الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْبَصِيرَةِ وَالْإِيمَانِ وَسَلَبَ الرُّجُوعَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَى الْإِيمَانِ.
[فَصْلٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ. . .} [البقرة: 19] الْآيَةَ]
ثُمَّ ضَرَبَ اللَّهُ سبحانه وتعالى لَهُمْ مَثَلًا آخَرَ مَائِيًّا فَقَالَ تَعَالَى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة: 19] فَشَبَّهَ نَصِيبَهُمْ مِمَّا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم مِنَ النُّورِ وَالْحَيَاةِ بِنَصِيبِ الْمُسْتَوْقِدِ لِلنَّارِ الَّتِي طُفِئَتْ عَنْهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهَا وَذَهَبَ نُورُهُ وَبَقِيَ فِي الظُّلُمَاتِ حَائِرًا تَائِهًا لَا يَهْتَدِي سَبِيلًا وَلَا يَعْرِفُ طَرِيقًا، وَبِنَصِيبِ أَصْحَابِ الصَّيِّبِ وَهُوَ الْمَطَرُ الَّذِي يَصُوبُ أَيْ يَنْزِلُ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ فَشَبَّهَ الْهُدَى الَّذِي هَدَى بِهِ عِبَادَهُ بِالصَّيِّبِ، لِأَنَّ الْقُلُوبَ تَحْيَا بِهِ حَيَاةَ الْأَرْضِ بِالْمَطَرِ، وَنَصِيبَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ هَذَا الْهُدَى بِنَصِيبِ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنَ الصَّيِّبِ إِلَّا ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ وَلَا نَصِيبَ لَهُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالصَّيِّبِ مِنْ حَيَاةِ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ وَالشَّجَرِ وَالدَّوَابِّ، وَأَنَّ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ الَّتِي فِيهِ، وَذَلِكَ الرَّعْدَ وَالْبَرْقَ مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ وَسِيلَةٌ إِلَى كَمَالِ الِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ الصَّيِّبِ، فَالْجَاهِلُ لِفَرْطِ جَهْلِهِ يَقْتَصِرُ عَلَى الْإِحْسَاسِ بِمَا فِي الصَّيِّبِ مِنْ ظُلْمَةٍ وَرَعْدٍ وَبَرْقٍ وَلَوَازِمُ ذَلِكَ مِنْ بَرْدٍ شَدِيدٍ وَتَعَطُّلِ مُسَافِرٍ عَنْ سَفَرِهِ وَصَانِعٍ عَنْ صَنْعَتِهِ، وَلَا بَصِيرَةَ لَهُ تَنْفُذُ إِلَى مَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُ ذَلِكَ الصَّيِّبِ مِنَ الْحَيَاةِ
وَالنَّفْعِ الْعَامِّ، وَهَكَذَا شَأْنُ كُلِّ قَاصِرِ النَّظَرِ ضَعِيفِ الْعَقْلِ لَا يُجَاوِزُ نَظَرُهُ الْأَمْرَ الْمَكْرُوهَ الظَّاهِرَ إِلَى مَا وَرَاءَهُ مِنْ كُلِّ مَحْبُوبٍ. وَهَذِهِ حَالُ أَكْثَرِ الْخَلْقِ إِلَّا مَنْ صَحَّتْ بَصِيرَتُهُ، فَإِذَا رَأَى ضَعِيفُ الْبَصِيرَةِ مَا فِي الْجِهَادِ مِنَ " التَّعَبِ " وَالْمَشَاقِّ وَالتَّعَرُّضِ لِتَلَافِ الْمُهْجَةِ وَالْجِرَاحَاتِ الشَّدِيدَةِ وَمَلَامَةِ اللُّوَّامِ وَمُعَادَاةِ مَنْ يَخَافُ مُعَادَاتَهُ لَمْ يُقْدِمْ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ مِنَ الْعَوَاقِبِ الْحَمِيدَةِ وَالْغَايَاتِ الَّتِي إِلَيْهَا تَسَابَقَ الْمُتَسَابِقُونَ وَفِيهَا تَنَافَسَ الْمُتَنَافِسُونَ، وَكَذَلِكَ مَنْ عَزَمَ عَلَى سَفَرِ الْحَجِّ إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ فَلَمْ " يَعْلَمْ " مِنْ سَفَرِهِ ذَلِكَ إِلَّا مَشَقَّةَ السَّفَرِ وَمُفَارَقَةَ الْأَهْلِ وَالْوَطَنِ وَمُقَاسَاةَ الشَّدَائِدِ وَفِرَاقَ الْمَأْلُوفَاتِ وَلَا يُجَاوِزُ نَظَرُهُ وَبَصِيرَتُهُ آخِرَ ذَلِكَ السَّفَرِ وَمَآلَهُ وَعَاقِبَتَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ إِلَيْهِ وَلَا يَعْزِمُ عَلَيْهِ وَحَالُ هَؤُلَاءِ حَالُ ضَعِيفِ الْبَصِيرَةِ وَالْإِيمَانِ الَّذِي يَرَى مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالزَّوَاجِرِ وَالنَّوَاهِي وَالْأَوَامِرِ الشَّاقَّةِ عَلَى النُّفُوسِ الَّتِي تَفْطِمُهَا عَنْ رِضَاعِهَا مِنْ ثَدْيِ الْمَأْلُوفَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَالْفِطَامُ عَلَى الصَّبِيِّ أَصْعَبُ شَيْءٍ وَأَشَقُّهُ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ صِبْيَانُ الْعُقُولِ إِلَّا مَنْ بَلَغَ مَبَالِغَ الرِّجَالِ الْعُقَلَاءِ الْأَلِبَّاءِ وَأَدْرَكَ الْحَقَّ عِلْمًا وَعَمَلًا وَمَعْرِفَةً فَهَذَا الَّذِي يَنْظُرُ إِلَى مَا وَرَاءِ الصَّيِّبِ وَمَا فِيهِ مِنَ الرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَالصَّوَاعِقِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ حَيَاةُ الْوُجُودِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: " لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: شَبَّهَ دِينَ
الْإِسْلَامِ بِالصَّيِّبِ لِأَنَّ الْقُلُوبَ تَحْيَا بِهِ حَيَاةَ الْأَرْضِ بِالْمَطَرِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ شَبَهِ الْكُفَّارِ بِالظُّلُمَاتِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِالرَّعْدِ وَالْبَرْقِ وَمَا يُصِيبُ الْكَفَرَةَ مِنَ الْأَفْزَاعِ وَالْبَلَايَا وَالْفِتَنِ مِنْ جِهَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِالصَّوَاعِقِ، وَالْمَعْنَى: أَوْ كَمَثَلِ ذَوِي صَيِّبٍ وَالْمُرَادُ كَمَثَلِ قَوْمٍ أَخَذَتْهُمُ السَّمَاءُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَلَقُوا مِنْهَا مَا لَقُوا. قَالَ: وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ لَا يَتَخَطَّوْنَهُ أَنَّ التَّمْثِيلَيْنِ جَمِيعًا مِنْ جِهَةِ التَّمْثِيلَاتِ الْمُرَكَّبَةِ دُونَ الْمُفَرَّقَةِ لَا يَتَكَلَّفُ لِوَاحِدٍ وَاحِدٌ شَيْئًا يُقَدَّرُ شَبَهُهُ بِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ الْفَحْلُ، وَالْمَذْهَبُ الْجَزْلُ بَيَانُهُ أَنَّ الْعَرَبَ تَأْخُذُ أَشْيَاءَ فُرَادَى مَعْزُولًا بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ لَمْ يَأْخُذْ هَذَا بِحُجْزَةِ ذَاكَ فَشَبَّهَهَا بِنَظَائِرِهَا. . كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ حَيْثُ شَبَّهَ كَيْفِيَّةً حَاصِلَةً مِنْ مَجْمُوعِ أَشْيَاءَ قَدْ تَضَامَنَتْ وَتَلَاصَقَتْ حَتَّى
عَادَتْ شَيْئًا وَاحِدًا بِأُخْرَى مِثْلِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] الْآيَةَ، الْغَرَضُ تَشْبِيهُ حَالِ الْيَهُودِ فِي جَهْلِهَا بِمَا مَعَهَا مِنَ التَّوْرَاةِ وَآيَاتِهَا الْبَاهِرَةِ بِحَالِ الْحِمَارِ فِي جَهْلِهِ بِمَا يَحْمِلُ مِنْ أَسْفَارِ الْحِكْمَةِ، وَتُسَاوِي الْحَالَتَيْنِ عِنْدَهُ مَنْ حَمَلَ أَسْفَارَ الْحِكْمَةِ وَحَمَلَ مَا سِوَاهَا مِنَ الْأَوْقَارِ وَلَا يَشْعُرُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِمَا يَمُرُّ بِدُفَّيْهِ مِنَ الْكَدِّ وَالتَّعَبِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45] الْآيَةَ، الْمُرَادُ: قِلَّةُ بَقَاءِ زَهْرَةِ الدُّنْيَا كَقِلَّةِ بَقَاءِ هَذَا الْخَضِرِ، فَأَمَّا أَنْ يُرَادَ تَشْبِيهُ الْأَفْرَادِ بِالْأَفْرَادِ غَيْرِ مَنُوطٍ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَمَصِيرُهُ شَيْئًا وَاحِدًا فَلَا. فَكَذَلِكَ لَمَّا وَصَفَ وُقُوعَ الْمُنَافِقِينَ فِي ضَلَالَتِهِمْ وَمَا خُبِّطُوا فِيهِ مِنَ الْحَيْرَةِ وَالدَّهْشَةِ شُبِّهَتْ حَيْرَتُهُمْ وَشِدَّةُ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ بِمَا يُكَابِدُ مَنْ طُفِئَتْ نَارُهُ بَعْدَ إِيقَادِهَا فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَخَذَتْهُ السَّمَاءُ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ مَعَ رَعْدٍ وَبَرْقٍ وَخَوْفٍ مِنَ الصَّوَاعِقِ، قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: أَيُّ التَّمْثِيلَيْنِ أَبْلَغُ؟ قُلْتُ: الثَّانِي لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى فَرْطِ