارَ، فعُلِمَ أنه ليس من المغانم. وهذا القول يُذكَر رواية عن أحمد، كما ذُكِر عنه روايةٌ ثالثةٌ كقول الشافعي: أنه يجب قسمة العقار والمنقول، لأن الجميع مغنومٌ.

وقال الشافعي: إن مكة لم تُفتَح عنوةً بل صُلحًا، فلا يكون فيها حجة. ومن حَكَى عنه أنه قال: إنها فتِحتْ عنوةً -كصاحب "الوسيط"

(2)

وفروعه- فقد غَلِطَ عليه. وقال في السواد: لا أدري ما أقول فيه، إلا أني أظنُّ فيه ظنًّا مقرونًا بعلمٍ وظنّ أن عمر استطابَ أنفسَ الغانمين، لما رُوِي من قصة المثنى بن حارثة. وبَسْطُ هذا له موضع آخر.

(1)

سورة الحشر: 7.

(2)

7/ 42. وردَّ عليه ابن الصلاح في "مشكل الوسيط" (2/ 127 ب).

ص: 408

وقول الجمهور أعدلُ الأقاويل، وأشبهُها بالكتاب والسنة والأصول، وهم الذين قالوا: يُخيَّر الإمام بين الأمرين تخييرَ رأي ومصلحة، لا تخيير شهوة ومشيئةٍ، وهكذا سائر ما يُخيَّر فيه وُلاةُ الأمر ومن تصرَّفَ لغيرِه بولاية، كناظر الوقف ووصيِّ اليتيم والوكيل المطلق، لا يُخيَّرون تخييرَ مشيئةٍ وشهوةٍ، بل تخييرَ اجتهاد ونظر وطلبٍ، ويُجزى للأصلح. كالرجل المبتَلَى بعدوَّين، وهو مضطر إلى الابتداء بأحدهما، فيبتدئ بماله نفع. وكالإمام في تولية من ولَاّه الحربَ والحكمَ والمالَ يختارُ الأصلح فالأصلح. فمن وَلَّى رجلًا على عصابةٍ، وهو يجد فيهم من هو أرضى لله منه، فقد خانَ الله وخانَ رسولَه وخانَ المؤمنين.

وهذا بخلاف من خُيِّر بين شيئين وله أن يفعل أيَّهما شاءَ، كالمكفِّر إذا خُير بين الإطعام والكسوة والعتق، فإنه وإن كان أحدُ الخصال أفضلَ فيجوز له فعل المفضول. وكذلك لابسُ الخفّ إذا خُيِّر بين المسح وبين الغَسل، وإن كان أحدهما أفضل. وكذلك المصلي إذا خُيِّر بين الصلاة في أول الوقت وآخره، وإن كان أحدهما أفضل. وكذلك تخيير الآكل والشارب بين أنواع الأطعمة والأشربة المباحة، وإن كان نفس الأكل والشرب واجبًا عند الضرورة، حتى إذا تعين المأكول وجبَ أكلُه وإن كان ميتة، فمن اضطر إلى أكل الميتة وجب عليه أكلُها في المشهور عن الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم.

وكذلك تخيير الحاج بين التمتع والإفراد والقران عند الجمهور الذين يُخيِّرون الثلاثة. وتخيير المسافر بين الفطر والصوم عند الجمهور.

وأما من يقول: لا يجوز أن يحج إلاّ متمتعا، وأنه يتعين الفطر في السفر، كما يقوله طائفة من السلف والخلف من أهل السنة والشيعة، فلا يجيء هذا على أصلهم. وكذلك القصر عند الجمهور

ص: 409

الذين يقولون: ليس للمسافر أن يصلي إلا ركعتين، ليس له أن يصلي أربعًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُصل في السفر قط إلا ركعتين، ولا أحد من أصحابه في حياته. وحديث عائشة التي تذكر فيه أنه أو أنها صلَّتْ في حياته في السفر أربعًا كذبٌ عند حُدَّاق أهل العلم بالحديث، كما قد بُسِطَ في موضعه

(1)

.

إذ المقصود هنا أن التخيير في الشرع نوعان، فمن خُيِّر فيما يفعله لغيرِه بولايته عليه، أو بوكالةٍ مطلقة، لم يُبَحْ له فيها فعلُ ما شاء، فعليه أن يختار الأصلح. وأما من تصرَّف لنفسه، فتارةً يأمره الشارع باختيار ما هو الأصلح بحسب اجتهاده، كما يأمر المجتهد بطلب أقوى الآراء بل وأصلح الأحكام في نفس الأمر. وتارةً يُبيح له ما شاء من الأنواع التي خيّر بينهما، كما تقدم. هذا إذا كان مكلفًا.

وأما الصبي المميِّز فيُخيَّر تخييرَ شهوةٍ، حيث كان كلٌّ من الأبوين نظيرَ الآخر، ولم ينضبط في حقه حكم عام للأب أو الأم، فلا يمكن أن يقال: كل أب فهو أصلح للمميِّز من الأم، ولا كلُّ أم فهي أصلح له من الأب. بل قد يكون بعضُ الآباء أصلح، وبعضُ الأمهات أصلح، وقد يكون الأب أصلح في حال، والأم أصلح في حال. فلم يمكن أن يعتبر أحدهما في هذا. بخلاف الصغير، فإن الأم أصلح له من الأب، لأن النساء أوثقُ بالصغير وأخبَرُ بتغذيته وحملِه وتنويمه وتنويله، وأصبر على ذلك وأرحم به، فهي أقدر وأخبر وأرحم وأصبر في هذا الموضع. فتعينت الأم في حق الطفل غير المميز بالشرع.

ولكن بقي تنقيحُ المناط: هل عيَّنهن الشارعُ لكون قرابة الأم

(1)

انظر "مجموع الفتاوى"(22/ 78 - 81؛ 24/ 144 - 156، 8، 10، 19).

ص: 410

مقدمةً على قرابة الأب في الحضانة أو لكون النساء أقومَ بمقصودِ الحضانة من الرجال؟ وهذا فيه قولان للعلماء، يظهر أثرهما في تقديم نساء العصبة على أقارب الأم، مثل: أمّ الأم، وأم الأب، والأخت من الأم، والأخت من الأب، ومثل: العمة والخالة، ونحو ذلك. هذا فيه قولان هما روايتان عن أحمد.

وأرجح القولين في الحجة تقديم نساء العصبة، فتقدم الأخت من الأب على الأخت من الأم، وخالة الأب على خالة الأم. وهو الذي ذكره الخرقي في "مختصره"

(1)

وأبو الحسن الآمدي وغيرهما من الأصحاب.

وعلَّل ذلك من علَّله -كأبي الحسن الآمدي- في مثل تقديم خالة الأب على خالة الأم، فإن قرابتها فيها رَحِم وتعصيبٌ، بخلاف قرابة الأم، فإنَّ فيها رَحِمًا بلا تعصيب. فأم الأب مقدمة على أم الأم، والأخت من الأب مقدمة على الأخت من الأم، والعمة مقدمة على الخالة. كما يُقدَّم أقارب الأب من الرجال على أقارب الأم، فالأخ للأب أولى من الأخ للأم، والعمُّ أولى من الخال. بل قد قيل: إنه لا حضانة للرجال من أقارب الأم بحال، وإن الحضانة لا تثبت إلا لرجلٍ من العصبة أو لامرأةٍ وارثةٍ، أو مُدْلِيةٍ بعصبةٍ أو وارثٍ، فإن عدموا فالحاكم.

وعلى الوجه الثاني فلا حضانة للرجال في أقارب الأم. وهذان الوجهان في مذهب الشافعي وأحمد. فلو كانت جهة الأمومة راجحةً لترجح رجالُها ونساؤها، فلما لم يترجح رجالُها بالاتفاق فكذلك نساؤها.

(1)

انظر "المغني"(11/ 423، 424).

ص: 411

وأيضًا فمجموع أصول الشرع إنما يُقدّم أقاربَ الأب في الميراث والعقل والنفقة وولاية الموت والمال وغير ذلك، لم يقدِّم الشارعُ قرابةَ الأم في حكم من الأحكام، فمن قدَّمهن في الحضانة فقد خالف أصول الشريعة.

ولكن قدّموا الأمّ لكونها امرأةً، وجنسُ النساء مقدماتٌ في الحضانة على الرجال. وهذا يقتضي تقديم الجدَّةِ أمِّ الأب على الجدّ، كما قُدّمت الأمُّ على الأب، وتقديم أخواتِه على إخوته، وعمّاتِه على أعمامِه، وخالاتِه على أخوالِه. هذا هو القياس والاعتبار الصحيح.

وأما تقديم جنس نساء الأم على جنس نساء الأب فمخالفٌ للأصول والمعقول، ولهذا كان من قال هذا في موضعٍ يتناقض، ولا يطرد أصله. ولهذا تجد لمن لم يضبط أصل الشرع ومقصودَه في ذلك أقوالًا متناقضة، حتى يوجد في الحضانة من الأقوال المتناقضة أكثر مما يوجد في غيرها من هذا الجنس. فمنهم من يقدّم أم الأم على أم الأب، كأحد القولين في مذهب أحمد، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة. ثم من هؤلاء من يقدِّم الأخت من الأب على الأخت من الأم، ثم يُقدّم الخالة على العمة، كقول الشافعي في الجديد وطائفةٍ من أصحاب أحمد. وبَنَوا قولَهم على أن الخالات مقدمات على العمّات لكونهن من جهة الأم، ثم قالوا في العمات والخالات والأخوات: من كانت لأبوين أولى، ثمّ من كانت لأب، ثم من كانت لأم.

وهذا الذي قالوه هنا موافق لأصول الشرع، لكن إذا ضُمَّ هذا إلى قولهم بتقديم قرائب الأم ظهر التناقضُ. وهم أيضًا قالوا بتقديم أمهاتِ الأب والجدّ على الخالات والأخوات للأم، وهذا موافق لأصول الشرع؛ لكنه يناقض هذا الأصل، ولهذا قالوا في القول

ص: 412

الآخر: إن الخالة والأخت للأم أولى من أم الأب، كقول الشافعي القديم. وهذا أَطردُ لأصلهم، لكنه في غاية المناقضة لأصول الشرع.

وطائفة أخرى طردتْ أصلَها، فقدَّمتْ من الأخوات من كانت لأم على من كانت لأب، كقول أبي حنيفة والمزني وابن سريج. وبالغ بعضُ هؤلاء في طرد قياسِه، حتى قدَّم الخالةَ على الأخت من الأب، كقول زفر وروايةٍ عن أبي حنيفة، ووافقهم ابن سُرَيج. ولكن أبو يوسف استشنعَ ذلك، فقدَّم الأختَ للأب، ورواه عن أبي حنيفة.

ورُوِيَ عن زفر أنه أمعنَ في طرد قياسِه، حتى قال: إنّ الخالةَ أولى من الجدّة أمِّ الأب. وقد رُوِي عن أبي حنيفة أنه قال: لا تأخذوا بمقاييس زفر، فإنكم إذا أخذتم بمقاييس زفر حرمتم الحلال وحللتم الحرام. وكان يقول في القياس: قياسُ زفر أقبحُ من البولِ في المسجد. وزفر كان معروفًا بالإمعان في طرد قياسِه، لكن الشأن في الأصل الذي قاس عليه وفي علة الحكم في الأصل، وهو جواب سؤال المطالبة، فمن أحكم هذا الأصل استقامَ قياسُه.

وهذا كما أن زفر اعتقد أن النكاح إلى أجل يَبطُلُ فيه التوقيتُ، ويصحّ النكاح لازمًا. وخرَّجَ بعضُهم ذلك قولًا في مذهب أحمد.

فكان مضمون هذا القول أن نكاح المتعة يَصخُ لازمًا غيرَ موقتٍ، وهو خلاف النصوص وخلافُ إجماع السلف. والأمة إذا اختلفت في مسألة على قولين، لم يكن لمن بعدهم إحداثُ قولي يناقضُ القولين، ويتضمنُ إجماعَ السلف على الخطأ والعدول عن الصواب. وليس في السلف من يقول في المتعة إلا أنه باطلٌ، أو يَصِخُ مؤجَّلًا، فالقولُ بلزومِه مطلقًا خلافُ الإجماع.

وسبب هذا القول اعتقادُهم أن كل شرط فاسدٍ في النكاح فإنه يَبطُل،

ص: 413

وينعقد النكاح لازمًا بدون حصولِ غرض المشترط. فألزموه ما لم يلتزمْه ولا ألزمَه به الشارع، ولهذا صحح من قال ذلك نكاحَ الشغار ونحوه مما شُرِطَ فيه نفيُ المهر، وصححوا نكاح التحليل لازمًا مع إبطال شرط التحليل، وأمثال ذلك.

وقد ثبت في الصحيحين

(1)

عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنّ أحقَّ الشروط أن تُوفوا به ما استحللتم به الفروج". فدكَ النصُّ على أن الوفاء بالشروط في النكاح أولى منه بالوفاء بالشروط في البيع، فإذا كانت الشروط الفاسدة في البيع لا يلزم العقد بدونها، بل إما أن يَبطُل العقدُ، وإما أن يثبت الخيارُ لمن فاتَ غرضُه بالاشتراط إذا بطلَ الشرط، فكيف بالشروط في النكاح؟.

وأصلُ عمدتهم كون النكاح يصحُّ بدون تقدير الصداق، كما ثبتَ بالكتاب والسنة والإجماع. فقاسوا النكاح الذي شُرِطَ فيه نفيُ المهر على النكاح الذي تُرِكَ تقديرُ الصداقِ فيه، كما فَعَل أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأكثر متأخري أصحاب أحمد. ثم طَرَد أبو حنيفة قياسَه، فصحَّح نكاحَ الشغار بناءً على أن لا مُوجبَ لفسادِه إلا إشغاره عن المهر، وهذا ليس مفسدًا.

وأما الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد فتكلَّفوا الفرق بين الشغار وغيره، بأن فيه تشريكًا في البُضْع أو تعليقًا للعقد أو غير ذلك، مما قد بُسِطَ في غير هذا الموضع

(2)

، وبُيِّن فيه أنّ كلَّ هذه فروق غيرُ مؤثّرة، وأن الصواب مذهب أهلِ المدينة مالكٍ وغيرِه،

(1)

البخاري (2721، 5151) ومسلم (1418).

(2)

انظر "مجموع الفتاوى"(20/ 379) و"نظرية العقد"(ص 175 وما بعدها).

ص: 414

وهو المنصوص عن أحمد في عامة أجوبته، وعليه أكثر قدماء أصحابه: أن العلة في إفسادِه هي شرط إشغار النكاح عن المهر، وأن النكاح ليس بلازم إذا شرط فيه نفي المهر أو مهر فاسد. فإنَّ الله فرضَ فيه المهرَ، فلم يُحِلَّ لغير الرسولِ النكاحَ بلا مهرٍ. فمن تزوج بشرط أن لا يجب مهر فلم يعقد النكاح الذي أذن الله فيه، فإن الله إنما أباح العقد لمن يبتغي بماله محصنًا غير مسافح، كما قال تعالى:(وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ)

(1)

. فمن طلب النكاح بلا مهر فلم يفعل ما أحلَّ الله. وهذا بخلاف من اعتقد أنه لابد من مهرٍ لكن لم يقدره، كما قال تعالى:(لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) إلى قوله (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) الآية

(2)

. فهذا نكاح المهر المعروف، وهو مهر المثل.

قالوا: فهذا هو الفرق بين النكاح وبين البيع، فإن البيع بثمن المثل -وهو السعر- أو الإجارة بثمن المثل لا يصح، بخلاف النكاح.

وقد سلَّم لهم هذا الأصلَ الذي قاسوا عليه الشافعيُّ وكثير من أصحاب أحمد في البيع. وأما في الإجارة فأصحابُ أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم يقولون: إنه يجب أجرة المثل فيما جرت العادة فيه في مثل ذلك، كمن دخل حمام حمامي يدخلها الناس بالكراء، أو سكن في خانٍ أو حجرةٍ جرت عادتهم بذلك، أو دفع طعامه أو خبزَه إلى من يطبخ أو يخبز بالأجرة، أو ثيابه إلى من يغسل بالأجرة، أو

(1)

سورة النساء: 24.

(2)

سورة البقرة: 236 - 237.

ص: 415

ركب دابة مكاري يُكارِي بالأجرة، أو سفينة ملاّحٍ يركب الناس بالأجرة. فإن هذه إجارة عرفية عند جمهور العلماء، وتجب فيها أجرة المثل وإن لم يشترط ذلك. فهذه إجارة بأجرة المثل. وكذلك لو ابتاع طعامًا بمثل ما ينقطع به السعر، أو بسعر ما يبيع الناس، أو بما اشتراه به من بلده أو برقمه، فهذا يجوز في أحد القولين في مذهب أحمد وغيره.

وقد نصَّ أحمد على هذه المسائل ومثلها في غير موضع، وإن كان كثير من متأخري أصحابه لا يُوجَد في كتبهم إلا القول الآخر بفسادِ هذه العقود، كقول الشافعي وغيره. وبسطُ هذه المسائل في مواضع أخر.

والمقصود هنا كان مسائل الحضانة، وأن الذين اعتقدوا أن الأمَّ قُدّمت لتقدم قرابة الأمّ لمّا كان أصلُهم ضعيفًا كانت فروعُهم اللازمة للأصل الضعيف ضعيفة، وفسادُ اللازم يستلزم فسادَ الملزوم. بل الصواب بلا ريب أنها قُدّمت لكونها أنثى، فتكون المرأة أحقَّ بحضانة الصغير من الرجل، فتُقدَّم الأمّ على الأب، والجدة على الجد، والأخت على الأخ، والخالة على الخال، والعمة على العم. وأما إذا اجتمع امرأة بعيدة ورجلٌ قريب، فهذا لبسطِه موضع آخر، إذ المقصود هنا ذكر مسألة الصغير المميز، والفرق بين الصبية والصبي.

فتخييرُ الصبي الذي وردت به السنة أولى من تعيين أحد الأبوين له، ولهذا كان تعيين الأب كما قال مالك وأحمد في رواية، والتخيير تخيير شهوة. ولهذا قالوا: إذا اختار الأبَ مدةً ثم اختار الأمَّ فله ذلك. حتى قالوا: متى اختار أحدهما ثم اختار الآخر نُقِل إليه، وكذلك إن اختار ابتداء. وهذا قول القائلين بالتخيير: الحسن بن صالح والشافعي وأحمد بن حنبل. وقالوا: إذا اختار الأم كان عندها ليلًا،

ص: 416

وأما بالنهار فيكون عند الأب ليعلمه ويؤدبه. هذا مذهب الشافعي وأحمد، وكذلك قال مالك، وهو يقول: يكون عندها بلا تخيير، للأب تعاهدُه عندها وأدبُه وبعثُه إلى المكتب، ولا يبيت إلا عند الأمّ.

قال أصحاب الشافعي وأحمد: وإن اختار الأب كان عنده ليلًا ونهارًا، ولم يُمنَع من زيارة أمّه، ولا تُمنَع الأمّ من تمريضه إذا اعتلَّ.

فأما البنت إذا خُيِّرتْ -فكانت عند الأم تارةً وعند الأب تارةً- أفضَى ذلك إلى كثرة مرورِها وتبرجها وانتقالِها من مكان إلى مكانٍ، ولا يبقى الأب موكلًا بحفظها ولا الأمّ موكلةً بحفظها، وقد عُرِف بالعادة أن ما تناوبَ الناسُ على حفظِه ضاعَ. ومن الأمثال السائرة: لا تصلح القِدرُ بين طبَّاختَيْن.

وأيضًا فاختيارُ أحدهما يُضعِف رغبةَ الآخر في الإحسان والصيانة، فلا يبقى الأبُ تامَّ الرغبة في حفظها، ولا الأمّ تامةَ الرغبة في حفظها. وليس الذكر كالأنثى، كما قالت امرأة عمران

(1)

(رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) إلى قوله (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) إلى قوله (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ). فهذه مريم احتاجت إلى من يكفلها ويحضنها، حتى اقترعوا على كفالتها، فكيف بمن سواها من النساء؟

وهذا أمرٌ يُعرَف بالتجربة: أن المرأة تحتاج من الحفظ والصيانة إلى ما لا يحتاج إليه الصبي، وكل ما كان أسترَ لها وأصونَ كان أصلحَ لها.

(1)

سورة آل عمران: 35 - 44.

ص: 417

ولهذا كان لباسُها المشروعُ لباسًا لما يسترها، ولعن النبي صلى الله عليه وسلم من يلبس منهن لباسَ الرجال

(1)

، وقال لأم سلمة في عصابتها:"ليَّةً لا ليَّتَين"، رواه أبو داود وغيره

(2)

. وقال في الحديث الصحيح

(3)

: "صنفانِ من أهل النار من أمتي لم أرهما بعدُ: نساءٌ كاسيات عاريات مائلات مُمِيلات، على رؤوسهن مثلُ أسنمة البُخْت، لا يدخلن الجنةَ ولا يجدن ريحَها؛ ورجالٌ معهم سياطٌ مثل أذنابِ البقر يَضرِبون بها عبادَ الله".

وأيضًا فأمُرت المرأةُ في الصلاة أن تتجمع ولا تجافي بين أعضائها، وفي الإحرام أن لا ترفعَ صوتَها إلا بقدر ما تسمع رفيقتها، وأن لا تَرقَى فوق الصفا والمروة، كلُّ ذلك لتحقيق سترِها وصيانتها. ونُهِيَتْ أن تُسافر إلا مع زوج أو ذِي محرم، لحاجتها في حفظها إلى الرجال مع كبرِها ومعرفتها. فكيف إذا كانت صغيرةً مميزةً، وقد بلغتْ سنَّ ثورانِ الشهوة فيها، وهي قابلةٌ للانخداع؟ وفي الحديث:"النساء لحمٌ على وَضَمٍ إلا ما ذُبّ عنه"

(4)

.

فهذا مما يُبيِّن أن مثل هذه الصبية المميزة من أحوج النساء إلى حفظها وصونها، وتردُّدُها بين الأبوين مما يُخِلُّ بذلك، من جهة أنها هي لا يجتمع قلبُها على مكانٍ معيَّن، ولا يجتمع قلبُ أحد الأبوين

(1)

أخرجه أحمد (2/ 325) وأبو داود (4098) عن أبي هريرة.

(2)

أخرجه أبو داود (4115) وأحمد (6/ 294، 296، 306).

(3)

أخرجه مسلم (2128 وبعد رقم 2856) عن أبي هريرة.

(4)

رُوِي هذا عن عمر بن الخطاب، انظر "الغريبين"(6/ 167) و"النهاية"(15/ 98). ومعنى ذلك أنهن في الضعف مثل ذلك اللحم الذي لا يمتنع من أحد إلَاّ أن يُذَبَّ عنه.

ص: 418

على حفظها، ومن جهة أن تمكينها من اختيار هذا تارةً وهذا تارةً يُخِلُّ بكمالِ حفظها، وهو ذريعة إلى ظهورها ومرورِها، فكان الأصلح لها أن تُجعَلَ عند أحد الأبوين مطلقًا، ولا تُمكَّنَ من التخيير، كما قال ذلك جمهور علماء المسلمين مالك وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم.

وليس في تخييرها نصٌّ صريح ولا قياسٌ صحيح.

والفرق ظاهرٌ بين تخييرها وتخيير الابن، لاسيَّما والذكر محبوبٌ مرغوبٌ فيه، فلو اختار أحدَهما كانت محبةُ الآخر له تدعوه إلى مراعاته. والبنتُ مزهودٌ فيها، فأحدُ الوالدين قد يَزهَد فيها مع رغبتها فيه، فكيف مع زهدِها فيه؟ فالأصلح لها لزومُ أحدِهما لا التردُّد بينهما.

ثمَّ هنا يحصل الاجتهاد في تعيين أحدهما. فمن عيَّن الأم -كمالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين- لابدّ أن يُراعوا مع ذلك صيانةَ الأمّ لها، ولهذا قالوا ما ذكره مالك والليث وغيرهما: إذا لم تكن الأم في موضع حرزٍ وتحصينٍ أو كانت غيرَ مرضيَّةٍ فللأب أخذها منها. وهذا هو الذي راعاه أحمد في الرواية التي اشتهرت عند أصحابه، حتى لم يذكر أكثرهم في ذلك نزاعًا، وقد علَّلوا ذلك بحاجتها إلى الحفظ والتزويج، والأب أقوم لذلك من الأم، فإنه إذا كان لابدّ من رعاية حفظها وصيانتها، وأن للأب أن ينتزعها من الأم إذا لم تكن حافظةً لها بلا ريب، فالأب أقدر على حفظها وصيانتها من الأم، وهي مميزة لا تحتاج في بدنها إلى أحد. والأب له من الهيبة والحرمة ما ليس للأم.

وأحمد وأصحابُه إنما يقدمون الأب إذا لم يكن عليها في ذلك ضررٌ، فلو قُدِّر أن الأب عاجز عن حفظها وصيانتها، أو يُهمل حفظها لاشتغالِه عنها أو لقلَّة دينه، والأمُّ قائمة بحفظها وصيانتها، فإنه تُقدَّم الأمّ في هذه الحال.

ص: 419