الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَوْقَ بَعْضٍ، وَالضَّمِيرُ الْأَوَّلُ فِي قَوْلِهِ:(يَغْشَاهُ) رَاجِعٌ إِلَى الْبَحْرِ، وَالضَّمِيرُ الثَّانِي: فِي قَوْلِهِ: (مِنْ فَوْقِهِ) عَائِدٌ إِلَى الْمَوْجِ، ثُمَّ إِنْ تِلْكَ الْأَمْوَاجَ مُغْشَاةٌ بِسَحَابٍ، فَهَاهُنَا ظُلُمَاتٌ: ظُلْمَةُ الْبَحْرِ اللُّجِّيِّ، وَظُلْمَةُ الْمَوْجِ الَّذِي فَوْقَهُ، وَظُلْمَةُ السَّحَابِ: الَّذِي فَوْقَ ذَلِكَ كُلِّهِ إِذَا أَخْرَجَ - مَنْ فِي هَذَا الْبَحْرِ - يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا.
[مَطْلَبٌ فِي بَحْثِ كَادَ]
" مَطْلَبٌ فِي بَحْثِ كَادَ " وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ فَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ: هُوَ نَفْيٌ لِمُقَارَبَةِ رُؤْيَتِهَا وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الرُّؤْيَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُنْفَى وُقُوعُ الشَّيْءِ وَلَا تُنْفَى مُقَارَبَتُهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَمْ يُقَارِبْ رُؤْيَتَهَا بِوَجْهٍ.
قَالَ هَؤُلَاءِ: وَكَادَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ لَهَا حُكْمُ سَائِرِ الْأَفْعَالِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَإِذَا قِيلَ: كَادَ يَفْعَلُ، فَهُوَ إِثْبَاتٌ لِمُقَارَبَةِ الْفِعْلِ، فَإِذَا قِيلَ: لَمْ يَكَدْ يَفْعَلُ فَهُوَ نَفْيٌ لِمُقَارَبَةِ الْفِعْلِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى، بَلْ هَذَا دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَرَاهَا بَعْدَ جُهْدٍ شَدِيدٍ وَفِي ذَلِكَ إِثْبَاتُ رُؤْيَتِهَا بَعْدَ أَعْظَمِ الْعُسْرِ ; لِأَجْلِ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ، قَالُوا: لِأَنَّ كَادَ لَهَا شَأْنٌ لَيْسَ لِغَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ فَإِنَّهَا إِذَا
أَثْبَتَتْ نَفَتْ وَإِذَا نَفَتْ أَثْبَتَتْ. فَإِذَا قُلْتَ: مَا كِدْتُ أَصِلُ إِلَيْكَ فَمَعْنَاهُ: وَصَلْتُ إِلَيْكَ بَعْدَ الْجُهْدِ وَالشِّدَّةِ فَهَذَا إِثْبَاتٌ لِلْوُصُولِ، وَإِذَا قُلْتَ: كَادَ زَيْدٌ يَقُومُ فَهِيَ نَفْيٌ لِقِيَامِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ. .} [القلم: 51] الْآيَةَ وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ مُلْغِزًا:
أَنَحْوِيَّ هَذَا الْعَصْرِ مَا هِيَ لَفْظَةٌ
…
جَرَتْ فِي لِسَانَيْ جُرْهُمٍ وَثَمُودِ
إِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي صُورَةِ النَّفْيِ أُثْبِتَتْ
…
وَإِنْ أُثْبِتَتْ قَامَتْ مَقَامَ جُحُودِ
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ: مِنْهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ: إِنَّ اسْتِعْمَالَهَا مُثْبَتَةٌ يَقْتَضِي نَفْيَ خَبَرِهَا كَقَوْلِكَ: كَادَ زَيْدٌ يَقُومُ، وَاسْتِعْمَالُهَا مَنْفِيَّةٌ يَقْتَضِي نَفْيَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَهِيَ عِنْدُهُ تَنْفِي الْخَبَرَ سَوَاءٌ كَانَتْ مَنْفِيَّةً أَوْ مُثْبَتَةً (فَلَمْ يَكَدْ زَيْدٌ يَقُومُ) أَبْلَغُ عِنْدَهُ فِي النَّفْيِ مِنْ (لَمْ يَقُمْ) ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهَا إِذَا نُفِيَتْ وَهِيَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ فَقَدْ نَفَتْ مُقَارَبَةَ الْفِعْلِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِهِ، وَإِذَا اسْتُعْمِلَتْ مُثْبِتَةً فَهِيَ تَقْتَضِي مُقَارَبَةَ اسْمِهَا لِخَبَرِهَا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ وَاعْتَذَرَ عَنْ مَثْلِ
قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ. .} [البقرة: 71] الْآيَةَ وَعَنْ مِثْلِ قَوْلِهِ: وَصَلْتُ إِلَيْكَ وَمَا كِدْتُ أَصِلُ. وَسَلِمْتُ وَمَا كِدْتُ أَسْلَمُ. بِأَنَّ هَذَا وَارِدٌ عَلَى كَلَامَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ أَيْ: فَعَلْتُ كَذَا بَعْدَ أَنْ لَمْ أَكُنْ مُقَارِبًا لَهُ فَالْأَوَّلُ: يَقْتَضِي وُجُودَ الْفِعْلِ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُقَارِبًا لَهُ بَلْ كَانَ آيِسًا مِنْهُ فَهُمَا كَلَامَانِ مَقْصُودٌ بِهِمَا أَمْرَانِ مُتَغَايِرَانِ، وَذَهَبَتْ فَرِقَّةٌ رَابِعَةٌ: إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَاضِيهَا وَمُسْتَقْبَلِهَا، فَإِذَا كَانَتْ فِي الْإِثْبَاتِ فَهِيَ لِمُقَارَبَةِ الْفِعْلِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي أَوِ الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ كَانَتْ فِي طَرَفِ النَّفْيِ، فَإِنْ كَانَتْ بِصِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ كَانَتْ لِنَفْيِ الْفِعْلِ وَمُقَارَبَتِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40]، وَإِنْ كَانَتْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فَهِيَ تَقْتَضِي الْإِثْبَاتَ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] .
فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ طُرُقٍ لِلنُّحَاةِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا فِعْلٌ يَقْتَضِي الْمُقَارَبَةَ وَلَهَا حُكْمُ سَائِرِ الْأَفْعَالِ، وَنَفْيُ الْخَبَرِ لَمْ يُسْتَفَدْ مِنْ لَفْظِهَا وَوَضْعِهَا فَإِنَّهَا لَمْ تُوضَعْ لِنَفْيِهِ، وَإِنَّمَا اسْتُفِيدَ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَاهَا، فَإِنَّهَا إِذَا اقْتَضَتْ مُقَارَبَةَ الْفِعْلِ لَمْ يَكُنْ وَاقِعًا فَيَكُونُ مَنْفِيًّا بِاللُّزُومِ، وَأَمَّا إِذَا اسْتُعْمِلَتْ مَنْفِيَّةً فَإِنْ كَانَتْ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ فَهِيَ لِنَفْيِ الْمُقَارَبَةِ كَمَا إِذَا قُلْتَ: لَا يَكَادُ الْبَطَّالُ يُفْلِحُ وَلَا يَكَادُ الْبَخِيلُ يَسُودُ وَلَا يَكَادُ الْجَبَانُ يَفْرَحُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ فِي كَلَامَيْنِ اقْتَضَتْ وُقُوعَ الْفِعْلِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُقَارِبًا كَمَا قَالَ ابْنُ مَالِكٍ، فَهَذَا التَّحْقِيقُ فِي أَمْرِهَا وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَوْلَهُ
تَعَالَى {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] إِمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَارِبُ رُؤْيَتَهَا لِشِدَّةِ الظُّلْمَةِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَإِذَا كَانَ لَا يُقَارِبُ رُؤْيَتَهَا فَكَيْفَ يَرَاهَا.
قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
إِذَا غَيَّرَ النَّائِي الْمُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ
…
رَسِيسُ الْهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
أَيْ: لَمْ يُقَارِبِ الْبَرَاحَ وَهُوَ الزَّوَالُ فَكَيْفَ يَزُولُ، فَشَبَّهَ سُبْحَانَهُ أَعْمَالَهُمْ أَوَّلًا فِي فَوَاتِ نَفْعِهَا وَحُصُولِ ضَرَرِهَا عَلَيْهِمْ بِسَرَابٍ خَدَّاعٍ يَخْدَعُ رَائِيِهِ مِنْ بَعِيدٍ فَإِذَا جَاءَهُ وَجَدَ عِنْدَهُ عَكْسَ مَا أَمَّلَهُ وَرَجَاهُ، وَشَبَّهَهَا ثَانِيًا فِي ظُلْمَتِهَا وَسَوَادِهَا لِكَوْنِهَا بَاطِلَةً خَالِيَةً عَنْ نُورِ الْإِيمَانِ بِظُلُمَاتٍ مُتَرَاكِمَةٍ فِي لُجُجِ الْبَحْرِ الْمُتَلَاطِمِ الْأَمْوَاجِ الَّذِي قَدْ غَشِيَهُ السَّحَابُ مِنْ فَوْقِهِ فَيَالَهُ تَشْبِيهًا مَا أَبْدَعَهُ وَأَشَدَّهُ مُطَابَقَةً بِحَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ وَحَالِ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ سبحانه وتعالى عَلَى خِلَافِ مَا بَعَثَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنْزَلَ بِهِ كِتَابَهُ.
وَهَذَا التَّشْبِيهُ هُوَ تَشْبِيهٌ لِأَعْمَالِهِمُ الْبَاطِلَةِ بِالْمُطَابَقَةِ وَالتَّصْرِيحِ وَلِعُلُومِهِمْ وَعَقَائِدِهِمُ الْفَاسِدَةِ بِاللُّزُومِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ السَّرَابِ وَالظُّلُمَاتِ مَثَلٌ لِمَجْمُوعِ عُلُومِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ فَهِيَ سَرَابٌ لَا حَاصِلَ لَهَا وَظُلُمَاتٌ لَا نُورَ فِيهَا.