الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسألة
سُئِل عنها سيِّدُنا وشيخنا وإمامُنا الشيخ الإمام العالم العامل الناسك البارع المجتهد السالك المحقّق المدقّق مُفتِي الفِرق ناصرُ السنن قامعُ البدع فريدُ عصرِه وواسطةُ عِقْدِ دِهرِه، شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس
(1)
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحرَّاني -متَعَنا الله بعلومه الفاخرة، وأسبغَ عليه نِعَمَه باطنةً وظاهرة، وأثابَه في الدنيا والآخرة- بالديار المصرية، فيمن قال: إن نسبة البارئ تعالى إلى العُلُوَّ من جميع الجهات المخلوقة، وأنه يُدعَى من أعلَى لا من أسفلَ، وأنه بائنٌ من خلقِه، لا يُتصوَّر ذلك في الذهن إلا إذا فرضنا أن ذاتَ الحقِّ فلكيَّةٌ محيطةٌ بالفلك؟ إذ الفلك مستديرٌ محيطٌ بالخلق. فهذا التصوُّر حقٌّ أم لا؟ وإذا لم يكن حق
(2)
فما الدليلُ الخاصم بحجته بما يقبله العقل الصحيح؟ أفتونا مأجورين رضي الله عنكم أجمعين.
أجاب رضي الله عنه
الحمد لله. بل
هذا التصور باطلٌ
، وأما بيانُ بطلانِه فله طرقٌ كثيرة، وذلك أنَّ هذا القائل يقول: لو كان البارئ سبحانَه فوقَ المخلوقات وهو بائن من مخلوقاتِه، لَوجبَ أن يكونَ فلكًا محيطًا بالأفلاك، لأنَّ الفلك التاسع مستديرٌ، وهو محيطٌ بسائرِ الأفلاكِ وما في جَوفِها، والمحدّد للجهات هو سَطْحُ الفلك التاسع، فلو قدَّرنا
(1)
في الأصل: "أبي العباس".
(2)
كذا في الأصل بالرفع.
شيئًا فوقَه لَلَزِم أن يكون فلكًا تاسعًا، وهو مبني على أن الأفلاك مستديرةٌ، وهذا ثابت بالسمع والعقل. وربما قال بعضهم: إنّ الأفلاك هي تحت الأرض، فلو كان فوق العالم للزم أن يكون تحت هذه الأرض
…
(1)
تحت بعض الناس.
فهذا حقيقةُ كلامِه، وأما بيانُ بطلانِه فمن وجوهٍ:
أحدها أن يقال: لا يخلو إمّا أن يكون الخالقُ تعالى مباينًا للمخلوقات، وإما أن يكون محايثًا لها، وإما أن لا يكون لا مباينًا ولا محايثًا لها" وإن شئتَ قلتَ: إمَّا أن يكون داخلَ العالمِ، وإما أن يكون خارجَه، وإما أن لا يكون لا داخلَ العالم ولا خارجَه؛ وإن شئت قلت: هو سبحانه لما خلقَ العالم إما أن يكون دخلَ فيه أو أدخلَه في نفسِه
(2)
، أو لا دَخَل
(3)
فيه ولا أدخله في نفسه.
فإن قال: إنه داخلَ العالم مُحايثٌ له أي هو بحيث العالم، والعالم أجسامٌ قام بها أعراض هي اَلصفات، فالذي هو داخلٌ فيه محايثٌ له: إمَّا عَرَضٌ قائمٌ بأجسامه وإما بعضُ أجسامِه، وعلى القول بكون سطح الفلك محيطًا به فالقول بكون الفلك محيطًا به أبعد عن العقل والدين من كونه محيطًا بالفلك.
فإن قال: يُمكِن في العقل أن يكون داخلَ العالم ولا يكون جسمًا من أجسام العالم ولا عرضًا قائمًا به.
قيل له: فإن كان هذا جائزًا في العقل فكونُه خارجًا عن العالم
(1)
هنا في الأصل كلمتان مطموستان.
(2)
في الأصل: "نفسًا"، وأثبتنا ما يقتضيه السياق.
(3)
في الأصل: "ولا داخل".
مباينًا له وكونُه عينَ الفلكِ أقربُ في العقل من كونِه فيه والعالمُ لا يحيط به. وهذا بيِّنٌ واضح.
فإن أثبت أنه في العالم ولا يحيط به العالم كان القول بأنه خارجَ العالم وليس بفلكٍ أولى في العقل.
وإن قال: إنه فيه، والعالم يُحيط به، وذلك ممكن، كان القول بأنه هو المحيط بالعالم أولى في العقل أن يكون ممكنًا
(1)
.
فتبيَّن أنه على التقديرين أيُّ محذورٍ لَزِمَه في كونِه خارجَ العالم مباينًا له كان المحذور في كونه داخلَه محايثًا له أعظم وأقوى، فلا يجوز إثبات الأبعد عن العقل والدين بنفي الأقرب إلى العقل والدين. وأما إن قال: إنه لا داخلَ العالم ولا خارجَه، ولا مباين له ولا محايث له.
قيل له: فهل يُعقَل موجودانِ قائمانِ بأنفسهما لا يكون أحدُهما داخلَ الآخر ولا خارجَه؟ وهل يُعقَل إثباتُ خالقٍ للعالم ليس في العالم ولا مباينًا للعالم؟ وهل يُعقَل أن يكون خلقَ العالم لا في نفسِه ولا خارجًا
(2)
عن نفسِه؟
فإن قال: هذا معقولٌ ممكنٌ متصوَّرٌ.
قيل: فتصوُّرُ موجودٍ قائمٍ في هذا الباب يُستَعمل لثلاث معانٍ:
أحدها: أن يُراد بالمباينة المخالفة التي هي ضدُّ المماثلة، وهي بهذا الاعتبار متفقٌ عليها بين الناس، إذ لا نزاعَ بينهم أن الخالق سبحانَه
(1)
في الأصل: "متمكنا".
(2)
في الأصل: "خارج".
مباينٌ لمخلوقاتِه بهذا المعنى، لكن هذه المباينة تَثبُت لصفاتِ الموصوف القائمةِ بمحل واحدٍ، وهي الأعراض القائمة بالجسم، كالطعم واللون والرِّيْح والحركة والسكون القائمة بالساحة مثلًا، فإن هذه الصفات تُبايِنُ بعضُها بعضًا بهذا المعنى، فإن كلَّ واحدةٍ من هذه الصفات التي تُسَمَّى أعراضًا ليست مثلَ الآخر.
والمعنى الثاني في المباينة: حدّ المحايثة، وهو أن يكون أحدُ الشيئين ليس هو محايثًا له، سواء كان ملاصقًا له مباينًا أو لم يكن كذلك، فكل شيءٍ قائمٍ بنفسِه مباينٍ لكل شيء قائم بنفسه بهذا الاعتبار، سواء مَاسَّه أو لم يُماسَّه. وهذه المباينة المذكورة في السؤال، وهي التي أرادها السلف والأئمة كعبد الله بن المبارك وغيره، حيث قالوا: نَعرِف ربَّنا بأنه فوق سماواته على عرشِه بائن من خلقِه.
وكان المتكلمة الصفاتية الذين سَلكَ مسلكَهم الأشعريُّ -كعبد الله بن سعيد بن كُلَاّب والحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي وغيرهم- يُثبِتون هذه المباينةَ، لاعتقادِهم أنَّ الله فوقَ خلقِه وأنه مستوٍ على عرشِه، وإنكارهم على الجهمية الذين لا يُفرِّقون بين العرش وغيرِه. وكذلك ذكر الأشعري ذلك عن أهل السنة والحديث، وذكر أنه هو قولُه
(1)
، ورَدَّ على الجهمية في
(2)
كُتبه المعروفة "كالموجز" و"الإبانة" و"المقالات" وغير ذلك من كتبه.
والمعنى الثالث من معاني المباينة: ما يُضادُّ المماسَّة والملاصقة، وهذه المباينة المعروفة عند الناس، وهي أخصُّ معانيها. وليس
(1)
انظر "مقالات الإسلاميين"(ص 290، 297).
(2)
في الأصل: "من".
المقصود هنا ذِكرُ هذه لا نفيًا ولا إثباتًا، فإن القائم بنفسِه لا يجب أن يكون مباينًا لكل قائم بنفسه بهذا الاعتبار، وكل مباينةٍ يجب للمخلوق مع المخلوق فالخالقُ أحقُ بها سبحانه وتعالى.
فلمَّا وجب أن يكون المخلوق مباينًا للمخلوق بالمعنى الأول والثاني كان الخالق أحق بذلك وزيادة، لامتناع مماثلتِه للمخلوق ومحايثتِه له، فإن المماثلة والمحايثةَ ممتنعانِ عليه لامتناع مساواته لخلقِه أو احتياجِه إليهم، والمماثلة والمحايثةُ تُوجِب ذلك.
والله سبحانَه له المثلُ الأعلى، كما قال تعالى:(لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى)
(1)
، فكلُّ ما يُفْهَم للمخلوق من صفات كمالٍ فالخالقُ أحقُّ بها وأكمل في اقتضائه، كالعلم والقدرة والحياة والكلام ونحو ذلك. وكلُّ ما نُزِّه عنه شيء من المخلوقات من صفات النقص فالخالقُ أحق بأن يُنزَّه عن ذلك. فإذا كان أهل الجنة لا ينامون ولا يموتون، فالحيُّ القيوم أحقُّ بأن لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم. وهو الغنى المطلق عمّا سِواه، فكل ما سواه يَفتقِر إليه، وهو غنيٌّ عن كل ما سواه.
وهو سبحانه مع أنه مستوٍ على عرشِه عالٍ على خلقِه فهو الذي يُمسِك السماوات والأرض أن تزولا، وَسِعَ كرسيُّه السماوات والأرض، ولا يَؤُودُه حفظُهما. فالعرش وحَمَلَتُه هو الذي يُمسِكهم بقوتِه ومشيئتِه، بل قد جاء في الأثر
(2)
أن الله لما خَلَقَ العرش وأَمَر الملائكةَ بحملِه
(1)
سورة النحل: 60.
(2)
يُروى عن وهب بن منبه بإسناد ضعيف، أخرجه أبو الشيخ في "العظمة"(3/ 956، 958) مطوَّلًا.
قالوا: ربَّنا! من يُطِيْق حملَ عَرْشِك وعليك عظمتك؟ فقال: قولوا: لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، فبذلك أطاقوا حملَ العرش.
والله سبحانه قد جَعَلَ الأعلى من المخلوقاتِ مستغنيًا عن الأسفل، فالسماوات فوق الأرض وليست محتاجةً إلى الأرض ولا مفتقرة إلى أن تحملها، فالخالق العليُّ الأعلى كيف يَفتقر إلى العرشِ أو حَمَلَتِه فوقَ العرشِ أو إلى غيرِه من المخلوقاتِ؟ فلو كان مُحايثًا لخلقِه لكان وجودُه مشروطًا بوجود ذلك المحايث، بل كانت ذاتُه مفتقرةً إلى محايثٍ، سواء كان محايَثته من جنس محايثةِ العَرَض للعرض أو جنس محايثة العرض للجسم، أو من جنس ما يدَّعيه من يقول بمحايثة الصورة الجوهرية للمادة الجوهرية. وهذا هو المعقول من المحايثات، ولهذا كان القائلون بحلوله في المخلوقات أو اتحادِه بها من الجهمية تَعُود مقالتُهم إلى مثل هذا، فآخِرَ أمرِهم يجعلونه مع المخلوقات كالمادة مع الصورة، أو كالعرض مع الجسم، حتى قالوا: وجودُه وجودُ المخلوقات، إذ قالوا: إن الماهيات ثابتة بدونه، كما يقوله ابن عَرَبي صاحب "الفصوص" الموافق للمعتزلة في قولهم: إن المعدوم شيء، فإما أن يجعلوا الوجود صفةً للإنسان أو قائمًا بنفسِه مع الأعيان. وكلام ابن سبعين يَرجع إلى هذا، فإنه كان متفلسفًا، فيجعله مع المخلوق بمنزلة المادة والصورة.
ومن جَعَلَه الوجودَ المطلقَ، والأعيان لها التعين، فإن جعل للأعيان ماهيات ثابتة في الخارج -كما يقوله من يقوله من المتفلسفة- فقد جَعَلُوه مشروطًا بتلك الماهيات، وهو معها إمَّا كالجوهر مع الجوهر أو كالجوهر مع العرض.
وإن لم يجعل للأعيان ماهيات ثابتة، فالمطلق لا يكون في
الخارج إلا عينَ المشخَّص، فافتقارُه إلى الأعيان المخلوقة أعظم وأعظم، بل على هذا التقدير ليس مغايرًا لها البتَّةَ. وقول التلمساني -وهو أَحْذَقهم في مقالتهم التي هي وحدة الوجود- يرجع إلى هذا.
وعلى كلّ وجهٍ يُفْرَض من وجوه المحايثات فإنه يكون مشروطًا بوجود المخلوقات، لا يتحقق ذاتُه بدون المخلوقات، وما كان كذلك لم يكن خالقًا للمخلوقات، بل ولا يجوز أن يكون علَّةً لها، فضلًا عن أن يكون خالقًا لها؛ لأن العلَّة متقدمة بالذات على المعلول، والمشروط بالشيء لا يكون متقدمًا عليه، إذْ وجودُ المشروط المستلزم لشرطِه قبل شرطه الملازم للإيجاب، فيمتنع أن يكون علَّة. بل ولا يكون واجبَ الوجود بنفسِه، لأن نفسه لا تستغني في وجودِها، بل لابُدَّ لتحقُّقها من ذلك الشرط اللازم لها المقرون بها، فيكون وجودُها مفتقرًا إلى وجود ذلك الشرط. ولأن محايثةَ القائم بنفسه محالٌ، وما يذكره المتفلسفة من محايثةِ الصورة للمادة هو بناءً منهم على أن تصوُّرَ الأجسامِ موادَّ هي جواهرُ قائمةٌ بنفسها. وهذا باطلٌ لا حقيقةَ له.
وكذلك من قال: إن الجواهر الموجودة ماهيّاتٌ قائمةٌ بأنفسها غيرُ الموجود المعروف، فقوله باطل بما يذكرونه من الماهياتِ الثابتةِ المغايرةِ للوجودِ المحسوسِ، ومن الموادِّ القائمةِ بنفسها المغايرةِ للجسمِ المحسوس، فهو حادث في الأذهان، لا حقيقةَ لها في الأعيان، سواءً قالوا باستغناء الموادِّ عن الصُّوَر واستغناء الماهيات عن وجودِها -كما يُذكَر عن أفلاطُن وشيعتِه-، أو قالوا بافتقار المادة إلى الصورة، والماهيات إلى الوجود -كما يقوله أرسطو وشيعته-. وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع.
فلم يبقَ إذًا محايثةُ العرض للجسم ومحايثة الصفة للموصوف،
وهذا ممتنعٌ لوجهين:
أحدهما: أن الموجودات القائمة بأنفسها لا تُحايثُها الأعراض، والعرض مفتقرٌ إليها محتاجٌ إليها، والعرض يمتنعَ أن يكون هذا الفاعل المبدع العلَّة لمحالِّه أو غيرِ محالِّه، وهذا معلوم ببديهة العقل وضرورته، وأدلَّتُه كثيرة، فإن الأعراض ذواتُها مفتقر [ةٌ] إلى ذواتِ محالِّها، فلا تكون واجبة الوجود ودون محالِّها، والواجب مستغنٍ عمن دونه، فلو لم تكن واجبة الوجود امتنع أن تكون مُبدِعةً لها فاعلةً لها أو محالها.
الوجه الثاني: أن كلاًّ من المتحايثَين يمتنع وجودُه دون محايث، فإن العرض لا يوجد دون الجسم، والجسم أيضًا يمتنع خُلوُّه عن جميع الأعراض، فانه لابُدَّ له من شكلٍ، والأبدانُ تكون متحركًا أو ساكنًا. ومن ظنَّ جواز خُلوِّ الأجسام عن الأعراض
(1)
، وإذا كان كذلك فكلُّ محايثٍ لمخلوقٍ يمتنع وجودُه بدون وجود المخلوق، ويكون مشروطًا بوجود المخلوق، ومفتقرًا في وجودِه إلى وجود المخلوق، فيمتنع حينئذٍ أن يكون هذا المبدع الفاعل له، لوجوب تقدم المبدع مع امتناع تقدم المحايث، فيجب أن يكونا
(2)
مفعولين لفاعلٍ ثالث، فيكون الخالق مخلوقًا والواجبُ ممكنًا، أو يكون كلٌّ منهما واجبَ الوجود بنفسه، فيمتنع جعلُ أحدِهما خالقًا والآخر مخلوقًا، فلا يكون من العالم شيء مخلوق ولا مُحدَث ولا ممكنٌ، وهذا خلاف الحسّ، فإنّا نشهد الحدوث والعَدَم يَعتقبانِ على ما شاء الله من
(1)
كذا في الأصل دون ذكر جواب "مَن".
(2)
في الأصل: "يكون".
العالم، وما وُجد بعدَ عدَمِه وعُدِم بعد وجودِه يمتنع أن يكون واجئا بغيره مطلقًا، فضَلًا عن أن يكون واجبًا بنفسه.
ومن تدبَّر هذه المعاني وما يُشبِهها تَبيَّن له أن كل من جعلَه مُحايِثًا للمخلوقات امتنع أن يكون عنده خالفا لها أو مُبدِعًا أو عِلَّةً أو يكون غنيًّا عنها، بل يجب على قوله أن يكون مفتقرًا إليها كافتقارِها إليها، كما يُصرِّح بذلك صاحب "الفصوص" وأمثالُه من القائلين بوحدة الوجود. ومن المعلوم أن ذلك ينافي وجوبَه بنفسه وإمكان غيره، وقد عُلِم بالضرورة أن الوجود فيه من موجود واجب مستغنٍ بنفسه، ومن موجودٍ مفتقرٍ إلى غيرِه، بل فيه موجودٌ حادثٌ بعد أن لم يكن، والحادثُ لا يُحدِث نفسَه ولا يَحدُثُ بلا مُحدِثٍ، بل لابدَّ للحادث من مُحدِثٍ، فهذا هذا.
الطريق الثاني في الجواب عن السؤال المذكور أن يقال: المخلوق [يجوز] أن يكون فوق المخلوق ولا يكون فلكًا محيطًا به، والأفلاك يجوز أن يكون فوقَها شيءٌ آخر غير الأفلاك ولا يكون فلكًا محيطًا بها، مع كونه أكبرَ منها تارةً وأصغرَ منها أخرى، فكيف يَجبُ في الخالق إذا كان فوقَها أن يكون فلكًا مستديرًا؟
وذلك أن الشمس والقمر والكواكب التي هي في الفلك الرابع أو الثامن أو نحو ذلك هي فوقَ ما تحتها من الأفلاك، فالشمس التي هي في الفلك الرابع تحقيقًا أو تقديرًا لا ريبَ أنها فوقَ بقية الأفلاك، وهي فوق الأرض، ولا تزال فوقَ الأرض، وهي قدرَ الأرض أكثر من مئة وستين مرَّةً، ومع هذا فليست فلكًا محيطًا بالأرض. والقمرُ فوقَ الأرض، ويقال: إن الأرض بقدره أربعين مرة، ومع هذا فليس هو فَلكًا مستديرًا. والكواكب الثابتة منها ما يقال: إنه أكثر من مئة مرة،
ومنها ما هو دون ذلك. والكواكب الموجودة ستة أقدارٍ، يُقال: إنّ أصغرَها بقدر الأرض ثماني عشرَ [ةَ] مرة.
وهذا الكلام على نمط من تكلَّم باستدارةِ الأفلاك، فإنّ ذلك لما كان من علم الحساب كان هذا من توابعِه، فلهذا ذكرناه، وإن كان استدارة الأفلاك قد يُعلَم بالسمع وهذا لا يُعلَم بالسمع فلا ريبَ أنه ممكن، وليس في السمع ما يدفعُه، ولنا عنه غُنْيَةٌ، فنقول: كلُّ كوكبٍ مَرْئيّ في السماء هو فوق الأرض مطلقًا، مع العلم أنه ليس فلكًا محيطًا بها، سواءٌ لا قدَّرنا أنه أكبر من الأرض أو أصغر منها، وهذا لأن العالي على الشيء الذي هو فوقَه لا يجب أن يكون مُسَامِتًا لجميع أجزائه، بحيث لا يزيد عليه ولا ينقص عنه، بل هو فوقَه. وعليه سواء كانَ أكبر منه كالسماء على الأرض
…
(1)
.
***
(1)
ما بعده في الأصل غير متصل بما قبله، بل هو من رسالة أخرى. ولم نجد بقية الكلام في موضع آخر من المجموع، ولم نعثر على نسخة أخرى من هذه الفتوى.
مسألة في العلوّ
سئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني رضي الله عنه وأرضاه-: ما تقول في رجلين اختلفا في الاعتقاد، فقال أحدهما: من لا يعتقد أن الله في السماء فهو ضالٌّ، وقال الآخر: إنّ الله سبحانه لا ينحصر في مكان، وهما شافعيان. فبيِّنوا لنا ما نتبعه من عقيدة الشافعي رضي الله عنه، وما الصواب فيه؟
فأجاب
الحمد لله. اعتقاد الشافعي رضي الله عنه هو اعتقاد سلف أئمة الإسلام، كمالك والثوري والأوزاعي وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وهو اعتقاد المشايخ المقتدَى بهم، كالفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني وسهل بن عبد الله التستري وغيرهم. فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة وأمثالهم نزاع في أصول الدين. وكذلك أبو حنيفة رضي الله عنه، فإن الاعتقاد الثابت عنه في التوحيد والقدر ونحو ذلك موافق لاعتقاد هؤلاء، واعتقادُ هؤلاء هو ما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وهو ما نطق به الكتاب والسنة.
قال الشافعي في أول خطبة "الرسالة"
(1)
: "الحمد لله الذي هو كما وصفَ به نفسَه، وفوقَ ما يَصِفُه به خلقُه". فبيَّن رحمه الله أن الله موصوف بما وصفَ به نفسَه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قال أحمد بن حنبل: لا يُوصَف الله إلا بما وصفَ به نفسَه أو وصفَه به رسولُه، لاْ يتجاوَز القرآن والحديث.
(1)
ص 8.
وهكذا مذهب سائرهم أنهم يصفون الله بما وصف به نفسَه وبما وصفَه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يُثبتون له ما أثبتَه لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات العُلَي، ويعلمون أنه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإنه كما أن ذاتَه ليست كالذوات المخلوقة فصفاتُه ليست كالصفات المخلوقة. بل هو سبحانه موصوفٌ بصفات الكمال منزَّهٌ عن كلّ نقصٍ وعيب.
وهو سبحانه في صفات الكمال لا يُماثِله شيء، فهو حيٌّ قيُّومٌ سميعٌ بصير عليم قدير رؤوف رحيم، وهو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش، وهو الذي كلَّم موسى تكليما، وتجلَّى للجبل فجعلَه دَكًّا. ولا يماثله شيء من الأشياء في شيء من صفاته، فليس كعلمِه علمُ أحد، ولا كقدرته قدرة أحد، ولا كرحمته رحمةُ أحد، ولا كاستوائه استواء أحد، ولا كسمعه وبصره سمعُ أحدٍ ولا بصرُه، ولا كتكليمه تكليمُ أحد، ولا كتجلّيه تجلِّي أحدٍ.
والله سبحانه وتعالى قد أخبرنا أن في الجنة لحمًا ولبنًا وعسلًا وماءً وحريرًا وذهبًا، وقد قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء
(1)
. فإذا كانت المخلوقات الغائبة ليست مثل هذه المخلوقات المشاهَدة مع اتفاقهما في الأسماء، فالخالق أعظمُ علوًّا ومباينةً لخلقه من مباينة المخلوق للمخلوق وإن اتفقت الأسماء.
وقد سمَّى نفسَه حيّا عليمًا سميعًا بصيرًا ملكًا رءوفًا رحيمًا،
(1)
أخرجه هنّاد بن السري في "الزهد"(3، 8) وغيره، انظر "الدر المنثور"(1/ 96).
وسمَّى أيضًا بعض مخلوقاتِه حيًّا، وبعضَها عليمًا، وبعضها سميعًا بصيرًا، وبعضَها رءوفًا رحيمًا، وليس الحي كالحيّ، ولا العليم كالعليم، ولا السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير، ولا الرءوف كالرءوف، ولا الرحيم كالرحيم. قال الله تعالى (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)
(1)
، وقال الله تعالى:(وَهُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ (2))
(2)
، وقال:(وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28))
(3)
، وقال:(إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58))
(4)
، وقال:(إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2))
(5)
، وقال:(إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ (143))
(6)
، وقال:(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (128))
(7)
.
وهو سبحانه وتعالى قد قال في كتابه: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي لسَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17))
(8)
. وثبت في الصحيح
(9)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للجارية: "أين الله؟ "، قالت: في السماء، قال:"من أنا؟ "، قالت: أنت رسول الله. قال: "أَعتِقْها فإنها مؤمنة". وهذا الحديث
(1)
سورة البقرة: 255.
(2)
سورة التحريم: 2.
(3)
سورة الذاريات: 28.
(4)
سورة النساء:58.
(5)
سورة الإنسان: 2.
(6)
سورة البقرة: 143.
(7)
التوبة: 128.
(8)
الملك: 16 - 17.
(9)
مسلم (537) عن معاوية بن الحكم السلمي.
رواه مالك
(1)
والشافعي
(2)
وأحمد بن حنبل
(3)
ومسلم في صحيحه وغيرهم.
لكن ليس معنى ذلك أن الله في جوف السماء، وأن السماوات تَحصُره وتَحوِيه، فإن هذا لم يَقُلْه أحدٌ من سلف الأمة وأئمتها، بل هم متفقون على أن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاتِه شيء من مخلوقاته.
وقد قال مالك بن أنس: إن الله في السماء، وعِلمُه في كلّ مكان
(4)
. وقالوا لعبد الله بن المبارك: بماذا نعرف ربَّنا؟ قال: بأنه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه. وقال أحمد بن حنبل كما قال هذا وهذا
(5)
.
وقال الشافعي: خلافة أبي بكر حقّ قضاها الله في سمائه، فأجمعَ عليها قلوب أوليائه. وقال الأوزاعي
(6)
: كنّا والتابعون متوافرون نُقِرُّ بأن الله فوقَ عرشِه، ونُؤمن بما وردت به السنة من صفاته.
فمن اعتقد أن الله في جوف السماء محصور مُحاط به، أو أنه مفتقر إلى العرش أو غيرِ العرش من المخلوقات، أو أن استواءه على عرشه كاستواء المخلوق على كرسيه= فهو ضال مبتدع جاهل.
(1)
في "الموطأ"(2/ 777).
(2)
في "الأم"(5/ 280) و"الرسالة"(فقرة 242).
(3)
في "المسند"(5/ 447، 448).
(4)
أخرجه عنه عبد الله بن أحمد في "السنة"(ص 5) وأبو داود في "مسائل الإمام أحمد"(ص 263) والآجري في "الشريعة"(ص 289) وغيرهم.
(5)
أخرجه عثمان الدارمي في "الرد على الجهمية"(ص 50) و"الرد على بشر المريسي"(ص 24، 103) وعبد الله بن أحمد في "السنة"(ص 7، 25، 35، 72). وانظر "درء التعارض"(2/ 34).
(6)
أخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات"(ص 408).
ومن اعتقد أنه ليس فوق السماوات إله يُعبَد، ولا على العرش ربٌّ يُصلَّى له ويُسجَد، وأن محمدًا لم يُعرَج به إلى ربه، ولا نزلَ القرآن من عنده= فهو معطِّلٌ فرعوني ضالٌّ مبتدع؛ فإن فرعون كذَّب موسى في أن ربه فوق السماوات، وقال:(يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا)
(1)
. ومحمد صلى الله عليه وسلم صدَّق موسى في أن ربَّه في السماوات، فلمّا كان ليلة المعراج وعُرِجَ به إلى الله تعالى وفرضَ عليه ربُّه خمسين صلاةً، ذكر أنه لما رجَع إلى موسى قال له: ارجعْ إلى ربك فاسألْه التخفيف لأمتك، فإن أمتك لا تُطيق ذلك، فرجع إلى ربه فخفَّف عنه عشرًا، ثم رجع إلى موسى فأخبره بذلك، فقال: ارجعْ إلى ربّك فاسألْه التخفيفَ لأمتك. وهذا الحديث في الصحاح
(2)
.
فمن وافقَ فرعونَ وخالفَ موسى ومحمدًا فهو ضالٌ، ومن مَثَّل اللهَ بخلقِه فهو ضالٌّ. قال نعيم بن حماد: من شبَّه الله بخلقِه فقد كَفر، ومن جَحَد ما وصف الله به نفسه فقد كفر. وليس ما وصف الله به نفسَه ولا رسولُه تشبيهًا.
وقد قال الله تعالى: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)
(3)
، وقال:(يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ)
(4)
، وقال:(بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ)
(5)
،
(1)
سورة غافر: 36 - 37.
(2)
متفق عليه، أخرجه البخاري (349، 3342) ومسلم (163) عن أبي ذر، وأخرجه البخاري (3207، 3887) ومسلم (164) عن مالك بن صعصعة، وأخرجه مسلم (162) عن أنس.
(3)
سورة فاطر: 10.
(4)
سورة آل عمران: 55.
(5)
سورة النساء: 158.
وقال: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ)
(1)
، وقال:(تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1))
(2)
، وقال تعالى:(وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19))
(3)
. فدلَّ ذلك على أن الذين عنده هم قريبون إليه، وإن كانت المخلوقات كلها تحت قدرته.
والقائل الذي قال: من لا يعتقد أن الله في السماء فهو ضال، إن أراد بذلك من لا يعتقد أن الله في جوف السماء بحيث تَحصُره وتُحيط به، فقد أخطأ. وإن أراد بذلك من لم يعتقد ما جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلفُ الأمة وأئمتُها من أن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، فقد أصاب. فإنه من لم يعتقد ذلك يكون مكذبًا للرسول صلى الله عليه وسلم متبعًا لغير سبيل المؤمنين، بل يكون في الحقيقة معطِّلًا لربِّه نافيًا له، فلا يكون له في الحقيقة إلهٌ يَعبدُه، ولا ربّ يسألُه ويَقصِدُه. وهذا قول الجهمية ونحوهم من أتباع فرعون المعطل.
والله قد فَطَر العباد عَرَبَهم وعَجَمَهم على أنهم إذا دَعَوا الله توجهتْ قلوبهم إلى العلوّ، لا يقصدونَه تحت أرجلهم. ولهذا قال بعض العارفين: ما قال عارفٌ قَطُّ "يا الله" إلاّ وجد في قلبه قبلَ أن يتحرك لسانه معنىً يطلب العلوَّ، ولا يلتفت يَمنة ولا يَسْرةً.
والقائل الذي قال: إن الله لا ينحصر في مكانٍ، إن أراد به أنَّ الله لا ينحصر في جوف المخلوقات أو أنه لا يحتاج إلى شيء منها= فقد
(1)
سورة الأنعام: 114.
(2)
سورة الزمر: 1.
(3)
سورة الأنبياء: 19.