الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله:
اعلم أن
الصلاة مؤلفة من أقوالٍ وأفعالٍ
، ف
أعظم أقوالها القرآن، وأعظمُ أفعالِها الركوعُ والسجودُ
. وأول ما أنزله الله من القرآن (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (19))
(1)
، وختمها بقوله (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19))
(2)
، فافتتحها بالأمر بالقراءة، وختمها بالأمر بالسجود، وكل منهما يكون عبادةً مستقلَّةً، فالقراءة في نفسها عبادةٌ مطلقًا إلا في مواضع، والسجود عبادة بسبب السهو والتلاوة وسجود الشكر وعند الآيات على قولٍ. فالتلاوة الخاصة سبب السجود.
وقد ذكر الله الركوعَ والسجودَ في مواضع، فقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا)
(3)
، فهذا أمرٌ بهما. وقال تعالى:(تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا)
(4)
، فهذا ثناء عليهم بهما، وإن كان ذكرهما منتظمًا لبقية أفعال الصلاة، كما في القراءة والقيام والتسبيح والسجود المجرد، وهو من باب التعبير بالبعضِ عن الجميع، وهو دليلٌ على وجوبه فيه. وقال تعالى لبني إسرائيل:(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43))
(5)
، فأفرد الركوع بالتخصيص بعد الأمر بإقامة الصلاة، ويُشبِهُ -والله أعلمُ- أن يكون فيه معنيان:
(1)
سورة العلق: 1.
(2)
الآية 19.
(3)
سورة الحج: 77.
(4)
سورة الفتح: 29.
(5)
سورة البقرة: 43.
أحدهما: أنهم لا يركعون في صلاتهم، فأمرهم بالركوع، إذ كانوا لا يفهمون ذلك من نفس الصلاة.
الثاني: أن قوله (مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)) أمرٌ بصلاة الجماعة، ودَل بذلك على وجوبها، وأمر بالركوع معهم لأنه بالركوع يكون مدركًا للركعة، فإذا ركعَ معهم فقد فعلَ بقيةَ الأفعال معهم، وما قبلَ الركوع من القيام لا يجب فعلُه معهم، فما بعده لازم. بخلاف مالو قال "قوموا" أو "اسجدوا" لم يدلَّ على ذلك.
وقال لمريم: (اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43))
(1)
قد يكون أمرًا لها بصلاةِ الجماعة -وإن كانت امرأةً- لأنها كانت محرَّرةً منذورةً لله عاكفةً في المسجد. وقال تعالى: (وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ)
(2)
، قد قيل: إنه السجود. وقال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48))
(3)
.
وذكر السجود والقيام في قوله: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا)
(4)
، وفي قوله:(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا (64))
(5)
.
وذكر السجود في قوله: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19))
(6)
، وفي قوله:(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43))
(7)
، وقوله: (وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ
(1)
سورة آل عمران: 43.
(2)
سورة ص: 24.
(3)
سورة المرسلات: 48.
(4)
سورة الفرقان: 64.
(5)
سورة الزمر: 9.
(6)
سورة العلق: 19.
(7)
سورة القلم: 42 - 43.
سُجَّدًا)
(1)
، وقوله:(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98))
(2)
، وقوله:(فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40))
(3)
، وقوله:(فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ)
(4)
.
وآيات سجود التلاوة كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206))
(5)
، وقوله:(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15))
(6)
، وقوله:(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50))
(7)
، وقوله:(إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107))
(8)
الآية، وقوله:(إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58))
(9)
، وقوله تعالى:(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ)
(10)
الآية، وقوله:(ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا)
(11)
، وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ
(1)
سورة النساء: 154.
(2)
سورة الحجر: 98.
(3)
سورة ق: 40.
(4)
سورة النساء: 102.
(5)
سورة الأعراف: 206.
(6)
سورة الرعد: 15.
(7)
سورة النحل: 49 - 50.
(8)
سورة الإسراء: 107.
(9)
سورة مريم: 58.
(10)
سورة الحج: 18.
(11)
سورة الحج: 77.
نُفُورًا (60))
(1)
، وقوله:(أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25))
(2)
، وقوله:(إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ)
(3)
، وقوله:(لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ)
(4)
الآية. وقوله: (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62))
(5)
، وقوله:(وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21))
(6)
، وقوله:(وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19))
(7)
.
فآية الأعراف والرعد والنحل والحج فيها الخبر عن سجود المخلوقات، لكن في الأعراف سجودُ الملائكة، وفي الرعد سجود المخلوقات طوعًا وكرهًا، وفي النحل المخلوقات والملائكة، وفي الحج سجود المخلوقات الطوعية، ولهذا لم يَعُمَّ بني آدم. وسجود الكائناتِ مطلقًا ليس بمقيَّدٍ بركوع، فشرع السجود عند ذكره، لأن المؤمن داخل في ذلك أو متشبِّه بصاحبه. وقوله (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ)
(8)
الآية وقوله (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ)
(9)
خبرٌ عن سجودٍ بسبب التلاوة، فأمرٌ بالسجود عند التلاوة. ونظيره (وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21))
(10)
، وقوله
(1)
سورة الفرقان: 60.
(2)
سورة النمل: 25.
(3)
سورة السجدة: 15.
(4)
سورة فصلت: 37.
(5)
سورة النجم: 62.
(6)
سورة الانشقاق: 21.
(7)
سورة العلق: 19.
(8)
سورة الإسراء: 107.
(9)
سورة مريم: 58.
(10)
سورة الانشقاق: 21.
(وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)
(1)
، وقوله (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ)
(2)
نهيٌ عن السجود لغير الله مطلقًا وأمرٌ بالسجود له، فشرع السجود المقابل للمنهيّ عنه. وقوله (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60))
(3)
، فأخبر عن امتناع الكافر عن السجود مطلقًا، فيشرع السجود المقابل له، وهو مطلق السجود هناك في مقابلة المعبود الباطل، وهنا في مقابلة الكافر الممتنع عن الحق.
وأما قوله (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا)
(4)
فلا ريبَ أنّ هذا أمر بسجود الصلاة، فلذلك جرى فيه النزاعُ، فقيل: هو أمر به، كما في قوله (اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي)
(5)
، وقيل: هذا لا يمنع أن يكون أمرًا به وبالسجود عنه بسماعه. وقوله (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62))
(6)
وقوله (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19))
(7)
، وذلك سجود الصلاة، فقيل: هو مختصّ به، وقيل: ذلك لا يمنع أن يكون سببًا، كما أن آيات التلاوة والسجود تتضمن السجود في الصلاة عقب سماع القرآن.
فصل
ولما كَثُر ذِكر السجود في القرآن، تارةً أمرًا به، وتارةً ذمًّا لمن
(1)
سورة النمل: 24.
(2)
سورة فصلت: 37.
(3)
سورة الفرقان: 60.
(4)
سورة الحج: 77.
(5)
سورة آل عمران: 43.
(6)
سورة النجم: 62.
(7)
سورة العلق: 19.
يتركه، وتارة ثناء على فاعله، وتارة إخبارًا عن سجود عُظماء الخليقة وعمومهم، كان ذلك دليلًا على فضيلة السجود. وهذا ظاهر، فإن السجود فيه غاية الخضوع والتواضع، وهو أفضل أركان الصلاة الفعلية وأكثرها، حتى إن مواضعَ الصلاة سُمِّيتْ به، فقيل "مسجد"، ولم يُقَل "مقام" ولا "مركع"، لوجهين:
أحدهما: أنه أفضل وأشرف وأكثر.
والثاني: أن نصيب الأرض منه أكثر من نصيبها من جميع الأفعال، فإن العبد يسجد على سبعة أعضاء، وإنما يقوم على رِجلين. وأما الركوع فسِيَّانِ نسبةُ الأرض إليه وإلى القيام، فلهذا قيل "مسجد"، وهو موضع السجود دون موضع الركوع. والركوع نصف سجود، والسجود شرِعَ مَثنَى مَثنَى، في كل ركعة سجدتان، ولم يُشرَع من الأركان مثنى إلا هو، حتى سجود الجبران جُعِل أيضًا مثنى، وهو سجدتا السهو. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُسميهما "المرغمتين"، وقال في الشك:"إن كانت صلاتُه وِترًا شَفَعَتَا له صلاته، وإن كانت تامَّة كانتا ترغيمًا للشيطان"
(1)
. فأقام السجدتين مقام ركعة في تكميل الصلاة، لأن الركن الأعظم من كل ركعة هما السجدتان.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعَك الله بها درجةً، وحَطَّ عنك بها خطيئةً"
(2)
. وقال: "أَعنِّي على نفسك بكثرة السجود"
(3)
. وقال: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم (571) عن أبي سعيد الخدري.
(2)
أخرجه مسلم (488) عن ثوبان.
(3)
أخرجه مسلم (489) عن ربيعة بن كعب الأسلمي.
(4)
أخرجه مسلم (482) عن أبي هريرة.