المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ مبدأ عبادة الأوثان: العكوف على قبور الأنبياء والصالحين - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ٣

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌ وصف الأصول المعتمدة

- ‌ نماذج من النسخ الخطية

- ‌ زيارة قبور المؤمنين

- ‌ الصلاةَ عند القبور

- ‌لا يستغني القلب إلا بعبادة الله تعالى

- ‌ مبدأ عبادة الأوثان: العكوف على قبور الأنبياء والصالحين

- ‌زيارة القبور جائزةٌ على الوجه المأذون فيه

- ‌ أصل النذر مكروه منهيٌّ عنه

- ‌لا ثوابَ على إعانة العاكفين على القبور والمجاورين عندها بصدقةٍ ولا غيرِها

- ‌ إنشاد الشعر الفراقي في المأتم من النياحة

- ‌ زيارة القبور على وجهين:

- ‌الزيارة الشرعية

- ‌ الزيارة البدعية

- ‌ الشيوخ الذين يَستحقُّون أن يَكُونوا قدوةً

- ‌ إخبارُ الله في القرآن أنه مع عبادِه جاءَ عامًّا وخاصًّا

- ‌الجواب الرابعأن الناس متفقون على أنه لا يَسُوغُ كل تأويل

- ‌ الثاني: أن يقولوا بالتأويل الذي قام عليه دليلٌ شرعي

- ‌ الثالث: أن يُسلِّموا أن كل تأويل قام عليه دليلٌ سمعي أو عقليٌّ فإنه يجب قبولُه

- ‌ هذا التصور باطلٌ

- ‌منشأ الضلال أن يظنّ أن صفاتِ الربّ كصفاتِ خلقِه

- ‌الناس في ذلك ثلاثة أصنافٍ:

- ‌ ذكر لفظ "الجسم" في أسماء الله وصفاتِه بدعة

- ‌ مسألة أطفال المشركين

- ‌ الخامسة دار التكليف

- ‌ السادسةأن غير المكلَّف قد يُرحَم

- ‌لابد من حصول الألم لكل نفسٍ

- ‌ المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية النعم والمصائب

- ‌ التسبيح مقرون بالتحميد

- ‌ التسبيح والتحميد يجمع النفي والإثبات

- ‌التهليل يمنع أن يُعبَد غيرُه

- ‌الحمد مفتاح الكلام

- ‌ليس المراد أن الحمد غير التسبيح، بل نفس تسبيح الله هو حمد الله

- ‌ الناسُ مأمورون أن يقرأوا القرآن على الوجه المشروع

- ‌عدمُ الشرط هل يدلُّ على عدم المشروط

- ‌ الصلاة مؤلفة من أقوالٍ وأفعالٍ

- ‌أعظم أقوالها القرآن، وأعظمُ أفعالِها الركوعُ والسجودُ

- ‌الركوع مع السجود تقدمةٌ وتوطئةٌ وبابٌ إليه

- ‌متى انتقض عهدُهم جاز أخذُ كنائس الصلح منهم فضلًا عن كنائس العنوة

- ‌ليس ليومِ عيدِهم مزيةٌ على غيرِه

- ‌ليس لأحدٍ أن يعتدي على أحدٍ سواء كان شريفًا أو لم يكن

- ‌ ذكر هذه الروايات

- ‌ لا حضانةَ لفاسقٍ

- ‌ جعلُ البنت المميزة عند الأب- أرجح

الفصل: ‌ مبدأ عبادة الأوثان: العكوف على قبور الأنبياء والصالحين

قبرِه أو قبرِ غيرِه، امتثالًا لأمرِه متابعة لشريعتِه، فإن من‌

‌ مبدأ عبادة الأوثان: العكوف على قبور الأنبياء والصالحين

والعكوف على تماثيلهم، وإن كانت وقعت بغير ذلك.

وقد ذكر الله في كتابه عن المشركين أنهم قالوا (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23 وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا))

(1)

. وقد روى طائفة من علماءِ السلف أن هؤلاء كانوا قومًا صالحين، فلمّا ماتوا عكفوا على قبورهم، ثمَّ صوَّروا تماثيلَهم

(2)

. وكذلك قال ابن عباس في قوله (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20))

(3)

، قال ابن عباس: كان اللات رجلًا يَلُتُّ السويقَ للحجاج، فلما ماتَ عكفوا على قبرِه

(4)

.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبَد"

(5)

، ونهى أن يُصلَّى عند قبره. ولهذا لما بنى المسلمون حُجرتَه حرَّفوا مؤخرها وسئموه، لئلا يُصلَّى إليه، فإنه صلى الله عليه وسلم قال:"لا تجلسوا على القبور ولا تُصلُّوا إليها"، رواه مسلم

(6)

.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا خرجَ إلى أهل البقيع يُسلِّم عليهم ويدعو لهم

(7)

،

(1)

سورة نوح: 23 - 24.

(2)

انظر صحيح البخاري (4920) وتفسير الطبري (29/ 62) وابن كثير (4/ 454، 455).

(3)

سورة النجم: 19 - 20.

(4)

انظر صحيح البخاري (4859) وتفسير الطبري (27/ 35) وابن كثير (4/ 271).

(5)

أخرجه أحمد (2/ 246) والحميدي (1025) عن أبي هريرة.

(6)

برقم (972) عن أبي مرثد الغنوي.

(7)

أخرجه أحمد (6/ 252) عن عائشة، وأخرجه مسلم (974) من طريق آخر عن عائشة مطولًا.

ص: 105

وعلَّم أصحابَه أن يقولوا إذا زاروا القبور

(1)

: "سلامٌ عليكم أهلَ دارِ قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منكًم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهمَّ اْجُرْهم ولا تَفْتِنّا بعدهم، واغفر لنا ولهم".

هذا مع أنّ في البقيع إبراهيم وبناته أم كلثوم ورقيَّة وسيدة نساءِ العالمين فاطمة، وكانت إحداهن دُفِنَتْ فيه قديمًا قريبًا من غزوة بدر، ومع ذلك فلم يُحدِثْ على أولئك السادة شيئًا من هذه المنكرات، بل المشروع التحيةُ لهم والدعاء بالاستغفار وغيره.

وكذلك في حقّه أمر بالصلاة والسلام عليه من القرب والبعد، وقال:"أكثِروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة وليلةَ الجمعة، فإن صلاتكم معروضة عليَّ". قالوا: كيف تُعرَض صلاتُنا عليك وقد أَرِمْتَ؟ يعني بَلِيْتَ، قال:"إنّ الله حرَّم على الأرض أن تأكلَ أجسادَ الأنبياء"

(2)

.

وقال: "ما من رجلٍ يمرُّ بقبر الرجل كان يَعرفُه في الدنيا فيُسلَّم عليه إلا ردَّ الله عليه روحَه حتى يَرُدَّ عليه السلام"

(3)

.

وكلُّ هذه الأحاديث ثابتة عند أهل المعرفة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم،

(1)

أخرجه مسلم (975) عن بريدة.

(2)

أخرجه أحمد (4/ 8) والدارمي (1580) وأبو داود (1047، 1531) والنسائي (3/ 91) وابن ماجه (1085، 1636) عن أوس بن أوس. وصححه الألباني في تعليقه على "فضل الصلاة على النبي"(22).

(3)

أخرجه ابن عبد البر في "الاستذكار"(1/ 234) من حديث ابن عباس، وصححه عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الشرعية الصغرى"(1/ 345)، ونقل ذلك العراقي في "تخريج الإحياء"(4/ 491) والمناوي في "فيض القدير"(5/ 487).

ص: 106

فالدعاء والاستغفار يصل إلى الميت عند قبرِه وغيرِ قبرِه، وهو الذي ينبغي للمسلم أن يعاملَ به موتى المسلمين، من الدعاء لهم بأنواع الدعاء، كما أن في حياته يدعو لهم.

وهذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا أن نصلِّيَ عليه ونُسلِّم تسليمًا في حياتِه ومماتِه، وعلى آل بيتِه، وأمَرنا أن ندعو للمؤمنين والمؤمنات في محياهم ومماتهم، عند قبورهم وغير قبورِهم، ونهانا الله أن نجعل له أندادًا، أو نُشبِّه بيتَ المخلوق الذي هو قبرُه ببيتِ الله الذي هو الكعبةُ البيت الحرامُ، فإنّ الله أمرنا أن نحجّ ونُصلّي إليه ونطوفَ به، وشرعَ لنا أن نَستلم أركانَه، ونُقبِّلَ الحجرَ الأسودَ الذي جعلَه الله بمنزلة يمينه. قال ابن عباس:"الحجر الأسود يمينُ الله في الأرض، فمن استلَمه وصافحَه فكأنما صافحَ الله وقَبَّلَ يمينَه"

(1)

.

وشرعَ كسوةَ الكعبةِ وتعليقَ الأستارِ عليها، وكان يتعلَّق من يتعلَّق بأستار الكعبة كالمتعلق بأذيال المستجار به، فلا يجوز أن تُضاهَى بيوتُ المخلوقين ببيت الخالق.

ولهذا كان السلف ينهون من زَارَ قبرَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يُقَبِّلَه، بل يُسلِّم عليه -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم ويُصلِّي عليه، كما كان السلف يفعلون.

فإذا كان السلفُ أعرفَ بدين الله وسنةِ نبيه وحقوقِه، وحقوقِ السابقين والتابعين من أهل البيت وغيرِهم، ولم يفعلوا شيئًا من هذه البدع التي تُشبِه الشركَ وعبادةَ الأوثان، لأن الله ورسوله نهاهم عن

(1)

أخرجه ابن قتيبة في "غريب الحديث"(2/ 96) موقوفًا على ابن عباس. وروي مرفوعًا عن جابر وغيره، وهو منكر. انظر كلام الألباني عليه في "الضعيفة"(223).

ص: 107

ذلك، بل يعبدون الله وحده لا شريك له، مخلصين له الدينَ كما أمر الله به ورسولُه، ويَعْمُرون بيوتَ الله بقلوبهم وجَوارحِهم من الصلاةِ والقراءةِ والذكرِ والدعاء وغير ذلك؛ فكيفَ يَحِلُّ للمسلم أن يَعدِلَ عن كتاب الله وشريعةِ رسوله وسبيلِ السابقين من المؤمنين، إلى ما أحدثَه ناسٌ آخرون، إمَّا عمدًا وإمَّا خطأً؟

فخُوطِب حاملُ هذا الكتاب بأن جميعَ هذه البدع التي على قبورِ الأنبياء والسادة من آل البيت وَالمشايخ، المخالفة للكتاب والسنة، ليس للمسلم أن يُعِين عليها، هذا إذا كانت القبورُ صحيحةً، فكيف وأكثرُ هذه القبور مطعونٌ فيها؟

وإذا كانت هذه النذورُ للقبور معصيةً قد نهى الله عنها ورسولُه والمؤمنون السابقون، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"مَن نَذَرَ أن يطيعَ اللهَ فليُطِعْه، ومن نَذَر أن يَعصِيَ الله فلا يَعْصِه"

(1)

. وقال صلى الله عليه وسلم: "كفارة النذر كفارة يمين"

(2)

، وهذا الحديث في الصحاح.

فإذا كان النذرُ طاعةً لله ورسوله، مثل أن ينذرَ صلاةً أو صومًا أو حجًّا أو صدقةً أو نحو ذلك، فهذا عليه أن يَفِيَ به؟ وإذا كان النذرُ معصيةً -كفرًا أو غيرَ كفرٍ- مثل أن ينذر للأصنام كالنذور التي بالهند، ومثلما كان المشركون ينذرون لآلهتهم، مثل اللات التي كانت بالطائف، والعُزَّى التي كانت بعرفةَ قريبًا من مكة، ومناة الثالثة الأخرى التي كانت لأهل المدينة. وهذه المدائن الثلاث هي مدائن أرض الحجاز، كانوا ينذرون لها النذور، ويتعبدون لها، ويتوسَّلون

(1)

أخرجه البخاري (6696، 6700) عن عائشة.

(2)

أخرجه مسلم (1645) عن عقبة بن عامر.

ص: 108

بها إلى الله في حوائجهم، كما أخبر الله عنهم بقوله:(مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)

(1)

. ومثلما ينذر الجهَّالُ من المسلمين لعينِ ماءٍ أو بئرٍ من الآبار أو قناةِ ماءٍ أو مغارةٍ أو حجرٍ أو شجرةٍ من الأشجار أو قبرٍ من القبور -وإن كان قبرَ نبي أو رجلٍ صالح-، أو ينذرون زيتًا أو شمعًا أو كسوةً أو ذهبًا أو فضةً لبعضِ هذه الأشياء-: فإن

(2)

هذا كلَّه نذر معصيةٍ لا يُوفَى به. لكن من العلماء من يقول: على صاحبه كفارةُ يمين، لما روى أهلُ السنن

(3)

عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نذرَ في معصيةٍ، وكفارتُه كفارةُ يمينٍ". وفي الصحيح عنه أنه قال: "كفارة النذرِ كفارةُ يمين"

(4)

.

وإذا صُرِفَ من ذلك المنذور شيءٌ في قُربةٍ من القُرُباتِ المشروعة كان حسنًا، مثلَ أن يَصرِف الدُّهنَ إلى تنويرِ بيوتِ الله، ويَصرِف المالَ والكسوةَ إلى من يَستحقّه من المسلمين من آل بيتِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وسائرِ المؤمنين، وفي سائر المصالحِ التي أمر الله بها ورسولُه.

وإذا اعتقدَ بعضُ الجهَّال أن بعضَ هذه النذور المحرَّمة قد قَضَتْ حاجتَه بجَلْبِ المنفعةِ منِ المال والعافية ونحو ذلك، أو بدَفْع المضرَّة من العدو ونحوه، فقد غَلِط في ذلك، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال:"إنه لا يأتي بخيرٍ، ولكنّه يُستَخرجُ به من البخيل"

(5)

. فعدَّ

(1)

سورة الزمر: 3.

(2)

جواب قوله فيما مضى: "وإذا كان النذر معصيةً

".

(3)

أخرجه أبو داود (3290 - 3292) والترمذي (1524، 1525) والنسائي (7/ 26، 27) وابن ماجه (2125) عن عائشة.

(4)

سبق تخريجه قريبًا.

(5)

أخرجه البخاري (6608، 6692، 6693) ومسلم (1639) عن ابن عمر.

ص: 109

النذر مكروهًا، وإن كان الوفاءُ به واجبًا إن كان المنذور طاعةً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وقد أخبرَ النبي صلى الله عليه وسلم أن النذرَ لا يأتي بخير، وإنما يُستَخرج به من البخيل، وهذا المعنى قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجهٍ فيما كان قُربةً محضةً لله، فكيف بنذر فيه شركٌ؟ فإنه لا يجوز نذرُه ولا الوفاءُ به.

وهذا وإن كان قد غَمَرَ الإسلامَ، وكَثُرَ العكوفُ على القبور التي هي للصالحين من أهلِ البيت وغيرِهم، فعَلَى الناس أن يُطيعوا الله ورسولَه، ويتبعوا دينَ الله الذي بَعثَ به نبيَّه صلى الله عليه وسلم، ولا يَشرَعُوا من الدين ما لم يأذنْ به اللهُ، فإن الله إنما أرسلَ الرسلَ وأنزلَ الكتبَ ليكون الدينُ كلُّه لله، وليعبدوا الله وحدَه لا شريك له.

كما قال تعالى: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45))

(1)

.

وقال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13))

(2)

.

وقال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ)

(3)

.

(1)

سورة الزخرف: 45.

(2)

سورة الشورى: 13.

(3)

سورة النحل: 36.

ص: 110

وقال تعالى في حق الذين كانوا يدعون الملائكةَ والنبيين: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)}

(1)

.

وقال: (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80))

(2)

.

وردَّ على من اتخذ شفعاءَ من دونه فقال: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46))

(3)

.

وقال: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَى (31))

(4)

.

وقال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)

(5)

.

وقال تعالى: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ

(1)

سورة الإسراء: 56 - 57.

(2)

سورة آل عمران: 80.

(3)

سورة الزمر: 43 - 46.

(4)

سورة التوبة: 31.

(5)

سورة البقرة: 255.

ص: 111

أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26))

(1)

.

وقال تعالى: (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)

(2)

.

وقال: (وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)

(3)

.

وكُتُبُ الله من أولها إلى آخرها تأمر بإخلاص الدين لله، لاسيما الكتاب الذي بُعِثَ به محمد صلى الله عليه وسلم، أو الشريعة التي جاء بها، فإنها كملت الدين، قال تعالى:(اليَومَ أَكَملتُ لَكُم دِينَكُم)

(4)

، وقال:(ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18))

(5)

.

وقد جعل قِوامَ الأمر بالإخلاص لله والعدلِ في الأمور كلها، كما قال تعالى:(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ)

(6)

.

ولقد خَلَّص للنبي صلى الله عليه وسلم التوحيدَ من دقيقِ الشرك وجليلِه، حتى قال:"مَن حَلَفَ بغير الله فقد أشرك". رواه الترمذي وصححه

(7)

.

وقال: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفًا

(1)

سورة النجم: 26.

(2)

سورة الأنبياء: 28.

(3)

سورة سبأ: 23.

(4)

سورة المائدة: 3.

(5)

سورة الجاثية: 18.

(6)

سورة الأعراف: 29 - 30.

(7)

أخرجه أحمد (2/ 34، 58، 60، 69، 86، 125) وأبو داود (3251) والترمذي (1535) عن ابن عمر.

ص: 112

فليحلف بالله أو ليصمت". وهذا مشهور في الصحاح

(1)

.

وقال: "لا يقولنَّ أحدُكم ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله ثمَّ شاءَ محمد"

(2)

.

وقال له رجل: ما شاءَ الله وشِئتَ، فقال:"أجَعلتَني لله نِدًّا؟ بل ما شاء اللهُ وحدَه"

(3)

.

ورُوِي عنه أنه قال: "الشركُ في هذه الأمة أخفَى من دبيب النمل"

(4)

.

ورُوِيَ عنه أن الرياء شرك

(5)

.

وقال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110))

(6)

.

وعَلَّمَ بعضَ أصحابه أن يقول: "اللهم إني أعوذ بك من أن أُشرِكَ بك وأنا أعلم، وأستغفرَك لما لا أعلم"

(7)

.

ومن هذا الباب الذين يسألون الصدقةَ أو يُعطُونها لغير الله، مثل

(1)

أخرجه البخاري (6646 ومواضع أخرى) ومسلم (1646) عن ابن عمر.

(2)

أخرجه أحمد (5/ 72، 398) وابن ماجه (2118) والدارمى (2702) عن الطفيل بن سخبرة، وهو حديث حسن.

(3)

أخرجه أحمد (1/ 214، 283، 347) والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(988) عن ابن عباس.

(4)

أخرجه الحاكم في "المستدرك"(4/ 291) عن عائشة، وصححه هو والألباني في "صحيح الجامع"(3730).

(5)

أخرجه الحاكم في "المستدرك"(1/ 4) عن معاذ بن جبل بلفظ "اليسير من الرياء شرك"، وصححه.

(6)

سورة الكهف: 110.

(7)

أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(716) عن معقل بن يسار.

ص: 113

من يقول: لأجلِ فلان، إما بعض الصحابة أو بعض أهل البيت، حتى يتخذَ السؤالَ بذلك ذريعةً إلى أكل أموالِ الناس بالباطل، ويَصير قومٌ ممن يَنتسِبُ إلى محبة آل البيت يُعطِي الناسَ، وآخرون ممن ينتسب إلى السنة يُعطِي الآخرين، والشيطانُ قد استحوذَ على الجميع، فإن الصدقة وسائر العبادات لا يُشْرَعُ أن تُفْعَلَ إلا لله، كما قال تعالى:(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21))

(1)

.

وقال تعالى: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39))

(2)

.

وقال: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ)

(3)

.

وقال: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا (9))

(4)

.

وقال تعالى كلمة جامعة: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5))

(5)

.

(1)

سورة الليل: 17 - 21.

(2)

سورة الروم: 39.

(3)

سورة البقرة: 265.

(4)

سورة الإنسان: 8 - 9.

(5)

سورة البينة: 4 - 5.

ص: 114

وعبادتُه تَجمعُ الصلاةَ وما يَدخُل فيها من الدعاء والذكر، وتَجمع الصدقةَ والزكاةَ بجميع الأنواع من الطعام واللباس والنقد وغير ذلك.

والله يجعلنا وسائرَ إخواننا المؤمنين مخلصين له الدين، نعبده ولا نشرك به شيئًا، معتصمين بحبله، متمسكين بكتابه، متعلمين لما أنزل من الكتاب والحكمة، ويَصرِف عنّا شياطينَ الجن والإنس، ويُعِيذُنا أن تفرّق بنا عن سبيله، ويهدينا الصراطَ المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقا.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلّم تسليمًا كثيرًا.

***

ص: 115

مسألة في قصد المشاهد المبنية على القبور للصلاة عندها والنذر لها وقراءة القرآن وغير ذلك

ص: 117

مسألة

ما يقول سيدنا الإمام العلامة تقي الدين -أيَّده الله تعالى- في مشهدٍ فيه شريف مدفون من أولاد زين العابدين، والناس يقصدونه ليصلُّوا عنده الصلواتِ الخمسَ، وينذرون له، ومنهم من يَقصِد البركة، ومنهم من يعتقد أن الصلاة عنده أفضل مما سواه من المساجد. فهل هم مصيبون أم مخطِئون؟ وهل لهم أجر أم لا؟ وهل يُثابُ من يَتصدَّق أو يَبَرُّ قَيِّمَ المشهد المذكور أو الفقراءَ الذين يقعدون عند المشهد المذكور؟ وأيضًا يَقعُد في المشهد قُرَّاء يقرأون القرآن العظيم بلا أجرةٍ من العشاء إلى بكرة، فهل يُؤجَرون على ذلك أم لا؟ وهل للميِّت أجر باستماعِه القرآن أم لا؟ والذين يقرأون القرآن في التُّرَبِ بالأجرة وفي الختم التي يعملونها، مثل الذي يسمونه الثالث والسابع وتمام الشهر وتمام الحول، ويُنشِدون الأشعارَ الفراقيات ليبكي أهل الميت، وينقطوه بالفضة، والوعاظ أيضًا والذين يقرأون القرآن في الطرقات والأسواق حتى يتصدق عليهم، فما حكمهم؟ والحديث الذي يُذكَر فيه أن الميت يُعذَّبُ ببكاء أهلِه عليه، وقول عائشة: إنما كانت يهودية، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا يُعذِّب بدمع العين ولا بحُزْنِ القلب، ولكن بهذا" وأشار إلى لسانه. وإذا كان أحدٌ يَتحدَّث في عليم أو صلاةٍ أو ذِكرٍ أو حديثٍ مباح، أو ينام، فهل يجوز لأحدٍ أن يجهر بالقرآن ليُشَوِّش عليهم؟

أفتونا مأجورين، رضي الله عنكم.

أجاب رضي الله عنه

الحمد لله. اتفق أئمة المسلمين رضي الله عنهم أجمعين- على

ص: 119

أن المشاهد المبنية على القبور، سواء كان قبر بعض الصالحين أو بعض الصحابة أو بعض أهل البيت، أو قبر نبي من الأنبياء أو غير ذلك، سواءٌ كان عُلِمَ أنه قبر الميت المسمَّى أو عُلِمَ أنه ليس قبره أو جُهِلَ الحال-: اتفقوا كلُّهم على أن الصلاة فيها ليست أفضلَ من الصلاةِ في المساجد، بل ولا في سائر البقاع التي تجوز الصلاةُ فيها، وأنه لا يُشرَع لأحدٍ أن يَقصِدَها لأجل الصلاة عندها، لا الصلوات الخمس ولا غيرها. بل قصدُها للصلاة عندها والتبرك بالصلاة هناك خصوصًا لم يأمر الله به ولا رسولُه، وولا أحدٌ من الصحابة ولا من أئمة المسلمين، لا أهل البيت ولا غيرهم، ولا ذكروا أن في ذلك ثوابًا أو أجرًا أو قُربةً.

بل قد استفاضت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين بالنهي في ذلك، وصرَّح غير واحدٍ من أئمة المسلمين أن النهي عن اتخاذ المساجد على القبور نهي تحريم، كما في الصحيحين

(1)

عن عائشة رضي الله عنها وابن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نُزِل برسولِ الله صلى الله عليه وسلم طفق يَطرح خميصةً له على وجهه، فإذا اغتمَّ بها كشفَها عن وجهه، فقال وهو كذلك:"لعنةُ اللهِ على اليهود والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد" يُحذِّر ما صنعوا.

وفي الصحيحين

(2)

عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قاتل الله اليهود اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد". وفي صحيح مسلم

(3)

عن جُندب بن عبد الله البجلي قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ

(1)

البخاري (435 ومواضع أخرى) ومسلم (531).

(2)

البخاري (437) ومسلم (530).

(3)

برقم (532).

ص: 120

وهو يقول: "إني أَبْرَأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليلٌ، فإن الله قد اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيمِ خليلًا، ولو كنتُ متخذًا من أمتي خليلا لاتخذتُ أبا بكير خليلًا. أَلَا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبورَ أنبيائهم مساجدَ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك".

وعن أبي مَرثد الغنوي أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تُصلُّوا إليها". رواه مسلم

(1)

.

وعن ابن عباس قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوَّاراتِ القبور والمتخذين عليها المساجد والسُّرُج. رواه الإمام أحمد وأهل السنن الأربعة أبو داود وابن ماجه والنسائي والترمذي

(2)

، وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ: صحيح.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، لولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدًا

(3)

.

والأحاديث والآثار في هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلفِ الأمة وأئمتِها وسائرِ علماء الدين كثيرة. فمن اعتقد أن الصلاة عندها فيها فضيلة على غيرها، أو أنه ينبغي أن يُقصَد الصلاة عندها [و] أن في ذلك أجرًا ومثوبةً، فهو مخطئٌ ضالّ باتفاقِ أئمة المسلمين.

(1)

برقم (972).

(2)

أحمد (1/ 229، 287، 324، 337) وأبو داود (3236) والترمذي (320) والنسائي (4/ 94) وابن ماجه (1575).

(3)

سبق تخريجه.

ص: 121