الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذلك العكوف عندها والمجاورة عندها ليس مشروعًا باتفاق المسلمين ولا واجبًا ولا مستحبًّا، بل ذلك من البدع المذمومة المنهيّ عنها. وإنما تكون البقعة التي يُشرَع العكوف فيها والمجاورة فيها: المساجد، كما قال الله تعالى:(تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ)
(1)
. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في مسجدِه في العشر الأواخر من رمضان
(2)
، واعتكف مرةً عشرين يومًا
(3)
، وترك مرةًا لاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، فقضاه في شوال
(4)
. وهذا هو المشروع للمسلمين.
و
زيارة القبور جائزةٌ على الوجه المأذون فيه
، فإن كان الميت كافرا فيُزَار للاعتبار بالموت ولا يُدعَى له، كما في صحيح مسلم
(5)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "استأذنتُ ربي في أن أزور قبرَ أمّي فأَذِنَ لي، واستأذنتُه في أن أستغفر لها فلم يُؤذَن لي، فزوروا القبور، فإنها تُذكّركم الآخرة". وإنما زار قبرَ أمّه دون أبيه لأنها كانت على طريقِه عامَ فتح مكة، فاجتاز بقبرها عند مكة فزارَها، ورُوِي أنه زارَها في ألف مقنع، فبكَى وأَبكَى مَن حولَه
(6)
. وأما أبوه فلم يمرّ بقبره.
(1)
سورة البقرة: 187.
(2)
متفق عليه من حديث ابن عمر وعائشة، انظر صحيح البخاري (2025، 2026) ومسلم (1171، 1172).
(3)
أخرجه البخاري (2044) عن أبي هريرة.
(4)
أخرجه البخاري (2033) ومسلم (1173) عن عائشة.
(5)
برقم (976).
(6)
أخرجه أحمد (5/ 355، 357، 359) وابن حبان (791 - موارد) والحاكم في "المستدرك"(1/ 376) والبيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 76) من حديث بريدة.
ولم يأذن ربُّه له في الاستغفار له لأن الاستغفار إنما يكون للمؤمنينِ، قال الله تعالى:(مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113))
(1)
، ثم قال:(وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114))
(2)
. فإن إبراهيم استغفر لأبيه بقوله فيما ذكر الله عنه (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41))
(3)
، ووعده بذلك في قوله:(سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47))
(4)
. فشرع له القدوة بإبراهيم إلا في ذلك بقوله: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ)
(5)
.
ولما نَهى المؤمنين عن الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى فاحتج بعض الناس بإبراهيم، فبيَّن سبحانَه الجواب بقوله:(وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ)، فإن أباه مات كافرًا. ومن قال "إنه مات مؤمنًا" من الرافضةِ الجهّالِ أو غيرِهم فقد خالفَ الكتابَ والسنة والإجماع.
وكذلك أبو النبي صلى الله عليه وسلم وعمُّه أبو طالب، وفي صحيح مسلم
(6)
أن
(1)
سورة التوبة: 113.
(2)
سورة التوبة: 114.
(3)
سورة إبراهيم: 41.
(4)
سورة مريم: 47.
(5)
سورة الممتحنة: 4.
(6)
برقم (203) عن أنس.
رجلًا قال: يا رسولَ الله! أين أبي؟ فقال: "إنّ أباك في النار". فلما أدبَر دعاه فقال: "إنّ أبي وأباك في النار". وفي الصحيحين
(1)
أنه لما حَضرتْ أبا طالب الوفاة دخلَ النبي صلى الله عليه وسلم إليه وعنده أبو جهلٍ وعبد الله بن أمية، فقال:"يا عمِّ! قل لا إله إلا الله، كلمةً أُحَاجُّ لك بها عند الله". فقالا: يا أبا طالبٍ! أترغبُ عن ملَّة عبد المطلب؟ فكان آخر شيء قاله: على ملة عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرنّ لك ما لم أُنْهَ عنك"، فأنزل الله تعالى:(مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113))
(2)
.
وفي الصحيح
(3)
أن العباس قال: يا رسولَ الله! عمُّك الشيخ الضالُّ كان يَحُوطُك ويصنع لك، فهل نَفَعْتَه بشيء؟ فقال:"وجدتُه في غمرةٍ من النار، فشَفَعتُ فيه، فجُعِلَ في ضَحضاحٍ من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار"، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وهذه الأحاديث الصحيحة توافق ما اتفق عليه أئمة المسلمين في أنه ماتَ كافرًا، وتُبيِّن كَذِبَ من ادَّعَى من الجهّال الرافضة وغيرِهم أنه مات مؤمنًا. ويحتج بما ذكر ابن إسحاق في "السيرة"
(4)
من أنه جعل يُهَمْهِمُ عند الموت، وأن العباس قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه قد قال الكلمة التي تطلبها أو نحو ذلك. فإنَّ الذي في الصحيح بيَّن أن العباس لم
(1)
البخاري (4675) ومسلم (24) عن المسيب.
(2)
سورة التوبة: 113.
(3)
البخاري (3883، 6208، 6572) ومسلم (209).
(4)
انظر سيرة ابن هشام (1/ 417). وتكلم ابن كثير في "البداية والنهاية"(4/ 307 وما بعدها) على هذه الرواية.
يكن حاضرًا، وأن العباس علم أنه مات ضالًا، وأنه سألَ النبي صلى الله عليه وسلم هل نفَعَه نَصرُه لك مع كفره، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك نفعَه، بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في تخفيفِ العذاب لا في رفعِه، ولو كان قد مات على الإيمان لم يكن في العذاب، ولم يُنْهَ النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستغفار له، ولقُرِنَ ذكره بذكر حمزة والعباس، ولكان قد صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وابنُه عليّ. بل الاستغفارُ للمنافقين الذين يُظهِرون الإسلامَ ويُبطِنون الكفرَ غيرُ نافع لهم ولا جائز إذا عُلِمَ حالُهم، كما قال تعالى:(سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)
(1)
، وقال تعالى:(وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84))
(2)
.
وأما زيارة قبور المؤمنين فجائزة بل مستحبة، كما سنَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الزيارة نوعان: شرعية وبدعية، والشرعية السلامُ على الميت والدعاء له، بمثل أن يقال
(3)
: "السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العفو والعافية، اللهم لا تحرمنا أجرَهم ولا تَفْتِنّا بعدهم، واغفر لنا ولهم". فالزيارة المشروعة من جنس الصلاة على الجنازة، وكلاهما المقصود به الدعاء للميت، والله تعالى يرحم الميت بدعاء المسلمين، ويرحم الداعين له أيضًا، فيُثيبُ هذا وهذا كما يُثيب المصلين على الجنازة، فمن صلَّى على جنازة إيمانًا واحتسابًا كان له قيراط من الأجر، ومن شيَّعَها حتى تُدفن
(1)
سورة المنافقين: 6.
(2)
سورة التوبة: 84.
(3)
سبق تخريجه.
كان له قيراطان
(1)
.
والله تعالى يَقبل شفاعة المؤمنين ودعاءهم للميت، كما جاء في الحديث الصحيح
(2)
أنه إذا شفع فيه مئة من المؤمنين شفعهم الله فيه، وفي حديث آخر في الصحيح
(3)
: إذا شفع فيه أربعون، وفي حديث آخر
(4)
: إذا كانوا ثلاثة صفوف. ولهذا كانوا يستحبون أن لا تنقص صفوف الجنازة عن ثلاثة.
والمؤمنون مأمورون بدعاءِ بعضهم لبعض، حتى يدعو الفاضلُ للمفضول وبالعكس، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح
(5)
: "إذا سمعتمٍ المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثمّ صَلُّوا عليَّ، فإنه من صلَّى عليَّ مرة صلّى الله عليه عشرًا، ثمَّ سَلُوا الله لي الوسيلةَ، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل لي الوسيلة حلَّت له شفاعتي يوم القيامة". وقال: "ما من مؤمن يَدعُو لأخيه بظهر الغيب بدعوةٍ إلا وكَّلَ الله به مَلَكًا، كلَّما دعا لأخيه بدعوة قال الملك: ولك بمثلٍ"
(6)
.
وأما الزيارة البدعية فمثل التمسُّح بالقبر أو تقبيله أو قصده للصلاة عنده والدعاء وطلب الحوائج من الميت، وأمثال ذلك مما هو من
(1)
كما في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري (47، 1325) ومسلم (945).
(2)
مسلم (947) عن عائشة.
(3)
مسلم (948) عن ابن عباس.
(4)
أخرجه أحمد (4/ 79) وأبو داود (3166) والترمذي (1028) وابن ماجه (1490) عن مالك بن هبيرة.
(5)
أخرجه مسلم (384) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
(6)
أخرجه مسلم (2732) عن أبي الدرداء.
جنس فعل المشركين والنصارى، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مالك في الموطأ
(1)
: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبَد، اشتدَّ غَضبُ الله على قومٍ اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد".
وقد ذكر غير واحدٍ من السلف
(2)
أن أصل عبادة الأصنام كان ذلك، فقالوا في قوله (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23))
(3)
: إن هذه أسماء قوم كانوا قومًا صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثمّ صوَّروا تماثيلهم، وهذه الأصنام صارت إلى العرب، حتى بعث الله رسوله بأن يُعبَد الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن الشرك من عبادة الأوثان وغير ذلك، وبيَّن أن أصل الدين أن يعبد الله لا يُشرك به شيئًا.
وفي الصحيح
(4)
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل: "يا معاذ! أتدري ما حق الله على عباده؟ " قال: الله ورسوله أعلم، قال:"أن يَعبدوه ولا يُشرِكوا به شيئًا، أتدري ما حقُّ العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال:"أن لا يُعذِّبَهم".
وفي الصحيحين
(5)
عنه أنه قال: "الإيمان بضع وستون أو وسبعون شعبةً، أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".
(1)
1/ 172 عن عطاء بن يسار مرسلًا. قال ابن عبد البر: لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث.
(2)
انظر تفسير الطبري (29/ 62) وابن كثير (4/ 455).
(3)
سورة نوح: 23.
(4)
البخاري (2856، 7372) ومسلم (30).
(5)
مسلم (35) عن أبي هريرة. ورواه البخاري (9) مختصرًا.