الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يكن شرطُ الفاعل وجود مفعول، فيلزم من وجود المفعولِ المنصوبِ وجودُ فاعلٍ، ولا ينعكس. بل يلزم من وجودِ اسمٍ منصوب أو مخفوضٍ وجودُ مرفوعٍ، ولا يلزم من وجود المرفوع لا منصوبٌ ولا مخفوضٌ، إذِ الاسمُ المرفوع -مُظْهَرًا أو مُضْمَرًا- لابُدَّ منه في كل كلام عربي، سواءٌ كانت الجملة اسميَّةً أو فعليةً.
فقد تبيَّن أن لفظ الشرط في هذا الاصطلاح يدلُّ عدمُه. على عدمِ المشروط ما لم يَخْلُفْه شرط آخر، ولا يدلُّ ثبوتُه من حيث هو شرط على ثبوت المشروط.
وأما الشرط في الاصطلاح الذي يتكلَّم به في باب أدوات الشرط اللفظية -سواءٌ كان المتكلم [نحويًّا] أو فقيهًا وما يتبعه من متكلم وأصولي ونحو ذلك- فان وجودَ الشرط يقتضي وجودَ المشروط الذي هو الجزاء والجواب، و
عدمُ الشرط هل يدلُّ على عدم المشروط
؟ مبنيٌّ على أن عدم العلَّة هل يقتضي عدم المعلول؟ فيه خلاف وتفصيل قد أُومِئ إليه.
الخوف
(1)
لو فُرِضَ عَدَمُه لكان مع هذا العدم لا يَعصي الله، لأن تركَ المعصية له قد يكون لخوف الله، وقد يكون لأمرٍ آخر: إما لنزاهة الطبع أو إجلال الله أو الحياء منه أو لعدم المقتضي إليها، كما كان يقال عن سليمان التيمي: إنه كان لا يُحسِنُ أن يَعصِيَ الله. فقد أخبرنا عنه أن عدمَ خوفِه لو فُرِضَ موجودًا لكان مستلزمًا لعدم معصية الله، لأن هذا العدم يضاف إلى أمورٍ أخرى: إمّا عدمُ مُقتَضٍ أو وجودُ مانع، مع أن هذا الخوف حاصلٌ.
(1)
كذا في الأصل، ولعل قبلها سقطًا. وهذا شرحٌ لمعنى الأثر.
وهذا المعنى يفهمه من الكلام كلُّ أحدٍ صحيح الفطرة، لكن لما وقع في بعض القواعد اللفظية والعقلية نوعُ توسُّع -إمّا في التعبير وإمّا في الفهم- اقتضى ذلك خَلَلًا إذا بَنى على تلك القواعد المحتاجة إلى تتميم، فإذا كان للإنسان فهمٌ صحيح رَدَّ الأشياءَ إلى أصولها، وقرَّر النظَر على معقولها، وبَيَّنَ حكمَ تلك القواعد وما وقعَ فيها من تجوُّزٍ أو توسُّع، فإن الإحاطةَ في الحدود والضوابط غير تحرير
(1)
.
ومنشأ الإشكالِ أخذُ كلام بعض النحاة مسلَّمًا أن المنفي بعد "لو" مُثبَتٌ، والمثبتُ بعدها منفيٌّ، أو أن جواب "لو" منتفٍ أبدًا، وجواب "لولا" ثابت أبدًا، وأن "لو" حرف يمتنع به الشيء لامتناع غيره، و"لولا" حرفٌ يدلُّ على امتناع الشيء لوجود غيرِه مطلقًا. فإن هذه العبارات إذا قُرِنَ بها "غالبًا" كان الأمر قريبًا، وأما أن يُدَّعَى أنّ هذا مُقتضَى الحرف دائمًا فليس كذلك، بل الأمر كما ذكرناه من أن "لو" حرف شرط تدلُّ على انتفاء الشرط، فإن كان الشرط ثبوتيًّا فهي "لو" محضة، وإن كان الشرط عدميًّا مثل "لولا" و"لو لم" دَلَّتْ على انتفاء هذا العدم بثبوتِ نقيضِه، فيقتضي أن هذا الشرط العدمي مستلزم لجزائه، إنْ وجودًا وإنْ عدمًا، وأن العدمَ منتفٍ. وإذا كان عدمُ شيء سببًا في أمرٍ فقد يكون وجودُه سببًا في عدمه، وقد يكون وجودُه أيضًا سببًا في وجوده، بأن يكون الشيء لازمًا لوجود الملزوم ولعدمه، والحكم ثابت مع العلَّة المعينة، ومع انتفائها لوجود علة أخرى.
وإذا عرفتَ أنَّ مفهومها اللازم لها إنما هو انتفاء الشرط، وأنَ
(1)
كذا في الأصل.
فهمَ نَفْي الجزاء منها ليس أمرًا لازمًا، وإنما يُفهَم باللزوم العقلي أو العادة الغالبة، وعَطَفْتَ على ما ذكرتُه من المقدمات زالَ الإشكالُ بالكلية.
وكان يمكننا أن نقول: إن حرف "لو" دالة على انتفاء الجزاء، وقد تدلُّ أحيانا على ثبوته: إمّا بالمجاز المقرون بقرينةٍ أو بالاشتراك، لكن جَعْل اللفظ حقيقةً في القدر المشترك أقربُ إلى القياس. مع أن هذا إن قاله قائل كان سائغًا في الجملة، فإنّ الناس ما زالوا يختلفون في كثيرٍ من معاني الحروف: هل هي مَقولةٌ بالاشتراك أو بالتواطؤ أو بالحقيقة والمجاز، وإنما الذي يجب أن نعتقد بطلانَه ظَنُّ ظانٍّ ظَنَّ أنْ لا معنى لـ "لو" إلا عدمُ الجزاء والشرط، فإن هذا ليس بمستقيم البتَّةَ. والله سبحانه أعلم.
فصل في مؤاخذة ابن حزم في الإجماع
هذا فصل فيما ذكره الحافظ تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية في الكلام على الإجماعات، ومن جملتها الكلام على ما ذكره الشيخ الإمام أبو محمد بن حزم.
قال أبو محمد بن حزم في كتابه المصنَّف في مسائل الإجماع: أما بعد، فإن الإجماع قاعدة من قواعد الملة الحنيفية، يُرجَع إليه ويُفزَع نحوه ويُكفَّر من خالفَه إذا قامت عليه الحجة بأنه إجماع. وإنّا أمَّلنا بعون الله أن نجمع المسائل التي صحَّ فيها الإجماع، ونفردها من سائر المسائل التي وقع فيها الخلاف بين العلماء.
إلى أن قال: وقد أدخَلَ قومٌ في الإجماع ما ليس فيه، فقومٌ عدُّوا قولَ الأكثر إجماعًا، وقومٌ عدُّوا مالا يعرفون فيه خلافًا، وإن لم يقطعوا على أنه لا خلاف فيه، فحكموا على أنه إجماع، وقومٌ عدُّوا قولَ الصاحب المشهور المنتشر إذا لم يعلموا له من الصحابة مخالفًا إجماعًا، وقومٌ عدُّوا اتفاقَ العصر الثاني على أحد القولين أو أكثر كانت للعصر الأول قبله إجماعًا.
قال: وكلُّ هذه الآراء فاسدة. ويكفي من فسادِها أنهم يتركون في كثيرٍ من مسائلهم ما ذكروا أنه إجماعٌ. وإنما نَحَوْا في تسمية ما وصفنا إجماعًا عنادًا منهم وشغبًا عند اضطرار الحجة والبراهين لهم إلى تركِ اختياراتهم الفاسدة.
قال: وأيضًا فإنهم لا يُكفِّرون من خالفَهم في هذه المعاني، ومن شرطِ الإجماع الصحيح أن يُكفَّر من خالفَه بلا اختلافٍ من أحدٍ من المسلمين في ذلك، فلو كان ما ذكروه إجماعًا لكُفِّر مخالفوهم، بل
لكَفَّروهم لأنهم يخالفونها كثيرًا.
قلت: أهلُ العلم والدين لا يُعاندون، ولكن قد يعتقد أحدهم إجماعًا ما ليس بإجماعٍ، لكون الخلاف لم يبلغه، وقد يكون هناك إجماع لم يعلمه. فهم في الاستدلال بذلك كما هم في الاستدلال بالنصوص، تارةً يكون هناك نصٌّ لم يَبلُغْ أحدَهم، وتارةً يعتقد أحدهم وجودَ نصٍّ ويكون ضعيفًا أو منسوخًا.
وأيضًا فما وصفهم هو به قد اتصفَ هو به، فإنه يترك في بعض مسائله ما قد ذكر في هذا الكتاب أنه إجماع.
وكذلك ما ألزمَهم إيَّاه من تكفير المخالف غيرُ لازمٍ، فإن كثيرًا من العلماء لا يُكفِّرون مخالفَ الإجماع، وقوله "إن مخالفَ الإجماع يُكفَّر بلا اختلاف من أحدٍ من المسلمين" هو من هذا الباب. فلعلَّه لم يبلغه الخلافُ في ذلك، مع أن الخلاف في ذلك مشهور مذكور في كتب متعددة. والنظَّام نفسُه المخالف في كون الإجماع حجةً لا يُكفِّره ابن حزم والناس أيضًا. فمن كفَّر مخالفَ الإجماع إنما يكفِّره إذا بلغَه الإجماع المعلوم، وكثير من الإجماعات لم تبلغ كثيرًا من الناس. وكثير من موارد النزاع بين المتأخرين يدعي أحدهما الإجماع في ذلك، إمّا أنّه ظنّي ليس بقطعي، وإما أنه لم يبلغ الآخر، وإما لاعتقادِه انتفاءَ شروطِ الإجماع.
وأيضًا فقد تنازع الناس في كثير من الأنواع هل هي إجماع يُحتَجّ به؟ كالإجماع الإقراري، وإجماع الخلفاء الأربعة، وإجماع العصر الثاني على أحد القولين للعصر الأول، والإجماع الذي خالفَ فيه بعضُ أهلِه قبلَ انقراضِ عصرِهم، فإنه مبني على انقراض العصر، بل
هو شرطٌ في الإجماع، وغير ذلك. فتنازعُهم في بعض الأنواع هل هو من الإجماع الذي يجب اتباعُهم فيه، كتنازعهم في بعض أنواع الخطاب هل هو مما يُحتَجُّ به، كالعموم المخصوص ودليل الخطاب والقياس وغير ذلك. فهذا ونحوه مما يتبيَّن به بعضُ أعذارِ العلماء.
قال أبو محمد ابن حزم: وقومٌ قالوا: الإجماع هو إجماع الصحابة فقط، وقال قومٌ: إجماع كل عصرٍ إجماعٌ صحيح إذا لم يتقدم قبلَه في تلك المسألة خلافٌ. وهذا هو الصحيح لإجماع العلماء عند التفصيل عليه، واحتجاجهم به، وتركِ ما أصَّلُوه له.
إلى أن قال: وصفة الإجماع ما تيقَّنَ أنه لا خلافَ فيه بين أحدٍ من علماء الإسلام، ونعلم ذلك من حيث علمنا الأخبار التي لا يتخالج فيها شك، مثل أن المسلمين خرجوا من الحجاز إلى اليمن، ففتحوا العراق وخراسان ومصر والشام، وأن بني أمية ملكوا دهرًا، ثم ملكَ بنو العباس، وأنه كانت وقعة صفِّين والحرَّة، وسائر ذلك مما يُعلَم بيقينٍ وضرورة.
وقال: إنما نُدخِل في هذا الكتاب الإجماعَ التامَّ الذي لا مخالفَ فيه البتَّةَ، الذي يُعلَم كما يُعلَم أن صلاة الصبح في الأمن والخوف ركعتان، وأنَّ شهر رمضان هو الذي بين شوال وشعبان، وأنَّ هذا الذي في المصاحف هو الذي أتى به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأخبر أنه وحيٌ من الله إليه، وأن في خمسٍ من الإبل شاة، ونحو ذلك. وهي ضرورة تقع في نفس الباحث عن الخبر المشرف على وجوهِ نقله، إذا تتبعها المرء في نفسه في كلّ ما جرَّبه من أحوال دنياه وجدَه ثابتًا مستقرًّا في نفسه.
وقال أيضًا في آخر كتابه -كتاب الإجماع هذا-: كلُّ ما كتبنا فهو يقين لاشكَّ فيه، متيقّنٌ لا يحل لأحدِ خلافُه البتَّةَ.
قلت: فقد اشترطَ في الإجماع ما يشترطُه كثير من أهل الكلام والفقه كما تقدم، وهو العلم بنفي الخلاف، وأن يكون العلم بالإجماع متواترًا. وجَعَلَ العلم بالإجماع من العلوم الضرورية كالعلم بعلوم الأخبار المتواترة عند الأكثرين. ومعلومٌ أنَّ كثيرًا من الإجماعات التي حكاها ليست قريبًا من هذا الوصف، فضلًا عن أن تكون منه، فكيف وفيها ما فيه خلافٌ معروف، وفيها ما هو نفسُه يُنكِر الإجماع فيه ويختار خلافَه من غير ظهورِ مخالف!
وقد قال: إنما نعني بقولنا "العلماء" من حُفِظ عنه الفُتيا.
وقال: وأجمعوا أنه لا يجوز التوضُّؤ بشيء من المائعات وغيرِها حاشا الماء والنبيذ.
قلت: وقد ذكر العلماء عن ابن أبي ليلى -وهو من أجل من يحكي ابن حزم قوله- أنه يُجزئ الوضوء بالمعتصَر كماء الورد ونحوه، كما ذكروا ذلك عن الأصمّ، لكنّ الأصمّ ليس ممن يعدُّه ابن حزم في الإجماع.
وقال: وأما الماء الجاري فاتفقوا على جواز استعماله ما لم تَظهر فيه نجاسة.
قلت: الشافعي في الجديد من قولَيْه وأحد القولين في مذهب أحمد أن الجاري كالراكد في اعتبار القُلَّتين، فينجس ما دون القلتين بوقوع النجاسة فيه وإن لم تظهر فيه.
وقال: واتفقوا على أنّ غَسْلَ الذراعين إلى منتهى المرفقين فرضٌ في الوضوء.
قلت: وزفر يخالف في وجوب غَسْلِ المرفقين. وحُكِي ذلك عن داود وبعض المالكية، اللهمّ إلا أن يعني بمنتهى المرفقين منتهاهما من جهة الكفّ.
قال: واتفقوا على أن الاستنجاء بالحجارة وبكل طاهر ما لم يكن طعامًا أو رجيعًا أو نجسًا أو جلدًا أو عظمًا أو فحمًا أو حممةً جائز.
قلت: في جواز الاستجمار بغير الأحجار قولان معروفان هما روايتان عن أحمد، إحداهما لا يُجزِئ إلا بالحجر، وهي اختيار أبي بكر بن المنذر وأبي بكر عبد العزيز.
قال: واتفقوا على أن كل إناءٍ لم يكن فضةً ولا ذهبًا ولا صُفْرًا ولا رصاصًا ولا نُحاسًا ولا مغصوبًا ولا إناءَ كتابي ولا جلد ميتة ولا جلد مالا يُؤكل لحمُه وإن ذُكِّي، فإن الوضوء منه والأكل والشرب جائز كل ذلك.
قلت: الآنية الثمينة التي تكون أغلى من الذهب والفضة كالياقوت ونحوه، فيها قولان للشافعي، وفي مذهب مالك قولان.
قال: وأجمعوا أن الحائض وإن رأتِ الطهرَ ما لم تَغسِل فرجَها أو تتوضأ فوطؤُها حرام.
قلت: أبو حنيفة يقول: إذا انقطع دمُها لأكثر الحيض أو مرَّ عليها وقتُ صلاةٍ جاز وطؤُها، وإن لم تغتسل ولم تتوضأ ولم تَغسِل فرجَها.
قال: واتفقوا أن الصلاة لا تسقط ولا يَحِلُّ تأخيرها عمدًا عن
وقتها عن العاقل البالغ بعذرٍ أصلًا، وأنها تُؤدَّى على قدر طاقة المرء من جلوسٍ واضطجاع، بإيماءٍ وكيفَ أمكنه.
قلت: النزاع معروف في صور، منها حالُ المسايفة، فأبو حنيفة يُوجِب التأخير، وأحمد في إحدى الروايتين يُجوِّزه. ومنها المحبوس في مصر. ومنها عادم الماء والتراب، فمذهب أبي حنيفة وأحد القولين فَّيَ مذهب مالك أنه لا يُصلِّي، رواه معنٌ عن مالك، وهو قول أصبغ، وحُكِيَ ذلك قولًا للشافعي ورواية عن أحمد. وهؤلاء في الإعادة لهم قولان هما روايتان في مذهب مالك وأحمد، والقضاء قول أبي حنيفة.
قال: واتفقوا على أن المرأة لا تَؤُمُّ الرِّجالَ وهم يعلمون أنها امرأة، فإن فعلوا فصلاتُهم فاسدة لا بالإجماع. قال: ورُوِي عن أشهب أن من ائتمَّ بامرأة وهو لا يدري حتى خرج الوقت ثم عَلِم، فصلاتُه تامَّةٌ، وكذا من ائتمَّ بكافرٍ وهو لا يعلم أنه كافر.
قلت: ائتمام الرجال الأميين بالمرأة القارئة في قيام رمضان يجوز في المشهور عن أحمد، وفي سائر التطوع روايتان.
قال: واتفقوا على أن وضع الرأس في الأرض والرجلين في السجود فرضٌ.
قلت: المنقول عن أبي حنيفة أنه لا يجب السجود إلا على الوجه، وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد. ويقتضي هذا أنه لو سجد على يديه ووجهِه وركبتيه أجزأه.
قال: واتفقوا على أن الفكرة في أمور الدنيا لا تُفسِد الصلاةَ.
قلت: إذا كانت هي الأغلب ففيها نزاع معروف، والبطلان اختيار أبي عبد الله بن حامد وأبي حامد الغزالي.
قال: واتفقوا على جواز الصلاة في كلّ مكانٍ، ما لم يكن جوف الكعبة أو الحجر أو ظهر الكعبة أو معاطن الإبل، أو مكانًا فيه نجاسة، أو حمامًا أو مقبرة أو إلى قبرٍ أو عليه، أو مكانا مغصوبًا يَقدِر على مفارقته، أو مكانًا يُستهزَأ فيه بالإسلام، أو مسجد الضرار، أو بلاد ثمود لمن لم يدخلها باكيًا.
قلت: الصلاة في المجزرة والمزبلة وقارعةِ الطريق لا تصحُّ في المشهور عند كثير من أصحاب أحمد بل أكثرهم. والصلاة في الحُشّ كذلك عند جمهورِهم، وإن صلَّى في مكانٍ طاهرٍ منه.
قال: واتفقوا أن صلاةَ العيدين وكسوف الشمس وقيام ليالي رمضان ليست فرضًا، وكذلك التهجد على غير النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: العيدان فرضٌ على الكفاية في ظاهرِ مذهب أحمد، وحُكِي عن أبي حنيفة أنهما واجبان على الأعيان. وعن عبيدة السلماني أن قيام الليل واجب كحلب شاة، وهو قول في مذهب أحمد.
قال: واتفقوا أن كلَّ صلاةٍ ما عدا الصلوات الخمس وعلى الجنائز والوتر وما نذره المرء ليست فرضًا.
قلت: في وجوب ركعتي الطواف نزاعٌ معروف، وقد ذكر في وجوب المعادة مع إمام الحيّ وركعتي الفجر والكسوف.
قال: واتفقوا أن من أسقط الجلسةَ الوسطى من صلاةِ الظهر والعصر والمغرب والعتمة ساهيًا، أن عليه سجدتي السهو.
قلت: الشافعي لا يُوجِب سجودَ السهو.
قال: واتفقوا أنّ في كلّ مائتي درهمٍ خمسةَ دراهم، ما لم يكن حُلِيَّ امرأةٍ أو حِليةَ سيفٍ أو منطقة أو مصحفًا أو خاتمًا.
قلت: النزاع في كلّ حلي مباح أو حلي الخوذة والران، وحمائل السيف كالمنطقة في مذهب أحمد وغيرِه. والذهب اليسير المتصل بالثوب كالطراز الذي لا يتجاوز أربعةَ أصابع مباحٌ في إحدى الروايتين عنه، وحلية السلاح كلّه كحلية السيف في إحدى الروايتين عنه.
وللعلماء نزاع في غير ذلك من الحلية.
قال: واتفقوا على أن وقت الوقوف ليس قبل الظهر في التاسع من ذي الحجة.
قلت: أحد القولين -بل أشهرهما- في مذهب أحمد أنه يُجزِئ الوقوف قبل الزوال وإن أفاض قبل الزوال، لكن عليه دمٌ، كما لو أفاض قبل الغروب.
وقال بعد أن ذكر من محظورات الإحرام اللباس والطيب والتغطية: واتفقوا أنه من فَعل من كل ما ذكرنا أنه يجتنبه في إحرامِه شيئًا عامدًا أو ناسيًا أنه لا يَبطُل حجُّه ولا إحرامُه. واتفقوا أن من جادلَ في الحج فإن حجَّه لا يَبطُل ولا إحرامُه. واختلفوا فيمن قَتَلَ صيدًا متعمدًا، فقال مجاهد: بَطَلَ حجُّه وعليه الهدي.
قلت: وقد اختار في كتابه
(1)
ضدَّ هذا، وأنكرَ على من ادَّعى هذا الإجماعَ الذي حكاه هنا، فقال: الجدالُ بالباطل وفي الباطل عمدًا
(1)
المحلى (7/ 186).
ذاكرًا لإحرامه مُبطِلٌ لإحرامِه والحج، بقوله تعالى:(فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)
(1)
. وقال: كلُّ نسوقٍ تعمَّده المحرمُ ذاكرًا فقد أبطل إحرامه وحجه وعمرته، لقوله تعالى:: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ). قال: ومن عجائب الدنيا أن الآية وردت كما تلونا، فأبطلوا الحج بالرفث ولم يُبطِلوه بالفسوق. وقال: كلُّ من تعمَّد معصيةً أيَّ معصية كانت، وهو ذاكر لحجه منذ يُحرِم إلى أن يتم طوافه بالبيت للإفاضة ورمي جمرة العقبة، فقد بَطَل حجُّه. قال: وأعجبُ شيء دعواهم الإجماع على هذا.
قلت: الإجماع فيه أظهر منه في كثير مما ذكره في كتابه.
قال: واتفقوا أن كل صدقة واجبة في الحج أو إطعام، أنه إن أدَّاه بمكة أجزأه، واختلفوا فيمن أدَّى ذلك في غير مكة، حاشا جزاء الصيد، فإنهم اتفقوا أنه لا يُجزئ إلا بمكة.
قلت: مذهب أبي حنيفة ومالك أنه يُجزئ الإطعام في جزاء الصيد في غير مكة. وكذلك عندهما تفرقة اللحم تُجزئ في غير الحرم، وإنما الواجب في الحرم عندهما إراقة الدم، بخلاف الشافعي وأحمد ومن وافقهما، فإنهم أوجبوا ذبحه في الحرم، وأوجبوا تفرقتَه في الحرم. وكذلك الصدقة تقوم مقام ذلك.
قال: واتفقوا أن من يوم النحر -وهو العاشر من ذي الحجة- إلى انسلاخ ذي الحجة وقتٌ لطواف الإفاضة ولما بقي من سنن الحج. قلت: إن أخَّره عن أيام منًى جاز في مذهب الشافعي وأحمد
(1)
سورة البقرة: 197.
والليث والأوزاعي وأبي يوسف وغيرهم، وهكذا نُقِل عن مالك.
وقال أبو حنيفة وزفر والثوري في رواية: إن أخَّره إلى ثالث أيام التشريق لزمَه دمٌ -وهو قولٌ مخرَّجٌ في مذهب أحمد- وإن أخَّره إلى المحرم فلا شيء عليه إلا عند مالك، فإنه عليه دمٌ. ولفظ المدونة: إذا جاوز أيام منى وتطاول ذلك لزمَه، ولم يوقت فيه. وأما رمي الجمار فلا يجوز بعد أيام التشريق، لا نزاع نعلمه، بل على من تركَها دمٌ، ولا يُجزِئُ رميُها بعد ذلك.
قال: واتفقوا على أن إيجاب الهدي فرضٌ على المُحْصَر.
قلت: قد نَقل غير واحدٍ عن مالك أنه لا يجب الهدي على المحصر، وهو المشهور من مذهب مالك.
قال: واتفقوا على أن من حلف لخصمِه دون أن يُحلِّفه حاكم أو مَن حكَّماه على أنفسهما، أنه لا يبرأ بتلك اليمين من الطلب.
قلتُ: قد نَصَّ أحمد على أنه إذا رضي بيمين خصمِه فحلف له، لم يكن له مطالبته باليمين بعد ذلك.
قال: وأجمعوا على أن كل من لزمه حق في ماله أو ذمته لأحدٍ، فرض عليه أداء الحق إلى من هو له عليه، إذا أمكنه ذلك وبقي له بعد ذلك ما يعيش به أيامًا هو ومن تلزمه نفقته.
قلت: مذهب أحمد أنه يترك له من مالِه ما تدعو إليه الحاجة من مسكن وخادم وثياب، وكذلك قال إسحاق. وظاهرُ مذهب أحمد أيضًا أنه إذا لم تكن له صنعة يترك له ما يتجر به لقُوتِه وقوتِ عياله، وإن كان ذا حرفةٍ ترك له آلة حرفته. وقد نقل عنه عبد الله ابنه أنه قال: يُباعُ عليه كل شيء إلا المسكن وما يواريه من ثيابه والخادم، إن كان
شيخًا كبيرًا أو زَمِنًا وبه حاجة إليه. فلم يستثن ما يكتسب به لقول الأكثرين.
قال: وأجمعوا أن المملوكة لا يجبر سيدها على إنكاحِها، ولا على أن يطأها وإن طلبت هي ذلك، ولا على بيعها من أجل منعه لها الوطء والإنكاح.
قلت: مذهب أحمد المنصوص المعروف من مذهبه أن الأمة إذا طلبت الإنكاح فإن سيّدها يستمتع بها، وإلاّ لزمه إجابتها، وكذلك إذا كانت ممن لا تَحِلُّ له، وكذلك مذهبه في العبد. ومذهب الشافعي -إذا كانت ممن لا تحلّ له فهل يلزمُه إجابتُها- على وجهين.
قال: واتفقوا أن التعريض للمرأة وهي في العدة حلالٌ، إذا كانت العدة في غير رجعية أو كانت من وفاةٍ.
قلت: في المعتدة البائنة بالثلاث أو بما دون الثلاث كالمختلعة ثلاثةُ أوجه في مذهب أحمد، وقولان للشافعي، أحدها: يجوز التعريض بخطبتها، وهو قول مالك وأحد قولي الشافعي. والثاني: لا يجوز، والثالث: يجوز في المعتدة بالثلاث، لأنها محرَّمة على زوجها، وكذلك كل محرَّمة، ولا يجوز في المعتدة بما دون ذلك، لإمكان عودِها إليه، وهو أحد قولي الشافعي.
قال: واتفقوا أن الطلاق إلى أجل أو بصفةٍ واقعٌ إن وافقَ وقتَ طلاق، ثم اختلفوا في وقت وقوعه، فمن قائلٍ الآن، ومن قائل هو إلى أجله. واتفقوا أنه إذا كان ذلك الأجل في وقت طلاقٍ أن الطلاق قد وقع.
قال: واختلفوا في الطلاق إذا خرجَ مخرجَ اليمين أيلزمُ أم لا؟
قال: واتفقوا على أن ألفاظ الطلاق: "طلاق" وما تصرَّف من هجائه مما يُفهم معناه، والبائن والبتة والخلية والبرية، وأنه إن نوى بشيء من هذه الألفاظ طلقةً واحدةً سنيةً لزمتْه كما قدمنا.
قال: ولا نعلم خلافًا في أن من طلق ولم يُشهِد أن الطلاق لازم، ولكنا لسنا نقطع على أنه إجماع.
قلت: فقد ذكر فيما إذا كان قصده الحلف بالطلاق أيلزم أم لا؟ قولين
(1)
، وذكر أن المؤجل والمعلَّق بصفةٍ -يعني إذا لم يكن في معنى اليمين- أنه يقع بالاتفاق.
وقد اختار في كتابه الكبير في الفقه "شرح المجلَّى"
(2)
خلافَ هذا، وأنكر على من ادَّعى الإجماعَ في ذلك. وكذلك اختار
(3)
أن الطلاق بالكناية لا يقع، ولا يقع إلا بلفظ الطلاق. وهذان قول الرافضة، وكذلك قولهم: إن الطلاق لا يقع إلا بالإشهاد. وقد أنكر في كتابه من ادَّعى إجماعًا في هذا وهذا وهذا، كما هو عادتُه في أمثال ذلك، مع أنه قد ذكر هنا فيه الإجماع الذي اشترط فيه الشروط المتقدمة. ومعلوم أن الإجماع على هذا من أظهر ما يُدَّعَى فيه الإجماع، لكن هو في غير موضع يخالف ما هو إجماع عند عامةِ العلماء، وينكر أنه إجماع، كدعواه وجوبَ الضجعة بعد ركعتي الفجر، وبطلان صلاة من لم يركعهما
(4)
، ودعواه وجوبَ الدعاء في التشهد
(1)
في الأصل: "قولان".
(2)
أي "المحلّى"(10/ 213).
(3)
"المحلّى"(10/ 186).
(4)
"المحلَّى"(3/ 196).
الأول
(1)
بقوله "اللهمَّ إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال"
(2)
.
ونحو ذلك مما يُعلم فيه الإجماع أظهر مما يُعلَم في أكثر ما حكاه. بل إذا قال القائل: إن الأمة أجمعت أن الدعاء لا يُشرَع في التشهد الأول، كان هذا من الإجماعات المقبولة، فضلًا عن أن يقول أحدٌ: إن هذا الدعاء واجبٌ فيه، وإن صلاة من لم يَدْعُ فيه باطلة. وإنما النزاع في وجوبه في التشهد الذي يسلم فيه، وكان طاووس يأمر من لم يدعُ بالإعادة، وذكر ذلك وجه في مذهب أحمد.
قال: واتفقوا أن عدة الحرَّة المسلمة المطلقة التي ليست حاملًا ولا مستريبةً، وهي لم تحض أو لا تحيض، إلا أن البلوغ متوهّم منها= ثلاثة أشهر متصلة.
قلت: من بلغتْ من سِن المحيض ولم تَحِضْ، ففيها عن أحمد روايتان، أشهرهما عند أصحابه أنها تعتدُّ عدَّةَ المستريبة تسعة أشهر، ثم ثلاثة أشهر، كالتي ارتفع حيضُها لا تدري ما رفعه.
قال: واتفقوا على أن استقراض ما عدا الحيوان جائز، واختلفوا في جواز استقراض الرقيق والجواري والحيوان.
قلت: الاتفاق إنما هو في قرض المثليات المكيل والموزون، وأما ما سوى ذلك فأبو حنيفة لا يُجوِّز قرضَه، لأن موجب القرض المثل، ولا مثلَ له عنده، فالنزاع فيه كالنزاع في الحيوان.
(1)
المصدر نفسه (3/ 271).
(2)
متفق عليه من حديث عائشة وأبي هريرة. وأخرجه مسلم (590) أيضًا من حديث ابن عباس.
قال: واتفقوا أن الوصية بالمعاصي لا تجوز، وأن الوصية بالبر وبما ليس ببرّ ولا معصية ولا تضييعًا للمال جائزة.
قلت: الوصية بما ليس ببر ولا معصية، والوقف على ذلك، فيه قولان في مذهب أحمد وغيرِه، والصحيح أن ذلك لا يصحّ، فإن الإنسان لا ينتفع ببذل المال بعد الموت إلا أن يصرفه إلى طاعة الله، وإلاّ فبذلُه بما ليس بطاعة ولا معصية لا ينفعه بعد الموت، بخلاف صرفِه في الحياة في المباحات كالأكل والشرب واللباس، فإنه ينتفع بذلك.
وقال في الجزية: واتفقوا على أنه إن أعطَى -يعني من يُقبل منه الجزية عن نفسه وحدها- أربعة مثاقيل ذهب في كل عام، على أن يلتزموا ما ذكره من شروط الذمة، فقد حرم دمُ من وفَى بذلك ومالُه وأهله وظلُمه.
قلت: للعلماء في الجزية هل هي مقدرة بالشرع أو باجتهاد الإمام أن يزيد على أربعة دنانير؟ [قولان]، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد، وهي مذهب عطاء والثوري ومحمد بن الحسن وأبي عبيد وغيرهم.
قال: واتفقوا أنه لا ينفَّل من ساق مغنمًا أكثر من ربعه في الدخول، ولا أكثر من ثلثه في الخروج.
قلت: في جواز تنفيل ما زاد على ذلك إذا اشترطه الإمام، مثل أن يقول: من فَعَل كذا فله نصف ما يغنم، قولان هما روايتان عن أحمد. وأما تنفيل الزيادة بلا شرط فلا أعلم فيه نزاعًا، ويمكن أن يُحمل كلام أبي محمد بن حزم على هذا، فلا يكون فيما ذكره نزاع.
قال: واتفقوا أن الحر البالغ العاقل الذي ليس بسكران، إذا أمّن
أهل الكتاب الحربيين على أداء الجزية على الشروط التي قدمنا أو على الجلاء، أو أمّن سائر الكفار على الجلاء بأنفسهم وعيالهم وذراريهم، وترك بلادهم، واللحاق بأرض حرب أخرى، لا بأرض ذمة ولا بأرض إسلام، أن ذلك لازم لأمير المؤمنين ولجميع المسلمين حيث كانوا.
قلت: ظاهر مذهب الشافعي أنه لا يصحُّ عقدُ الذمَّة إلا من الإمام أو نائبه. وهذا هو المشهور عند أصحاب أحمد، وفيه وجه في المذهبين أنها تصحّ من كلّ مسلم كما ذكره ابن حزم.
قال: واتفقوا أن أولاد أهل الجزية ومن تناسَل منهم، فإن الحكم الذي عقده أجدادُهم -وإن بعدوا- جارٍ على هؤلاء لا يحتاج إلى تجديده مع من حدث منهم.
قلت: هذا هو قول الجمهور، ولأصحاب الشافعي وجهان: أحدهما يُستأنف له العقد، وهذا منصوص الشافعي، والثاني لا يُحتاج إلى استئناف عقد، كقول الجمهور.
قال: واتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون على المسلمين في وقتٍ واحد في جميع الدنيا إمامان، لا متفقان ولا مفترقان، لا في مكانين ولا في مكانٍ واحد.
قلتُ: النزاع في ذلك معروف بين المتكلمين في هذه المسألة، كأهل الكلام والنظر، فمذهب الكرّامية وغيرِهم جواز ذلك، وأن عليَّا كان إمامًا ومعاوية كان إمامًا. وأما أئمة الفقهاء فمذهبهم أن كلَاّ منهما ينفذ حكمه في أهلِ ولايته كما ينفذ حكم الإمام الواحد. وأما جواز العقد لهما ابتداء فهذا لا يُفعل مع اتفاق الأمة، وأما مع تفرقتها فلم يعقد كلٌّ من الطائفتين لإمامين، ولكن كل طائفة إْمّا أن تُسالِمَ
الأخرى، وإما أن تحاربها، والمسالمةُ خير من محاربةٍ يزيد ضررُها على ضرر المسألة. وهذا مما تختلف فيه الآراء والأهواء.
قال: واتفقوا أنه إذا كان الإمام من ولد علي، وكان عدلًا، ولم يتقدم بيعتَه بيعةٌ أخرى لإنسانٍ حيّ، وقام عليه من دونَه، أن قتال الآخر واجبٌ.
قلت: ليس للأئمة في هذه بعينها كلامٌ يُنقَل عنهم، ولا وقع هذا في الإسلام، إلا أن يكون في قصة عليّ ومعاوية. ومعلومٌ أن أكثر علماء الصحابة لم يَرَوا القتالَ مع واحدٍ منهما، وهو قول جمهور أهل السنة والحديث، وجمهور أهل المدينة والبصرة، وكثير من أهل الشام ومصر والكوفة وغيرهم من السلف والخلف.
وقد قال: إنما أدخلنا هذا الاتفاقَ على جوازِه لخلاف الزيدية، هل تجوز إمامة غير علويّ أم لا؟ وإن كنا مُخَطِّئين لهم في ذلك ومعتقدين صحةَ بطلان هذا القول، وأن الإمامة لا تتعدى فِهْر بن مالك، وأنها جائزة في جميع أفخاذهم، ولكن لم يكن بذٌ في صفة الإجماع الجاري عند الكلّ مما ذكرنا.
قلت: قد ذكر هو أنه لا يذكر إلا خلاف أهل الفقه والحديث دون المعتزلة والخوارج والرافضة ونحوهم. فلا معنى لإدخالِ الزيدية في الخلاف وفتحِ هذا الباب، فقد ذكر في كتابه "الملل والنحل"
(1)
نزاعًا في ذلك، وأن طائفة ادَّعت النصَّ على العباس، وطائفة ادَّعت النصَّ على عمر.
قال: واتفقوا أن من خالف الإجماع المتيقن بعد علمه بأنه إجماع فإنه كافر.
(1)
"الفصل"(4/ 75).
قلت: في ذلك نزاع مشهور بين الفقهاء.
قال: واتفقوا أن السمن إذا وقع فيه فأر أو فأرة، فمات أو ماتت وهو مائع، أنه لا يُؤكَل.
قلت: هذا فيه نزاعٌ معروف، فمذهب طائفة أنه يُلقَى ما قرب منها ويُؤكل، سواء كان جامدًا أو مائعًا. قال البخاري في صحيحه
(1)
: باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب. حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا الزهري أخبرني عبيد الله بن [عبد الله بن] عتبة أنه سمع ابن عباس يحدِّث عن ميمونةَ أن فأرةً وقعتْ في سمنٍ فماتت، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال:"ألقوها وما حولها، وكُلُوه". قيل لسفيان: فإن معمرًا يحدِّثه عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، قال: سمعتُ الزهريَّ يقوله عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد سمعتُه منه مرارًا.
حدثنا عبدان
(2)
حدثنا عبد الله -يعني ابن المبارك- عن يونس عن الزهري: عن الدابة تموت في الزيت والسمن وهو جامد أو غير جامد، الفأرة أو غيرها. قال: بلغَنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بفأرة ماتت في سمنٍ، فأمر بما قَرُبَ فطُرِحَ، ثم أكل. عن حديث عبيد الله بن عبد الله. ثم رواه من طريق مالك كما رواه من طريق ابن عيينة.
وهذا الحديث رواه عن الزهري كما رواه ابن عيينة بسنده ولفظه.
وأما معمر فاضطرب فيه في سنده ولفظه، فرواه تارةً عن ابن المسيب عن أبي هريرة، وقال فيه: "إن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن
(1)
9/ 667 وما بعدها (مع الفتح).
(2)
في الأصل: "عبد الرزاق"، وهو خطأ، والتصويب من صحيح البخاري.
كان مائعًا فلا تقربوه". وقيل عنه: "وإن كان مائعا فاستصحبوا به". واضطرب عن معمر فيه.
وظنَّ طائفة من العلماء أن حديث معمر محفوظ، فعملوا به، وممن ثبَّته محمد بن يحيى الذهلي فيما جمعه من حديث الزهري.
وأما البخاري والترمذي وغيرهما فعلَّلوا حديثَ معمر وبيَّنوا غلطه، والصواب معهم
(1)
. فذكر البخاري هنا عن ابن عيينة أنه قال: سمعتُه من الزهري مرارًا لا يرويه إلا عن عبيد الله بن عبد الله، وليس في لفظه إلا قوله "ألقوها وما حولها وكلوا"، وكذلك رواه مالك وغيره. وذكر من حديث يونس أن الزهري سئل عن الدابة تموت في السمن الجامد وغير الجامد، فأفتى بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بفأرة ماتت في سمن فأمر بما قرب منها فطرح. فهذه فتيا الزهري في الجامد وغير الجامد، فكيف يكون قد روى في هذا الحديث استواء حكم النوعين بالحديث، ورواه بالمعنى فقال:"وأمر أن يطرح وما قرب منها"؟.
وروى صالح بن أحمد في "مسائله"
(2)
عن أحمد قال: حدثنا أبي حدثنا إسماعيل حدثنا عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة أن ابن عباس سُئِل عن فارة ماتت في سمن، قال: تُؤخذ الفأرة وما حولَها.
قلت: يا مولاي! فإن أثرها كان في السمن كلِّه، قال: عضضتَ بِهَنِ أبيك! إنما كان أثرها في السمن وهي حية، وإنما ماتت حيث وجدت.
ثم قال: حدثنا أبي حدثنا وكيع حدثنا عن النضر بن عربي عن عكرمة قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فسأله عن جَرٍّ فيه زيت وقعَ
(1)
انظر الكلام على هذا الحديث في "فتح الباري"(9/ 668 - 669).
(2)
لم نجد النصوص المقتبسة منه في مطبوعته، فإنها ناقصة الأول والآخر.
فيه جروٌ، فقال: خذه وما حوله، فألقِه وكُلْه.
ورُوِي نحو ذلك عن ابن مسعود -وهو إحدى الروايتين عن أحمد وإحدى الروايتين عن مالك- أن الكثير من الطعام والشراب المائع لا يُنَجِّسه يسيرُ النَّجاسة، بل هو كالماء.
قال أبو محمد: واختلفوا في بيعه والانتفاع به، واختلفوا في المائعات وفي السمن الجامد وفي كل شيء جامد.
قال: واتفقوا أن من نذر معصية فإنه لا يجوز له الوفاء بها.
واختلفوا أيلزمُه لذلك كفَّارة أم لا؟ واختلفوا في النذر المطلق الذي ليس معلَّقا بصفةٍ، وفي النذر الخارج مخرجَ اليمين، أيلزم أم لا؟ وأفيه كفارةٌ أم لا؟
قال: واتفقوا أن من نذر مالا طاعةَ فيه ولا معصية أنه لا شيء عليه.
قلت: بل النزاع في نذر المباح هل يلزم فيه كفارة إذا تركَه كالنزاع في نذر المعصية وأوكد، وظاهر مذهب أحمد لزوم الكفَّارة في الجميع، وكذلك مذهب أكثر السلف، وهو قول أبي حنيفة وغيره، لكن قيل عنه إذا قصد بالنذر اليمين.
قال: واتفقوا أن إزالة المرء عن نفسِه ظلمًا -بأن يظلم من لم يظلمه قاصدًا إلى ذلك- لا يحل، وذلك مثل أن يحلّ عدوُّ المسلمين بساحة قوم فيقول؟ أعطوني مال فلانٍ، أو أعطوني فلانًا، وهو لا حق له عنده بحًكم دين الإسلام. أو قال: أعطوني امرأة أو أمة فلان، أو افعلوا كذا لبعض ما لا يحلُّ في دين الإسلام، فإنه لا خلاف بين أحدٍ من المسلمين في أنه لا يُجابُ إلى ذلك، وإن كان في منعه اصطلام الجميع.
قلت: دعوى الإجماع في مثل هذا الأمر العام الذي يتناول أنواعًا كثيرة ليس مستنده نقلًا في هذا عن أهل الإجماع، ولكن هو بحسب ما يعتقده الناقل في أن مثل هذا ظلم محرَّم لا يُبيحه عالم. وفي بعض ما يدخل في هذا نزاعٌ وتفصيل. كما لو تَترَّس الكفارُ بأسرَى المسلمين وخِيف على جيش المسلمين إن لم يرموا، فإنه يجوز أن يرموا بقصدِ الكفار، وإن أفضَى إلى قتل هؤلاء المعصومين، لأن فساد ذلك دون فساد استيلاء الكفار على جيش المسلمين. وهذا مذهب الفقهاء المشهورين، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم. ولو لو يُخشَ على جيش المسلمين ففي جواز الرمي قولان لهم: أحدهما يجوز، كقول أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي؟ والثاني لا يجوز، كالمعروف من مذهب أحمد والشافعي. وكذلك لو أكرهَ رجلٌ رجلًا على إتلاف مال غيره، وإن لم يُتلِفه قَتَلَه، جاز له إتلافه بشرط الضمان. والعدوّ المحاصر إذا طلب مال شخص، وإن لم يدفعوه اصطلمهم العدوّ، فإنهم يدفعون ذلك المال، ويضمنونه لصاحبه. وأمثال ذلك كثيرة.
وقد ذكر -رحمه الله تعالى- إجماعات من هذا الجنس في هذا الكتاب، ولم يكن قصدنا تتبع ما ذكره من الإجماعات التي عُرِف انتقاضُها، فإن هذا يزيد على ما ذكرناه. مع أن أكثر ما ذكره من الإجماع هو كما حكاه لا نعلم فيه نزاعًا، وإنما المقصود أنه مع كثرة اطلاعه على أقوال العلماء وتبزُّزِه في ذلك على غيرِه، واشتراطه ما اشترطه في الإجماع الذي يحكيه، يظهر فيما ذكره في الإجماع نزاعات مشهورة، وقد يكون الراجح في بعضها خلاف ما يذكره في الإجماع. وسبب ذلك دعوى الإحاطة بما لا يمكن الإحاطة به، ودعوى أن الإجماع الإحاطي هو الحجة لا غيره. فهاتان قضيتان لابدّ
لمن ادعاهما من التناقض إذا احتج بالإجماع، فمن ادعى الإجماع في الأمور الخفية بمعنى أنه يعلم عدمَ المنازع فقد قَفا ما ليس له به علم. وهؤلاء الذين أنكر عليهم الإمام أحمد. وأما من احتج بالإجماع بمعنى عدم العلم بالمنازع فقد اتبع سبيل الأئمة، وهذا هو الإجماع الذي كانوا يحتجون به في مثل هذه المسائل.
وقد ختم الكتاب ببابٍ من الإجماع في الاعتقادات، فكفَّر من خالفه، فقال: اتفقوا أنَّ الله وحده لا شريك له، خالق كل شيء غيره، وأنه تعالى لم يزل وحده، ولا شيء غيره معه، ثم خلق الأشياء كلَّها كما شاء، وأن النفس مخلوقة، والعرش مخلوق، والعالم كله مخلوق.
قلت: أما اتفاق السلف وأهل السنة والجماعة على أن الله وحده خالق كل شيء فهذا حق، ولكنهم لم يتفقوا على كفر من خالف ذلك، فان القدرية -الذين يقولون: إن أفعال الحيوان لم يخلقها الله- أكثر من أن يمكن ذكرهم من حين ظهرت القدرية في أواخر عصر الصحابة إلى هذا التاريخ، والمعتزلة كلهم قدرية، وكثير من الشيعة بل عامة الشيعة المتأخرين وكثير من المرجئة والخوارج وطوائف من أهل الحديث والفقه نُسِبوا إلى ذلك، منهم طائفة من رجال الصحيحين، ولم يجمعوا على تكفير هؤلاء. بل هو نفسه قد ذكر في أول كتابه أنه لا يكفّر هؤلاء. والمنصوص عن مالك والشافعي وأحمد في القدرية أنهم إذا جحدوا العلم كفروا، وإذا لم يجحدوه لم يكفروا.
وأيضا فقد ذكر في كتابه "الملل والنحل"
(1)
أن الصحابة وأئمة الفتيا لا يكفرون من أخطأ في مسألة في الاعتقاد ولا فُتيا. وإن كان
(1)
"الفصل"(3/ 144).
أراد بقوله أتى المسلمون على هذا فهذا أبلغ. ومعلوم أن مثل هذا النقل للإجماع لم ينقله عن معرفته بأقوال الأئمة، لكن لما علم أن القرآن أخبر بأن الله خالق كل شيء، وأن هذا من أظهر الأمور عند الأمة، حكى الإجماع على هذا، ثم اعتقد أن من خالف الإجماع كفر بإجماع. فصارت حكايته لهذا الإجماع مبنية على هاتين المقدمتين اللتين ثبت النزاعُ في كل منهما.
وأعجب من ذلك حكايته الإجماعَ على كفر من نازع أنه سبحانه لم يزل وحدَه ولا شيء غيره معه، ثم خلق الأشياء كما شاء. ومعلوم أن هذه العبارة ليست في كتاب الله ولا تنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل الذي في الصحيح
(1)
عنه حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان الله ولا شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض"، وفي لفظ:"ثم خلق السماوات والأرض". ورُوِي هذا الحديث في البخاري بثلاثة ألفاظ
(2)
: رُوِي "كان الله ولا شيء قبله"، ورُوِي "ولا شيء غيره"، ورُوِي "ولا شيء معه"
(3)
، والقصة واحدة، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال واحدًا من هذه الألفاظ، والآخران رُوِيا بالمعنى. وحينئذٍ فالذي يناسب لفظ ما ثبت عنه في الحديث الآخر الصحيح
(4)
أنه كان يقول في دعائه: "أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخِر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء". فقوله
(1)
البخاري (3191، 7418).
(2)
بل باللفظين الأولين فقط في الموضعين.
(3)
هذا اللفظ في رواية غير البخاري. انظر "الفتح"(6/ 289).
(4)
مسلم (2713) عن أبي هريرة.
في هذا "أنت الأول فليس قبلك شيء" يناسب قوله "كان الله ولا شيء قبله". وقد بُسِط الكلام على هذا الحديث وغيره في غير هذا الموضع
(1)
.
والمقصود هنا الكلام على ما يظنه بعض الناس من الإجماعات. فهذا اللفظ ليس في كتاب الله، وهذا الحديث لو كان نصًّا فيما ذكر فليس هو متواترًا، فكم من حديث صحيح ومعناه فيه نزاع كثير، فكيف ومقصود الحديث غير ما ذكر. ولا نعرف هذه العبارة عن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، فكيف يُدَّعَى فيها الإجماعُ ويُدَّعَى الإجماعُ على كفر من خالف ذلك؟ ولكن الإجماع المعلوم هو ما علمت الأمة أن الله بيَّنه في القرآن، وهو أن خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، كما أخبر الله بذلك في القرآن في غير موضع
(2)
. فإذا ادَّعى المدَّعي الإجماعَ على هذا وتكفيرِ من خالف هذا كان قولُه متوجِّهًا. وليس في خبر الله أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ما ينفي وجودَ مخلوقٍ قبلهما، ولا ينفي أنه خلقهما من مادةٍ كانت قبلهما، كما أنه أخبر أنه خلق الإنسان وخلق الجنّ، وإنما خلق الإنسان من مادَّة وهي الصلصال كالفخَّار، وخلق الجانّ من مارج من نار، فكيف وقد ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف الذي لا يُعلَم فيه نزاع أن الله لما خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وكان عرشُه على الماء قبل ذلك، فكان العرشُ موجودًا قبل ذلك، وكان الماء موجودًا قبل ذلك.
(1)
للمؤلف كتاب مستقل في شرح هذا الحديث، وهو ضمن "مجموع الفتاوى"(18/ 210 - 243).
(2)
في سبعة مواضع أولها في سورة الأعراف: 54.
وقد ثبت في صحيح مسلم
(1)
عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشُه على الماء".
وقد أخبر سبحانه أنه استوى إلى السماء الدنيا وهي دخان، فقال لها وللأرض:(ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11))
(2)
.
وثبت عن غير واحدٍ من الصحابة والتابعين وغيرهم من علماء المسلمين أنه خلق السماء من بخار الماء. ونحو ذلك من النقول التي يصدِّقها ما يُخبِر به أهلُ الكتاب عن التوراة وما عندهم من العلم الموروث عن الأنبياء. وشهادة أهل الكتاب الموافقة لما في القرآن أو السنة مقبولة، كما في قوله تعالى:(قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43))
(3)
. ونظائر ذلك في القرآن.
وهذا الموضع أخطأ فيه طائفتان:
طائفة من أهل الكلام من اليهود والمسلمين وغيرهم ظنُّوا أن إخبار الله بخلقه للسماوات والأرض وما بينهما يقتضي أنهما لم يُخلَقا من شيء، بل لم يكن قبلهما موجود إلا الله. ومعلوم أن خبر الله مخالف لذلك، والله قد أخبر أنه خلق الإنسان والجانَّ من مادَّةٍ ذكرها. والذين يثبتون الجوهر الفرد من هؤلاء وغيرهم يعتقدون أن خلق الإنسان وغيره مما يخلقه في هذا العالم ليس هو خلقًا لجوهر قائم بنفسه، بل هو إحداثُ أعراض يحول بها الجواهر المنفردة من
(1)
برقم (2653).
(2)
سورة فصلت: 11.
(3)
سورة الرعد: 43.
حال إلى حالٍ. وهذا مخالف للشرع والعقل، كما قد بُسِط في موضعه، فإن هؤلاء يقولون: إنا لم نشهدْ خلقَ عين من الأعيان، بل الرب أبدع الجواهرَ المنفردة، ثم الخلقُ بعد ذلك إنما هو إحداث أعراضٍ قائمة بها.
وطائفة أخرى أبعد عن الشرع والعقل من هؤلاء، يتأولون خلق السماوات والأرض بمعنى التولد والتعليل والإيجاب بالذات، ويقولون: إن الفلك قديم أزلي معلول للرب، وأنه يوجب بذاته لم يزل ولا يزال. وقولهم بالإيجاب هو معنى القول بالتولد، فإنَّ ما حصل عن غيره بغير اختيارٍ منه فقد تولَّد عنه، لاسيَّما إن كان حيًّا. وهؤلاء يقولون بقدم عين الفلك وأنه لم يزل ولا يزال.
فهؤلاء إذا قيل: إن المسلمين أجمعوا على نقيض قولهم أو على كفرِ من قال بقولهم، كان قولًا متوجهًا، فإنه قد عُلِم بالاضطرار من دين الرسول أنه أخبر بخلق السماوات والأرض بعد أن لم تكن مخلوقة، بخلاف من ادَّعى أن الصانعَ لم يزل معطَّلا، والفعل والكلام عليه ممتنعًا بغير سبب حدث أوجب انتقاله من الامتناع إلى الإمكان، وأوجب أن يصير الربّ قادرًا على الفعل أو الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادرًا على ذلك. فهذه الدعوى وأمثالها عند جمهور العقلاء معلومة الفساد بالعقل مع فسادها في الشرع، ومعلومٌ عند من له معرفة بالكتاب والسنة والإجماع أن الشرع لم يرد بها ولا بما يدل عليها قط. ولكن ظنّ من ظن من أهل الكلام أن هذا دين أهل الملل، واستدلُّوا على ذلك بالكلام الذي أنكره السلف والأئمة عليهم من أن مالا يخلو من الحوادث فهو حادث، وكان الذي أنكره السلف والأئمة عليهم الكلام الباطل الذي خالفوا فيه الشرع والعقل.
وقد بُسِط الكلام على هذا في غير هذا الموضع
(1)
، وذُكِر منشأ غلط الطائفتين حيث لم يُفرِّقوا بين النوع والعين، وذُكِر قول السلف والأئمة: إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء، وإنه لا نهاية لكلمات الله، وإن وجود مالا نهاية له من كلمات الله في الماضي، كما ثبت في المستقبل وجود مالا نهاية له أيضًا، وإن كل ما سوى الله مخلوقٌ كائنٌ بعدَ أن لم يكن، وليس معه شيء قديم بقدمه، بل ذلك ممتنع عقلًا باطل شرعًا؛ فإن الله أخبر أنه خالق كل شيء. والقول بأن الخالق علَّة تامة أزلية مستلزمة لمعلولها باطلٌ عقلًا وشرعًا، وموجبةٌ أنه يمتنع ضرورة وجود علة تامة يقارنها حدوث شيء من العالم، فإن الحوادث بعد أن لم تكن يمتنع مقارنةُ معلولها بها، بل قد بُيِّن أن القول بأن الفاعل يكون علة تامة مستلزمة للمفعول باطلٌ، وأن الفعل لا يكون إلا بإحداث شيء. لكن فرق بين حدوث الشيء المعين وبين حدوث الحوادث شيئا بعد شيء.
وقد ثبت بالدلائل اليقينية أن الرب فاعل باختياره وقدرته، وأنه إذا قيل: هو موجب بالذات، فإن أريد بذلك أنه يوجب بمشيئته وقدرته ما شاءه= فهذا لا ينافي فعلَه بمشيئته وقدرته؛ وإن أريد بذلك ما يقوله دهرية الفلاسفة كابن سينا ونحوه من أن ذاتًا مجرَّدة عن الصفات أوجبت العالم بما فيه من الأمور المختلفة الحادثة= فهذا من أفسد الأقوال عقلًا وسمعًا، فإنّ إثباتَ ذاتٍ مجردةٍ عن الصفات أو إثباتَ وجودٍ مجردٍ عن جميع القيود أو مقيدٍ بالسلوب لا يختص بأمر وجودي مما لا يمكن تحقُّقه في الخارج، وإنما يقدِّره الذهن كما يقدِّر سائرَ
(1)
انظر "شرح حديث عمران بن حصين" الذي سبق ذكره، وانظر "منهاج السنة"(1/ 360 وما بعدها) و"درء التعارض"(8/ 287 - 290).
الممتنعات. ودعوى أن الصفة هي الموصوف، وأن إحدى الصفتين هي الأخرى كما يقوله هؤلاء المتفلسفة: إن العقل والعاقل والمعقول شيء واحد، واللذة واللذيذ والملتذّ شيء واحد، وأن العلم والقدرة والإرادة شيء واحد، والقدرة هي القادر، والعلم هو العالم، ونحو ذلك من أقوالهم التي قد بُسِط الكلام على فسادِها وتناقضها في غير هذا الموضع= هي دعاوٍ باطلة.
والمقصود هنا الإشارة إلى ما قد يتوهمه بعضُ الناس من الإجماع لنوع من الاشتباه، فيظنُّ أمورًا داخلةً في الإجماع ولا تكون كذلك، كما يظنّ أمورًا خارجةً عنه ولا تكون كذلك، كما يصيب بعض الناس فيما يُدخلونه في نصوص الكتاب والسنة وفيما يُخرِجونه، ولهذا يذكر هؤلاء أمورًا مختلفةً فيها، وإذا نُظِر إلى مستندهم في الخلاف وُجد فيه من الخطأ أمور أخرى كذلك، إما نقل ضعيف، وإما لفظٌ مجمل، وإما غير ذلك مما قد يقع الغلط في صحته تارة وفي فهمه تارةً، كما يقع مثل ذلك فيما ينقلونه عن النبي صلى الله عليه وسلم من الغلط، ويكون قد نشأ من الإسناد تارةً ومن فَهْمِ المتن تارةً. والله سبحانه أعلم.
رسالة في بيان الصلاة وما تألَّفتْ منه