الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرابع: أنه لا معادَ أصلًا، لا لروع ولا لبدنٍ، وهو قولُ أكثر مشركي العرب، وكثيرٍ من الطبائعيين والمنجِّمين وبعض الإلهيين من الفلاسفة.
فعلى هذين القولين يُنكَر حَشْرُ البهائم، وعلى القول الأول يقبل الخلاف.
المسألة الثالثة
أن من لا تكليفَ عليه -بل قد رُفِع عنه القلم- هل يُعذب في الآخرة؟
وهنا
مسألة أطفال المشركين
، فمن قال من أصحابنا وغيرِهم: إنهم يُعذَّبون تبعًا لآبائهم، قال بعذاب غيرِ المكلَّف تبعًا؟ ومن قال: يدخلون الجنة من أصحابنا وغيرهم، قَال بتنعيمهم.
والصواب الذي دل عليه الكتاب والسنة أنهم لا يُعذَّبون جميعُهم ولا يُنعَّمُون جميعُهم، بل فريق منهم في الجنة وفريقٌ في السعير كالبُلَّغ. وهذا مقتضى نصوص أحمد، فإن أكثر نصوصِه على الوقف فيهم، بمعنى أنه لا يُحكَم لأحدٍ منهم لا بجنة ولا بنارٍ، فدلَّ على جواز الأمرين عنده في حقّ المعيَّن منهم. وأما تجويز الأمرين في حقّ مجموعهم فلا يلزمه، وهذا قول الأشعري وغيره.
وبهذا أجاب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لما سُئِل عنهم فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين"
(1)
، فبيَّن أن الأمرَ مردودٌ إلى علمِ الله بما كانوا يعملون لو بلغوا.
(1)
متفق عليه من حديث أبي هريرة وابن عباس، انظر: البخاري (6597، 6598) ومسلم (2659، 2660).
وقد ثبتَ عنه صلى الله عليه وسلم في البخاري
(1)
أنه رأى حول إبراهيم عند الجنّةِ أطفال المسلمين والمشركين. وثبت عنه في صحيح مسلم
(2)
أن الغلام الذي قتله الخضر طُبعَ يومَ طُبعَ كافرًا، مع أنه قُتِلَ قبل الاحتلام. قال ابن عباس لنَجْدَةَ الحَروري لما سأله عن قتل الغلمان، فقال: إن كنتَ تَعلَم منهم ما علمه الخضر من الغلام الذي قتلَه فاقتُلْهم، وإلاّ فلا تقتلهم. هذا مع أن أبويه كانا مؤمنين. وفي الصحيحين
(3)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سُئِل عن أهل الدار من المشركين يُبَيَّتون لِيُصاب من صبيانهم، فقال:"هم منهم".
ويجوز قتل الصبي إذا قاتلَ، وإذا صالَ ولم تندفعْ صولتُه إلاّ بالقتل، وكذلك المجنون والبهيمة. فقد يجوز قتلُ الصبي في بعض المواضع. وحديث عائشة في قولها: عصفورٌ من عصافير الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أو غيرَ ذلك يا عائشة؟! فإن الله خَلَق للجنة أهلًا، خَلَقَها لهم وهم في أصلابِ آبائهم، وخَلَقَ للنار أهلًا، خَلَقَها لهم وهم في أصلاب آبائهم"
(4)
.
ولهذا قال أصحابنا: لا يُشهَد لأحدٍ بعينِه من أطفالِ المؤمنين أنه في الجنة، ولكن يُطلَق القولُ: إن أطفال المؤمنين في الجنة.
وقد رُوِي بأحاديثَ حسانٍ
(5)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من لم يُكلّف في
(1)
برقم (7047) عن سمرة بن جندب.
(2)
برقم (2661) عن أبي بن كعب.
(3)
البخاري (3012) ومسلم (1745) عن الصعب بن جثامة.
(4)
أخرجه مسلم (2662).
(5)
أخرجه البزار من حديث أنس وأبي سعيد، وأخرجه الطبراني من حديث معاذ بن جبل، انظر "فتح الباري"(3/ 246).
الدنيا من الصبيان والمجانين، ومن مات في الفترة- يُمتَحنون يومَ القيامة، فمن أطاعَ دخلَ الجنة، ومن عَصَى دخلَ النار. وهذا التفصيل هو الصواب، فإن الله قال في القرآن (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85))
(1)
، فأقسم سبحانَه أنه لابدّ أن يملأ جهنم من إبليسَ وأتباعِه، وأتباعُه هم العصاةُ، ولا معصيةَ إلا بعد التكليف، فلو دخلَها الصبي والمجنون لدخَلَها مَن هو من غير أتباعِه، فلم تَمتلئْ منهم.
وأيضًا فقد قال سبحانه: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (65))
(2)
، وقال سبحانه:(لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)
(3)
، وقال سبحانه:(كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ) الآية
(4)
، إلى غير ذلك من النصوص الدالة على أن الله لا يُعذب إلا من جاءه نذير وأتاه رسولٌ، والطفلُ والمجنون ليسا كذلك كالبهائم.
وقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) إلى قوله (إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)
(5)
.
فأخبر سبحانه أنه استخرج ذرياتهم، وأشهدَهم على أنفسِهم، لئلاّ يقولوا: أتُهلِكنا بما فعل المبطلون، فعُلِم أنه لا يُعاقِبُهم بذنبِ غيرِهم.
وأما البهائم فعامةُ المسلمين على أنه لا عقابَ عليها، إلا ما يُحكَى عن التناسخية بأنهم مكلَّفون، فيستحقون العقابَ، وهذا نظيرُ قولِ من يقول: لا تُحشَر. لكن هنا:
(1)
سورة ص: 85.
(2)
سورة الإسراء: 15.
(3)
سورة النساء: 158.
(4)
سورة الملك: 8 - 9.
(5)
سورة الأعراف: 172 - 173.
المسألة الرابعة
وهو ما يُشرَع في الدنيا من عقوبة الصبيان والمجانين والبهائم على الذنوب، مثل ضرب الصبي على ترك الصلاة لعشرٍ، وما يفعلُه من قبيح؛ وكذلك ضرب المجنونِ لكَفِّ عدوانِه؛ وضرب البهائم حضا على الانتفاع بها كالسَّوْق، ودفعًا لمضرَّتها كقتلِ صائلِها، وما جاء في الحديث
(1)
أنه يُقتَصُّ في الآخرة للجمَّاءِ من القَرناءِ. فهذه الأمورُ عقوبات لغير المكلفين، وهي نوعان: أحدهما ما كان عقوبةً في الدنيا لمصلحة، والثاني ما كان لأجل حق غيرِه.
فأما النوع الأول فمشروعٌ في حق الصبي والمجنون، فإنه يُضرَب الصبي على ترك الصلاة ليفعلها ويَعتادَها، ويُضرَب المجنونُ إذا أَخَذَ يُؤذِيْ نفسَه، ليَكُفَّ عن إيذاءِ نفسِه. ويجوز أيضًا مثلُ هذا في حق البهائم: أن تُضرَب لمصلحتها، وهذا غير الضرب لحقّ الغير، وذلك أن العقوبة لمنفعة المعاقب هي بمنزلة سَقْي الدواءِ للمريض، فإن المطلوبَ دفعُ ما هو أعظمُ مَضَرَّةً من الدواء.
النوع الثاني: العقوبة لأجل حق الغير، وهذا قسمان:
قسم لاستيفاءِ المنفعةِ المباحةِ منه، كذَبْحِ البهائم للأكل وضَربِها للمشي، فإن مالا يَتمُّ المباحُ إلا به فهو مباحٌ.
والقسم الثاني: العقوبة لأجل العدوان على الغير، مثل قَتْل الصائل من المحاربين والبهائم، وضرب المجانين والصبيان والبهائم إذا اعتدى بعضهم على بعض، أو اعتدوا على العقلاء في أنفسهم وأموالِهم.
(1)
أخرجه أحمد (2/ 363) من حديث أبي هريرة.
فهذا النوع إن كان لدفع ضررهم جاز بلا خلاف، مثل قتل الصائل لدفع صوله، وقَتْل الكلب العَقُور الذي يُخَافُ من ضَررِه في المستقبل، وقَتْل الفواسقِ الخمس في الحِل والحرم.
وأما إن كان على وجه الاقتصاص، مثل أن يَظلم صبيٌّ صبيًّا، أو مجنون مجنونًا، أو بهيمةٌ بهيمة، فيُقتَصّ للمظلوم من الظالم. وإن لم يكن في ذلك زجرٌ عن المستقبل، لكن لاستيفاءِ المظلوم وأخذِ حقَّه، فهذا الذي جاء فيه حديثُ الاقتصاص للجمّاء من القرناء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لَتُؤَدَّى الحقوقُ إلى أهلها حتى يُستَوفَى للجَمَّاءِ من القَرْنَاءِ"
(1)
.
وهذا موافق لأصول الشريعة، فإن القصاصَ بين غير المكلفين ثابتٌ في الأموال باتفاق المسلمين، فمن أتلفَ منهم مالًا أو غَصَبَ مالًا أُخِذَ من مالِه مثلُه، سواءٌ في ذلك الصبي والمجنون، والناسي والمخطئ. وكذلك في النفوس، فإن الله تعالى أوجبَ دية الخطأ، وهي من أنواع القصاص بحسب الإمكان، فإن القَوَدَ لم يُمكِن إيجابُه، لأنه لا يكون إلا ممن فَعَلَ المحرَّم، وهؤلاء ليسوا مكلفين، ولا يُخاطَبون بالتحريم، بخلاف ما كان من باب دفع الظلم وأخذِ الحقّ، فإنه لا يُشتَرط فيه الإثمُ. ولهذا تُقَاتَلُ البُغَاةُ وإن كانوا متأوّلين مغفورًا لهم، ويُجلَد شاربُ النبيذ وإن كان متأوِّلًا مغفورًا له.
فتبيَّنَ بذلك أن الظلْم والعدوان يُؤدِّى فيه حقُّ المظلومِ، مع الإثم والتكليف ومع عدمِ ذلك، فإنه من باب العدل الذي كتبه الله تعالى على نفسِه، وحَرَّمَ الظلمَ على نفسِه وجَعَلَه محرَّمًا بين عباده.
(1)
سبق تخريجه.