الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولمّا كانت الصلاة مثنى مثنى جعل في كل ركعةٍ السجود مثنى مثنى، فكل سجدتين معقودتان بركعةٍ، فتصير وترًا، سجدتان وركوع، والركوع مقدمة أمامهما كتقدمة الوقوف على طواف الزيارة. قال النبي صلى الله عليه وسلم:إ إذا أدركتمونا ونحن سجود فاسجدوا، ولا تَعدُّوها شيئا، ومن أدرك الركعة فقد أدرك"
(1)
، كما قال:"الحج عرفة"
(2)
، فمن أدرك عرفةَ فقد أدرك الحج، ومن فاتَه التعريفُ فإنه يفعل الطواف والسعي ولكن لا يكون مدركًا للحج، لكن يكون متحللًا بعمرةٍ أو عَمِلَ عمرةً.
ولهذا قيل: (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43))
(3)
، ف
الركوع مع السجود تقدمةٌ وتوطئةٌ وبابٌ إليه
، وهو مشترك بين القيام والسجود وبرزخٌ بينهما، فالقيام قيام القراءة قبله، وأما القيام بعده فهو -والله أعلم- لأجل السجود بعده، ليكون السجودُ عن قيامٍ، وهو السجود الكامل، فالرفع منه تكميل للركوع، والخفضُ من القيام تكميل للسجود. ولهذا هو ركنٌ تامٌّ كما جاءت به السنة، وليس معادلتُه لبقيَّةِ الأركان -كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقال:"لا يقبل الله صلاةَ من لا يُقيمُ صلبَه في الركوع والسجود"
(4)
- لعدم تكميلها، فإنه أيضًا إذا لم يُقِم صلبه بين السجدتين لا يكون قد أكمل الأولى برفعِها ولا الثانية بخفضِها. فالسجود إذًا شُرع في الانحناء وهو قاعد، أما إذا كان وجهه قريبًا من
(1)
أخرجه أبو داود (893) عن أبي هريرة، ورواه أيضًا ابن خزيمة (3/ 57 - 58) والدارقطني (1/ 346 - 347) والبيهقي (2/ 89) وضعفاه.
(2)
أخرجه أبو داود (1949) والترمذي (889، 890) والنسائي (5/ 256) وابن ماجه (3015) عن عبد الرحمن بن يعمر الديلى.
(3)
سورة البقرة: 43.
(4)
أخرجه أحمد (4/ 119، 122) وأبو داود (855) والترمذي (265) والنسائي (2/ 183) وابن ماجه (870) عن أبي مسعود الأنصاري.
الأرض وأَلْصَقَه فليس هذا بسجود.
ومن هنا غَلِطَ من غلط وقال: إن الاعتدالين ليسا بركنينِ طويلينِ، لما ظنّوا أن المقصود مجرَّد الفضل، والصواب ما جاءت به السنّةُ إيجابًا للاعتدال واستحبابًا لإتمامه وتسويته بسائر الأركان، لأن هذا القيام والقعود وإن كانا تابعًا
(1)
من بعض الوجوه فالقعودُ في آخر الصلاة أيضًا تابعٌ من بعض الوجوه للسجود، وإنما المقصود المحض: القيامُ المشتمل على القراءة المقصودة، والسجودُ الذي هو غاية الخضوع، كما قال:(سَاجِدًا وَقَائِمًا)
(2)
. فإذا كان بعضُ أركان الصلاة الفعلية أفضلَ من بعضٍ وأبلغَ في كونه مقصودًا لم يمنع إيجاب التابع المفضول، كالركعتين الأخْريَين مع الأوليين، وكإيجاب الطمأنينة.
وحرف المسألة أنّ إتمامَ الأركان فرضٌ، ولا يَتمُّ إلا بذلك، وإتمامُ الصلاة من إقامتها، وقد دلَّ على ذلك الكتاب والسنة، فإن قوله في الخوف والسفر (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ)
(3)
-فالخوف يُبيح قَصْرَ الأفعال والسفرُ قَصْرَ الأعداد- دليلٌ على وجوب الإتمام في الأمن والطمأنينة في الطمأنينة، لقوله تعالى (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)
(4)
، وإتمامُها من إقامتها كما جاءت به السنة، حيث قال للمسيئ في صلاته:"ارجِعْ فصَلِّ، فإنك لم تُصلِّ"، وقال:"فإذا فعلتَ هذا فقد تمت صلاتك"
(5)
، فجعلَ من لم يُتمها لم يُصلِّ. والله سبحانه أعلم.
(1)
كذا في الأصل بالإفراد.
(2)
سورة الزمر: 9.
(3)
سورة النساء: 101.
(4)
سورة النساء: 103.
(5)
أخرجه البخاري (757، 793) ومسلم (397) عن أبي هريرة.
فتوى في أمر الكنائس
ورد على شيخنا استفتاءٌ في أمر الكنائس صورتُه:
ما يقول السادة العلماء -وفّقهم الله- في إقليمٍ توافقَ أهلُ الفتوى في هذا الزمان على أن المسلمين فتحوه عنوةً من غير صلحٍ ولا أمان، فهل ملك المسلمون ذلك الإقليم المذكور بذلك؟
وهل يكون الملك شاملًا لما فيه من أموالِ الكفار من الأثاث والمزارع والحيوان والرقيق والأرض والدور والبيَع والكنائس والقلايات والديورة ونحو ذلك، أو يختصّ الملك بما عدا متَعبَّداتِ أهل الشرك؟
فإن ملكَ جميعَ ما فيه فهل يجوز للإمام أن يَعقِدَ لأهل الشرك من النصارى واليهود -بذلك الإقليم أو غيره- الذمةَ على أن يَبقَى ما بالإقليم المذكور من البِيَعِ والكنائس والديورة ونحوها متعبَّدًا لهم، وتكون الجزية المأخوذة منهم في كل سنة في مقابلة ذلك بمفرده أو مع غيره أم لا؟
فإن لم يجز -لأجل ما فيه من تأخير ملك المسلمين عنه- فهلِ يكون حكم الكنائس ونحوها حكم الغنيمة يَتصرَّف فيه الإمام تصرُّفه في الغنائم أم لا؟
وإن جاز للإمام أن يَعقِد الذمَّةَ بشرطِ بقاء الكنائس ونحوها فهل يَملِك من عُقِدتْ له الذمّةُ بهذا العقد رِقابَ البيَع والكنائس والديورة ونحوها، ويزول ملك المسلمين عن ذلك بهذاَ العقد أم لا؟ لأجل أن الجزية لا تكون عن ثمن مبيع.
وإذا لم يملكوا ذلك وبَقُوا على الانتفاع بذلك، وانتقضَ عهدُهم
بسبب يقتضي انتقاضه، إمَّا بموتِ من وقع عقد الذمة معه ولم يُعقِبوا، أو أعقبوا، فإن قلنا: إن أولادهم يُستأنَفُ معهم عَقْدُ الذمةِ -كما نصَّ عليه الشافعي فيما حكاه ابن الصبّاغ، وصححه العراقيون، واختاره ابن أبي عصرون في "المرشد"- فهل لإمام الوقت أن يقول: لا أعقِدُ لكم الذمة إلا بشرطِ أن لا تُدخِلوا الكنائس والبيع والديورة في العقد، فتكون كالأموال التي جُهِلَ مستحقوها وأُيسَ من معرفتها، أم لا يجوز له الامتناع من إدخالها في عقد الذمة، بلَ يجب عليه إدخالها في عقد الذمة؟ فهل ذلك يختص بالبيع والكنائس والديورة التي تَحقَّق أنها كانت موجودة عند فتح المسلمين، ولا يجب عليه ذلك عند التردّد في أن ذلك كان موجودًا عند الفتح، أو حدثَ بعد الفتح، أو يجب عليه مطلقًا فيما تحقق أنه كان موجودًا قبل الفتح أو شك فيه؟ وإذا لم يجب في حالة الشك فهل يكون ما وقع الشكُّ في أنه كان قبل الفتح، وجُهلَ الحالُ فيمن أحدثه لمن هو؟ لبيت المال أم لا؟
وإذا قلنا: إن من بلغ من أولاد من عُقِدتْ معهم الذمة -وإن سلفوا- ومن غيرهم لا يحتاجون أن تُعقَد لهم الذمةُ، بل يجري عليهم حكمُ من سلفَ إذا تحقَّقَ أنه من أولادهم، يكون حكم كنائسهم وبيعهم حكم أنفسهم، أم يحتاج إلى تجديد عقدٍ وذمَّة؟
وإذا قلنا: إنهم يحتاجون إلى تجديد عقدٍ عند البلوغ، فهل تحتاج [كنائسهم] وبيعهم إليه أم لا؟
فأجاب:
الحمد لله، ما فتحه المسلمون كأرض خيبر التي فُتِحتْ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكعامَّة أرض الشام وبعض مدنها، وكسواد العراق إلا
مواضع قليلةً فُتِحتْ صلحًا، وكأرض مصر، فإن هذه الأقاليم فُتِحتْ عنوةً على خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد رُوِي في أرضِ مصر أنها فُتِحتْ صلحًا، ورُوي أنها فُتِحتْ عنوة، وكلا الأمرين صحيح على ما ذكره العلماء المتأمِّلون للروايات الصحيحة في هذا الباب
(1)
، فإنها فتحت أوّلًا صلحًا، ثمَّ نقضَ أهلُها العهدَ، فبعثَ عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يستمدُّه، فأمدَّه بجيشٍ كثير فيهم الزبير بن العوَّام، ففتحها المسلمون الفتح الثاني عنوةً.
ولهذا رُوِي من وجوهٍ كثيرة
(2)
أن الزبير سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن يقسمها بين الجيش كما سأله بلالٌ قَسْم الشام
(3)
، فشاورَ الصحابةَ في ذلك، فأشار عليه كبراؤهم كعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أن يحبسها فيئًا للمسلمين ينتفع بفائدتها أولُ المسلمين وآخرهم. ثمَّ وافق عمر على ذلك بعض من كان خالفَه، ومات بعضهم، فاستقر الأمر على ذلك.
فما فتحه المسلمون عنوةً فقد ملّكَهم الله إياه كما ملّكهم ما استولَوا عليه من النفوس والأموال والمنقول والعقار. ويدخلُ في العقار معابد الكفار ومساكنهم وأسواقهم ومزارعُهم وسائرُ منافع الأرض، كما يدخل في المنقول سائر أنواعه من الحيوان والمتاع والنقد. وليس لمعابد الكفار خاصَّةٌ تقتضي خروجَها عن ملك المسلمين، فإن ما يُقَال فيها من الأقوال ويُفعَل فيها من العبادات إما أن يكون مبدلًا أو مُحدَثًا لم
(1)
انظر "فتوح البلدان" ص 298 وما بعدها، و"الأموال" لأبي عبيد:186.
(2)
فتوح البلدان: 300، 301.
(3)
انظر "الخراج" لأبي يوسف: 23 وما بعدها.
يَشرعْه الله قَطُّ، أو يكون الله قد نهى عنه بعدما شرعَه.
[و] قد أوجبَ الله على أهل دينه جهادَ أهل الكفر حتى يكون الدينُ كله لله، وتكونَ كلمةُ الله هي العليا، ويرجعوا عن دينهم الباطل إلى الهدى ودين الحق الذي بَعثَ الله به خاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، ويُعطوا الجزيةَ عن يدٍ وهم صاغرون.
ولهذا لما استولى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أرض من حاربه من أهل الكتاب وغيرهم -كبني قَينقاع والنضير وقُريظة- كانت معابدُهم مما استولى عليه المسلمون، ودخلتْ في قوله (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ)
(1)
، وفي قوله تعالى:(وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ)
(2)
و (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى)
(3)
.
لكن وإن ملكَ المسلمون ذلك فحكم الملك متنوِّع، كما يختلف حكم الملك في المكاتب والمدبَّر وأمّ الولد والعبد، وكما يختلف حكمه في المقاتلين الذين يُؤسَرون، وفي النساء والصبيان الذين يُسْبَون، كذلك يختلف حكمُه في المملوك نفسه والعقار والأرض والمنقول. وقد أجمع المسلمون على أن الغنائم لها أحكام مختصة بها لا تُقاس بسائر الأموال المشتركة.
ولهذا لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر أقرَّ أهلها ذمة للمسلمين في مساكنهم، وكانت المزارع ملكًا للمسلمين عاملَهم عليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشرط ما يخرج منها من ثمر أو زرع، ثم أجلاهم عمر رضي الله عنه في
(1)
سورة الأحزاب: 27.
(2)
سورة الحشر: 6.
(3)
سورة الحشر: 7.
خلافته، واسترجع المسلمون ما كانوا أقرُّوهم فيه من المساكن والمعابد.
فصل
وأما أنه هل يجوز للإمام عَقْدُ الذمة مع إبقاء المعابد بأيديهم؟ فهذا فيه خلاف معروف في مذاهب الأئمة الأربعة، منهم من يقول: لا يجوز تركُها لهم، لأنه إخراجُ ملكِ المسلمين عنها وإقرارُ الكفر بلا عهد قديم. ومنهم من يقول بجواز إقرارهم فيها إذا اقتضت المصلحة ذلك، كما أقر النبي صلى الله عليه وسلم أهلَ خيبر فيها، وكما أقرَّ الخلفاء الراشدون الكفَّارَ على المساكن والمعابد التي كانت بأيديهم.
فمن قال بالأول قال: حكمُ الكنائس حكمُ غيرِها من العقار، منهم من يُوجب إبقاءَه، كمالك في المشهور عنه وأحمد في رواية؛ ومنهم من يُخَبِّر الإمامَ فيه بين الأمرين بحسب المصلحة، وهذا قول الأكثرين، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه، وعليه دلَّت سنة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، حيث قَسَم نصفَ خيبر وتركَ نصفها لمصالح المسلمين.
ومن قال: "يجوز إقرارها بأيديهم" فقولُه أوجهُ وأظهر، فإنهم لا يملكون بهذا الإقرار رِقابَ المعابد كما يملك الرجل مالَه، كما أنهم لا يملكون ما ترك لمنافعهم المشتركة كالأسواق والمراعي، كما لم يملك أهل خيبر ما أقرَّهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المساكن والمعابد.
ومجرَّدُ إقرارِهم ينتفعون بها ليس تمليكًا، كما لو أقطع المسلم بعض عقار بيت المال ينتفع بغلَّته، أو سُلِّم إليه مسجدٌ أو رباطٌ ينتفع به لم يكن ذلك تمليكا له، بل ما أُقِرُّوا فيه من كنائس العنوة يجوز للمسلمين انتزاعُها منهم إذا اقتضت المصلحةُ ذلك، كما انتزعها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -