الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَلَى الْعَرْشِ بِذَاتِهِ؟ قُلْنَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 59] فَإِنْ قَالُوا: فَإِنَّ الْعَرَبَ يَقُولُونَ: اسْتَوَى فُلَانٌ عَلَى بَلَدِ كَذَا وَكَذَا إِذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَقَهَرَ؟ قُلْنَا لِأَصْحَابِنَا عَنْ هَذَا أَجْوِبَةً:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِهِ الْعَرْشَ بِالِاسْتِوَاءِ مَعْنًى، لِأَنَّهُ مُسْتَوْلٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ غَيْرِهِ فَكَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْجَبَلِ اسْتَوَى وَهَذَا بَاطِلٌ.
الثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ لَا تُدْخِلُ ثُمَّ إِلَّا لِأَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ سَيَكُونُ وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ قَاهِرًا قَادِرًا مُسْتَوْلِيًا عَلَى الْأَشْيَاءِ فَلَمْ يَكُنْ بِزَعْمِهِمْ لِقَوْلِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] مَعْنًى.
الثَّالِثُ: أَنَّ الِاسْتِوَاءَ بِمَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ لَا يَكُونُ عِنْدَ الْعَرَبِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ مُغَالِبٌ يُغَالِبُهُ فَإِذَا غَلَبَهُ وَقَهَرَهُ قِيلَ: قَدِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَعَ اللَّهِ مُغَالِبٌ لَمْ يَكُنْ مَعْنَى اسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ اسْتِيلَائِهِ عَلَيْهِ وَغَلَبَتِهِ، وَصَحَّ أَنَّ اسْتِوَاءَهُ (عَلَيْهِ) هُوَ عُلُوُّهُ وَارْتِفَاعُهُ عَلَيْهِ بِلَا حَدٍّ وَلَا كَيْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ. ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ وَابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْعُلُوُّ وَالرِّفْعَةُ ; لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: اسْتَوَتِ الشَّمْسُ إِذَا تَعَالَتْ، وَاسْتَوَى الرَّجُلُ عَلَى ظَهْرِ دَابَّتِهِ إِذَا عَلَاهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44] أَيِ: ارْتَفَعَتْ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص: 14] أَيِ: ارْتَفَعَ عَنْ حَالِ النُّقْصَانِ إِلَى حَالِ الْكَمَالِ، وَقَوْلُهُ: اسْتَوَى أَمْرُ فُلَانٍ أَيِ ارْتَفَعَ وَعَلَا عَنِ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا مِنَ الضَّعْفِ وَسُوءِ الْحَالِ وَسَاقَ الْكَلَامَ.
[ذِكْرُ قَوْلِ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ]
(ذِكْرُ قَوْلِ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيِّ) فِي آخِرِ كُتُبِهِ وَهُوَ كِتَابُ أَقْسَامِ اللَّذَّاتِ الَّذِي
صَنَّفَهُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَهُوَ كِتَابٌ مُفِيدٌ ذَكَرَ فِيهِ أَقْسَامَ اللَّذَّاتِ وَبَيَّنَ أَنَّهَا ثَلَاثَةٌ: الْحِسِّيَّةُ: كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنِّكَاحِ وَاللِّبَاسِ. وَاللَّذَّةُ الْخَيَالِيَّةُ الْوَهْمِيَّةُ: كَلَذَّةِ الرِّيَاسَةِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّرَفُّعِ وَنَحْوِهَا. وَاللَّذَّةُ الْعَقْلِيَّةُ: كَلَذَّةِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ. وَتَكَلَّمَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَمَّا اللَّذَّةُ الْعَقْلِيَّةُ: فَلَا سَبِيلَ إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهَا وَالتَّعَلُّقِ بِهَا فَلِهَذَا السَّبَبُ نَقُولُ: يَا لَيْتَنَا بَقِينَا عَلَى الْعَدَمِ الْأَوَّلِ، وَلَيْتَنَا مَا شَهِدْنَا هَذَا الْعَالَمَ، وَلَيْتَ النَّفْسَ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهَذَا الْبَدَنِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قُلْتُ:
نِهَايَةُ إِقْدَامِ الْعُقُولِ عِقَالُ
…
وَأَكْثَرُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلَالُ
وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَا
…
وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ
وَلَمْ نَسْتَفِدْ مَنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمُرِنَا
…
سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلَ وَقَالُوا
وَكَمْ قَدْ رَأَيْنَا مِنْ رِجَالٍ وَدَوْلَةٍ
…
فَبَادُوا جَمِيعًا مُسْرِعِينَ وَزَالُوا
وَكَمْ مِنْ جِبَالٍ قَدْ عَلَتْ شُرُفَاتُهَا
…
رِجَالٌ فَزَالُوا وَالْجِبَالُ جِبَالُ
وَاعْلَمْ أَنَّهُ بَعْدَ التَّوَغُّلِ فِي هَذِهِ الْمَضَائِقِ وَالتَّعَمِيقِ فِي الِاسْتِكْشَافِ عَنْ أَسْرَارِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ رَأَيْتُ الْأَصْوَبَ الْأَصْلَحَ فِي هَذَا الْبَابِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَالْفَرْقَانِ الْكَرِيمِ، وَهُوَ تَرْكُ التَّعَمُّقِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِأَقْسَامِ أَجْسَامِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ عَلَى وُجُودِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ثُمَّ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعْظِيمِ مِنْ غَيْرِ خَوْضٍ فِي التَّفَاصِيلِ فَاقْرَأْ فِي التَّنْزِيهِ قَوْلَهُ تَعَالَى:
{وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد: 38] وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، وَاقْرَأْ فِي الْإِثْبَاتِ قَوْلَهُ:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وَقَوْلَهُ تَعَالَى:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، وَقَوْلَهُ تَعَالَى:{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78]، وَفِي تَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَنْبَغِي قَوْلَهُ:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النساء: 79]