الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من أهل خيبر بأمره بعد إقرارِهم فيها. وقد طلب المسلمون في خلافة الوليد بن عبد الملك أن يأخذوا من النصارى بعض كنائس العنوة التي خارجَ دمشق، فصالحوهم على إعطائهم الكنيسة التي داخل البلد، وأقرَّ ذلك عمر بن عبد العزيز أحد الخلفاء الراشدين ومن معه في عصره من أهل العلم، فإن المسلمين لما أرادوا أن يزيدوا جامع دمشق بالكنيسة التي إلى جانبه، وكانت من كنائس الصلح، لم يكن لهم أخذُها قهرًا، فاصطلحوا على المعاوضة بإقرار كنائس العنوة التي أرادوا انتزاعها، وكان ذلك الإقرار عوضًا عن كنيسة الصلح التي لم يكن لهم أخذُها عنوةً.
فصل
و
متى انتقض عهدُهم جاز أخذُ كنائس الصلح منهم فضلًا عن كنائس العنوة
، كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ما كان لقريظة والنضير لمّا نقضوا العهد، فإن ناقضَ العهد أسوأ حالًا من المحارب الأصلي، كما أن ناقضَ الإيمان بالردَّة أسوأ حالًا من الكافر الأصلي. ولذلك لو انقرض أهلُ مصرٍ من الأمصار، ولم يبقَ من دخلَ في عهدهم، فإنه يصير للمسلمين جميع عقارهم ومنقولهم من المعابد وغيرها فيئًا.
فإذا عُقِدت الذمة لغيرهم كان كالعهد المبتدأ، وكان لم يعقد لهم الذمة أن يُقرَّهم في المعابد، وله أن لا يقرهم بمنزلة ما فتح ابتداء، فإنه لو أراد الإمام عند فتحه هدمَ ذلك جاز بإجماع المسلمين، ولم يختلفوا في جواز هدمه، وإنما اختلفوا في جواز بقائه. وإذا لم تدخل في العهد كانت فيئًا للمسلمين.
أما على قول الجمهور الذين لا يوجبون قَسْمَ العقار فظاهر.
وأما على قول من يوجب قَسمهْ سمه فلأن عين المستحق غير معروف،
كسائر الأموال التي لا يُعرَف لها مالك معين.
وأما تقدير وجوب إبقائها فهذا تقديرٌ لا حقيقةَ له، فإن إيجاب إعطائهم معابد العنوة لا وجهَ له، ولا أعلم به قائلًا، فلا يُفرَّع عليه، وإنما الخلاف في الجواز.
نعم، قد يقال في الأبناء إذا لم نَقُل بدخولهم في عهد آبائهم، لأن لهم شبهة الأمان والعهد، بخلاف الناقضين، فلو وجب لم يجب إلا ما تحقق أنه كان له، فإن صاحب الحق لا يجب أن يُعطى إلا ما عُرِف أنه حقُّه، وما وقع الشك فيه على هذا التقدير فهو لبيتِ المال. وأما الموجودون الآن إذا لم يصدر منهم نقضُ عهدٍ فهم على الذمة، فإن الصبي يتبع أباه في الذمة، وأهل داره من أهل الذمة، كما يتبع في الإسلام أباه وأهل داره من المسلمين، لأن الصبي لما لم يكن مستقلًا بنفسه جُعِل تابعًا لغيرِه في الإيمان والأمان.
وعلى هذا جرت سنة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وخلفائِه والمسلمين في إقرارهم صبيان أهل الكتاب بالعهد القديم من غير تجديد عقدٍ آخر. وهذا الجواب حكمه فيما كان من معابدهم قديمًا قبل فتح المسلمين، أما ما أُحدِث بعد ذلك فانه يجب إزالتُه، ولا يُمكِّنون من إحداث البيع والكنائس، كما شَرطَ عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الشروط المشهورة عنه
(1)
: "إلَّا يُجدِّدوا في مدائن الإسلام ولا فيما حولَها كنيسة ولا صومعة ولا دَيرًا ولا قلايةً"، امتثالًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تكون قبلتان ببلدٍ واحدٍ". رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد
(2)
، ولما
(1)
ذكرها ابن القيم وشرحها في "أحكام أهل الذمة"(2/ 657 وما بعدها).
(2)
أخرجه أحمد (1/ 223، 285) وأبو داود (3032) والترمذي (633، 634) من حديث ابن عباس.
رُوِي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "لا كنيسة في الإسلام"
(1)
.
وهذا مذهب الأئمة الأربعة في الأمصار، ومذهب جمهورهم في القرى. وما زال من يُوفّقه الله من ولاة أمور المسلمين يُنقذ ذلك ويعمل به، مثل عمر بن عبد العزيز الذي اتفق المسلمون على أنه إمام هدى، فروى الإمام أحمد عنه أنه كتب إلى نائبه عن اليمن أن يهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين، فهدمَها بصنعاء وغيرها.
وروى الإمام أحمد عن الحسن البصري أنه قال: "من السنة أن تُهدَم الكنائس التي في الأمصار، القديمة والحديثة"
(2)
. وكذلك هارون الرشيد في خلافته أمر بهدم ما كان في سواد بغداد، وكذلك المتوكل لما ألزمَ أهلَ الكتاب بشروطِ عمر استفتى علماءَ وقتِه في هدم الكنائس والبيع، فأجابوه، فبعثَ بأجوبتهم إلى الإمام أحمد، فأجابه بهدم كنائس سوادِ العراق، وذكر الآثار عن الصحابة والتابعين، فمما ذكره ما رُوِي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال
(3)
: أيما مصرٍ مصَّرتْه العرب -يعني المسلمين-، فليس للعجم -يعني أهل الذمة- أن يبنوا فيه كنيسة، ولا يضربوا فيه ناقوسًا، ولا يشربوا فيه خمرًا.
وأيما مصرٍ مصَّرتْه العجم ففتحه الله على العرب، فإن للعجم ما في عهدهم، وعلى العرب أن يوفوا بعهدهم، ولا يكلِّفوهم فوقَ طاقتهم.
(1)
أخرجه أبو عبيد في "الأموال": 123.
(2)
انظر "أحكام أهل الذمة": 676.
(3)
أخرجه أبو عبيد في "الأموال": 126.
مسألة فيمن يسمِّي الخميس عيدًا
مسألة
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين- فيمن يُسمِّي الخميسَ المعروفَ بعيد النصارى عيدًا؟ وفيمن يَعتقد أن مريم ابنةَ عمران عليها السلام تَجُرُّ ذيلَها ذلك اليوم على الزرع، فيَنْمو ويلحق اللقيس بالبكير، ويُخرِجون في ذلك اليوم ثيابَهم وحُلِيَّ النساء يَرجون البركةَ من ذلك اليوم وكثرةَ الخير، ويُكَحِّلون الصبيانَ، ويَمْغَرون الدوابَّ والشجرَ لأجل البركة، ويَصبغون البَيْضَ ويُقامِرون به ويعتقدون حِلَّه، ويَدُفُّون البخورَ ويتبخَّرون به قصدَ البركةِ.
أفتونا مأجورين.
الجواب
قال الشيخ الإمام العالم العامل مفتي الفِرَق، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحرَّاني الحنبلي رحمه الله ورضي عنه-:
الحمد لله وحدَه. كلُّ ما يُفعَل في أعياد الكُفار من الخصائص التي يعظّم بها فليس للمسلم أن يفعل شيئًا منها، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من تَشبَّهَ بقومٍ فهو منهم"
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم:"ليس منَّا من تَشبَّه بغيرنا"
(2)
. وقد شارط عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه أهلَ الكتاب أن لا يُظهِروا
(1)
أخرجه أحمد (2/ 50، 92) وأبو داود (4031) من حديث ابن عمر.
(2)
أخرجه الترمذي (2695) عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال: هذا حديث إسناده ضعيف. وروى ابن المبارك هذا الحديث عن ابن لهيعة فلم يرفعه.
شيئًا من شعائرهم بين المسلمين، ولا شيئًا من شعائر الكفار لا الأعياد ولا غيرها، واتفق المسلمون على نهيهم عن ذلك كما شَرَطَه عليهم أمير المؤمنين.
وسواء قَصَد المسلمُ التشبُّهَ بهم أو لم يَقصِد ذلك بحكم العادة التي تعوَّدَها فليس له أن يَفعلَ ما هو من خصائصهم، وكل ما فيه تخصيصُ عيدِهم
(1)
بلباسِ وطعام ونحو ذلك فهو من خصائص أعيادهم، وليس ذلك من دين المسلَمين.
ومن قال: إن مريم تَجُرُّ ذيلَها على الزرع فينمو، فإنه يُستتاب، فإن تاب وإلَاّ قُتِل، فإذا هذا اعتقاد الكفّار النصارى، وهو من أفسد الاعتقادات، فإنَّ من هو أفضل من مريم من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام لا سَعْيَ لهم في إنبات النباتِ وإنزالِ القَطْر من السماوات، فكيف يكون ذلك من مريم عليها السلام؟ وإنما هذا اعتقاد النصارى فيها وفي شيوخهم القِسِّيسين أنهم ينفعونهم أو يَضُرّونهم، وهذا من شركِهم الذي ذمَّهم الله تعالى به، كما قال تعالى:(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31))
(2)
، وقال تعالى (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ)
(3)
. فإذا كان من اتخذ الملائكة والنبيين أربابًا هو كافرٌ، فكيف مَن اتخذ مريمَ أو غيرَها من الشيوخ؟
(1)
في الأصل: "عندهم" تصحيف.
(2)
سورة التوبة: 31.
(3)
سورة آل عمران: 79 - 80.