المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ذكر لفظ "الجسم" في أسماء الله وصفاته بدعة - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ٣

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌ وصف الأصول المعتمدة

- ‌ نماذج من النسخ الخطية

- ‌ زيارة قبور المؤمنين

- ‌ الصلاةَ عند القبور

- ‌لا يستغني القلب إلا بعبادة الله تعالى

- ‌ مبدأ عبادة الأوثان: العكوف على قبور الأنبياء والصالحين

- ‌زيارة القبور جائزةٌ على الوجه المأذون فيه

- ‌ أصل النذر مكروه منهيٌّ عنه

- ‌لا ثوابَ على إعانة العاكفين على القبور والمجاورين عندها بصدقةٍ ولا غيرِها

- ‌ إنشاد الشعر الفراقي في المأتم من النياحة

- ‌ زيارة القبور على وجهين:

- ‌الزيارة الشرعية

- ‌ الزيارة البدعية

- ‌ الشيوخ الذين يَستحقُّون أن يَكُونوا قدوةً

- ‌ إخبارُ الله في القرآن أنه مع عبادِه جاءَ عامًّا وخاصًّا

- ‌الجواب الرابعأن الناس متفقون على أنه لا يَسُوغُ كل تأويل

- ‌ الثاني: أن يقولوا بالتأويل الذي قام عليه دليلٌ شرعي

- ‌ الثالث: أن يُسلِّموا أن كل تأويل قام عليه دليلٌ سمعي أو عقليٌّ فإنه يجب قبولُه

- ‌ هذا التصور باطلٌ

- ‌منشأ الضلال أن يظنّ أن صفاتِ الربّ كصفاتِ خلقِه

- ‌الناس في ذلك ثلاثة أصنافٍ:

- ‌ ذكر لفظ "الجسم" في أسماء الله وصفاتِه بدعة

- ‌ مسألة أطفال المشركين

- ‌ الخامسة دار التكليف

- ‌ السادسةأن غير المكلَّف قد يُرحَم

- ‌لابد من حصول الألم لكل نفسٍ

- ‌ المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية النعم والمصائب

- ‌ التسبيح مقرون بالتحميد

- ‌ التسبيح والتحميد يجمع النفي والإثبات

- ‌التهليل يمنع أن يُعبَد غيرُه

- ‌الحمد مفتاح الكلام

- ‌ليس المراد أن الحمد غير التسبيح، بل نفس تسبيح الله هو حمد الله

- ‌ الناسُ مأمورون أن يقرأوا القرآن على الوجه المشروع

- ‌عدمُ الشرط هل يدلُّ على عدم المشروط

- ‌ الصلاة مؤلفة من أقوالٍ وأفعالٍ

- ‌أعظم أقوالها القرآن، وأعظمُ أفعالِها الركوعُ والسجودُ

- ‌الركوع مع السجود تقدمةٌ وتوطئةٌ وبابٌ إليه

- ‌متى انتقض عهدُهم جاز أخذُ كنائس الصلح منهم فضلًا عن كنائس العنوة

- ‌ليس ليومِ عيدِهم مزيةٌ على غيرِه

- ‌ليس لأحدٍ أن يعتدي على أحدٍ سواء كان شريفًا أو لم يكن

- ‌ ذكر هذه الروايات

- ‌ لا حضانةَ لفاسقٍ

- ‌ جعلُ البنت المميزة عند الأب- أرجح

الفصل: ‌ ذكر لفظ "الجسم" في أسماء الله وصفاته بدعة

أهل الكلام الذين ذمَّهم الأئمة.

فقد قال الشافعي: حكمي في أهل الكلام أن يُضرَبوا بالجريد والنعال، ويُطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتابَ والسنة وأقبلَ على الكلام! فإذا كان هذا حكمه فيمن أعرض عنهما، فكيف حكمُه فيمن عارضهما بغيرهما؟.

وكذلك قال أبو يوسف القاضي: مَن طلبَ الدين بالكلام تزندقَ. وكذلك قال أحمد بن حنبل: ما ارتدَى أحد بالكلام فأفلح. وقال: علماء الكلام زنادقة.

وكثير من هؤلاء قرأوا كتبًا من كتب الكلام فيها شبهات أضلَّتهم، ولم يهتدوا لجوابهم، فإنهم يجدون في تلك الكتب أنه لو كان الله فوقَ الخلق للزمَ التجسيم والتحيُّز والجهة، وهم لا يعرفون حقائق هذه الألفاظ وما أراد بها أصحابُها.

فإن‌

‌ ذكر لفظ "الجسم" في أسماء الله وصفاتِه بدعة

، لم ينطق بها كتاب ولا سنة، ولا قالَها أحد من سلفِ الأمة وأئمتها، لم يقل أحد منهم: إن الله جسم، ولا إن الله ليس بجسم، ولا إن الله جوهر، ولا إن الله ليس بجوهر.

ولفظ "الجسم" لفظٌ مجمل، فمعناه في اللغة هو البدن، ومن قال: إنّ الله مثل بدن الإنسان فهو مفترٍ على الله، ومن قال: إنّ الله يُماثِله شيء من المخلوقات فهو مفترٍ على الله. ومن قال: إن الله ليس بجسمٍ، وأراد بذلك أنه لا يُماثِله شيء من المخلوقات، فالمعنى صحيح وإن كان اللفظ بدعة. وأما من قال: إنَّ الله ليس بجسم، وأراد بذلك أنه لا يُرى في الآخرة، وأنه لم يتكلم بالقرآن العربي، بل

ص: 206

القرآن العربي مخلوقٌ أو تصنيفُ جبريل ونحو ذلك= فهذا مفترٍ على الله فيما نفاه عنه.

وهذا أصلُ ضلالِ الجهمية من المعتزلة ومن وافقهم على مذهبهم، فإنهم يُظهرون للناس التنزيهَ، وحقيقةُ كلامهِم التعطيل، فيقولون: نحن لا نُجسِّم، بل نقول: إن الله ليس بجسم، ومرادُهم بذلك نفيُ حقيقة أسمائه وصفاتِه، فيقولون: ليس لله علمٌ ولا حياةٌ ولا قدرةٌ ولا كلام ولا سمعٌ ولا بصرٌ، ولا يُرى في الآخرة، ولا عُرِجَ بالنبي إليه، ولا يَنزِل منه شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا يتجلى لشيء، ولا يقرب إلى شيء، ولا يقرب منه شيء. ويقولون: إنه لم يتكلم بالقرآن، بل القرآن مخلوق، أو هو كلام جبريل، وأمثال ذلك من مقالات المعطّلة الفرعونية الجهمية.

والله تعالى يقول في كتابه (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ)

(1)

أي لا تُحيط به، فكما أنه يُعلَم ولا يُحاطُ به علمًا، فكذلك سبحانه يُرَى ولا يُحاطُ به رؤيةً. فهو سبحانه نفى الإدراك، ولم يَنفِ الرؤية، ونَفْي الإدراك يَدُلُّ على عظمته، وأنه من عظمته لا يُحاطُ به. وأما نفي الرؤية فلا مدحَ فيه، فإن المعدومات لا تُرى، ولا مدحَ لشيء من المعدومات، بل المدحُ إنما يكون بالأمور الثبوتيه لا بالأمور العدمية، وإنما يَحصل المدحُ بالعدم إذا تضمَّن ثبوتًا، كقوله تعالى:(اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)

(2)

، فنزَّه نفسه عن السِّنَة والنوم، لأن ذلك يتضمن كمال حياتِه وقيوميته،

(1)

سورة الأنعام: 103.

(2)

سورة البقرة: 255.

ص: 207

كما قال تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ)

(1)

، فهو سبحانه حيّ لا يموتُ، قيومٌ لا ينامُ. وكذلك قوله تعالي:(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38))

(2)

، فنزَّه نفسَه المقدسة عن مسَّ اللغوب -وهو الإعياء والتعب- ليتبيَّن كمال قدرته.

فهو سبحانه موصوفٌ بصفات الكمال منزَّهٌ عن كل نقصٍ وعيبٍ، موصوف بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، منزَّهٌ عن الموت والجهل والعجز والصَّمَم والعمى والبكَم، وهو سبحانَه لا مِثلَ له في شيء من صفاتِ الكمال، وهو منزَّهٌ عن كلِّ نقصٍ وعيبٍ، فإنه قدُّوس سَلامٌ يمتنع عليه النقائصُ والعيوب بوجهٍ من الوجوه، وهو سبحانه لا مثلَ له في شيء من صفاتِ كمالِه، بل هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحدٌ.

ولهذا كان مذهب سلفِ الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله بما وصفَ به نفسه وبما وصفَ به رسولُه، من غير تحريفٍ ولا تعطيل، ومن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيل، فيُثبِتون له ما أثبتَه لنفسِه من الأسماء والصفات، ويُنزِّهونه عمَّا نزَّه عنه نفسَه من مماثلة المخلوقات، إثباتٌ بلا تمثيل، وتنزيهٌ بلا تعطيل. قال تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11))

(3)

، فقوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) رد على الممثِّلة، وقوله:(وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)) رد على المعطِّلة.

قال بعض العلماء: المعطِّلُ يَعبُد عَدَمًا، والممثل يعبد صنمًا،

(1)

سورة الفرقان: 58.

(2)

سورة ق: 38.

(3)

سورة الشورى: 11.

ص: 208

المعطِّل أعمى، والممثل أعشى، ودينُ الله بين الغالي فيه والجافي عنه. وقد قال تعالى:(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)

(1)

. والسنة في الإسلام كالإسلام في الملل، فأهل السنة وسطٌ في الصفات بين أهل التمثيل وأهل التعطيل، وهذا هو الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

فنسأل الله العظيم أن يجعلنا وسائر إخواننا منهم بفضله ورحمته، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا.

(1)

سورة البقرة: 143.

ص: 209

قاعدة شريفة في الرضا الشرعي وما يحبّه الله من الرضا، وبيان أن الله لا يرضى بالكفر ولا يحبُّه ولا يشرعه، ولا يرضى بالمعاصي ولا يحبُّها ولا يُثيب فاعلها

ص: 211

الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم.

فصل

فيما يحبّه الله ويرضاه من رِضا العبدِ، وما لا يحبّه من ذلك ويرضاه، فإن هذا الباب مما كثُر فيه اضطراب كثيرٍ من المتأخرين، فإنهم سمعوا لفظ الرضا بالقضاء وأن ذلك محمودٌ من العبد يُثَابُ عليه بل يؤمن به، وأنه من أعلى مقامات اليقين وأحوال الصديقين، وظنّوا أن المراد بذلك أن كلّ ما كان مخلوقًا للربّ فينبغي أن يُرضىَ ذلك المخلوقُ. ثم صاروا حِزبَيْن:

حِزبًا قالوا إذا كان القضاء والرضا متلازمين، فمعلومٌ إلا مأمورون ببغض ما نهى الله ورسولُه عنه وسخطه، فلا يكون بقضاءٍ وقدر.

وحزبًا قالوا: إذا كانا متلازمين، وقد دُعِينا إلى الرضا، فنحن نرضى بكل ما يقع من الكفر والفسوق والعصيان.

وكلٌّ من هذين الحزبين مخالفٌ للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمَّة وأئمتها، فالحزب الأول علموا أن الله لا يرضى الكفر والفسوق والعصيان، قالوا: فلم يَخْلُق ذلك ولم يقدرْه ولم يَقتضِه، بل ذلك واقعٌ في الوجود بغير مشيئتِه ولا قدرتِه ولا خَلْقِه، ومنهم من قال: ولا عَلِمَه قبل أن يقع. وهؤلاء القدرية المكذِّبون بقدر الله من المعتزلة وغيرهم. ومن أعظم حُجَجهم على ذلك أن قالوا: الرضا

ص: 213

بالقضاء من أعظم المقامات، وربّما ادَّعوا إجماع المسلمين على أن الرضا بالقضاء من أفضل المقامات، فلو كانت المعاصي بقضائه لكان ينبغي أن يُرضَى بها. والرضا بالكفر والفسوق والعصيان لا يجوز باتفاق المسلمين، فعُلِم أن هذه ليست بقضائه.

ولما أوردوا هذه الحجة أجابهم أهلُ الإثبات للقدر، كل طائفة بجوابٍ بحسب أصولهم، فإن من يقول: إن رِضاه هو إرادتُه، وإنّ كلَّ ما قدَّره فقد رضيه وأحبَّه وأرادَه، كما يقول ذلك الجهمية ومن اتبعهم من أهل الكلام والتصوف وغيرهم، فله جواب على أصله.

وهؤلاء يقولون: أراد الكفر قبيحًا مُعاقَبًا عليه، وكذلك رَضِيَه وأحبَّه قبيحًا مُعاقَبًا عليه. ومعنى "قبيحًا" عندهم أي منهيًّا عنه، فهم يقولون: أرادَه ورضيه وأحبَّه ومع ذلك نَهى عنه ونهانا أن نَرضَى به، فحقيقة قولهم أن الله يحبّ أمورًا ويرضاها مع نهيه لنا عنها أن نُحبَّها ونرضاها. ومن هؤلاء أبو الحسن الأشعري وأبو بكر الباقلاني وطائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد.

فمن هؤلاء من قال: إنما نرضى بقضائه الذي أمرنا أن نريده ونرضاه، ولا نرضى من ذلك ما نهانا أن نرضى به. وهذا جواب طائفة كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما.

وقد يقولون: نرضى بالقضاء على الجملة، ولا نُطلِقه على التفصيل. هذا حكاية لفظهم.

ومنهم من قال ما ذكره أبو حامد والرازي وغيرهما، قالوا: نَرضَى بالقضاء ولا نرضَى بالمقضي.

قالت الطائفة الأولى كالقاضيين -وهذا لفظ أبي بكر، فإنه الأسبق

ص: 214

إلى هذا الجواب، قال

(1)

-:

فإن قال: أفترضون بقضاء الله وقدره؟

قيل له: نرضى بقضاء الله الذي هو خلقه، الذي أمرنا أن نريده ونرضاه، ولا نرضى من ذلك ما نهانا أن نرضى به، ولا نتقدم بين يدي الله ولا نعترض على حكمه.

وجواب آخر، وهو أنا نقول: نرضَى بقضاء الله في الجملة على كل حال.

فإن قال: أفترضَون الكفر والمعاصيَ التي هي من قضاء الله؟

قيل له: نحن نطلق الرضا بالقضاء في الجملة، ولا نطلقه على التفصيل لموضع الإبهام، كما يقول المسلمون كافةً: الأشياءُ لله، ولا يقولون في التفصيل: الولد والصاحبة والشريك لله، وكما يقولون: الخلق يَفنَون ويبيدون، ولا يقولون: حجج الله تفنَى وتَبيد، في نظائر لهذا من القول الذي يُطلَق من وجهٍ ويُمنَع من وجهٍ.

ثم يقال لهم: أَوَ ليس قد قَضَى بموتِ النبي صلى الله عليه وسلم، وعَجْزِ المسلمين عن دفع الكفار، والاستيلاء على ثغورهم وسَبْي نسائهم، وقَضَى إعانةَ الفراعنة والشياطين وسائر الكفار، وبقاءَهم واستظهارهم على المؤمنين؟

فإذا قالوا: أجَلْ.

قيل لهم: أفترضَون بذلك أجمع؟

(1)

"التمهيد" للباقلاني (ص 368 - 369).

ص: 215

فإن قالوا: نعم.

قيل لهم مثله فيما سألونا عنه، وخرقوا الإجماع في ركوب هذا الإطلاق. وإن قالوا: لا.

قيل لهم مثله فيما طالبونا به

(1)

.

قلت: وقد بسطوا هذا القول أكثر، فقالوا -واللفظ للقاضي أبي يعلى-: قلتُ: أما تفصيل القول في الرضا بأن بعضَ المخلوق نرضى به وبعضَه لا نرضى به فصوابٌ، لكن لم يثبتوا ما هو الذي نرضِى به، فإن قولهم "الذي أمرنا أن نريده ونرضاه" إن كان مرادهم نرضى بما أمرنا أن نفعله وهو الذي أمرنا بإرادته، فالرضا أعم من ذلك، فإنه ينبغي الرضا بأمورٍ غير أفعالنا التي أمرنا بها؟ وإن كان مقصودهم بكل ما أمرنا أن نريده ونرضاه وإن لم يكن من فعلنا.

قلتُ: فهذا جواب حسن، لكن لا يستقيم على أصل أتباع أبي الحسن في قوله الذي خالف به المتقدمين واتبع فيه الجهمية والقدرية، حيث قال معهم: إن المحبة والرضا هي الإرادة، وفرَّعوا على ذلك أن الله لا يجوز أن يُحَبّ ذاتُه، كما لا يجوز أن تُراد ذاتُه، فإن الإرادة إنما تتعلق بالمتجدد، وهو ما كان معدومًا فأريد حدوثُه.

قال أبو المعالي: ومما اختلف أهل الحق في إطلاقه ومَنْع إطلاقه: المحبة والرضا، فصار المتقدمون إلى أنه سبحانه لا يحبّ الكفر ولا يرضاه، وكذلك كل معصية. وقال شيخنا أبو الحسن: المحبَّة هي

(1)

هذا آخر كلام الباقلاني.

ص: 216

الإرادة نفسُها، وكذلك الرضا والاصطفاء، فيقول: إنه سبحانه يريد الكفر ويرضاه كفرًا قبيحًا مُعاقَبًا عليه، ويحبّ أن يكون على ما هو عليه. وليس معنى قوله "إنه يحبه ويرضاه" أنه يراه حسنًا أو يُثنِي على صاحبه بفعلِه، بل يذمُّه بفعلِه ويلعنُه ويعاقبُه عليه.

قال أبو المعالي: ومن أصحابنا من قال: نأخذ هذه الإطلاقات بالشرع، فما لم يَرِد الشرعُ بإطلاقه لا نُطلِقُه، وهذا هو الأولى، وربما يقول هذا القائل: المحبَّة من الله صفة خبرية، يتبع في ذلك الخبر.

قال أبو المعالي: وإذا ثبت أن المحبة هي الإرادة فيترتَّبُ على ذلك أن يُعلَم أنه سبحانه لا تتعلق به المحبة على الحقيقة، فإنها هي الإرادة، والإرادةُ لا تتعلق إلا بمتجدد.

قلت: وهذا القول الذي قاله أبو الحسن هو اختيار القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى في أحد قوليه الذي يقول فيه: إن الإرادة والرضا والمحبة واحد، كما قاله في "المعتمد"

(1)

. وهذا خلاف المعروف عن المتقدمين من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم، كأبي بكر بن عبد العزيز وغيره، فإنهم يفرِّقون بين المحبّة والرضا

(2)

.

***

(1)

ص 75.

(2)

انتهى الكلام هنا في الأصل.

ص: 217

فصل الأقوال نوعان

ص: 219

الأقوال نوعان:

أقوال ثابتة عن الأنبياء، فهي معصومة، يجب أن يكون معناها حقًّا، عرفَه من عرفه وجَهِله من جهله. والبحث في ذلك إنما هو عن معرفة ما أرادتْه الأنبياء بأقوالهم. ومَن طلب تفسير كلامهم وتأويلَه، ومقصودُه معرفةُ مرادِهم من الوجه الذي به يُعرَف مرادُهم فقد سلكَ طريقَ الهدى؟ ومن كان مقصودُه أن يجعل ما قالوه تبعًا له، فإن وافقَه قَبلَه وإلَاّ ردَّه، وتكلَّف له من التحريف ما يُسمِّيه تأويلًا، مع أنه يعلم بالضرورة أن كثيرًا من ذلك أو أكثره لم تُرِدْه الأنبياءُ= فهذا مُحرَّفٌ للكلم عن مواضعه، لا طالبٌ لمعرفة التأويل الذي يعرفه الراسخون في العلم.

والنوع الثاني: ما ليس منقولًا عن الأنبياء، فقد عُلِم أن مَن سِواهم ليس بمعصوم، وحينئذٍ فلا يُقبَل كلامُه ولا يُرَدُّ إلا بعد تصورِ مرادِه ومعرفةِ صلاحِه من فسادِه، فمن قال من أهل الكلام والجدل: إنه لا يفعل الأشياء بالأسباب، بل يفعل عندها لا بها، ولا يفعل لحكمة، وإنه لا يجعل في الأعيان صفاتٍ وطبائعَ وخواصَّ يُميَّز بها بين موصوف وموصوف، وباعتبارها يحصل ما يحصل من آثارها الموجودة في العالم، ولا خصَّ الأفعال المأمور بها بما لأجله كانت حسنةً مأمورًا بها، ولا المنهيَّ عنها بما لأجله كانت سيئاتٍ منهيًّا عنها، وإنه ليس لشيء من القُوَى والقُدَر التي في الحيوان والإنسان وغيره وفي النبات والمعادن والعناصر الأربعةِ تأثيرٌ في شيء، بل لا فرقَ بين الماء والنار، تُخلق الحرارة عند ملاقاتها لا بقوة فيها،

ص: 221

والماء يُخلَق الريُّ عنده لا بسبب عذوبةٍ وقوةٍ فيه، وأمثال ذلك= فهذا مخالفٌ لنصوصِ القرآن والسنة وإجماع سلف الأمة.

ولم يقل هذا القول أحدٌ من سلف الأمة وأئمتها، وأول من قال هذا القول في الإسلام الجهم بن صفوان الذي أجمع الأمة على ضلالته، فهو أول من أنكر الأسباب والطبائع، كما أنه أول من ظهر عنه القول بنفي الصفات وخلق كلام الله وإنكار رؤيته وغير ذلك، ونصوص الكتاب والسنة وكلام السلف في إبطال هذا الأصل كثيرة جدا، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح

(1)

لأشجِّ عبد القيس: "إن فيك لخُلُقينِ يحبُّهما الله: الحلم والأناة"، فقال: أخُلُقَينِ جُبلتُ عليهما أمِ تخلَّقتُ بهما؟ فقال: "بل جُبلتَ عليهما"، فقال: الحمدَ لله الذي جَبَلني على ما يُحِبُّ. وقال تعالىَ: (إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21))

(2)

.

ومما يدلُّ على ذلك قوله تعالى في قصة إبراهيم: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69))

(3)

، فسَلَبَ النارَ طبيعةَ الحرارة التي بها تَسخُن، وجعلَها بردًا وسلامًا، ولو كان ما يَحصُل عند ملاقاتِها لا أثرَ لها فيه لم يحتج إلى ذلك، بل كان يكفي أن لا يخلق الأثر عند الملاقاة. بل قوله "بردًا وسلامًا" يَقضِي أنه جعل فيها ما تُوجِب برودتَه

(1)

أخرجه البخاري في "خلق أفعال العباد"(28) وفي "الأدب المفرد"(975) وأبو داود (5225) عن زارع العبدي. وأخرجه أحمد (4/ 205) والبخاري في "الأدب المفرد"(584) وفي "خلق أفعال العباد"(27) عن الأشج نفسه. وفي الباب عن أبي سعيد الخدري وابن عباس.

(2)

سورة المعارج: 19 - 21.

(3)

سورة الأنبياء: 69.

ص: 222

وسلامتَه. والأدلة في ذلك كثيرة تُخبِر أنه يخلق الأسباب والحكم، كقوله عز وجل:(وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16))

(1)

، وقال تعالى:(وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ) الآية

(2)

. وقال تعالى: (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ) الآية

(3)

. وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا

)

(4)

، فذكر أن الرياح تُقِلُ السحابَ أي تَحمِلُه، فجعلَ هذا الجماد فاعلًا بطبعه.

وقال تعالى: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1)) الآيات

(5)

. وقال: (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2))

(6)

، وقال:(وَتَرَى اَلأَرض هَامِدَةً) الآية

(7)

. وقال تعالى: (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ)

(8)

. وقال تعالى (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا)

(9)

. وقال تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ)

(10)

، فوصف السرابيل بأنها تقي الحرَّ والبأس. وقال تعالى:(أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69))

(11)

،

(1)

سورة النبأ: 14 - 16.

(2)

سورة ق: 9 - 11.

(3)

سورة البقرة: 164.

(4)

سورة الأعراف: 57.

(5)

سورة الذاريات: 1 وما بعدها.

(6)

سورة الزلزلة: 2.

(7)

سورة الحج: 5.

(8)

سورة الإنعام: 99.

(9)

سورة الكهف: 33.

(10)

سورة النحل: 81.

(11)

سورة الواقعة: 69.

ص: 223

أخبر أنه أنزل الماء من المزن، وهو السحاب، كما أخبر أنه أنزله من المعصرات، وهو المراد بقوله (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ) في مواضع أخر

(1)

، وبيَّن أنه لو شاء لجعله أجاجا، كما قال تعالى:(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ)

(2)

، وقال تعالى:(وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ)

(3)

، فبيَّن أن كلا من البحرين جعل فيه صفة قائمة به، عذوبة هذا وملوحة هذا، وامتنّ على عباده بذلك، وأنه لو شاء لجعل العذب أجاجًا، فدلَّ على أن المياه المشروبة مخصوصة بصفة جعلَها بها تُشرب، وأنه لو جعلَه أُجاجًا لما شرِب، وبيَّن أن أحد الجسمين يختصه بصفة يَحصُل بها الانتفاع ويختص أحدهما بقوة يكون بها الفعل.

وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16))

(4)

، وقال تعالى (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48))

(5)

(أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)

(6)

، وقال تعالى:(هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138))

(7)

، وقال تعالى:(فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10))

(8)

أي صنف كريم، وهو الكثير المنفعة.

(1)

سورة المؤمنون: 18، سورة الفرقان: 48، سورة لقمان:10.

(2)

سورة الفرقان: 53.

(3)

سورة فاطر: 12.

(4)

سورة النبأ: 13 - 16.

(5)

سورة الفرقان: 48.

(6)

سورة الحديد: 25.

(7)

سورة آل عمران: 138.

(8)

سورة لقمان: 10.

ص: 224

فمن قال من أهل الجدل والكلام: إنه يحدث النبات عند المطر لا به، فقد خالف نصَّ الرسول، مع مخالفته صريح المعقول، وكذلك في سائر ما يقوله، كقولهم: يحدث الشبع عند الأكل [لا] به، والزهوق عند القتل لا به، والهدى عند سماع القرآن لا به، فهذا النفي مخالف للكتاب والسنة والميزان للشرع، قال تعالى:(يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ)

(1)

، وقال تعالى:(يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا)

(2)

، وقال تعالى:(قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ)

(3)

، وقال:(أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا)

(4)

.

وكما أخبر أنه يخلق الأشياء من موادِّها، في مثل قوله:(وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)

(5)

، وقوله تعالى:(خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15))

(6)

، وقال:(وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18))

(7)

.

وأخبر سبحانه أنه قائم بالقسط وأنه لا يظلم الناس شيئا، فلا يضع شيئا في غير موضع، ولا يُسويّ بين مختلفين ولا يُفرِّق بين متماثلين، فقال تعالى:(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)

(8)

الآية. وقال تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا

(1)

سورة المائدة: 16.

(2)

سورة البقرة: 26.

(3)

سورة التوبة: 14.

(4)

سورة التوبة: 52.

(5)

سورة الأنبياء: 30.

(6)

سورة الرحمن: 14 - 15.

(7)

سورة نوح: 17 - 18.

(8)

سورة الجاثية: 21.

ص: 225

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28))

(1)

، وقال تعالى:(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35))

(2)

الآية. وقال تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ (20))

(3)

الآية. وقال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ)

(4)

الآية. فدلَّ في هذه الآية وغيرها على أن ما أمرهم به هو معروف في نفسه تعرفه القلوب، فهو مناسب لها مُصْلِحٌ لفسادِها، ليس معنى كونه معروفًا أنه مأمور به، إذْ هذا قدر مشترك بينه وبين كل آمرٍ حتى الشيطان، فإنه يأمر بما يأمر به، فعُلِم أنّ ما يأمر به الرسول مختصٌّ بأنه معروف، وما ينهى عنه مختصٌ بأنه منكر، وما يُحِلّه مختصٌّ بأنه طيب، وما يُحزَمه مختصٌّ بأنه خبيث. ومثل هذا كثير في القرآن وفي غيره من الكتب كالتوراة والإنجيل والزبور. والله سبحانه أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليما.

***

(1)

سورة ص: 28.

(2)

سورة القلم: 35.

(3)

سورة فاطر: 19 - 20.

(4)

سورة الأعراف: 157.

ص: 226

قاعدة في شمول آي الكتاب والسنة والإجماع أمرَ الثقلَين الجنِّ والإنسِ، وما يتعلق بهم من الخطاب وغيره

ص: 227

قال سيدنا وشيخنا شيخُ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحرَّاني رحمه الله:

قاعدة شريفة

ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أمرُ الثقلين: الجن والإنس، كما أخبر به في سورة الأنعام في قولهَ تعالى:(يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ)

(1)

، وبقوله:(لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)

(2)

.

وثبتَ أن محمدًا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رسولٌ إلى الثّقَلين جميعًا، كما أخبر به في سورة الرحمن

(3)

، وقل أوحي

(4)

، والأحقاف

(5)

، وكما في الأحاديث المشهورة، مثل حديث ابن مسعود

(6)

وغيره.

وثبت بالسنة والإجماع مع ما دلَّ عليه القرآن أنَّ القلمَ مرفوعٌ عن الصبيِّ حتى يَبْلُغَ، وعن المجنون حتى يُفِيقَ، وعن النائم حتى يَستيقظ، كما في حديث علي بن أبي طالب وعائشة وغيرهما:"رُفِعِ القلمُ عن ثلاثة"

(7)

، مع قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ

(1)

الآية 130.

(2)

سورة هود: 119.

(3)

الآيات 31 - 39.

(4)

هي سورة الجن: 1 وما بعدها.

(5)

الآيات 28 - 32.

(6)

أخرجه مسلم (450).

(7)

حديث علي أخرجه أحمد (1/ 154، 158) وأبو داود (4401، 4402) وابن خزيمة (1003، 3048) وغيرهم. وحديث عائشة أخرجه أحمد (6/ 100، 101، 144) وأبو داود (4398) والنسائي (6/ 156) وابن ماجه (2041) وغيرهم.

ص: 229

الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) إلى قوله (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)

(1)

، وقوله:(وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)

(2)

، وقوله:(وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) في غير موضع

(3)

، مع ما ثبتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم من نهيِه عن قتل النساء والصبيان، وأنه استعرضَ قريظةَ فمن أَنبتَ قَتَلَه، ومَن لم يُنبت لم يَقْتُله. وما رُوِي من الأحاديث التي فيها:"ثلاثة كلهم يُدلي عَلى الله بحجته"

(4)

.

فأما قوله (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15))

(5)

ونحو ذلك، فإنما يتناول من لا يَعقِل من الأطفال والمجانين، فأما الصبي المميِّز فتكليفُه ممكنٌ في الجملة، ولهذا يصحح أكثر الفقهاء تصرفاتِه تارةً مستقلاًّ كإيمانِه، وتارةً بالإذن كمعاوضاتِه الكبيرة.

واختلفوا في وجوب الصلاة على ابن عشرٍ، وفي وجوب الصوم على من أطاقَه. والخلاف فيه معروفٌ في مذهب أحمد، حتى اختُلِف في صحة شهادته وأمانه وإمامتِه وولايتِه في النكاح وعتقِه.

وهنا مسائل:

(1)

سورة النور: 58 - 59.

(2)

سورة النساء: 6.

(3)

سورة الأنعام: 152؛ سورة الإسراء: 34.

(4)

أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة"(404) عن أبي هريرة بلفظ: "أربعة

".

ورواه أحمد (4/ 24) عن الأسود بن سريع بنحوه. وانظر "الصحيحة"(1434).

(5)

سورة الإسراء: 15.

ص: 230

المسألة الأولى

أن من نتائج التكليف: العقاب والثواب، عقاب العاصي وثواب المطيع.

فأما العقاب: فما علمتُ أحدًا من أهلِ القبلةِ خالفَ في أن الكافر مُعذَّبٌ في الجملة، وإن اختلفوا في تفاصيل عذابه. ونصوصُ القرآن متظاهرة بعذاب الكافرين، وكذلك الذي عليه عامة المسلمين من جميع الطوائف عقوبةُ فُجَّارِ أهل القبلة في الجملة: إمّا في الدنيا بالمصائب والحدود؟ وإما في الآخرة. وأما غلاة المرجئة فرُوِيَ عنها أنها نَفَتْ ذلك، كما أن الخوارج والمعتزلة جَزَمتْ بوقوع ذلك على جميع الفاسقين وخلودِهم في النار.

وأما الثواب: فاتفقت الأمة على ثواب الإنس على طاعتهم. واختلفوا في الجن هل يُثَابُون أو لا ثوابَ لهم إلا النجاة من العذاب؟ على قولين: الأول قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنبلية وأبي يوسف ومحمد وغيرهم. والثاني مأثورٌ عن طائفة، منهم أبو حنيفة.

وقد اختُلِف في أصولِ الفقه: هل من شرطِ الوجوب العقابُ على الترك؟ على قولين. وأما الثواب على الفعل فهو واجب، إمّا بالسمع، وإما بمجرد الإيجاب.

المسألة الثانية

أن مَن لا تكليفَ عليه هل يُبعَثُ يومَ القيامة؟

فأما الإنس والجن فيُبعَثون جميعًا باتفاق الأمة، ولم يختلفوا

ص: 231

-فيما علمتُ- إلا فيمن لم يُنفَخْ فيه الروحُ: هل يُبعَث؟ على قولين. وبَعْثُه اختيارُ القاضي وكثير من الفقهاء، وذكر أنه ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه.

وأما البهائم فهي مبعوثةٌ بالكتاب والسنة، قال الله تعالى:(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38))

(1)

، وقال تعالى:(وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ)

(2)

، والحديثُ في قول الكافر (يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40))

(3)

معروف

(4)

. وما أعلمُ فيه خلافًا.

لكن اختلف بنو آدم في مَعَاد الآدميين على أربعة أقوال:

أحدها -وهو قولُ جماهير من المسلمين أهل السنة والجماعة، وجماهير متكلميهم، وجماهير اليهود والنصارى والمجوس وجمهور غيرهم- أن المعاد للروح والبدن، وأنهما يُنَعَّمان ويُعذَّبان.

والثاني -وهو قول طائفة من متكلمي المسلمين من الأشعرية وغيرهم- أن المعاد للبدن، وأن الروح لا معنى لها إلا حياة البدن، فيحيا البدن ويُنعَّم ويُعذَّب. وأما معادُ روع قائمةٍ بنفسِها ونعيمها وعذابها فينكرونه.

والثالث: ضدّ هذا، وهو قول الإلهيين من الفلاسفة وطائفة ممن يُبطِن مذهبهم من بعض متكلمي أهل القبلة ومتصوفتهم، أنّ المعاد للروح دون البدن.

(1)

سورة الأنعام: 38.

(2)

سورة التكوير: 5.

(3)

سورة النبأ: 40.

(4)

انظر تفسير الطبري (30/ 17 - 18).

ص: 232