المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌لا يستغني القلب إلا بعبادة الله تعالى - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ٣

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌ وصف الأصول المعتمدة

- ‌ نماذج من النسخ الخطية

- ‌ زيارة قبور المؤمنين

- ‌ الصلاةَ عند القبور

- ‌لا يستغني القلب إلا بعبادة الله تعالى

- ‌ مبدأ عبادة الأوثان: العكوف على قبور الأنبياء والصالحين

- ‌زيارة القبور جائزةٌ على الوجه المأذون فيه

- ‌ أصل النذر مكروه منهيٌّ عنه

- ‌لا ثوابَ على إعانة العاكفين على القبور والمجاورين عندها بصدقةٍ ولا غيرِها

- ‌ إنشاد الشعر الفراقي في المأتم من النياحة

- ‌ زيارة القبور على وجهين:

- ‌الزيارة الشرعية

- ‌ الزيارة البدعية

- ‌ الشيوخ الذين يَستحقُّون أن يَكُونوا قدوةً

- ‌ إخبارُ الله في القرآن أنه مع عبادِه جاءَ عامًّا وخاصًّا

- ‌الجواب الرابعأن الناس متفقون على أنه لا يَسُوغُ كل تأويل

- ‌ الثاني: أن يقولوا بالتأويل الذي قام عليه دليلٌ شرعي

- ‌ الثالث: أن يُسلِّموا أن كل تأويل قام عليه دليلٌ سمعي أو عقليٌّ فإنه يجب قبولُه

- ‌ هذا التصور باطلٌ

- ‌منشأ الضلال أن يظنّ أن صفاتِ الربّ كصفاتِ خلقِه

- ‌الناس في ذلك ثلاثة أصنافٍ:

- ‌ ذكر لفظ "الجسم" في أسماء الله وصفاتِه بدعة

- ‌ مسألة أطفال المشركين

- ‌ الخامسة دار التكليف

- ‌ السادسةأن غير المكلَّف قد يُرحَم

- ‌لابد من حصول الألم لكل نفسٍ

- ‌ المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية النعم والمصائب

- ‌ التسبيح مقرون بالتحميد

- ‌ التسبيح والتحميد يجمع النفي والإثبات

- ‌التهليل يمنع أن يُعبَد غيرُه

- ‌الحمد مفتاح الكلام

- ‌ليس المراد أن الحمد غير التسبيح، بل نفس تسبيح الله هو حمد الله

- ‌ الناسُ مأمورون أن يقرأوا القرآن على الوجه المشروع

- ‌عدمُ الشرط هل يدلُّ على عدم المشروط

- ‌ الصلاة مؤلفة من أقوالٍ وأفعالٍ

- ‌أعظم أقوالها القرآن، وأعظمُ أفعالِها الركوعُ والسجودُ

- ‌الركوع مع السجود تقدمةٌ وتوطئةٌ وبابٌ إليه

- ‌متى انتقض عهدُهم جاز أخذُ كنائس الصلح منهم فضلًا عن كنائس العنوة

- ‌ليس ليومِ عيدِهم مزيةٌ على غيرِه

- ‌ليس لأحدٍ أن يعتدي على أحدٍ سواء كان شريفًا أو لم يكن

- ‌ ذكر هذه الروايات

- ‌ لا حضانةَ لفاسقٍ

- ‌ جعلُ البنت المميزة عند الأب- أرجح

الفصل: ‌لا يستغني القلب إلا بعبادة الله تعالى

وكذلك إذا رَجاهم فهم لا يعطونه ما يرجوه منهم، فلابدّ أن يُبغِضَهم فيظلمَهم إذا لم يكن خائفًا من الله. وهذا موجود كثيرًا، تجد الناسَ يخاف بعضُهم بعضًا ويرجو بعضُهم بعضًا، وكلٌّ من هؤلاء وهؤلاء يتظلَّم من الآخر ويطلب ظلمه، فهم ظالمون بعضُهم بعضًا، ظالمون في حق الله حيث خافوا غيرَه ورَجَوا غيرَه، ظالمون لأنفسهم، فإن هذا من الذنوب التي تُعذَّب النفسُ عليها، وهو أيضًا يَجُرُّ إلى فعل المعاصي المختصَّة كالشرب والزنا، فإن الإنسان إذا لم يخف من الله اتبعَ هواه، لاسيما إذا كان طالبًا ما لم يحصل له، فإن نفسه تبقى طالبةً لما تستريح به وتدفع به الغمَّ والحُزن، وليس عندها من ذكر الله وعبادته ما تستريح به، فتستريح بالمحرَّمات من فعل الفواحش وشرب المحرَّمات وغير ذلك.

و‌

‌لا يستغني القلب إلا بعبادة الله تعالى

، فإن الإنسان خُلِق محتاجًا إلى جَلْبِ ما ينفعُه ودَفْع ما يَضُرُّه، ونفسُه مريدةٌ دائمًا، ولابُدَّ لها من مرادٍ يكوَن غايةَ مطلوبهَا، فتسكن إليه وتطمئنُّ به، وليس ذلك إلا الله وحدَه لا شريكَ له. فإذا لم تكن مخلصةً له الدينَ عبدتْ غيرَه، فأشركتْ به عبادَةً واستعانَةً، فتعبد غيرَه وتستعين غيرَه. وسعادتُها في أن لا تعبد إلا الله، ولا تستعين إلا الله، فبالعبادة له تستغني عن معبود آخر، وبإعانته تستغني عن مُعينٍ غيرِه، وإلاّ يَبقَى مذنبًا محتاجًا.

وهذا حالُ الإنسان، فإنه محتاج فقير، وهو مع ذلك مذنبٌ خَطَّاء، فلابدّ له من ربِّه الذي يَسُدُّ مَفاقِرَه، ولابُدَّ له من الاستغفار من ذنوبه. قال تعالى:(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)

(1)

.

(1)

سورة محمد: 19.

ص: 54

فبالتوحيد يَقوى ويستغني، ومن سِرِّه أن يكون أقوى الناس، فليتوكل على الله؛ وبالاستغفار له يُغفَر له. فلا يزول فقرُه وفاقتُه إلا بالتوحيد، لابدَّ له منه، وإلاّ فإذا لم يحصل له لم يزل فقيرًا محتاجًا لا يحصل مطلوبه معذَّبًا، والله تعالى لا يغفر أن يُشرَك به. وإذا حَصَل مع التوحيد الاستغفار حَصَل غناه وسعادته، وزال عنه ما يُعذَّب به، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وهو مفتقر دائمًا إلى التوكل عليه والاستعانة به، كما هو مفتقر إلى عبادته، فلابدَّ أن يشهد دائمًا فقرَه إليه وحاجته في أن يكون معبودًا له وأن يكون معينًا له، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ منه إلا إليه. قال تعالى:(إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) أي يخوفكم أولياءه (فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175))

(1)

. هذا هو الصواب الذي علمِه جمهور المفسرين

(2)

، كابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة والنخعي، وأهل اللغة كالفراء

(3)

وابن قتيبة

(4)

والزجاج

(5)

وابن الأنباري. وعبارة الفراء: يخوِّفكم بأوليائه، كما قال:(لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ) أي ببأسٍ، وقوله:(لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15)) أي بيوم التلاق. وعبارة الزجاج: يُخوِّفكم من أوليائه. قال أبو بكر الأنباري

(6)

: والذي نختاره في الآية أن المعنى يخوفكم أولياءه، يقول العرب: أعطيتُ الأموال، أي أعطيتُ القومَ الأموالَ، فيحذفون المفعول الأول، ويقتصرون على ذكر الثاني.

(1)

سورة آل عمران: 175.

(2)

انظر تفسير الطبري (4/ 122) و"زاد المسير"(1/ 506).

(3)

معاني القرآن (1/ 248).

(4)

تفسير غريب القرآن: (ص 116).

(5)

معاني القرآن (1/ 490).

(6)

نقل عنه ابن الجوزي في "زاد المسير"(1/ 507).

ص: 55

قال فهذا أشبه من ادّعاءِ "باءٍ"، وما عليها دليل ولا تدعو إليها ضرورة.

قلتُ: وهذا لأن الشيطان يُخوِّف الناسَ أولياءَه تخويفًا مطلقًا، ليس له في تخويفِ ناسٍ [ضرورة]، فحذف الأول لأنه ليس مقصودًا. وهذا يسمى حذف اقتصار، كما يقال: فلانٌ يُعطي الأموال والدراهم.

وقد قال بعض المفسرين

(1)

: إن المراد يخوّف أولياءَه المنافقين، ونُقِل هذا عن الحسن والسدِّي. وهذا له وجهٌ سنذكره، لكن الأول أظهر، لأن الآية إنما نزلت بسبب تخويفهم من الكفار. قال الله تعالى:(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)) إلى أن قال: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ)، ثم قال:(فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175))

(2)

. فإنما نزلت فيمن خوَّف المؤمنين من الناس، وقد قال تعالى:(يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) ثم قال: (فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). والضمير عائد إلى أوليائه الذين قيل فيهم (فَاخشَوهُم).

وأما ذلك القول فالذي قاله فَسَّرها من جهة المعنى أن الشيطان إنما يخوِّف أولياءَه، وأما المؤمنون فهم متوكلون على الله لا يُخوِّفهم. أو أنهم أرادوا المفعول المتروك، أي يُخوِّف المنافقين أولياءَه، وإلاّ فهو يخوّف الكفار كما يخوِّف المنافقين. ولو أريد أنه يخوف أولياءه أي يجعلهم خائفين لم يكن للضمير ما يعود إليه، وهو قوله (فَلا تَخَافُوهُمْ).

(1)

نقل عنهم الطبري (4/ 122) وابن الجوزي في "زاد المسير"(1/ 507).

(2)

سورة آل عمران: 173 - 175.

ص: 56

وأيضًا فهذا فيه نظرٌ، فإن الشيطان يَعِدُ أولياءَه ويمنِّيهم، كما قال تعالى:(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ) الآية

(1)

، وقال:(يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120))

(2)

. ولكن الكفار يُوقع الله في قلوبهم الرعب من المؤمنين، والشيطان لا يختار ذلك، قال تعالى:(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ)

(3)

، وقال تعالى:(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ) الآية

(4)

، وقال:(سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا)

(5)

. وفي حديث قريظة

(6)

أن جبريل قال: إني ذاهبٌ إليهم فأُزلزِلُ بهم الحصنَ.

فتخويف الكفار والمنافقين وإرعابُهم هو من الله نصر للمؤمنين، ولكن الذين قالوا ذلك من السلف أرادوا أن الشيطان يخوِّف الذين أظهروا الإسلام وهم يوالونه من العدو، فإنما يخاف من الكفار المنافقون بتخويف الشيطان لهم، كما قال تعالى:(وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56))

(7)

، وقال تعالى:(قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) إلى قوله (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ) الآية

(8)

.

(1)

سورة الأنفال: 48.

(2)

سورة النساء: 120.

(3)

سورة الحشر: 13.

(4)

سورة الأنفال: 12.

(5)

سورة آل عمران: 151.

(6)

انظر: "سيرة ابن هشام"(2/ 233، 234).

(7)

سورة التوبة: 56.

(8)

سورة الأحزاب: 18 - 20.

ص: 57

فكلا القولين صحيح من حيث المعنى، لكن لفظ أوليائه في الآية هو الذي يجعلهم الشيطان مخوِّفين لا خائفين، كما دلَّ عليه سياقُ الآية ولفظُها، وإذا جعلهم الشيطان مخوفين فإنما يخافهم من خوَّفَه الشيطان فجعله خائفًا. فالآية دلت على أن الشيطان يجعل أولياءه مخوِّفين، ويجعل ناسًا خائفين أولياءَه.

ودلَّت الآية على أن المؤمن لا يجوز أن يخاف أولياء الشيطان، وعليه أن يخاف الله، فخوف الله أُمِرَ به وخوفُ أولياء الشيطان نُهِي عنه. وهذا كقوله في الآية الأخرى:(لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) الآية

(1)

، فنَهَى عن خشية الظالم وأَمَر بخشيته تعالى. وقال:(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ)

(2)

، وقال:(فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51))

(3)

.

وبعض الناس يقول: يا ربِّ! أخافك وأخافُ من لا يخافك. وهذا لا يجوز، بل عليه أن يخاف الله، ولا يخاف من لا يخاف الله، فإن من لا يخاف الله ظالمٌ من أولياء الشيطان، وهذا قد نهى الله عن أن يُخاف.

وإذا قيل: قد يؤذيني، قيل: إنما يُؤذيك بتسليط الله له، وإذا أراد سبحانه دفعَ شرِّه عنك دَفَعَه، فالأمر لله. أنتَ إذا خفتَ الله فاتقيتَه وتوكلتَ عليه كفاكَ شرَّه، ولم يُسلِّطْه عليك، فانه تعالى قال:(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)

(4)

.

(1)

سورة البقرة: 150.

(2)

سورة الأحزاب: 39.

(3)

سورة النحل: 51.

(4)

سورة الطلاق: 3.

ص: 58

وتسليطُه يكون بسبب ذنوبك وخوفك منه، فإذا خفتَ الله وتُبتَ من ذنوبك واستغفرتَه [لم يسلِّطه عليك]، وقد قال تعالى:(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33))

(1)

. وفي الآثار: "أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، فمن أطاعني جعلتُهم عليه رحمةً، ومن عصاني جعلتُهم عليه نقمةً، فلا تشتغلوا بسبب الملوك، وأطيعوني أعطِفْ قلوبَهم عليكم".

وقد قال لما سلَّط العدوَّ عليهم يوم أحد: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165))

(2)

، وقال تعالى:(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148))

(3)

. والأكثرون يقرأون "قَاتَل معه ربيون كثير"، والربّيون الكثير عند جماهير السلف والخلف هم الجماعات الكثيرة

(4)

. قال ابن مسعود وابن عباس- في روايةٍ عنه- والفراء

(5)

: ألوف كثيرة" وقال ابن عباس -في رواية أخرى- ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة والسدّي والربيع وابن قتيبة

(6)

: جماعات كثيرة. وقُرِئ

(1)

سورة الأنفال: 33.

(2)

سورة آل عمران: 165.

(3)

سورة آل عمران: 146 - 148.

(4)

انظر تفسير الطبري (4/ 77) و"زاد المسير"(1/ 472).

(5)

معاني القرآن (1/ 237).

(6)

تفسير غريب القرآن (ص 113).

ص: 59

بالحركات الثلاث في الراء، فعلى هذه القراءة الربيون الذين قاتلوا معه هم الذين ما وَهنوا وما ضعفوا وما استكانوا.

وأما على قراءة أبي عمرو وابن كثير ونافع "قُتِلَ" ففيها وجهان:

أحدهما يوافق معنى هذه الآية، أي قُتِل معه ربيون كثير، فالربيون مقتولون، فما وهنوا أي ما وهن من بقي منهم لقتلِ كثير منهم.

والثاني أن النبي قُتِل ومعه ربّيون كثير، فما وهنوا لقتل نبيهم.

وهذا يناسب كونَ يومِ أحدٍ صرخ الشيطانُ بأن محمدًا قد قُتِل. لكن هذا المعنى لا يناسب لفظ الآية، فإنه سبحانه قال:"ربيون كثير"، فالمناسب أنهم مع كثرة المصيبة الشاملة لهم ما وهنوا. ولو أريد أن النبي قُتِل ومعه ناس لم يخافوا لم يحتج إلى تكثيرهم، بل كان تقليلهم هو المناسب، يقول: هم مع قلتهم وقتلِ نبيهم لم يخافوا.

وأما إذا كانوا كثيرين لم يكن مدحُهم بعدم الخوف فيه عبرة.

وأيضًا فإذا وُصِفَ من قُتِلَ نبيُّه بكونهم كثيرين لم يكن في هذا حجة على الصحابة ولا عبرة لهم، فإنهم يوم أحد كانوا قليلين، وكان العدوّ أضعافَهم، فكانوا يقولون: أولئك كانوا ألوفًا مؤلفة فلهذا لم يَهِنُوا، ونحن قليلون.

وأيضًا فقوله (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ) يقتضي كثرة ذلك، وهذا لا يُعرَف أن أنبياءَ كثيرين قُتِلُوا في الجهاد.

وأيضًا فيقتضي أن المقتولين كان مع كل واحدٍ ربيون كثيرون، فيكون قد قُتِل أنبياءُ كثيرون، ومع كل واحدٍ خلقٌ عظيم، وهذا لم يُوجَد. فإن مَن قبلَ موسى من الأنبياء لم يكونوا يُقاتِلون، وموسى

ص: 60

وأنبياء بني إسرائيل لم يُقتَلوا في الغَزاة، والذين قبلهم بنو إسرائيل من الأنبياء لم يُقتَلوا في جهادٍ، بل لا يُعرَف نبيٌّ قُتِلَ في جهادٍ، فكيف يكون هذا كثيرًا؟ ويكون جنسُه كثيرًا ولا يُعرَف هذا في شيء من الأخبار؟!.

وهو سبحانه أنكر على من ينقلب على عقبيه، سواء كان النبي مقتولًا أو ميتًا، لم يخصَّ حال القتل، فلم يذمّهم إذا مات أو قُتِل على الخوف والرعب، بل على الردَّة والانقلاب على العقبين. ولهذا تلاها الصديق يوم ماتَ النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنَّ الناس لم يسمعوها حتى تلاها

(1)

.

ثمَّ ذكر بعدها معنى آخر، وهو أنّ من قبلكم كانوا يقاتلون، فيُقْتَل معهم خلق كثير وهم لا يَهِنُون. ويكون ذكر الكثرة مناسبًا؛ لأنه إن قُتِلَ منهم كثيرٌ فهذا يقتضي الوهنَ وما وَهَنوا، وإن كان الذين قاتلوا كثيرين وما وَهَنوا دلَّ على إيمانهم كلِّهم مع الكثرة. ولم يقل هنا: وما انقلبوا على أعقابهم، فلو كان المراد أن نبيَّهم قُتِل لقالَ:"فما انقلبوا على أعقابهم"، لأنه هو الذي أنكره إذا مات الرسولُ أو قُتِلَ، فأنكر سبحانه شيئين: الارتداد إذا مات الرسول أو قُتِل، والوهن والضعف والاستكانة لما أصابهم في سبيل الله من استيلاء العدو، ولهذا قال:(فَمَا وَهَنُواْ لماَ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اَستَكَانُوا)، ولم يقل:"فما وهنوا لقتل النبي". ولو كان النبي هو المقتول وهم كلهم أحياء لذكَرَ ما يناسب ذلك ولم يقل (فَمَا وَهَنُواْ لماَ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ). ومعلومٌ أن ما يُصيب في سبيل الله في عامة الغزوات لا يكون قَتْلَ نبي.

(1)

أخرجه البخاري (1242، 4454 ومواضع أخرى) عن ابن عباس.

ص: 61

وأيضا فكون النبي قاتل معه أو قُتِل معه ربّيون كثير لا يستلزم أن يكون معهم في الغزاة، بل كل من اتبع النبي وقاتلَ على دينه فقد قاتل معه، وكذلك كل من قُتِل على دينه فقد قُتِل معه، وحينئذٍ تظهر كثرة هؤلاء، فإن الذين قاتلوا وأصيبوا وهم على دين الأنبياء كثيرون. ويكون في هذه الآية عبرة لكل المؤمنين إلى يوم القيامة، فإنهم كلهم يقاتلون مع النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان النبي قد مات. والصحابة الذين كانوا يغزون في السرايا والرسولُ غائب عنهم كانوا معه وكانوا يقاتلون معه، وهم داخلون في قوله (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)

(1)

، وفي قوله:(وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ)

(2)

. فليس من شرط مَن يكون مع المطاع أن يكون رائيًا للمطاع.

وقد قيل في "ربّيين" هنا: إنهم العلماء

(3)

، واختاره الرمّاني والزجّاج، ورُوِي عن الحسن وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وذلك قال ابن فارس

(4)

: هم المتألّهون العارفون بالله. وهؤلاء جعلوا لفظ "الرِّبِّي" كلفظ "الربَّاني". وعن ابن زيد قال: هم الأتباع. كأنه جعلهم المربوبين.

والمعنى الأول أصحُّ من وجوه:

أحدها: أن الربانيين غيرُ الأحبار، وهم الذين يُرَبُّون الناس، وهم

(1)

سورة الفتح: 29.

(2)

سورة الأنفال: 75.

(3)

انظر "زاد المسير"(1/ 472).

(4)

"مجمل اللغة"(2/ 370).

ص: 62

أئمتهم الذين يقتدون بهم في دينهم. ومعلوم أن هؤلاء لا يكونون إلا قليلًا، فكيف يقال: هم كثير؟.

والثاني: أن الأمر بالجهاد والصبر لا يختصُّ بهؤلاء، والصحابة لم يكونوا كلهم ربانيين، فيقولون: أولئك أُعطُوا علمًا منعهم [من] الخوف.

الثالث: أن استعمال لفظ "الربِّي" في هذا ليس معروفًا في اللغة، بل المعروف الأول. والذين قالوا ذلك قالوا: هو نسبة إلى الربّ بلا نون، والقراءة المشهورة:"رِبِّيّ" بالكسر، وما قالوه إنما يتوجَّه على قراءة من قرأ "ربيُّون" بالفتح، وقد قُرِئَ "رُبّيُّون" بالضم. فعُلِمَ أنها لغات.

الرابع: أن الله تعالى يأمر بالصبر والثبات كلَّ من يأمره بالجهاد، سواء كان من الربانيين أو لم يكن.

الخامس: أنه لا مناسبة في تخصيص هؤلاء بالذكر، وإنما المناسب ذكرهم في مثل قوله:(لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ)

(1)

، وفي مثل قوله:(وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ)

(2)

، وهناك ذكرهم بلفظ الربانيين.

السادس: أن "الرباني" قيل: منسوب إلى الربّ بزيادة الألف والنون، كالرقباني واللحياني، وقيل: إنه منسوب إلى ربَّان السفينة. وهذا أصحّ، فإن الأصل عدم الزيادة في النسبة، لأنهم منسوبون إلى

(1)

سورة المائدة: 63.

(2)

سورة آل عمران: 79.

ص: 63

تربية الناس وكونهم يُرَبُّونهم، وهذه النسبة تختص بهم. وأما نسبتهم إلى الربّ فلا اختصاص لهم بذلك، بل كلُّ عبدٍ فهو منسوبٌ إليه. ولم يُسمِّ الله تعالى أولياءه المتقين ربانيين، ولا سَمَّى أنبياءه والرسلَ ربانيين، فإن الربَّانيِ من يَرُبُّ الناسَ كما يَرُبُّ الرَّبَّانُ السفينةَ. ولهذا كان الربانيون يُذمُّون تارةً ويُمدَحون أخرى، ولو كانوا منسوبين إلى الربّ بأنهم عرفوه وعبدوه لم يكونوا مذمومين قطُّ، وهذا هو الوجه السابع:

أن نسبتهم إلى الرب إن جُعِلَتْ مدحًا فقد ذمَّ الله الربانيين في موضعٍ آخر، وإن لم تُجعَل مدحًا لم يكن لهؤلاء خاصَّةٌ يمتازون بها من جهة المدح. وإذا كان الربَّاني منسوبًا إلى ربَّان السفينة لا إلى الربّ بَطَلَ قولُ من يجعل الربَّانيَّ منسوبًا إلى الربّ، فنسبة "الربيون" إلى الرب أولى بالبطلان.

الثامن: أنه إذا قُدِّر أنهم منسوبون إلى الرب فهذه النسبة لا تدلُّ على أنهم علماء، نعم تدلُّ على إيمان وعبادة وتألُّهٍ، قاله ابن فارس. وهذا يَعُمُّ جميع المؤمنين، فكلُّ من عبدَ الله وحدَه لا يُشرِك به شيئًا فهو متألِّهٌ عارفٌ بالله.

والصحابة كلُّهم كانوا يعبدون الله وحدَه لا يُشركون به شيئا، وكانوا متألهين عارفين بالله، ولم يُسَمَّوا "ربيون" ولا "ربَّانيون"، وإنما جاء عن منذر الثوري قال: قال محمد بن الحنفية لما مات ابن عباس: اليوم ماتَ ربَّانيُّ هذه الأمة

(1)

، لكونه كان يُؤدِّبهم بما أعطاه الله من

(1)

أخرجه الفسوي في "المعرفة والتاريخ"(1/ 540) بهذا الطريق. وأخرجه ابن سعد في "الطبقات"(2/ 368) والبلاذري في "أنساب الأشراف"(3/ 54) والحاكم في "المستدرك"(5/ 543) من طريق آخر عن ابن الحنفية بنحوه.

ص: 64

العلم، فيأمرهم وينهاهم. والخلفاء الراشدون كانوا ربّانيين. وقال إبراهيم: كان علقمة من الربانيين. ولهذا قال مجاهد: هم الذين يربّون الناس بصغار العلم قبلَ كبارِه. فهم أهل الأمر والنهي والأخبار، يدخل فيه من أخبر بالعلم ورواه عن غيره وحدَّث به، وإن لم يأمُرْ ويَنْهَ، وذلك هو المنقول عن السلف في "الربَّاني"

(1)

. نُقِل عن علي رضي الله عنه قال: هم الذين يغذون الناس بالحكمة ويُرَبُّونهم عليها، وعن ابن عباس قال: هم الفقهاء المعلِّمون.

قلتُ: أهل الأمر والنهي [هم الفقهاء المعلمون].

وعن قتادة وعطاء: هم الفقهاء العلماء الحكماء. قال ابن قتيبة

(2)

: واحدهم ربَّاني، وهم العلماء المعلِّمون. وقال أبو عبيد

(3)

: أحسب الكلمةَ ليست بعربية، إنما هي عبرانية أو سريانية. وذلك أن أبا عبيدةَ زعم أن العرب لا تعرف الربانيين. قال أبو عبيد: وإنما عرفها الفقهاء وأهل العلم. قال: وسمعتُ رجلًا عالمًا بالكتب يقول: هم العلماء بالحلال والحرام والأمر والنهي.

قلت: هذا صحيح، واللفظة عربية منسوبة إلى ربّان السفينة، ولكن العرب في جاهليتهم لم يكن لهم ربَّانيون، لأنهم لم يكونوا على شريعة منزلة من الله عز وجل، فلهذا لم يشتهر هذا الاسم عنهم.

(1)

انظر تفسير الطبري (3/ 233) و"زاد المسير"(1/ 413) و"فتح الباري"(1/ 160، 161).

(2)

تفسير غريب القرآن: 107.

(3)

نقل عنه ابن الجوزي في "زاد المسير"(1/ 413).

ص: 65

وحكى ابن الأنباري

(1)

عن بعض اللغويين أن الرباني منسوب إلى الرب، لأن العلم مما يُطاع الله به، فدخلت الألف والنون في النسبة للمبالغة، كما قالوا: رجل لحياني إذا بالغوا في وصفه بكبر اللحية.

وهذا قولٌ ضعيف كما تقدم التنبيه عليه.

والله سبحانه أعلم. والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.

***

(1)

نقل عنه ابن الجوزي في المصدر السابق.

ص: 66

رسالة إلى المنسوبين إلى التشيع وغيرهم في العراق ومشهد المنتظر

ص: 67

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الشيخ الإمام العالم فريد عصره، مُفتِي الفِرَق، شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام العالم شهاب الدين عبد الحليم بن الشيخ الإمام العلامة مجد الدين عبد السلام ابن تيمية رضي الله عنه وأرضاه وأعلى درجته-:

هذا الكتاب إلى من يصل إليه من الإخوان المؤمنين، الذين يتولَّون الله ورسولَه والذين آمنوا (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56))

(1)

، الذين يحبُّون الله ورسولَه ومن أحبَّه الله ورسولُه، ويَعرِفون من حقّ المتصلين برسولِ الله ما شرعه الله ورسولُه، فإنَّ من محبَّةِ الله وطاعتِه محبَّةَ رسولهِ وطاعتَه، ومن محبةِ رسوله وطاعتِه محبَّة من أحبَّه الرسول وطاعة مَن أمرَ الرسولُ بطاعتِه، كما قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59))

(2)

.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاعَ أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني"

(3)

.

(1)

سورة المائدة: 55 - 56.

(2)

سورة النساء: 59.

(3)

أخرجه البخاري (2957، 7137) ومسلم (1835) عن أبي هريرة.

ص: 69

وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إنما الطاعةُ في المعروف"

(1)

.

وقال: "لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق"

(2)

.

سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاتُه، فإنَّا نَحمدُ إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهلٌ وهو على كل شيء قدير، ونُصلِّي على إمام المتقين وخاتمِ النبيين محمد عبدِه ورسولِه، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد، فإنَّ الله سبحانه وتعالى بعثَ محمدًا بالكتاب والحكمة، ليُخرِجَ الناسَ من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صَراط العزيز الحميد

(3)

، وقال الله تعالى:(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164))

(4)

، وقال تعالى:(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ)

(5)

، وقال لأزواج نبيِّه:(وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ)

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري (4340، 7257) ومسلم (1840).

(2)

أخرجه بهذا اللفظ البغوي في "شرح السنة"(10/ 44) عن النواس بن سمعان.

وإسناده ضعيف لضعف شهر بن حوشب، والحديث صحيح رواه الحكم بن عمرو الغفاري وعمران بن حصين بنحوه، أخرجه أحمد (4/ 432، 5/ 66، 67) وغيره، انظر:"مجمع الزوائد"(5/ 226) و"السلسلة الصحيحة"(179، 180).

(3)

إشارة إلى الآية الأولى من سورة إبراهيم.

(4)

سورة آل عمران: 164.

(5)

سورة البقرة: 231.

(6)

سورة الأحزاب: 34.

ص: 70

والذي كان يتلوه هو ورسوله صلى الله عليه وسلم في بيوت أزواجه: كتاب الله والحكمة، فكتاب الله هو القرآن، والحكمة هي ما كان يذكره من كلامه، وهي سنتُه. فعلى المسلمين أن يتعلموا هذا وهذا.

وفي الحديث المشهور الذي رواه الترمذي وغيره

(1)

عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ستكونُ فتنةٌ"، قلت: فما المَخْرَجُ منها يا رسولَ الله؟ قال: "كتاب الله، فيه نبَأُ ما قبلكم، وخبرُ ما بعدَكم، وحُكْمُ ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تَركَه من جَبَّارٍ قَصَمَهُ الله، ومن ابتغى الهُدى في غيرِه أضلَّه الله، وهو حبلُ الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تَزِيغ به الأهواءُ، ولا تَلتَبسُ به الألْسُنُ، ولا يَخْلقُ على كثرةِ الردَّ، ولا تَنقضِيْ عجائبُه. منَ قال به صدقَ، ومن عَمِلَ به أُجِرَ، ومن حَكَمَ به عَدَل، ومن دَعَا إليه فدِيَ إلى صراطٍ مستقيم".

وقال الله تعالى في كتابه: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَميعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)

(2)

، وقال في كتابه:(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)

(3)

. فذمَّ الذين تفرقوا فصاروا أحزابًا وشيعا، وحَمِدَ الذين اتفقوا وصاروا

(1)

أخرجه الترمذي (2906) والدارمي (3334، 3335) وأحمد (1/ 91) من طريق الحارث الأعور عن علي، والحارث ضعيف، بل اتهمه بعض الأئمة بالكذب. قال الألباني في تعليقه على شرح الطحاوية (ص 71): هذا حديث جميل المعنى، ولكن إسناده ضعيف. ولعل أصله موقوف على علي رضي الله عنه، فأخطأ الحارث فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

سورة آل عمران: 103.

(3)

سورة الأنعام: 159.

ص: 71

جميعًا معتصمين بحبل الله الذي هو كتابه شيعةً واحدةً للأنبياء، كما قال تعالى:(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83))

(1)

. وإبراهيم هو إمام الأنبياء، كما قال تعالى:(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124))

(2)

، وقال تعالى:(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)) إلى أن قال: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)

(3)

.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُعلِّم أمتَه أن يقولوا إذا أصبحوا: "أصبحنا على فطرةِ الإسلام وكلمةِ الإخلاص، ودينِ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وملَّةِ أبينا إبراهيم حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين"

(4)

.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أُوتيتُ الكتابَ ومثلَه معه، فلا أُلْفِيَنَّ رجلًا شبعانَ على أَرِيْكَتِه يقول: بيننا وبينكم هذا القرآن، فما وجدنا فيه من حلالٍ حلَّلناه، وما وجدنا فيه من حرامٍ حرَّمناه. إلا إني أُوْتيتُ الكتاب ومثله معه"

(5)

.

فهذا الحديث موافقٌ لكتاب الله، فإن الله ذكر في كتابه أنه صلى الله عليه وسلم

(1)

سورة الصافات: 83.

(2)

سورة البقرة: 124.

(3)

سورة النحل: 120.

(4)

أخرجه أحمد (3/ 406، 407) والدارمي (2691) والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(1، 2، 3، 343، 344، 345) عن عبد الرحمن بن أبزي.

(5)

أخرجه أحمد (4/ 130) وأبو داود (4604) والترمذي (2664) وابن ماجه (12، 3193) عن المقدام بن معدي كرب، وحسَّنه الترمذي. وله شاهد من حديث أبي رافع، أخرجه أحمد (6/ 8) وأبو داود (4605) والترمذي (2669) وابن ماجه (13)، وحسَّنه الترمذي وصححه الحاكم في المستدرك (1/ 108، 109) والألباني في تعليقه على "المشكاة"(162).

ص: 72

يتلو الكتاب والحكمة، وهي التي أُوْتِيَها مع الكتاب، وقد أمرَ في كتابه بالاعتصامٍ بحبله جميعًا، ونهى عن التفرق والاختلاف، و [أمر] أن نكون شيعة واحدةً لا شِيَعًا متفرقين. وقال الله تعالى في كتابه:(وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9))

(1)

. فجعلَ المؤمنين إخوةً، وأمرَ بالإصلاحِ بينهم بالعدل مع وجود الاقتتال والبغي.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تَدَاعَى له سائرُ الجَسَدِ بالحُمَّى والسَّهَر"

(2)

. وقال: "المؤمن للمؤمن كالبُنيانِ يَشُدُّ بعضُه بعضًا"، وشَبَّكَ بين أصابعِه

(3)

.

فهذه أصولُ الإسلام التي هي الكتاب والحكمة والاعتصام بحبل الله جميعًا، على أهل الإيمانِ الاستمساكُ بها. ولا ريبَ أنّ الله قد أوجبَ فيها من حُرمةِ خُلفائِه وأهلِ بيتِه والسابقين الأولين والتابعين لهم بإحسانٍ ما أوجبَ، قال الله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29))

(4)

.

(1)

سورة الحجرات: 9.

(2)

أخرجه البخاري (6011) ومسلم (2586) عن النعمان بن بشير.

(3)

أخرجه البخاري (481، 2446، 6026) ومسلم (2585) عن أبي موسى الأشعري.

(4)

سورة الأحزاب: 28 - 29.

ص: 73

وقد روى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما

(1)

عن أم سلمةَ أن هذه الآيةَ لما نزلتْ أدارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم كِسَاءَه على علي وفاطمةَ والحسنِ والحسينِ رضي الله عنهم، فقال:"اللهمَّ هؤلاء أهلُ بيتي، فأَذْهِبْ عنهم الرِّجْسَ وطَهِّرْهم تطهيرًا".

وسنتُه تُفَسِّر كتابَ الله وتُبيِّنُه، وتَدُلُّ عليه وتُعبِّر عنه، فلما قال:"هؤلاء أهلُ بيتي" -مع أن سياق القرآن يدلُّ على أن الخطابَ مع أزواجه -علمنا أن أزواجَه وإن كُن من أهلِ بيتهِ كما دلَّ عليه القرآن، فهؤلاء أحق بأن يكونوا أهلَ بيته، لأن صلةَ النسب أقوى من صلة الصِّهر. والعرب تُطلِق هذا البيان للاختصاص بالكمال لا للاختصاص بأصل الحكم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم:"ليس المسكينُ بالطوَّاف الذي تَرُدُّه اللقمةُ واللقمتانِ، والتمرة والتمرتان، وإنما المسكينُ الذي لا يَجدُ غِنىً يُغنِيه، ولا يتَفَطَّنُ له فيُتَصَدَّق عليه، ولا يسأل الناسَ إلحافًا"

(2)

.

بيَّن بذلك أن هذا مختصٌّ بكمالِ المسكنة، بخلاف الطوَّاف فإنه لا تَكْمُل فيه المسكنةُ، لوجودِ من يُعطِيه أحيانًا، مع أنه مسكينٌ أيضًا. ويقال: هذا هو العالم، وهذا هو العدوّ، وهذا هو المسلم، لمن كَمُلَ فيه ذلك، وإنْ شاركه غيرُه في ذلك وكان دونَه.

ونظيرُ هذا الحديثِ ما رواه مسلم في صحيحه

(3)

عن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

أخرجه الترمذي (3205، 3787) عن عطاء بن أبي رباح عن عمر بن أبي سلمة.

وفي آخر الحديث: "قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبيَّ الله؟ قال: أنتِ على مكانكِ وأنتِ على خير". وأخرجه أحمد (4/ 107) من حديث واثلة بن الأسقع نحوه.

(2)

أخرجه البخاري (1476، 1479، 4539) ومسلم (1039) عن أبي هريرة.

(3)

برقم (1398) عن أبي سعيد الخدري، وأخرجه أيضًا أحمد (3/ 24). وفي الباب عن أبي بن كعب وسهل بن سعد الساعدي. انظر تفسير ابن كثير (2/ 404، 405).

ص: 74

أنه سُئِل عن المسجد الذي أُسِّسَ على التقوى، فقال:"مسجدي هذا" يعني مسجد المدينة. مع أن سياق القرآن في قوله عن مسجد الضرار (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108))

(1)

يقتضي أنه مسجد قُباء، فإنه قد تَواتَر أنه قال لأهل قباء:"ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به؟ "، فقالوا: لأننا نَستنجيْ بالماء

(2)

. لكن مسجده أحقُّ بأن يكون مؤسَّسًا على التقوى من مسجد قُباء، وإن كان كلٌّ منهما مؤسّسًا على التقوى، وهو أحقُّ أن يقوم فيه من مسجد الضرار، فقد ثبتَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتي قُباءَ كلَّ سَبْتٍ راكبًا وماشيًا

(3)

. فكان يقوم في مسجده القيامَ الجامعَ يومَ الجمعة، ثمَّ يقومُ بقُباءَ يوم السبت، وفي كلٍّ منهما قد قامَ في المسجد المؤسَّسِ على التقوى.

ولمَّا بيَّن سبحانَه أنه يُريد أن يُذْهِب الرجسَ عن أهلِ ببتِه ويُطَهَّرهم تطهيرا، دعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأقربِ أهلِ بيتهِ وأعظمِهم اختصاصًا به، وهم: عليٌّ وفاطمةُ رضي الله عنهما وسيِّدا شباب أهل الجنة، جمع الله لهم بين أن قَضى لهم بالتطهير، وبين أن قضى لهم بكمال دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فكان في ذلك ما دلَّنا على أنَّ إذهابَ الرجسِ عنهم وتطهيرَهم نعمةٌ من الله ليُسْبِغَها عليهم، ورحمةٌ من الله وفضلٌ لم

(1)

سورة التوبة: 108.

(2)

أخرجه أحمد (3/ 422) وابن خزيمه في صحيحه (83) عن عويم بن ساعدة الأنصاري، وأخرجه أحمد (6/ 6) عن محمد بن عبد الله بن سلام، وأخرجه ابن ماجه (355) عن طلحة بن نافع عن أبي أيوب الأنصاري وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك. وفي الباب عن أبي هريرة وابن عباس، انظر تفسير ابن كثير (2/ 403، 404).

(3)

أخرجه البخاري (1193) ومسلم (1399) عن ابن عمر.

ص: 75

يبلغوهما لمجردِ حَوْلهم وقوتهم، إذ لو كان كذلك لاستغنوا بهما عن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، كما يَظنّ من يَظُنّ أنه قد استغنى في هدايته وطاعته عن إعانةِ الله تعالى له وهدايتهِ إيّاه.

وقد ثبت أيضًا بالنقل الصحيح

(1)

أن هذه الآيات لما نزلت قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أزواجه، وخيَّرهن كما أمره الله، فاخترنَ الله ورسولَه والدار الآخرةَ، ولذلك أقَرَّهنّ ولم يُطلِّقْهن حتى ماتَ عنهن. ولو أردن الحياة الدنيا وزينتها لكان يُمتِّعهن ويُسَرِّحهن كما أمره الله سبحانه وتعالى، فإنه صلى الله عليه وسلم أخشى الأمةِ لربه وأعلَمهُم بحدودِه.

ولأجل ما دلت عليه هذه الآيات من مضاعفة للأجور ورفع الوزر بلغَنا عن الإمام علي بن الحسين زينِ العابدين وقُرَّةِ عينِ الإسلام أنه قال: إني لأرجو أن يُعطِيَ الله للمحسن منّا أجرين، وأخاف أن يجعل على المسيء منّا وِزرين.

وثبت في صحيح مسلم

(2)

عن زيد بن أرقم أنه قال: خطبنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بغَدِيرٍ يُدعَى "خُم" بين مكة والمدينة، فقال:"وأهل بيتي، أُذكِّرُكم الله في أهل بيتي، أذكِّركم اللهَ في أهل بيتي". قيل لزيد بن أرقم: ومن أهلُ بيته؟ قال: الذين حُرِمُوا الصدقةَ: آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل عباس. قيل لزيد: أكلُّ هؤلاء أهل بيته؟ قال: نعم.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوهٍ صحاحٍ

(3)

أن الله لما أنزل عليه

(1)

أخرجه البخاري (4785، 4786) ومسلم (1475) عن عائشة، وأخرجه مسلم (1478) عن جابر بن عبد الله.

(2)

برقم (2408).

(3)

أخرجه البخاري (3370، 4797، 6357) ومسلم (406) عن كعب بن عجرة،=

ص: 76

(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56))

(1)

سأل الصحابة كيف يُصلُّون عليه، فقال:"قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

وفي حديثٍ صحيح

(2)

: "اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وأزواجِه وذريته". وثبتَ عنه

(3)

أن ابنه الحسن لما تناول تمرةً من تمر الصدقة قال له: "كخ كخ، أما علمتَ أنَّا -آلَ بيتٍ- لا تَحِلُّ لنا الصدقةُ؟ " وقال

(4)

: "إنَّ الصدقةَ لا تَحِل لمحمدٍ ولا لآل محمد".

وهذا -والله أعلم- من التطهير الذي شرعه الله لهم، فإن الصدقةَ أوساخ الناس، فطهَّرهم الله من الأوساخ، وعوَّضَهم بما يُقِيْتُهم من خُمسِ الغنائم، ومن الفَيء الذي جُعِلَ منه رِزقُ محمدٍ، حيث قال صلى الله عليه وسلم رواه أحمد وغيره

(5)

: "بعِثتُ بالسيف بين يَدَي الساعةِ حتى

= وأخرجه البخاري (3369، 6360) ومسلم (407) عن أبي حميد الساعدي، وأخرجه البخاري (4798، 6358) عن أبي سعيد الخدري، وأخرجه مسلم (405) عن أبي مسعود الأنصاري. هذا ما في الصحيحين، وفي الباب أحاديث أخرى ذكرها المفسرون في تفسير الآية.

(1)

سورة الأحزاب: 56.

(2)

حديث أبي حميد الساعدي المذكور.

(3)

أخرجه البخاري (1485، 1491، 3072) ومسلم (1069) عن أبي هريرة.

(4)

أخرجه مسلم (1072) عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث ضمن حديث طويل.

(5)

أخرجه أحمد (2/ 50، 92) وعبد بن حميد في مسنده (848) عن ابن عمر.

وأخرج أبو داود (4031) الشطر الأخير منه فقط. والحديث صححه الألباني في "الإرواء"(1269).

ص: 77

يُعبَد الله وحده لا شريكَ له، وجُعِلَ رِزْقي تحتَ ظِلِّ رُمْحِي، وجُعِلَ الذلَّةُ والصَّغَارُ على من خالفَ أمري، ومن تَشبَّه بقومٍ فهو منهم".

ولهذا ينبغي أن يكون اهتمامُهم بكفايةِ أهل البيت الذين حُرِّمتْ عليهم الصدقةُ أكثر من اهتمامهم بكفاية الآخرين من الصدقة، لاسيَّما إذا تعذَّر أخذُهم من الخمس والفيء، إمّا لقلَّةِ ذلك، وإمّا لظلمِ من يَستولي على حقوقِهم فيَمنعُهم إيّاها من وُلاةِ الظلم، فيُعْطَون من الصدقةِ المفروضةِ ما يكفيهم إذا لم تَحصُل كفايتُهم من الخمس والفيء.

وعلى الآخذين من الفيء من ذوي القربى وغيرهم أن يتصفوا بما وصف الله به أهل الفيء في كتابه، حيث قال:(مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) الآيات

(1)

. فجعل أهل الفيء ثلاثة أصناف: المهاجرين، والأنصار، (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (10))

(2)

.

وذلك أن الفيء إنما حصلَ بجهادِ المهاجرين والأنصار وإيمانِهم وهجرتهم ونصرتهم، فالمتأخرون إنما يتناولونه مخلفًا عن أولئك، مشبهًا بتناول الوارث ميراث أبيه، فان لم يكن مواليًا له لم يستحق الميراثَ، فلا يَرِثُ المسلمُ الكافرَ، فمن لم يستغفر لأولئك بل كان مبغضًا لهم خرجَ عن الوصف الذي وصف الله به أهل الفيء، حتى يكونَ قلبه مسلمًا لهم، ولسانُه داعيًا لهم. ولو فُرِض أنه صَدَرَ من

(1)

سورة الحشر: 7 وما بعدها.

(2)

سورة الحشر: 10.

ص: 78

واحدٍ منهم ذنبٌ محقَّقٌ فإنّ الله يغفره له بحسناتِه العظيمة، أو بتوبة تَصدُر منه، أوْ يَبتليه ببلاءٍ يكفِّر به سيئاتِه، أو يَقْبَل فيه شفاعةَ نبيِّه وإخوانِه المؤمنين، أو يدعو اللهَ بدعاءٍ يَستجيبُه له.

وقد ثبتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح

(1)

من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن حاطب بن أبي بلتعةَ كاتَبَ كفَّارَ مكة لمّا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يغزوهم غزوةَ الفتح، فبعث إليهم امرأةً معها كتابٌ يُخبِرهم فيه بذلك، فجاء الوحيُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فبعثَ عليًّا والزبيرَ، فأحضَرا الكتابَ، فقال:"ما هذا يا حاطبُ؟ "، فقال: والله يا رسول الله! ما فعلتُ ذلك أذًى ولا كفرًا، ولكن كنتُ امرأ مُلْصَقًا من قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من أصحابك لهم قرابات يَحمُون بها أهليهم، فأردتُ أن أتخذَ عندهم يدًا أَحْمِي بها قرابتي. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دَعْني يا رسولَ الله أَضرِبْ عُنُقَ هذا المنافق، فقال:"إنه شَهِدَ بدرًا، وما يُدرِيك لعلَّ الله قد اطَّلعَ على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم". وأنزل الله تعالى في ذلك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) الآيات

(2)

.

وثَبتَ في صحيح مسلمِ

(3)

أن غلامَ حاطب هذا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله! واللهِ ليدخلَنَّ حاطبٌ النَّارَ، وكان حاطب يُسيءُ إلى مماليكه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"كذبتَ، إنه قد شَهِدَ بدرًا والحديبيةَ".

(1)

البخاري (3007 ومواضع أخرى) ومسلم (2494).

(2)

سورة الممتحنة: 1 وما بعدها.

(3)

برقم (2495).

ص: 79

وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخلُ النَّارَ واحدٌ بايعَ تحتَ الشجرة"

(1)

.

فهذا حاطبٌ قد تجسَّسَ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فتح مكة التي كان صلى الله عليه وسلم يَكتُمها عن عدوِّه، وكتَمها عن أصحابه، وهذا من الذنوب الشديدة جدًّا. وكان يُسيء إلى مماليكه، وفي الحديث المرفوع:"لن يدخلَ الجنَّةَ سيئُ الملكة"

(2)

. ثم مع هذا لمَّا شَهِدَ بدرًا والحديبيةَ غفرَ الله له ورَضِيَ عنه، فإن الحسنات يُذهبن السيئات. فكيف بالذين هم أفضلُ من حاطبٍ، وأعظمُ إيمانًا وعلمًا وهجرةً وجهادًا، فلم يُدْنِبْ أحدٌ قريبًا من ذنوبه؟!

ثم إن أمير المؤمنين عليًّا رضي الله عنه روى هذا الحديثَ في خلافته، ورواه عنه كاتبُه عبيد الله بن أبي رافع

(3)

، وأخبر فيه أنه هو والزبير ذهبا لطلب الكتاب من المرأة الظعينة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لأهل بدرٍ بما شهد، مع علمِ أمير المؤمنين بما جرى، ليَكفَّ القلوب والألسنة عن أن تتكلم فيهم إلا بالحسنى، فلم يأتِ أحدٌ منهم بأشدَّ ما جاءَ به حاطبٌ، بل كانوا في غالِب ما يأتون به مجتهدين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا اجتهدَ الحاكم فأصابَ فله أجران، وإذا اجتهدَ فأخطأ فله أجرٌ"، وهذا حديث صحيح مشهور

(4)

.

(1)

أخرجه أحمد (3/ 350) وأبو داود (4653) والترمذي (3860) عن جابر بن عبد الله. وهو عند مسلم (2496) بلفظ: "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحدٌ من الذين بايعوا تحتها".

(2)

أخرجه أحمد (1/ 7، 12) والترمذي (1946) وابن ماجه (3691) عن أبي بكر الصديق. وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع الصغير"(6340).

(3)

كما عند البخاري (3007) ومسلم (2494).

(4)

أخرجه البخاري (7352) ومسلم (1716) عن عمرو بن العاص وأبي هريرة، بلفظ: "إذا حَكَم الحاكم

".

ص: 80

وثبتَ عنه

(1)

أيضا أنه لما كان في غزوة الأحزاب فَرَدَّ الله الأحزابَ بغَيظِهم لم ينالوا خيرا، وأمر نبيَّه بقصد بني قريظة، قال لأصحابه:"لا يُصلِّيَنَّ أحدٌ منكم العصرَ إلا في بني قُريظةَ"، فأدركتهم الصلاة في الطريق، فمنهم قوم قالوا: لا نصليها إلا في بني قريظةَ، ومنهم قومٌ قالوا: لم يُرِدْ منّا تفويتَ الصلاة، إنما أرادَ المسارعةَ، فصلَّوا في الطريق. فلم يُعنِّف النبي صلى الله عليه وسلم واحدةً من الطائفتين.

وكانت سنة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم هذه موافقةً لما ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه، حيث قال:(وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا)

(2)

. فأخبر سبحانه وتعالى أنه خصَّ أحد النبيَّين بفهم الحكم في تلك القضية، وأثنى على كلٍّ منهما بما آتاه الله من العلم والحكم.

فهكذا السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان -رضي الله عنهم ورضوا عنه-[كانوا] فيما تنازعوا فيه مجتهدين طالبين للحق.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من يَعِشْ منكم بعدي فسَيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحدَثاتِ الأمور، فإن كل

(1)

أخرجه البخاري (946، 4119) عن ابن عمر. ورواه مسلم (1770) بلفظ: "لا يصلينّ أحدٌ الظهر إلا في بني قريظة"، وانظر كلام الحافظ عليه في "الفتح"(7/ 408، 409).

(2)

سورة الأنبياء: 78 - 79.

ص: 81

بدعة ضلالة"

(1)

.

وروى عنه مولاه سَفِيْنَةُ أنه قال: "الخلافة ثلاثون سنة، ثمّ تصير ملكًا"

(2)

، فكان آخر الثلاثين حين سَلَّم سِبْطُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنهما الأمرَ إلى معاوية، وكان معاويةُ أوَّلَ الملوك، وفيه ملكٌ ورحمةٌ، كما رُوِيَ في الحديث:"ستكون خلافةُ نبوةٍ، ثم يكون ملكٌ ورحمة، ثمَّ يكون ملكٌ وجبرية، ثمَّ يكون ملك عَضُوض"

(3)

.

وقد ثبت عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه من وجوهٍ أنه لمّا قاتَلَ أهلَ الجمل لم يَسْبِ لهم ذُرّيّةً، ولم يَغْنَم لهم مالًا، ولا أَجْهَزَ على جَريح، ولا اتبعَ مدبرًا، ولا قَتلَ أسيرًا، وأنه صلَّى على قتلَى الطائفتين بالجمل وصفين، وقال:"إخوانُنا بَغَوا علينا"

(4)

، وأخبَر أنهم ليسوا بكفَّار ولا منافقين، واتَّبعَ فيما قالَه كتابَ الله وسنةَ نبيِّه صلى الله عليه وسلم، فإنّ الله سماهم إخوةً، وجعلَهم مؤمنين في الاقتتال والبغي، كما ذكر في قوله:(وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا)

(5)

.

وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح

(6)

أنه قال: "تَمرقُ مارقةُ على

(1)

أخرجه أحمد (4/ 126، 127) وأبو داود (4607) والترمذي (2676) والدارمي (96) وابن ماجه (43، 44) من حديث العرباض بن سارية.

(2)

أخرجه أحمد (5/ 220، 221) وأبو داود (4646، 4647) والترمذى (2226)، وتكلم عليه الألباني وصححه في "الصحيحة"(459).

(3)

أخرجه أحمد (4/ 273) والبزَّار في مسنده (1588) بأطول منه عن النعمان بن بشير. وصححه الألباني في "الصحيحة"(5).

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنَّف"(15/ 256 - 257) والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 182).

(5)

سورة الحجرات: 9.

(6)

أخرجه مسلم (1065) عن أبي سعيد الخدري.

ص: 82

حينِ فُرقةٍ من المسلمين، تَقتُلُهم أولى الطائفتين بالحق". وهذه المارقة هم أهل حَرُورَاءَ، الذين قتلوا أميرَ المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأصحابَه لما مَرَقُوا من الإسلام، وخرجوا عليه، فكَفَّرُوه وكَفَّروا سائرَ المسلمين، واستحلُّوا دماءَهم وأموالَهم.

وقد ثبتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرقٍ متواترةٍ

(1)

أنه وصفَهم وأمرَ بقتالِهم، فقال:"يَحقِرُ أحدُكم صلاتَه مع صلاتهم، وصيامَه مع صيامِهم، وقرأنه مع قرآنِهم، يَقرءون القرآنَ لا يجاوزُ حناجرَهم، يَمرُقون من الإسلام كما يَمرُق السَّهمُ من الرَّميَّةِ، لو يَعلم الذين يقتلونهم مالهم على لسانِ محمد صلى الله عليه وسلم لنَكَلُوا عن العمل". فقتلَهم علي رضي الله عنه وأصحابُه، وسُرَّ أميرُ المؤمنين بقتلهم سرورًا شديدًا، وسَجَدَ الله شُكْرًا، لمّا ظهرَ فيهم علامتُهم، وهو المُخْدَجُ اليدِ الذي على يَدِه مثلُ البَضْعَةِ من اللحم عليها شَعَراتٌ، فاتفقَ جميعُ الصحابة على استحلالِ قتالِهم، ونَدِمَ كثير منهم -كابن عمر وغيرِه- أن لا يكونوا شهدوا قتالَهم مع أمير المؤمنين. بخلافِ ما جَرى في وقعة الجمل وصفِّين، فإنّ أمير المؤمنين كان متوجعًا لذلك القتال، مُتشكِّيًا مما جَرَى، يَتَراجِعُ هو وابنُه الحسنُ القولَ فيه، ويذكر له الحسنُ أن رأيَه أن لا يفعله.

فلا يستوي ما سَرَّ قلبَ أميرِ المؤمنين وأصحابه وغَبِطَه به مَن لم يَشْهَدْه، مع ما تواتَر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه وساءَه وساَءَ قلبَ أفضلِ أهلِ بيتِه حِبِّ النبي صلى الله عليه وسلم، الذي قال فيه: "اللهمَّ إني أُحِبُّه، فأحَبَّ من

(1)

أخرجه البخاري (3610 ومواضع أخرى) ومسلم (1064) عن أبي سعيد الخدري من طرق كثيرة.

ص: 83

يُحِبُّه"

(1)

. وإن كان أميرُ المؤمنين هو أولى بالحق ممن قاتلَه في جميع حروبِه.

ولا يستوي القَتلَى الذين صلَّى عليهم وسمَّاهم "إخواننا"، والقتلَى الذين لم يُصَلِّ عليهم، بل قيل له: مَن (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104))

(2)

؟ فقال: هم أهلُ حَرُورَاءَ.

فهذا الفرق بين أهل حروراء وبين غيرِهم الذي سمَّاه أميرُ المؤمنين في خلافته بقوله وفعلِه موافقًا فيه لكتاب الله وسنةِ نبيِّه-: هو الصواب الذي لا مَعدِلَ عنه لمن هُدِيَ رُشْدَه، وإن كان كثيرٌ من علماء السلف والخلف لا يهتدون لهذا الفرقان، بل يجعلون السيرةَ في الجميع واحدةً، فإمّا أن يُقصِّروا بالخوارج عمَّا يَستحِقُّونه من البُغْضِ واللَّعنةِ والعقوبةِ والقتلِ، وإمَّا أن يَزِيدوا على غيرِهم ما يَستحقُّونَه من ذلك.

وسببُ ذلك قلَّةُ العلم والفهم لكتاب الله وسنةِ رسوله الثابتةِ عنه، وسيرةِ خلفائِه الراشدين المهديين، وإلاّ فمن استهدى الله واستعانَه بحثَ عن ذلك، وطلبَ الصحيحَ من المنقول، وتدبَّر كتابَ الله وسنةَ نبيِّه وسنةَ خلفائِه، لاسيَّما سيرةَ أمير المؤمنين الهادي المهدي، التي جرى فيها ما اشتبهَ على خلقٍ كثيرٍ فضَلُّو بسبب ذلك، إمَّا غُلُوًّا فيه وإمَّا جَفَاءً عنه، كما رُوِي عنه أنه قال:"يَهلِكُ فِيَّ رجلانِ: محبٌ غَالٍ يُقَرِّظُني بما ليسَ فيَّ، ومُبغِضٌ قَالٍ يَرمِيْني بما نزَّهَني اللهُ منه"

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري (3749) ومسلم (2422) عن البراء بن عازب، وأخرجه البخاري (2122، 5884) ومسلم (2421) عن أبي هريرة.

(2)

سورة الكهف: 104.

(3)

أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة"(984)، وحسَّنه الألباني.

ص: 84

وحدُّ ذلك ومِلاكُ ذلك شيئانِ: طلبُ الهدى ومجانبةُ الهَوَى، حتى لا يكون الإنسان ضالًا وغاويًا، بل مهتديًا راشدًا. قال الله تعالى في حقّ نبيه صلى الله عليه وسلم:(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4))

(1)

، فوصفَه بأنه ليس بضال وهو الجاهل، ولا غاوٍ وهو الظالم، فإن صلاحَ العبد في أن يعلمِ الحقَّ ويَعمَلَ به، فمن لم يَعلمِ الحقَّ فهو ضالٌّ عنه، ومَن عَلِمَه فخالفَه واتبَعَ هَواه فهو غاوٍ، ومَن علمه وعَمِل به كان من أولي الأيدي عملًا ومن أولي الأبصار علمًا. وهو الصراط المستقيم الذي أمرنا الله سبحانه في كلِ صلاة أن نقول:(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7))

(2)

، فالمغضوب عليهم: الذين يعرفون الحق ولا يتبعونه كاليهود، والضالّون: الذين يعملون أعمالَ القلوب والجوارح بلا علمٍ كالنصارى.

ولهذا وصف الله اليهود بالغواية في قوله تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ)

(3)

، ووصف العالم الذي لم يعمل بعلمه بذلك في قوله تعالى:(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ (176))

(4)

.

ووصف النصارى بالضلال في قوله تعالى: (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ

(1)

سورة النجم: 1 - 4.

(2)

سورة الفاتحة: 6 - 7.

(3)

سورة الأعراف: 146.

(4)

سورة الأعراف: 175 - 176.

ص: 85

قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77))

(1)

، ووصف بذلك من يتبع هواه بغير علمٍ حيث قال:(وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119))

(2)

، وقال:(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ)

(3)

.

وأخبر أن من اتبع هداه المنزل فإنه لا يضل كما ضلّ الضالون، ولا يَشقَى كما شَقِيَ المغضوبُ عليهم، فقال:(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى)

(4)

. قال ابن عباس: تكفَّل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه إلا يَضِلَّ في الدنيا ولا يَشقَى في الآخرة

(5)

.

ومن تمام الهداية أن يَنظُر المستهديْ في كتاب الله، وفيما تواتَر من سنةِ نبيه وسنةِ الخلفاء، وما نقلَه الثقاتُ الأثباتُ، ويُميِّزَ بين ذلك وبين ما نقلَه مَن لا يَحفظ الحديثَ، أو يُتَّهَم فيه بكذب لغرضٍ من الأغراض، فإنّ المحدِّثَ بالباطل إمَّا أن يتعمد الكذبَ، أو يَكذِبَ خطأً لسوءِ حفظِه أو نسيانِه أو لقلَّةِ فهمِه وضبطِه.

ثمَّ إذا حَصَلَتِ، المعرفةُ بذلك تدبَّر ذلك، وجَمَعَ بين المتفق منه، وتَدبَّر المختلفَ منه حتى يتبيَّنَ له أنه مُتّفق في الحقيقة وإن كان الظاهرُ مختلفًا، أو أن بعضَه راجحٌ يَجِبُ اتباعُه، والآخر مرجوحٌ ليس بدليلٍ في الحقيقة وإن كان في الظاهرِ دليلًا.

(1)

سورة المائدة: 77.

(2)

سورة الأنعام: 119.

(3)

سورة القصص: 50.

(4)

سورة طه: 123.

(5)

انظر تفسير الطبري (16/ 163).

ص: 86

أما غَلَطُ الناس فلعدمِ التمييز بين ما يُعقَلِ من النصوصِ والآثار، أو يُعقَل بمجردِ القياس والاعتبار، ثمَّ إذا خالط الظنَّ والغلط في العلم هَوَى النفوس ومُنَاها في العمل صارَ لصاحبِها نصيبٌ من قوله تعالى (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23))

(1)

.

وهذا سبب ما خُلِقَ الإنسانُ عليه من الجهلِ في نوع العلم، والظلمِ في نوع العمل، فبجهلهِ يتبع الظن، وبظلمِه يتبع ما تَهوَى الأنفسُ. ولمّا بعثَ اللهُ رسلَه وأنزلَ كُتبه لهدى الناسِ وإرشادهم، صارَ أشدُّهم اتباعًا للرسلِ أبعدَهم عن ذلك، كما قال تعالى:(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213))

(2)

.

ولهذا صار ما وصفَ الله به الإنسانَ لا يَخصُّ غيرَ المسلمين دونَهم، ولا يَخصُّ طائفة من الأمة، لكن غير المسلمين أصابَهم ذلك في أصولِ الإيمان التي صارَ جهلُهم وظلمُهم فيها كفرانًا وخسرانًا مبينًا، ولذلك من ابتدعَ في أصولِ الدين بدعة جليلةً أصابَه من ذلك أشدُّ ممّا يُصيبُ مَن أخطأَ في أمرٍ دقيقٍ أو أذنبَ فيه، والنفوسُ لَهِجَة بمعرفةِ محاسنِها ومساوئ غيرِها.

وأما العالم العادل فلا يقول إلا الحقَّ، ولا يتّبعُ إلا إيَّاه، ولهذا من يَتَّبع المنقولَ الثابتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائِه وأصحابِه وأئمةِ أهلِ

(1)

سورة النجم: 23.

(2)

سورة البقرة: 213.

ص: 87

بيتهِ -مثل الإمامِ علي بن الحسين زين العابدين، وابنِه الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر، وابنِه الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق شيخ علماء الأمة- ومثل مالك بن أنس والثوري وطبقتهما، وجدَ ذلك جميعَه متفقًا مجتمعًا في أصولِ دينهم وجماع شريعتهم، ووجدَ في ذلك ما يَشْغَلُه وما يُغْنِيْه عما أحدثَه كثيرٌ من المَتأخرين من أنواع المقالات التي تخالف ما كان عليه أولئك السلف، ممن ينتصب

(1)

لعداوَةِ آلِ بيتِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ويَبْخَسُهم حقوقَهم ويُؤذيهم، أو ممن يَغلُو فيهم غير الحق، ويَفترِي عليهم الكذبَ، ويَبخَسُ السابقين والطائعين حقوقَهم.

ورأى

(2)

أنَ في المأثور عن أولئك السلف في باب التوحيد والصفات، وباب العدل والقدر، وباب الإيمان والأسماء والأحكام، وباب الوعيد والثَّواب والعذاب، وبابَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر، وما يتصل به من حكم الأمراَء أبرارِهم وفُجَّارِهم، وحكم الرعيَّةِ معهم، والكلام في الصحابة والقرابة-: ما يُبيِّنُ لكل عاقلٍ عادلٍ أنَّ السلفَ المذكورين لم يكن بينهم من النزاع في هذه الأبواب إلا من جنسِ النزاع الذي أقرَّهم عليه الكتاب والسنةَ كما تقدَّم ذكرُه، وأنَّ البدعَ الغليظةَ المخالفةَ للكتابِ والسنةِ واتفاقِ أولي الأمر الهداةِ المهتدين إنّما حَدَثَتْ من الأخلاف، وقد يَعزُونَ بعضَ ذلك إلى بعض الأسلاف، تارةً بنقل غيرِ ثابتٍ، وتارةً بتأويلٍ لشيءٍ من كلامهم متشابهٍ.

(1)

وصف لـ "كثير من المتأخرين".

(2)

خبر آخر لـ "من يتبع المنقول

"، ومعطوفٌ على "وجد ذلك جميعَه متفقًا

" و"وجد في ذلك ما يشغله

".

ص: 88

ثمَّ إن من رحمة الله أنه قَلَّ أن يُنقَل عنهم شيء من ذلك إلا وفيِ النقول الصحيحة الثابتة عنهم للقولِ المحكم الصريحِ ما يُبيِّنُ غلط الغالطين عليهم في النقل أو التأويل، وهذا لأن الصراط المستقيم في كل الأمة بمنزلة الصراط في المِلَل، فكمالُ الإسلام هو الوسَطُ في الأديان والمِلَل، كما قال تعالى:(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)

(1)

لم ينحرفوا انحرافَ اليهود والنصارى والصابئين. فكذلك أهلُ الاستقامةِ، ولزومِ سنة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وما عليه السلف، تمسَّكوا بالوسط، ولم ينحرفوا إلى الأطراف.

فاليهود مثلًا جَفَوا في الأنبياء والصديقين حتى قتلوهم وكذَّبوهم، كما قال الله تعالى:(فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87))

(2)

، والنصارى. غَلَوا فيهم حتى عَبَدوهم، كما قال تعالى:(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) الآية

(3)

.

واليهود انحرفوا في النسخ، حتى زعموا أنه لا يقع من الله ولا يجوز عليه، كما ذكر الله عنهم إنكارَه في القرآن حيث قال:(سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا)

(4)

، والنصارى قابَلُوهم، فجوَّزوا للقِسّيسين والرهبان أن يُوجِبوا ما شاءوا ويُحرِّموا ما شاءوا.

وكذلك تقابلهم في سائر الأمور.

فهدى الله المؤمنين إلى الوسط، فاعتقدوا في الأنبياء ما يستحقونه، ووقَّروهم وعَزَّروهم وأحبُّوهم، وأطاعوهم واتبعوهم، ولم يردُّوهم

(1)

سورة البقرة: 143.

(2)

سورة البقرة: 87.

(3)

سورة النساء: 171.

(4)

سورة البقرة: 142.

ص: 89

كما فعلت اليهود" ولا أَطْرَوهم ولا غَلَوا فيهم فنزَّلوهم منزلةَ الربوبية كما فعلت النصارى. وكذلك في النسخ، جوَّزوا أن ينسخ الله، ولم يُجوِّزوا لغيره أن ينسخ، فإنّ الله له الخلق والأمر، فكما لا يَخلُق غيرُه لا يأمُر غيرُه.

وهكذا أهلُ الاستقامةِ في الإسلام المعتصمون بالحكمةِ النبوية والعصمة الجماعية، متوسطون في باب التوحيد والصفات بين النفاة المعطِّلة وبين المشبِّهة الممثِّلة، وفي باب القدر والعدل والأفعال بين القدرية الجبرية والقدرية المجوسية، وفي باب الأسماء والأحكام بين من أخرجَ أهل المعاصي من الإيمان بالكلية كالخوارج وأهل المنزلة، وبين من جَعَلَ إيمان الفُسَّاق كإيمان الأنبياء والصديقين كالمرجئة والجهمية، وفي باب الوعيد والثواب والعقاب بين الوعيديين الذين لا يقولون بشفاعة نبينا لأهل الكبائر، وبين المرجئة الذين لا يقولون بنفود الوعيد، وفي باب الإمامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الذين يُوافِقون الولاةَ على الإثم والعدوان ويَركَنون إلى الذين ظلموا، وبين الذين لا يرون أن يُعاوِنوا أحدًا على البرّ والتقوى لا على جهادٍ ولا جمعةٍ ولا أعيادٍ إلا أن يكون معصومًا، ولا يَدخُلوا فيما أمر الله به ورسولُه إلا في طاعةِ من لا وجودَ له.

فالأوَّلون يدخلون في المحرَّمات، وهؤلاء يتركون واجباتِ الدين وشرائعَ الإسلام، وغُلاتُهم يتركونَها لأجل موافقةِ من يظنونه ظالمًا، وقد يكون كاملًا في علمه وعدلِه.

وأهلُ الاستقامة والاعتدال يُطيعون الله ورسوله بحسب الإمكان، فيتقون اللهَ ما استطاعوا، وإذا أمرهم الرسولُ بأمرٍ أتوا منه ما استطاعوا، ولا يتركون ما أُمِروا به لفعلِ غيرِهم ما نُهِيَ عنه، بل كما قال تعالى:

ص: 90

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)

(1)

. ولا يُعاوِنون أحدًا على معصية، ولا يُزِيلون المنكرَ بما هو أنكرُ منه، ولا يأمرون بالمعروف إلا بالمعروف. فهم وَسَط في عامة الأمور، ولهذا وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم الطائفة الناجية لما ذكر اختلاف أمته وافتراقهم

(2)

.

ومن ذلك أن اليوم الذي هو يومُ عاشوراء الذي أكرمَ الله فيه سِبطَ نبيِّه وأحدَ سيِّدَي شباب أهل الجنة بالشهادة على أيدي مَن قَتلَه من الفَجَرة الأشقياء، وكان ذلك مصيبة عظيمة من أعظم المصائب الواقعة في الإسلام. وقد روى الإمام أحمد وغيره

(3)

عن فاطمة بنت الحسين -وقد كانت قد شهدتْ مصرعَ أبيها- عن أبيها الحسين بن علي رضي الله عنهم، عن جدِّه رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ما من رجل يُصابُ بمصيبةٍ فيذكُر مصيبتَه وإن قدمتْ، فيُحدِثُ لها استرجاعًا، إلا أعطاه الله من الأجر مثل أجره يومَ أُصِيبَ بها".

فقد علم الله أنّ مثل هذه المصيبة العظيمة سيتجدد ذكرُها مع تقادُمِ العهد، فكان من محاسن الإسلام أن روى هذا الحديثَ صاحبُ المصيبةِ والمُصَابُ به أوَّلًا، ولا ريبَ أن ذلك إنما فعلَه الله كرامةً للحسين رضي الله عنه، ورفعًا لدرجتِه ومنزلتِه عند الله، وتبليغًا له مَنازلَ الشهداء، وإلحاقًا له بأهل بيته الذين ابتُلُوا بأصنافِ البلاء. ولم يكن الحسن والحسين حصلَ لهما من الابتلاءِ ما حَصَلَ لجدِّهما

(1)

سورة المائدة: 105.

(2)

أخرجه أحمد (4/ 102) والدارمي (2521) وأبو داود (4597) من حديث معاوية بن أبي سفيان. وفي الباب عن أبي هريرة وأنس وغيرهما، انظر "الصحيحة"(203، 204).

(3)

أخرجه أحمد (1/ 201) وابن ماجه (1600).

ص: 91

ولأمّهما وعَمِّهما، لأنهما وُلِدا في عِزِّ الإسلام، وتَربَّيا في حُجور المؤمنين، فأتمَّ الله نعمتَه عليهما بالشهادة، أحدهما مسمومًا والآخر مقتولًا، لأنّ الله عنده من المنازل العالية في دار كرامته ما لا ينالها إلا أهلُ البلاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سُئِلَ: أيُّ الناسِ أشدُّ بلاءً؟ فقال: "الأنبياء ثمّ الصالحون ثمّ الأمثل فالأمثل، يُبتَلى الرجلُ على حسبِ دينه، فإن كان في دينه صَلابة زِيْدَ في بلائه، وإن كان في دينه رِقَّةٌ خُفِّف عنه، ولا يزال البلاءُ بالمؤمنِ حتى يَمشي على الأرضِ وليس عليه خطيئةٌ"

(1)

.

وشَقِيَ بقتلِه من أعانَ عليه أو رضي به. فالذي شرعَه الله للمؤمنين عند الإصابة بالمصائب وإن عظُمتْ أن يقولوا: إنّا لله وإنا إليه راجعون. وقد روى الشافعي في مسنده

(2)

أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ماتَ وأصاب أهلَ بيته من المصيبة ما أصابَهم، سمعوا قائلًا يقول: يا آلَ بيتِ رسول الله! إنّ في الله عَزَاءً من كلّ مصيبةٍ، وخَلَفًا من كل هالك، ودَركًا من كل فائت، فبالله فثِقُوا وإيَّاه فارْجُوا، فإن المُصَابَ من حُرِمَ الثوابَ. فكانوا يرونه الخضر جاء يُعزِّيهم بالنبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

أخرجه أحمد (1/ 172، 173، 180، 185) والدارمي (2786) والترمذي (2398) وابن ماجه (4023) عن سعد بن أبي وقاص.

(2)

1/ 216 (من ترتيبه لمحمد عابد السندي) عن علي بن الحسين مرسلًا، ومن طريق الشافعي أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" (7/ 268). وأورده ابن كثير في "البداية والنهاية" (2/ 258) من هذا الطريق ثم قال:"شيخ الشافعي القاسم العمري متروك، قال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين: يكذب، زاد أحمد: ويضع الحديث. ثم هو مرسل، ومثلُه لا يُعتمد عليه هاهنا، والله أعلم. وقد رُوِي من وجهٍ آخر ضعيف عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن أبيه عن علي، ولا يصحّ". وهذا أخرجه البيهقي في "الدلائل"(7/ 267)، وانظر الكلام عليه في "فتح الباري"(6/ 435) و"الإصابة"(1/ 442).

ص: 92

فأما اتخاذ المآتم في المصائب واتخاذ أوقاتها مآتمَ فليس من دين الإسلام، وهو أمر لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من السابقين الأولين ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا من عادة أهل البيت ولا غيرهم. وقد شَهِدَ مقتلَ عليٍّ أهلُ بيته، وشهدَ مقتلَ الحسين من شهدَه من أهل بيته، وقد مرَّتْ على ذلك سنون كثيرة وهم متمسكون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يُحدِثون مأتمًا ولا نياحةً، بل يصبرون ويسترجعون كما أمر الله ورسولُه، أو يفعلون مالا بأسَ به من الحزن والبكاء عند قرب المصيبة. قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما كان من العين والقلب فمن الله، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان"

(1)

، وقال:"ليس منا من لَطَم الخدودَ وشَقَّ الجيوبَ ودَعا بدعوى الجاهلية"

(2)

، يعني مثل قول المصاب: يا سَنَداه! يا ناصراه! يا عَضُداه! وقال: "إن النائحةَ إذا لم تَتُبْ قبلَ موتها فإنها تُلْبَسُ يومَ القيامة دِرعًا من جَرَبٍ وسِربالًا مَن قَطِرانٍ"

(3)

. وقال: "لعن الله النائحةَ والمستمعةَ إليها"

(4)

.

وقد قال في تنزيله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ

(1)

أخرجه أحمد (1/ 237، 335) عن ابن عباس، وضعفه الألباني في "ضعيف الجامع"(47).

(2)

أخرجه البخاري (1294، 1297، 1298، 3519) ومسلم (103) عن ابن مسعود.

(3)

أخرجه مسلم (934) عن أبي مالك الأشعري.

(4)

أخرجه أحمد (3/ 65) وأبو داود (3128) والبيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 63) عن أبي سعيد الخدري. وفي الباب عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة، وقد خرَّجها الألباني في "رواء الغليل"(3/ 222 - 223) وضعَّفها كلَّها وبيَّن وهم من عزاها لصحيح مسلم.

ص: 93

غَفُورٌ رَحِيمٌ (12))

(1)

. وقد فسَّر النبي صلى الله عليه وسلم قوله (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) بأنها النياحة

(2)

، وتَبرَّأَ النبيّ صلى الله عليه وسلم من الحالقة والصالقة

(3)

. والحالقة: التي تَحلِق شَعرَها عند المصيبة، والصالقة: التي ترفع صوتَها عند المصيبة. وقال جرير بن عبد الله

(4)

: كنا نعدُّ الاجتماعَ إلى أهل الميت وصَنْعَتهم الطعامَ للناس من النياحة. وإنما السنةُ أن يُصنَع لأهل الميت طعامٌ، لأنّ مصيبتَهم تَشْغَلُهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما نُعِيَ جعفر بن أبي طالب لما استشهد بمؤتةَ فقال:"اصنَعوا لآلِ جعفرٍ طعامًا، فقد جاءهم ما يَشْغَلُهم"

(5)

.

وهكذا ما يفعل قوم آخرون يوم عاشوراءَ من الاكتحال والاختضاب أو المصافحة والاغتسال، فهو بدعة أيضًا لا أصلَ لها، ولم يذكرها أحد من الأئمة المشهورين، وإنما رُوِي فيها حديث "من اغتسلَ يومَ عاشوراءَ لم يَمرض تلك السنةَ، ومن اكتحلَ يومَ عاشوراء لم يَرمَدْ ذلك العام"

(6)

ونحو ذلك، ولكن الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صامَ

(1)

سورة الممتحنة: 12.

(2)

أخرجه أحمد (5/ 85، 6/ 408) وأبو داود (1139) وابن خزيمة في صحيحه (1722، 1723) عن أمّ عطية. وانظر "الدر المنثور"(8/ 139 وما بعدها).

(3)

أخرجه البخاري (1296) ومسلم (104) عن أبي موسى الأشعري.

(4)

أخرجه أحمد (2/ 204) وابن ماجه (1612) عنه، وصححه البوصيري في "الزوائد".

(5)

أخرجه أحمد (1/ 205) وأبو داود (3132) والترمذي (998) وابن ماجه (1610) عن عبد الله بن جعفر. وحسَّنه الترمذي، وصححه الحاكم في "المستدرك"(1/ 372).

(6)

أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات"(2/ 201) عن أبي هريرة ضمن حديث طويل، ثم قال: هذا حديث لا يشك عاقل في وضعه. وقال السيوطي في "اللآلئ المصنوعة"(2/ 110): موضوع، ورجاله ثقات، والظاهر أن بعض=

ص: 94

يومَ عاشوراءَ، وأمرَ بصيامه، وقال: "صومُه يُكفر سنةً،، وقرَّر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أنجىَ فيه موسى وقومَه، وأغرقَ فرعونَ وقومَه

(1)

، ورُوِيَ أنه كان فيه حوادث الأمم، فمن كرامة الحسين أن الله جعلَ استشهادَه فيه.

وقد يجمع الله في الوقت شخصًا أو نوعًا من النعمة التي تُوجب شكرًا، أو المحنة التي تُوجِب صبرًا، كما أنّ سابعَ عشر شَهر رمضان فيه كانت وقعةُ بدرٍ، وفيه كان مقتلُ عليّ. وأبلغ من ذلك أن يوم الاثنين في ربيع الأول مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه هجرته، وفيه وفاته.

والعبد المؤمن يُبتَلى بالحسناتِ التي تَسُرُّهُ والسيئاتِ التي تَسُوءُه في الوقت الواحد، ليكون صبَّارًا شكورًا، فكيف إذا وقعَ مثلُ ذلك في وقتين متعددين من نوع واحد؟

ويُستحب صومُ التاسع والعاشر، ولا يُستحبُّ الكحلُ، والذين يصنعونَ من الكحل من أهل الدين لا يقصدون به مناصبة أهل البيت، وإن كانوا مخطئين في فعلهم، ومَن قَصدَ منهم أهلَ البيت بذلك أو غيره، أو فرحَ أو استشفَى بمصائبهم، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يدخلون

=المتأخرين وضعه وركبه على هذا الإسناد. وأخرج ابن الجوزي (2/ 203) الشطر الثاني منه عن ابن عباس، ونقل عن الحاكم أنه قال:"أنا أبرأ إلى الله من عهدة جويبر، والاكتحال يوم عاشوراء لم يُروَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أثر، وهو بدعة ابتدعها قتلةُ الحسين". وحكم عليه السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص 403) والألباني في الضعيفة (624) بأنه موضوع.

(1)

انظر باب صيام يوم عاشوراء من كتاب الصوم عند البخاري ومسلم وغيرهما.

ص: 95

الجنةَ حتى يُحبّوكم من أجلي"

(1)

لما شَكَا إليه العباس أن بعض قريش يَجْفُون بني هاشم. وقال: "إن الله اصطفى قريشًا من بني كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشمِ"

(2)

. ورُوِيَ عنه أنه قال: "أَحِبُّوا الله لما يَغذُوكم به من نِعَمِه، وأحبُّوني لحبّ الله، وأَحِبُّوا أهلَ بيتي لحبّي"

(3)

. وهذا باب واسع يطولُ القول فيه.

وكان سببُ هذه المواصلة أن بعض الإخوان قَدِمَ بورقةٍ فيها ذِكرُ النبي صلى الله عليه وسلم، وذِكر سادة أهلِ البيت، وقد أُجري فيها ذِكرُ النذور لمشهد المنتظر. فخُوطِبَ من فضائل أهل البيت وحقوقِهم بما سَرَّ قلبَه وشَرحَ صَدْرَه، وكان ما ذُكِر بعضَ الواجب، فإن الكلام في هذا طويل، ولم يحتمل هذا الحامل أكثر من ذلك. وخُوطِبَ فيما يتعلق بالأنساب والنذور بما يجب في دين الله، فسألَ المكاتبةَ بذلك إلى من يذهب إليه من الإخوان، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الدين النصيحة"، قالوا: لمن يا رسولَ الله؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"

(4)

.

(1)

أخرجه أحمد (1/ 207) من طريق عبد الله بن الحارث عن العباس، ولفظه:"والذي نفسي بيده لا يَدخلُ قَلْبَ رجل الإيمانُ حتَى يُحبَّكم لله ولرسوله".

وأخرجه ابن ماجه (140) نحوه من طريق محمد بن كعب القرظي عن العباس.

قال البوصيري في "الزوائد": رجال إسناده ثقات، إلا أنه قيل: رواية محمد بن كعب عن العباس مرسلة.

(2)

أخرجه مسلم (2276) عن واثلة بن الأسقع.

(3)

أخرجه الترمذي (3789) والحاكم في "المستدرك"(3/ 150) عن ابن عباس.

قال الترمذي: حديث حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه. وقال الحاكم: صحيح الإسناد. وضعَّفه الألباني في تعليقه على "فقه السيرة"(ص 20) وتكلم عليه.

(4)

أخرجه مسلم (55) عن تميم الداري. ورُوِي عن غيره من الصحابة، انظر "جامع العلوم والحكم"(1/ 215) و"مجمع الزوائد"(1/ 87).

ص: 96

أما ورقة الأنساب والتواريخ ففيها غلطٌ في مواضع متعددة، مثل ذكرِه أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي في صفر، وأنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن عمرو بن العلاء بن هاشم، وأنّ جعفر الصادق توفي في خلافة الرشيد، وغير ذلك.

فإنه لا خلاف بين أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي في شهرِ ربيع الأول شهرِ مولده وشهرِ هجرته، وأنه توفي يوم الاثنين، وفيه وُلِد وفيه أُنزِل عليه. وجدُّه هاشم بن عبد مناف، وإنما كان هاشم يُسمَّى عمرًا، ويقال له عمرو العلا، كما قال الشاعر

(1)

:

عَمرو العُلا هَشَمَ الثَّرِيدَ لقومِه

ورجالُ مكَّةَ مُسنِتُون عِجَافُ

وأن جعفرًا أبا عبد الله توفي في سنة ثمانٍ وأربعين في إمارة أبي جعفر المنصور.

وأما المنتظَر فقد ذكر طائفة من أهل العلم بأنسابِ أهلِ البيت أن الحسن بن علي العسكري لما توفي بعسكر سامَرَّاء لم يُعقِب ولم ينسل، وقال من أثبته: إن أباه لما توفي سنة ستين ومئتين كان عمره سنتين أو أكثر من ذلك بقليل، وأنه غاب من ذلك الوقت، وأنه من ذلك الوقت حجة الله على أهل الأرض، لا يَتِمُّ الإيمانُ إلا به، وأنه هو المهدي الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يَعلم كل ما يُفتَقر إليه في الدين.

وهذا موضع ينبغي للمسلم أن يَتثبَّتَ فيه ويَستهديَ الله ويستعينَه، فإن الله قد حرَّمَ القولَ بغير علم، وذكر أن ذلك من خُطوات الشيطان،

(1)

هو مطرود بن كعب الخزاعي أو ابن الزبعرى، انظر تاريخ الطبري (2/ 251، 252) و"البداية والنهاية"(3/ 356).

ص: 97

وحَرَّم القولَ المخالفَ للحق، ونصوص التنزيل شاهدة بذلك، ونَهى عن اتباع الهوى.

فأما [خبر] المهديّ الذي بَشَّرَ به النبي صلى الله عليه وسلم فقد رواه أهل العلم العالمون بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، الحافظونَ لها، الباحثون عنها وعن رُواتِها، مثل أبي داود والترمذي وغيرهما. ورواه الإمام أحمد في "مسنده"

(1)

.

فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو لم يَبقَ من الدنيا إلا يومٌ لطَوَّل اللهُ ذلك اليومَ، حتى يَبعثَ الله فيه رجلا من أهل بيتي يُواطِئ اسمُه اسمي، واسمُ أبيه اسمَ أبي، يملأ الأرض قِسطًا وعدلًا، كما مُلِئَتْ ظلمًا وجورًا"

(2)

.

ورُوِي هذا المعنى من حديث أم سلمة وغيرها

(3)

.

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "المهدي من ولد ابني هذا"، وأشار إلى الحسن

(4)

.

(1)

جمع الدكتور عبد العليم البستوي أحاديث المهدي الواردة في كتب السنة مع الكلام عليها ودراسة أسانيدها، ونشرها في كتابين:"المهدي المنتظر في ضوء الأحاديث والآثار الصحيحة" و"الموسوعة في أحاديث المهدي الضعيفة والموضوعة"، وهما أفضل الكتب المؤلفة في هذا الباب.

(2)

أخرجه أبو داود (4282) بإسناد حسن. وانظر الكلام عليه في "المهدي المنتظر في ضوء الأحاديث والآثار الصحيحة"(ص 269 - 278).

(3)

حديث أم سلمة أخرجه أحمد (6/ 316) وأبو داود (4286، 4287)، وإسناده ضعيف. انظر الكلام عليه في "الموسوعة في أحاديث المهدي الضعيفة والموضوعة"(ص 324 - 335).

(4)

أخرجه أبو داود (4290) بلفظ: "

سيخرج من صلبه رجلٌ يُسمَّى باسم نبيكم

". وإسناده ضعيف، انظر "الموسوعة" (ص 347 - 349).

ص: 98

وقال صلى الله عليه وسلم: "يكون في آخر الزمان خليفةٌ يَحثُو المالَ حَثْوًا"

(1)

، وهو حديث صحيح.

فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن اسمه "محمد بن عبد الله" ليس "محمد بن الحسن". ومن قال: إن أبا جدِّه "الحسين"، وإن كنيةَ الحسينِ "أبو عبد الله"، فقد جعل الكنيةَ اسمَه، فما يَخفى على من يَخشى الله أن هذا تحريف الكلم عن مواضعه، وأنه من جنس تأويلات القرامطة.

وقول أمير المؤمنين صريح في أنه حَسَني لا حُسَيني، لأن الحسن والحسين مُشبِهانِ من بعض الوجوه بإسماعيل وإسحاقَ، وإن لم يكونا نبيَّينِ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهما:"أُعِيذُكُما بكلماتِ الله التامَّة، من كلّ شيطانٍ وهامَّةٍ، ومن كلِّ عين لَامَّة"

(2)

، ويقول:"إن إبراهيم كان يُعوِّذ بهما إسماعيلَ وإسحاقَ"

(3)

. وكان إسماعيل هو الأكبر والأحلم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب على المنبر والحسنُ معه على المنبر:"إن ابني هذا سيّد، وسيُصلح الله به بين فئتين عظيمتينِ من المسلمين"

(4)

.

فكما أن غالبَ الأنبياء كانوا من ذرية إسحاق، فهكذا كان غالب السادة الأئمة من ذرية الحسين، وكما أن خاتم الأنبياء الذي طبَّق أمرُه مشارقَ الأرض ومغاربَها كان من ذرية إسماعيل، فكذلك الخليفة الراشد المهدي الذي هو آخر الخلفاء يكون من ذرية الحسن.

(1)

أخرجه مسلم (2913) عن جابر بن عبد الله، و (2914) عن أبي سعيد الخدري.

(2)

أخرجه البخاري (3371) عن ابن عباس.

(3)

ضمن الحديث السابق.

(4)

أخرجه البخاري (2704، 3629، 3746، 7109) عن أبي بكرة.

ص: 99

وأيضًا فإن من كان ابنَ سنتينِ كان في حكم الكتابِ والسنةِ مستحقًا أن يُحجَر عليه في بدنِه، ويُحجَر عليه في مالِه، حتى يَبلُغَ ويُؤنَسَ منه الرُّشدُ، فإنه يتيم، وقد قال الله تعالى:(وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)

(1)

. فمن لم تُفَوِّض الشريعةُ إليه أمرَ نفسه كيف تُفوِّضُ إليه أمرَ الأمة؟ وكيف يجوز أن يكون إمامًا على الأمَة من لا يُرى ولا يُسمَع له خبر؟ مع أنّ الله لا يُكلِّف العبادَ بطاعةِ من لا يَقدرون على الوصولِ إليه، وله أربعمئه وأربعون سنةً ينتظره من ينتظره وهو لم يخرج، إذ لا وجودَ له.

وكيف لم يظهر لخواصِّه وأصحابِه المأمونين عليه كما ظهر آباؤه؟ وما المُوجِب لهذا الاختفاء الشديد دون غيرِه من الآباء؟ وما زال العقلاءُ قديمًا وحديثًا يضحكون ممن يُثبت هذا ويُعلِّق دينَه به، حتى جعلَ الزنادقةُ هذا وأمثالَه طريقًا إلى الَقدحِ في الملَّة وتسفيهِ عقولِ أهلِ الدين إذا كانوا يعتقدون مثلَ هذا.

لهذا قد اطلع أهلُ المعرفة على خلقٍ كثيرٍ منافقينَ زنادقةٍ يتستَّرون بإظهار هذا وأمثالِه، ليستميلوا قلوبَ وعقولَ الضعفاءِ وأهلِ الأهواء، ودَخلَ بسبب ذلك من الفساد ما الله به عليم، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العلي العظيم. والله يُصلح أمرَ هذه الأمة ويهديهم ويُرشِدهم.

وكذلك ما يتعلق بالنذور والمساجد والمشاهد، فإن الله في كتابه وسنة نبيه التي نقلها السابقون والتابعون من أهل بيته وغيرهمِ قد أمرَ بعمارةِ المساجد، وإقامة الصلواتِ فيها بحسب الإمكان، ونهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن من يفعل ذلك. قال الله تعالى:

(1)

سورة النساء: 6.

ص: 100

(إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18))

(1)

.

وقال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ)

(2)

.

وقال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36))

(3)

وقال: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18))

(4)

.

وقال: (وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا)

(5)

.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتا في الجنة"

(6)

.

وقال: "بَشِّرِ المشَّائين في ظُلَمِ الليل إلى المساجد بالنور التامّ يومَ القيامة"

(7)

.

(1)

سورة التوبة: 18.

(2)

سورة البقرة: 114.

(3)

سورة النور: 36 - 37.

(4)

سورة الجن: 18.

(5)

سورة الحج: 40.

(6)

أخرجه البخاري (450) ومسلم (533، وبعد رقم 2983) عن عثمان بن عفان. وفي الباب عن جماعة من الصحابة.

(7)

أخرجه أبو داود (561) والترمذي (223) عن بريدة بن الحصيب، وأخرجه ابن ماجه (781) عن أنس، وأخرجه ابن ماجه (780) عن سهل بن سعد الساعدي.

وهو بمجموعه صحيح.

ص: 101

وقال: "من غدا إلى المسجد أو راحَ، أعدَّ الله له نزلًا كلَّما غدا أو راح"

(1)

.

وقال: "صلاةُ الرجل في المسجد تَفضُل على صلاتِه في بيته وسُوقهِ بخمسٍ وعشرين درجةً"

(2)

.

وقال: "من تَطَهَّر في بيته فأحسنَ الطهورَ، وخرجَ إلى المسجد لا يُنهِزُه إلا الصلاةُ، كانتْ خطوتاه إحداهما تَرفعُ درجةً، والأخرى تَضَعُ خطيئةً"

(3)

.

وقال: "صلاةُ الرجل مع الرجل أزكى من صلاتِه وحدَه، وصلاتُه مع الرجلين أزكى من صلاتِه مع الرجل، وما كان أكثر كان أحبَّ إلى الله"

(4)

.

وقال: "سيكون عليكم أمراءُ يُؤخِّرون الصلاةَ عن وقتها، فصَلُّوا الصلاةَ لوقتها، ثمَّ اجعلوا صلاتكم معهم نافلةً"

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري (662) ومسلم (669) عن أبي هريرة.

(2)

روي هذا الحديث عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وابن عمر وابن مسعود وأبي بن كعب وأنس وغيرهم. وأقرب ما ورد من لفظ المؤلف أخرجه البخاري (477، 647، 2119) ومسلم (649) عن أبي هريرة.

(3)

ضمن حديث أبي هريرة السابق بنحوه. وأخرجه مسلم (666) من طريق آخر عن أبي هريرة بنحوه.

(4)

أخرجه أحمد (5/ 140) وأبو داود (554) وابن خزيمة (1476) والنسائي (2/ 104) عن أبي بن كعب. وإسناده صحيح.

(5)

أخرجه مسلم (648) عن أبي ذر. وفي الباب عن ابن مسعود وعبادة بن الصامت وأبي أُبيّ الأنصاري وعامر بن ربيعة وشداد بن أوس عند أحمد في "مسنده".

ص: 102

وقال: "يصلون لكم، فإن أحسنوا فلكم، وإن أساءوا فلكم وعليهم"

(1)

.

وهذا باب واسعٌ جدًّا.

وقال أيضا: "لعنَ الله اليهودَ، اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ" يُحذِّر ما فعلوا

(2)

. قالوا: ولولا ذلك لأُبْرِزَ قبرُه، ولكن كُرِهَ أن يُتَّخذَ مسجدًا

(3)

، وهذا قاله في مرضه.

وقال قبل موته بخمسٍ: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبورَ مساجدَ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك"

(4)

.

ولما ذكر كنيسة الحبشة قال: "أولئك إذا مات الرجلُ فيهم بَنَوا على قبرِه مسجدًا، وصَوَّروا فيه تلك التصاوير، أولئك شِرارُ الخلق عند الله يوم القيامة"

(5)

.

وكل هذه الأحاديث في الصحاح المشاهير.

وقال أيضًا: "لعنَ الله زوَّاراتِ القبور والمتخذين عليها المساجَد والسُّرُجَ". رواه الترمذي وغيره

(6)

، وقال: حديث حسن.

(1)

أخرجه البخاري (694) عن أبي هريرة.

(2)

أخرجه البخاري (435، 3453، 4443، 5815) ومسلم (531) عن عائشة وابن عباس.

(3)

أخرجه البخاري (1330، 1390، 4441) ومسلم (529) عن عائشة.

(4)

أخرجه مسلم (532) عن جندب بن عبد الله البجلي.

(5)

أخرجه البخاري (427، 434، 1341) ومسلم (528) عن عائشة.

(6)

أخرجه أحمد (1/ 229، 287، 324، 337) وأبو داود (3236) والترمذي (320) والنسائي (4/ 94) وابن ماجه (1575) من طريق أبي صالح عن ابن عباس.=

ص: 103

فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد لعن الذين يتخذون على القبورِ المساجدَ، ويسرجون عليها الضوءَ، فكيف يَستحِلُّ مسلم أن يَجعلَ هذا طاعةً وقربةً؟

وفي صحيح مسلم

(1)

عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: بَعثَنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأمرَني أن لا أدعَ قبرًا مُشْرِفًا إلا سوَّيتُه، ولا تِمثالًا إلا طَمستُه".

وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اللهم لا تجعلْ قبري وثنًا يُعبَد"

(2)

.

وقال: "لا تتخذوا قبري عيدًا، وصَلُّوا عَليَّ حيثُما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني"

(3)

.

فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاجتماع عند قبرِه، وأمرَ بالصلاة عليه في جميع المواضع، فإن الصلاةَ عليه تَصِل إليه من جميع المواضع.

وهذه الأحاديث رواها أهل بيته، مثلُ على بن الحسين عن أبيه عن جدِّه علي، ومثل عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فكانوا هم وجيرانُهم من علماء أهل المدينة يَنهون عن البدع التي عند

=قال الألباني في "الضعيفة"(225): ضعيف بهذا السياق والتمام. أبو صالح باذام ضعيف عند جمهور النقاد، ولعن المتخذين عليها السرج ليس في الأحاديث ما يشهد له، فهذا القدر من الحديث ضعيف، وباقي الحديث ورد من طرق أخرى فهو صحيح لغيره.

(1)

برقم (969).

(2)

أخرجه أحمد (2/ 246) والحميدي في "مسنده"(1025) عن أبي هريرة بسند صحيح.

(3)

أخرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي في لأفضل الصلاة على النبي" (20) وغيره عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده. انظر "تحذير الساجد" (ص 140).

ص: 104