الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَبنيَ على قبرِ ابني مسجدًا؟ ونهاه عن ذلك.
ولهذا لما فتح المسلمون تُسْتَر- التي يُسمونها العجمُ "شُشْتَر"- وجدوا عندها قبرًا عظيمًا قالوا: إنه قبرُ دانيال، ووجدوا عنده مصحفًا. قال أبو العالية: أنا قرأتُ ذلك المصحف، فإذا فيه أخباركم وسِيَرُكُم ولحونُ كلامكم، وشَمُّوا من القبر رائحةً طيبةً، ووجدوا الميتَ بحالِه لم يَبْلَ، فكتب في ذلك أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب، فأمره أن يحفِرَ بالنهار بضعةَ عشرَ قبرًا، فإذا كان الليلُ دَفَنَه في قبرٍ من تلك القبور لِيَخفَى أثرُه، لئلا يُفتَتَنَ به الناسُ، فينزلون به ويُصلُّون عنده ويتخذونه مسجدًا
(1)
.
وقد اتفق المسلمون على أن
الصلاةَ عند القبور
غيرُ مشروعة، فلا تجب ولا تُستَحبّ، ولم يَقُلْ قَطُّ أحدٌ من علماءِ المسلمين أن الصلاةَ عندْ قبرٍ أو مسجدٍ أو مشهدٍ على قبرٍ سواء كان قبرَ نبيّ أو غير نبي، أن ذلك مستحب، أو أن الصلاةَ هناك أفضل من الصلاة في غيره، فمن اعتقد ذلك أو قالَه أو عَمِلَ به فقد فارقَ إجماعَ المسلمين وخَرجَ عن سبيل المؤمنين.
وقد تنازع العلماءُ في الصلاة في المقبرة، قيل: هي محرَّمة أو مكروهة أو مباحة، ولم يَقُل أحدٌ منهم: إنها مستحبة ولا واجبة.
والذي عليه جماهير العلماء أنها منهيٌّ عنها نهيَ، تحريم أو نهيَ تنزيه، وكثيرٌ منهم يقول: إنها باطلةٌ.
والمقبرة وإن كان قد قال بعضهم: إنها ثلاثةُ أَقْبُرٍ فصاعدًا، فلم
(1)
نقل ابن كثير في "البداية والنهاية"(2/ 376 - 378) خبر دنيال هذا عن يونس بن بكير عن ابن إسحاق بإسنادِه إلى أبي العالية؛ ومن كتاب "أحكام القبور" لابن أبي الدنيا بإسناده إلى أبي موسى الأشعري.
يتنازعوا في أن المسجد المبني على قبرِ لا فرقَ بين أن يُبنَى على قَبرٍ أو أكثر، كالذين لعنَهم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم إنما كانوا يَبنُون المسجد على قبرٍ واحد، قبرِ نبي أو رجلٍ صالح. وإن كان بعضُ من نهَى عن الصلاة في المقبرة علَّلَه بالنجاسة، فإنه لا يُعلِّل الصلاة في المسجد المبني على قبر بالنجاسة، بل قد نَصَّ هؤلاء -كالشافعي وغيرِه- على أن العلَّة هنا خشيةُ الافتتان بالقبر التي هي [سبب] الشرك.
وأما الصلاة في المقبرة فالعلة الصحيحة عند محققيهم أيضًا إنما هي مُشابهتُه للمشركين وأن ذلك قد يُفضِي إلى الشرك، كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقتَ طلوع الشمس ووقتَ غروبها، وقال: إنه حينئذٍ يَسجُد لها الكفَّار
(1)
. ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم
(2)
وغيره عن أبي مَرثد الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تُصَلُّوا إليها". فنهى أن يكون في القبلة قبر.
وفي صحيح البخاري
(3)
عن أنس قال: كنتُ أصلِّي وهناك قبرٌ، فقال عمر بن الخطاب: القبر القبر! فظننتُه يقول: القمر، وإذا هو يقول: القبر. أو كما قال.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الصلاة إلى القبر وإن لم يَقصِد العبدُ السجودَ له، فكيف بمن يسجد للقبرِ؟ فإن هذا شرك. وقد روى
(1)
أخرجه مسلم (832) عن عمرو بن عبسة ضمن حديث طويل.
(2)
برقم (972). وأخرجه أيضًا أحمد (4/ 135) وأبو داود (3229) والترمذي (1050، 1051) والنسائي (2/ 67).
(3)
1/ 523 (مع "الفتح") معلّقًا.
الإمام أحمد
(1)
عن معاذ بن جبل أنه لما قَدِمَ الشامَ وجدَهم يسجدون لأسَاقِفَتِهم، فلما رجعَ سجدَ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما هذا يا معاذ؟ "، فقال: يا رسولَ الله! رأيتُهم يسجدون لأساقفتهم وعُظَمائهم، ويذكرون ذلك عن أنبيائهم، فقال:"إنه لا يَصلُح السجودُ إلا الله، ولو كنتُ آمرُ أحدًا أن يَسجُد لأحدٍ لأمرتُ المرأةَ أن تَسجُدَ لزوجها، لعِظَمِ حقَه عليها". ثم قال: "يا معاذ! أرأيتَ لو مررتَ بقبري أكنتَ ساجدًا إليه؟ "، قال: لا، قال:"فلا تسجد لي". فمعاذٌ كان يَعلم أن السجودَ للقبور لا يجوز.
قال تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29))
(2)
. وهذا في كتاب الله كثير جدًا.
وقال تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38))
(3)
.
وقال تعالى: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ
(1)
4/ 381. وأخرجه البزار كما في "كشف الأستار" (2/ 175).
(2)
سورة الأنبياء: 26 - 29.
(3)
سورة الزمر: 36 - 38.
يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3))
(1)
وقال تعالى عن إبراهيم الخليل: (فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)) الآيات إلى (وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82))
(2)
.
وفي الصحيحين
(3)
عن عبد الله بن مسعود قال: لمَّا
(4)
[نزلتْ (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) شقَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أيُّنا لا يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم "ليس هو كما تظنّون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13))].
كان يُظَنُّ أن السجود للحيّ مشروع، كما ذكر في قصة يوسف، وكما ذكر في قصة أهل الكهف أن أولئك اتخذوا عليهم مسجدًا، فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنه في شريعتِنا لا يَصلُح السجودُ إلا لله، كما بيّن في الأحاديث المتقدمة أن الذين اتخذوا على أهل الكهف مسجدًا من الذين نهانا رسولُنا أن نتشبَّهَ بهم.
وكذلك التمسُّح بالقبور - كاستلامِها باليد وتقبيلها بالفم- منهيٌّ عنه باتفاق المسلمين، حتى إنهم قالوا فيمن زار قبرَ النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لا يَستلِمُه بيدِه ولا يُقبِّله بفمِه، فلا يُشبه بيت المخلوق ببيت الخالق الذي هو الكعبة البيت الحرام، فإن الله شرعَ أن يَستَلِم الحجرَ الأسودَ
(1)
سورة فاطر: 2 - 3.
(2)
سورة الأنعام: 78 - 82.
(3)
البخاري (32، 3360، 3428 ومواضع أخرى) ومسلم (124).
(4)
سقط بعدها ذكر الحديث الوارد في تفسير آية الأنعام السابقة، فاضفناه بين معكوفتين، ولا ندري مقدار السقط بعده.
الذي بمنزلة يمينه في الأرض، وأن يُقبّله أيضًا، حتى إنه يُستحبُّ إذا لم يُمكِن تقبيلُه أن يُقبِّلَ اليدَ التي استلَمتْه، حتى إنه يستحبُّ استلامُه بالمِحْجَنِ والعصا ونحو ذلك إذا لم يُمكِن استلامُه باليد. وكذلك الركن اليماني يستحبُّ استلامُه. ولم يَستلم النبي صلى الله عليه وسلم من أركان البيت الأربعة إلا الركنينِ اليمانيينِ، لأنهما بُنيا على قواعدِ إبراهيم، وأما الركنانِ اللذانِ يَلِيَانِ الحِجْرَ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَستلمْهما، ولهذا لا يستحبُّ استلامُهما عند الأئمة الأربعة وعامةِ العلماء، كما لا يُستَحبُّ أن يَستلِمَ الرجلُ جوانبَ بيتِ الله، ولا يستحبُّ تقبيلُ ذلك أيضًا. وكذلك مقام إبراهيم الذي قال الله تعالى فيه:(وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً)
(1)
لم يَستلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُقبِّلْه، ولا يُشْرَعُ ذلك فيه بل يُنهَى عنه باتفاقِ العلماء. فإذا كان مقام إبراهيم الذي ذكره الله تعالى في القرآن لا يُشْرَع أن يَتَمسَّحَ العبدُ به فكيف سائر المقامات والمشاهد التي يُقال: إنها أثر بعضِ الأنبياء والصالحين؟.
وإذا كان قبر نبينا لا يُشرَع باتفاق المسلمين بأن يُقبَّلَ أو يمَسَّح به، فكيف بقبر غيره؟ وفي سنن أبي داود
(2)
عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر". وقال أيضًا
(3)
: "صَلُّوا عَليَّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تَبلُغني".
ولهذا رأى عبد الله بن حسن بن حسين بن علي بن أبي طالب رجلًا يُكثِر الاختلاف إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا هذا! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبرِي عيدًا، فصَلُّوا عليَّ حيثما كنتم، فإن
(1)
سورة البقرة: 125.
(2)
برقم (2042) عن أبي هريرة.
(3)
كما في المصدر السابق.
صلاتكم تبلغني"، فما أنتَ ورجلٌ بالأندلس فيه إلا سواء. ذكره سعيد بن منصور في سننه
(1)
، ورَوى بنحو هذا المعنى علي بن الحسين زين العابدين عن أبيه الحسين عن علي بن أبي طالب. ذكره أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ في صحيحه
(2)
.
ورُوِي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اللهمَّ لا تجعلْ قبري وثنًا يُعبَد، اشتدَّ غضبُ الله على قومٍ اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ". رواه مالك في "الموطأ"
(3)
، وعن مالك مرسلًا ومسندًا.
وقد كانت حجرةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم التي هو الآن مدفونٌ فيها هي حجرة عائشة، وكانتْ شرقيَّ المسجد لم تكن داخلة فيه، وكان حُجَرُ أزواجِ النبي صلى الله عليه وسلم قبلي المسجد وشرقيّه، وكانت منفصلةً عن المسجد على عهد الخلفاء الراشدين إلى عهد الوليد بن عبد الملك، فإنه عَمرَ المسجدَ وغيرَه، وكان عمر بن عبد العزيز نائبَه على المدينةِ، فتولَّى هو عمارةَ المسجدِ، فأدخلَ فيه حُجَرَ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وأدخلَ فيه حجرةَ عائشة، وأمر عمرُ أن يُحَرَّفَ الحجرة عن يمينِ القبلة، وأن يُسَنَّم مؤخَّرُها، لئلَاّ يُصلَّي أحدٌ إلى قبر ..
(4)
.
(1)
وأخرجه أيضًا عبد الرزاق في "مصنفه"(3/ 577) وغيره بنحوه، انظر "تحذير الساجد"(ص 141)، ولكن في هذه المصادر أن الذي أنكر هو حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب.
(2)
وأخرجه أيضًا إسماعيل القاضي في "فضل الصلاة على النبي"(20).
(3)
1/ 172 عن عطاء بن يسار مرسلًا. قال ابن عبد البر: لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث.
(4)
انتهى الموجود من الأصل، وبعده خَرمٌ بفعل فاعلٍ!
فصل في حقّ الله وحقّ عبادته وتوحيده
الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يَهْدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم.
فصل في حق الله وحق عبادته وتوحيده
قد ثبت في الصحيحين
(1)
عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا معاذ بن جبل! أتدري ما حق الله على عباده؟ "، قلت: الله ورسولُه أعلم، قال:"حقُّه عليهم أن يعبدوه لا يُشرِكوا به شيئا. يا معاذ! أتدري ما حقُّ العبادِ على الله إذا فعلوا ذلك؟ "، قلت: الله ورسولُه أعلم، قال:"حقُّهم عليه أن لا يُعذِّبهم".
وروى الطبراني في كتاب الدعاء
(2)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يقول: "يا عبادي! إنما هي أربعٌ: واحدٌ لي، وواحدة [لك]، وواحدةٌ بيني وبينك، وواحدةٌ بينك وبين خلقي، فالتي هي لي: تعبدني لا تشرك بي شيئا، والتي هي لك: [عملك] أجزيك به أحوج ما تكون إليه، والتي بيني وبينك: منك الدعاء وعليَّ الإجابة، والتي بينك وبين خلقي: فأتِ إلى الناس ما تُحبُّ أن يأتوه إليك".
وضدُّ هذا الظلم، وهو ثلاثة أنواع، كما جاء في الحديث
(1)
البخاري (7373) ومسلم (30).
(2)
رقم (16) عن أنس. وإسناده ضعيف لضعف صالح بن بشير.
مرفوعًا
(1)
وموقوفًا على بعض السلف: "الظلم ثلاثة دواوين: ديوان لا يغفر الله منه شيئا، وديوانٌ لا يَعبأ الله به شيئا، وديوان لا يترك الله منه شيئا. فالديوان الذي لا يغفره الله هو الشرك، والديوان الذي لا يَعبأ الله به شيئا ظلم العبد فيما بينه وبين ربه، والذي لا يترك منه شيئا ظلم العباد بعضهم بعضًا.
فالتوحيد ضدُّ الشرك، فإذا قام بالتوحيد الذي هو حقُّ الله، فعَبَدَه لم يُشرِك به شيئا، ومن عبادته التوكل عليه والرجاء له والخوف منه، فهذا يَخْلُصُ به العبد من الشرك. وإعطاءُ الناسِ حقوقَهم وامتناعه من العدوان عليهم يَخْلُص به العبدُ من ظلمهم، وبطاعة الله يَخْلُص من ظُلم نفسِه.
وتقسيمُه في الحديث إلى قوله "واحدةٌ لي وواحدة لك" هو مثل تقسيمه في حديث الفاتحة
(2)
حيث يقول الله تعالى: "قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: نصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل". والعبد يَعُود عليه نفعُ الصنفين، والله تعالى يُحِبُّ الصنفين، لكن هو سبحانه يُحِبّ أن يُعبَد، وما يُعطِيه العبدَ من الإعانة والهداية هو وسيلة إلى ذلك، فإنما يُحبُّه لكونه طريقًا إلى عبادته. والعبد يطلب ما يحتاج إليه أولًا، وهو محتاجٌ إلى الإعانة على العبادة والهداية إلى الصراط المستقيم، وبذلك يَصِل إلى العبادة. فهو يطلب ما يحتاج إليه أولًا مما يتوسَّل به إلى محبوب الربّ الذي فيه سعادتُه.
(1)
أخرجه أحمد في مسنده (6/ 240) والحاكم في "المستدرك"(4/ 575 - 576) عن عائشة مرفوعًا. وضعفه الألباني في تعليقه على "المشكاة"(5133) و"شرح الطحاوية"(ص 326).
(2)
أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 84) ومسلم (395) عن أبي هريرة.
وكذلك قوله "عملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه"، فإنه يحب الثواب الذي هو جزاء العمل، فإنما يعمل لنفسه، لها ما كسبتْ وعليها ما اكتسبت. ثم إذا طلب العبادة فإنما يطلبها من حيث هي نافعة له محصِّلَة لسعادته، فلا يطلب العبد قَطُّ إلا ما فيه حظٌّ له، وإن كان الربُّ يُحِبُّ ذلك فهو يطلبه من حيث هو ملائم له، والربُّ تعالى يحبُّ أن يُعبَد لا يُشرَك به شيئا، ومن فعل ذلك من العباد أحبَّه وأثابَه، فيَحصُل للعبد ما يُحِبُّه من النعيم تبعًا لمحبوب الربّ، وهذا كالبائع والمشتري، البائع يريد أولًا الثمن، ومن لوازم ذلك إرادة تسليم المبيع، والمشتري يريد السلعة، ومن لوازم ذلك إرادة إعطاء الثمن.
فالرب تعالى يُحبّ أن يُعبَد، ومن لوازم ذلك أن يحبّ مالا تَحصُل العبادةُ إلا به، والعبد يحبّ ما يحتاج إليه وينتفع به، ومن لوازم ذلك محبته لعبادة الله تعالى. فمن عَبَد اللهَ وأحسن إلى الناس لله فهذا قائم بحقّ الله وحقّ عبادِه لأجله، ومن طلبَ منهم العوضَ ثناءً أو دعاءً أو غير ذلك لم يُحسِن إليهم لله. ومن خافَ اللهَ فيهم ولم يَخَفْهم فقد قام بحقّ الله في إخلاص الدين له، وقام بحقّهم، فإنّ خوف الله يحمله على أن يعطيهم مالهم ويَكُفَّ عن ظلمهم؛ ومن [لم] يخفِ اللهَ بل خافَ الناسَ، ولم يَرجُ الله بل رَجَا الناسَ فهذا ظالم في حق الله، حيث خافَ غيرَه ورَجَا غيرَه، وظالم للناس لأنه إذا خافهم دون الله فإنه يحتاج أن يدفعَ شرَّهم عنه، وهو إذا لم يخفِ اللهَ بنفسِه وهواه يختار العدوانَ عليهم والبغي، فإن طبع النفس ظُلم من لا يظلمها، فكيف من يظلمها؟ فتجد هذا الضربَ كثيرَ الخوف من الخلق كثير الظلم لمن يخافه بحسبه. وهذا مما يُوقع الفِتنَ بين الناس.