المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل ولهم زيارةٌ أخرى أعلى من هذه وأجلُّ، وذلك حين يزورون - حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

الفصل: ‌ ‌فصل ولهم زيارةٌ أخرى أعلى من هذه وأجلُّ، وذلك حين يزورون

‌فصل

ولهم زيارةٌ أخرى أعلى من هذه وأجلُّ، وذلك حين يزورون ربهم تبارك وتعالى، فيريهم وجهَه، ويُسْمعهم كلامَه، ويحلُّ عليهم رضوانه.

وسيمرُّ بك ذكر هذه الزيارة عن قريبٍ، إنْ شاء اللَّهُ تعالى

(1)

.

(1)

في الباب (61).

ص: 570

الباب الستون: في ذكر سوق الجنَّة وما أعدَّ اللَّهُ تعالى فيه

(1)

لأهلها

قال مسلم في "صحيحه"

(2)

: حدثنا سعيد بن عبد الجبار الصَّيرفي، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ في الجنَّة لسُوقًا يأتونها كلَّ جمعة، فتهبُّ ريحُ الشمال، فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حُسنًا وجمالًا، فيرجعون إلى أهليهم، وقد ازدادوا حُسنًا وجمالًا، فيقول لهم أهلوهم: واللَّهُ لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالًا، فيقولون: وأنتم واللَّهِ لقد ازددتم بعدنا حُسنًا وجمالًا".

ورواهُ الإمام أحمد في "مسنده" عن عفَّان، عن حماد بن سلمة به

(3)

. وقال: "فيها كثبان المسكِ فإذا خرجوا إليها هبَّت الرِّيح"

(4)

.

وقال ابن أبي عاصم في كتاب "السنة": حدثنا هشام بن عمَّار حدثنا عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن سعيد بن المسيب أنَّه لقيَ أبا هريرة، فقال أبو هريرة: أسأل اللَّه أنْ يجمع بيني وبينك في سوقِ الجنَّة، فقال سعيد: أوَ فيها سوق؟ قال: نعم، أخبرني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أنَّ أهلَ الجنَّة إذا دخلوها نزلوها بفضل

(1)

ليس في "هـ"، ووقع في "أ""وما أُعِدَّ فيه".

(2)

برقم (2833).

(3)

من "أ، ج، هـ".

(4)

"المسند"(3/ 284 - 285).

ص: 571

أعمالهم، فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا، فيزورون اللَّه تبارك وتعالى، فيبرز لهم عرشه، ويتبدَّى لهم في روضة من رياض الجنَّة، فيوضع لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ياقوت، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، ويجلس أدناهم - وما فيها دنيٌّ - على كثبان المسك والكافور، وما يرون أنَّ أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسًا، قال أبو هريرة: فقلتُ: هل

(1)

نرى ربنا عز وجل؟ قال: نعم، قال: هل تمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدرِ؟ قلنا: لا، قال: فكذلك لا تمارون في رؤية ربكم تبارك وتعالى، ولا يبقى في ذلك المجلس أحدٌ إلَّا حاضره اللَّه محاضرة، حتَّى يقول: يا فلان بن فلان، أتذكر يوم فعلت كذا وكذا؟ فيُذَكِّره ببعض غدراته في الدنيا، فيقول: بلى، فيقول: يا رب أفلم تغفر لي؟ فيقول: بلى، فبمغفرتي بلغتَ منزلتك هذه، قال: فبينما هم على ذلك، غشيتهم سحابة من فوقهم، فأمطرت عليهم طيبًا لم يجدوا مثل ريحه شيئًا قطُّ، ثمَّ يقول ربنا تبارك وتعالى: قُوموا إلى ما أعددتُ لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم، قال: فيأتون سوقًا قد حفَّتْ به

(2)

بها الملائكة، فيه ما لم تنظرِ العيون إلى مثله، ولم تسمع الآذانُ، ولم يخطر على القلوب، قال: فيُحمل لنا ما اشتهينا ليس يباع فيه شيءٌ ولا يُشْتَرى، وفي ذلك السُّوق يلقى أهل الجنَّة بعضهم بعضًا، قال: فيقبل ذو البِزَّة المرتفعة فيلقى من هو دونه - وما فيهم دنيٌّ - فيروعه ما يرى

(1)

في السنة: (يا رسول اللَّه، هل. . .)، وفي جميع النسخ "أبو هريرة: وهل".

(2)

ليس في "أ"، وفي باقي النسخ:"بها"، والمثبت من نسخة على حاشية "أ".

ص: 572

عليه من اللباس والهيئة، فما ينقضي آخر حديثه حتَّى يتمثل عليه أحسنَ منه، وذلك أنَّه لا ينبغي لأحد أنْ يحزن فيها، قال: ثمَّ ننصرف إلى منازلنا فيلقانا أزواجنا، فيقلن: مرحبًا وأهلًا بمُحِبِّنَا

(1)

، لقد جئتَ وإنَّ بك من الجمالِ والطَّيب أفضل ممَّا فارقتنا عليه، فيقول: إنَّا جالسنا اليومَ ربنا الجبَّار تبارك وتعالى، وبحقنا أنْ ننقلبَ بمثل ما انقلبنا"

(2)

.

ورواه الترمذي في "صفة الجنَّة": عن محمد بن إسماعيل عن هشام بن عمار. وليس في هذا الإسناد من ينظر فيه إلَّا عبد الحميد بن حبيب وهو كاتب الأوزاعي، فلا نُنْكِرُ عليه تفرده عن الأوزاعي بما لم يروهِ غيره، وقد قال الإمام أحمد وأبو حاتم الرَّازي: هو ثقة، وأمَّا دُحَيم والنسائي: فضعَّفاه، ولا يعرف أنَّه حدث عن غير الأوزاعي. والترمذي قال:"هذا الحديث غريب، لا نعرفه إلَّا من هذا الوجه".

قلتُ: وقد رواهُ ابن أبي الدنيا، عن الحكم بن موسى حدثنا هقل

(3)

بن زياد عن الأوزاعي قال: نُبِّئتُ أنَّ سعيد بن المسيب لقيَ أبا هريرة فذكره.

(1)

في "ب، د، هـ": "بحُبنا".

(2)

تقدم الكلامُ عليه في ص (177).

(3)

من نسخةٍ على حاشية "د"، وابن أبي الدنيا في "صفة الجنَّة" رقم (256)، ووقع في "ج":"يعلى"، وفي "أ، ب، د، هـ": "معلَّى"، وكلاهما خطأ.

ص: 573

وقال الترمذي: حدثنا أحمدُ بن منيع وهنَّاد قالا: حدثنا أبو معاوية أنبأنا عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد

(1)

عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ في الجنَّة لسوقًا ما فيها شراء ولا بيع إلَّا الصُّور من الرِّجال والنساء، فإذا اشتهى الرجل صورةً دخلَ فيها"

(2)

. قال: "هذا حديثٌ غريب".

وقال عبد اللَّه بن المبارك: أنبأنا سليمان التيمي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "يقول أهلُ الجنَّة: انطلقوا إلى السوق، فينطلقون إلى كثبان المسك

(3)

، فإذا رجعوا إلى أزواجهم، قالوا: إنَّا لنجدُ لكُنَّ ريحًا ما كانت لكُنَّ إذ خرجنا من عندكنَّ

(4)

قال: فيقُلنْ لقد رجعتم بريحٍ ما كانت لَكُمْ إذ خرجتم من عندنا

(5)

"

(6)

.

قال ابن المبارك: وأنبأنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: "إنَّ في الجنَّة لسوقًا على كثبان

(7)

مسك يخرجون إليها،

(1)

في "هـ": "سعيد" وهو خطأ.

(2)

(2550) وهو لا يثبت، راجع الكلام على هذا السند ص (293).

(3)

قوله "كثبان المسك" من جميع النسخ، ووقع عند ابن المبارك "الكثبان، أو قال: الجبال".

(4)

قوله: "إذ خرجنا من عندكن" سقط من "هـ".

(5)

من قوله: "قال: فيقلن لقد" إلى "عندنا" سقط من "ج".

(6)

أخرجه ابن المبارك في الزهد -رواية نعيم- رقم (241)، وابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (257).

وسنده صحيح.

(7)

قوله "لسوقا على كثبان" وقع في "أ، ب، د، هـ""سوقًا كثبان"، والمثبت من =

ص: 574

ويجتمعون إليها، فيبعث اللَّهُ تعالى ريحًا فتدخلها

(1)

بيوتهم فيقول لهم أهلوهم إذا رجعوا إليهم: قد ازددتم بعدنا حُسنًا، ويقولون لأهليهم: قد ازددتم أيضًا عندنا حسنًا"

(2)

.

وقال الحافظ محمد بن عبد اللَّه الحضرمي المعروف بمطيَّن: حدثنا أحمدُ بن محمد بن طريف البجلي حدثنا أبي حدثنا محمد بن كثير حدثني جابر الجُعفي عن أبي جعفر عن

(3)

علي بن الحسين عن جابر بن عبد اللَّه قال: "خرج علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ونحن مجتمعون، فقال: يا معشر المسلمين إنَّ في الجنَّة لسوقًا ما يُباع فيها ولا يُشترى إلَّا الصُّور، من أحبَ صورةً من رجل أو امرأةٍ دخل فيها"

(4)

.

= "ج" والزهد لابن المبارك.

(1)

في "ب، د": "فتدخلهم".

(2)

أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (258).

- ورواهُ ابن أبي عدي عن حميد به بمثله.

أخرجه المروزي في زياداته على الزهد لابن المبارك رقم (4191).

وسنده صحيح.

(3)

سقط من "أ".

(4)

أخرجه الطبراني في الأوسط (4/ 187) رقم (5664)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (419).

قال الهيثمي: "رواهُ الطبراني في الأوسط من طريق محمد بن كثير عن جابر الجعفي، وكلاهما ضعيف جدًّا".

انظر: مجمع الزوائد (8/ 149)، (5/ 125).

تنبيه: وقع عند أبي نعيم: عن أبي جعفر عن علي بن الحسين، ومثله في النسخ، ولعلَّه خطأ.

ص: 575

الباب الحادي والستون: في ذكر زيارة أهل الجنَّة ربَّهم تبارك وتعالى

قال الشافعي في "مسنده": حدثنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني موسى بن عبيدة قال: حدثني أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة عن عبد اللَّه بن عُبيد بن عُمَير أنَّهُ سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: أتى جبريل بمرآة بيضاء فيها وَكْتَةٌ

(1)

إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: ما هذه؟ قال: الجمعة، فُضِّلتَ بها أنتَ وأمتك، فالنَّاس لكم فيها تبعٌ: اليهودُ والنصارى، ولكم فيها خير، وفيها ساعة لا يوافقها مؤمن يدعو اللَّه بخيرٍ إلَّا استجيبَ له، وهو عندنا يوم المزيد، قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: يا جبريل وما يومُ المزيد؟ قال: إنَّ ربك اتخذَ في الفردوس واديًا أفيحَ فيه كثبُ مسكٍ، فإذا كان يوم الجمعة أنزل اللَّهُ تبارك وتعالى ما شاء من ملائكته، وحوله منابر من نور عليها مقاعد النَّبيين، وحَفَّ تلك المنابر بمنابر من ذهب مكللةٍ بالياقوتِ والزبرجد، عليها الشهداء والصِّدِّيقون، فجلسوا من ورائهم على تلك الكُثُب فيقول اللَّه تعالى: أنا ربُّكم قد صَدَقْتكم

(2)

وعْدِي، فسلوني أعطكم، فيقولون: ربنا نسألك رضوانك، فيقول: قد رضيت عنكم، ولكم عليَّ ما تمنيتم، ولديَّ مزيد، فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير، وهو اليوم الَّذي استوى فيه ربكم على العرشِ، وفيه خلق

(1)

والوكتة: الأثر في الشيء كالنقطة من غير لونه. والجمع: وَكْت.

النهاية (5/ 218).

(2)

في "أ، ب، د": "صدَّقتم"، والمثبت من مسند الشافعي وباقي النسخ.

ص: 576

آدم، وفيه تقوم الساعة"

(1)

.

ولهذا الحديث طرق سنشير إليها في باب المزيد إنْ شاء اللَّهُ تعالى

(2)

.

وروى أبو نعيم من حديث شيبان بن جُبير عن فَرْقَد

(3)

عن الحسن عن أبي بَرْزَة الأسلمي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم

(4)

قال: "إنَّ أهل الجنَّة ليغدون في حُلَّةٍ ويروحون في أخرى؛ كغدوِّ أحدكم ورواحه إلى ملك من ملوك الدنيا، كذلك يغدون ويروحون إلى زيارة ربِّهم عز وجل، وذلك لهم بمقادير ومعالم يعلمون تلك السَّاعة التي يأتون فيها ربهم عز وجل"

(5)

.

وقد رواهُ جعفر بن جَسْر بن

(6)

فرقد، عن أبيه مثله.

(1)

مسند الشافعي رقم (374). وسنده ضعيف جدًّا، فيه إبراهيم بن محمد الأسلمي: متروك، وموسى بن عبيدة الربذي: ضعيف.

(2)

في الباب (65)، ص (648 - 657).

(3)

قوله "شيبان بن جبير عن فرقد" وقع عند أبي نعيم "شيبان بن جسر بن فرقد حدثني أبي"، ووقع في "د":"جويبر" بدل "جبير". وفي "د": ". . . جبير بن فرقد" بدل "عن فرقد" ولعلَّ صوابه: "شيبان عن جسر بن فرقد حدثني أبي".

(4)

قوله "عن النَّبي صلى الله عليه وسلم" سقط من "أ، ج" وضُرِبَ عليها في "د"، وهي عند أبي نعيم وباقي النسخ.

(5)

أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (394).

وسنده ضعيف جدًّا، وقد تقدم الكلامُ على جَسْر بن فرقد ص (569) وهو شبه المتروك.

(6)

قوله "جسر بن" وقع في "د، هـ"(حسن) بدل (جسر) وهو خطأ. ووقع في "هـ""عن" بدل "بن".

ص: 577

وذكر أبو نعيم أيضًا: من حديث أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال: إذا سكن أهل الجنَّة الجنَّة، أتاهم مَلَكٌ يقول: إنَّ اللَّه تبارك وتعالى يأمركم أنْ تزوروه، فيجتمعون فيأمر اللَّهُ تبارك وتعالى داود عليه الصلاة والسلام، فيرفع صوته بالتسبيح والتهليل، ثمَّ توضع مائدة الخُلْد، قالوا: يا رسول اللَّه وما مائدة الخلد؟ قال زاوية من زواياها أوسع مما بين المشرق والمغرب، فيطمعون، ثمَّ يسقون، ثمَّ يكسون فيقولون: لم يبقَ إلَّا النظر في

(1)

وجه ربنا عز وجل، فيتجلَّى لهم فيخرون سُجَّدًا، فيقال لهم: لستم في دار عملٍ، إنَّما أنتم في دار جزاء"

(2)

.

وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو موسى إسحاق بن إبراهيم الهَرَوِي حدثنا القاسم بن يزيد المَوصِلي حدثنا أبو إلياس قال: حدثني محمد ابن علي بن الحسين قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

(3)

.

(1)

في "هـ": "إلى".

(2)

أخرجه أبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (397).

وفيه الحارثُ الأعور ضعيفٌ، واتُّهِم بالكذب، وخالد بن يزيد هو أمير العراق ضعيف وأحاديثه تدل على وهائه.

انظر: لسان الميزان (2/ 450 - 451).

(3)

أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (54)، والآجري في الشريعة رقم (626)، وأبو نعيم في صفة الجنَّة رقم (411)، كما في الحديث الآتي.

قال المنذري: "رواه. . . . هكذا معضلًا، ورفعه منكر".

وقال ابن كثير: "وهذا مرسل ضعيف غريب، وأحسن أحواله أنْ يكون من كلام بعض السلفِ فَوَهِمَ بعضُ رواته فجعله مرفوعًا، وليس كذلك واللَّه أعلم" النهاية (2/ 406).

ص: 578

وقال أبو نعيم: حدثني محمد بن علي بن حبيش حدثنا إبراهيم بن شريك حدثنا أحمد بن يونس حدثنا المُعَافَى بن عمران - وكان من خيار النَّاس - قال: حدثني إدريس بن سِنَان، عن وهب بن مُنَبه، عن محمد بن علي، قال إدريس: ثمَّ لقيت محمد بن علي بن الحسين بن فاطمة فحدثني قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنَّ في الجنَّة شجرةً يُقال لها طُوبَى، لو سُخِّرَ الجواد الرَّاكب أنْ يسير في ظلِّها لسار فيها مئة عام، ورقها برودٌ خضرٌ، وزهرها رياط صفْر، وأقناؤها سندس وإستبرق، وثمرها حُللٌ، وصمغها زنجبيل وعسل، وبطحاؤها ياقوت أحمر، وزمرد أخضر، وأترابها مسكٌ، وحشيشها زعفران، منبع الألنجوج

(1)

يؤجَّجان من غير وقود، يتفجَّر من أصلها أنهار السلسبيل والمعين والرَّحيق، وظلها مجلس من مجالس أهل الجنَّة يألفونه، ومتحدث يجمعهم، فبينا هم يتحدثون في ظلها إذ جاءتهم الملائكة يقودون نُجُبًا جُبِلت من الياقوت، ثمَّ نُفِخَ فيها الروح مزمومة بسلاسل من ذهبٍ، كأنَّ وجوهها المصابيح نضارةً وحسنًا، وَبَرُهَا حرير

(2)

أحمر، ومِرْعِزِّي أبيض مختلطان، لم ينظر الناظرون إلى مثلها، عليها رحائل

(3)

ألواحها من الدرِّ والياقوت، مُفضَّضة باللؤلؤ والمرجان، صفافها من الذهب الأحمر، ملبسة بالعبقري والأرجوان، فأناخُوا إليهم تلك النجائب، ثم قالوا لهم: إن ربكم تبارك وتعالى يقرئكم

(1)

الألنجوج: العود الذي يُتبخَّر به. النهاية (1/ 62).

(2)

في "هـ": "جزا" وعند ابن أبي نعيم "خَزٌّ".

(3)

كذا في جميع النسخ وابن أبي الدنيا، وعند أبي نعيم "رحال".

ص: 579

السلام، ويستزيركم لتنظروا إليه، وينظر اليكم، وتحيونه ويحييكم، ويكلمكم وتكلمونه، ويزيدكم من سعته وفضله، إنه ذو رحمة واسعة، وفضل عظيم. فيتحول كل رجل منهم على راحلته، ثم انطلقوا صفًّا واحدًا معتدلًا، لا يفوت منه شيء شيئًا، ولا يفوت أذن الناقة أذن صاحبتها، ولا بِرْكَة

(1)

ناقة بركة صاحبتها، ولا يمرون بشجرة من أشجار الجنة إلا أتحفتهم بثمرتها، وَرَحَلَتْ لهم عن طريقهم كراهية أن ينثلم صفهم، أو يفرق بين الرجل ورفيقه، فلما رفعوا إلى الجبار تبارك وتعالى أسفر لهم عن وجهه الكريم، وتجلى لهم في عظمته العظيمة، فقالوا: ربنا أنت السلام ومنك السلام، ولك حق الجلال والإكرام، فقال لهم ربُّهم تبارك وتعالى: إنِّي السلام، ومنِّي السلام، ولي حق الجلال والإكرام، مرحبًا بعبادي الذين حفظوا وصيتي، ورعوا عهدي، وخافوني بالغيب، وكانوا مني على كل حال مشفقين. قالوا: وعزتك وجلالك وعلو مكانك، ما قدرناك حق قدرك، وما أدينا إليك كل حقك، فائذن لنا بالسجود، فقال لهم ربهم تبارك وتعالى: إني قد وضعت عنكم مؤنة العبادة، وأرحتُ لكم أبدانكم، فطالما أنصبتم لي الأبدان، وأعنيتم لي الوجوه، فالآن أفضيتم إلى رَوحي ورحمتي وكرامتي، فسلوني ما شئتم، وتمنُّوا عليَّ أُعطِكُم أمانيكم، فإنِّي لن أجزِيَكُم اليوم بقدر أعمالكم، ولكن بقدر رحمتي وكرامتي، وَطَوْلي وجلالي، وعلو مكاني وعظمة شأني. فما يزالون في الأماني والعطايا

(1)

بركة: ما ولي الأرض من جلد بطن البعير وما يليه من الصدر، واشتقاقه من مبرك البعير. معجم تهذيب اللغة للأزهري (1/ 318).

ص: 580

والمواهب، حتَّى إنَّ المقتصر من أُمْنِيَّتِهِ ليتمنَّى مثلَ جميع الدنيا، منذ خلقها اللَّه عز وجل إلى يومِ أفناها، فقال لهم ربُّهم تبارك وتعالى: لقد قصَّرتم في أمانِيِّكم، ورضيتم بدون ما يحقُّ لكم، فقد أوجبتُ لكم ما سألتم وتمنيتم، وألحقت بكم ذريتكم وزدتكم ما قصرت عنه أمَانِيُّكم".

ولا يصحُّ رفعه إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، وحسبه أنْ يكون من كلام محمد بن علي، فغلط فيه بعض هؤلاء الضعفاء، فجعله من كلام النَّبي صلى الله عليه وسلم.

وإدريس بن سنان: هذا هو سِبْط وهب بن منبه ضَعَّفه ابن عدي، وقال الدَّارقطني: متروك، وأمَّا أبو إلياس المُتابِعُ له، فلا يُدرى من هو

(1)

، وأمَّا القاسم بن يزيد الموصلي الرَّاوي عنه فمجهول أيضًا، ومثل هذا لا يصح رفعه، واللَّهُ أعلم.

وقال الضحاك في قوله عز وجل: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) } [مريم: 85] قال: "على النجائب عليها الرِّحال"

(2)

.

(1)

تقدَّم أنَّه: إدريس بن سنان، فهو إذن ليس بمتابع.

(2)

أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (253) من طريق جويبر عنه. وجويبر ضعيف جدًّا.

ص: 581

الباب الثاني والستون: في ذكر السحاب والمطر الَّذي يصيبهم في الجنَّة

(1)

قد تقدَّم في حديث سوق الجنَّة أنَّه يغشاهم يوم الزيارة سحابةٌ من فوقهم، فتمطر عليهم طيبًا لم يجدوا مثلَ ريحه قطُّ

(2)

.

وقال بقية بن الوليد: حدثنا بَحِيْر بن سعد عن خالد بن مَعْدَان عن كثير بن مُرَّة قال: "إنَّ من المزيد أنْ تمرَّ السحابة بأهل الجنَّة، فتقول: ماذا تريدون أنْ أمطركم؟ فلا يتمنون شيئًا إلَّا مُطِرُوا"

(3)

.

وقال ابن أبي الدنيا: حدثني أزهر بن مروان، حدثنا عبد اللَّه بن عبد اللَّه

(4)

الشيباني عن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن صَيْفِي اليماني

(5)

، قال: سأله عبد العزيز بن مروان عن وفد أهل الجنَّة قال: إنَّهم يفدون إلى اللَّهِ سبحانه كلَّ خميس فيوضع لهم أسرَّة، كلُّ إنسانٍ منهم أعرف بسريره منك بسريرك هذا الَّذي أنت عليه، فإذا قعدوا عليه وأخذ القومُ مجالسهم قال تبارك وتعالى: أطعموا عبادي وخلقي وجيراني ووفدي، فيطعموا، ثمَّ يقول: أسقوهم، قال: فيأتون بآنية من ألوانٍ شتَّى مختمة

(6)

فيشربون منها، ثمَّ يقول: عبادي وخلقي وجيراني

(1)

قوله: "في الجنَّة" سقط من "ج".

(2)

انظر: ص (572).

(3)

تقدم ص (511).

(4)

كذا في جميع النسخ. وجاء عند ابن أبي الدنيا "عرادة". ولعله هو الصوابُ.

(5)

في "ب، د"، وابن أبي الدنيا:"اليمامي".

(6)

في "أ، ب، ج": "مجتمعة"، والمثبت من "هـ" وابن أبي الدنيا.

ص: 582

ووفدي قد طعموا وشربوا، فكِّهُوْهُم، فتجيء ثمرات شجر مدلاة، فيأكلون منها ما شاؤوا، ثمَّ يقول: عبادي وخلقي وجيراني ووفدي قد طعموا وشربوا وفكهوا، أكسوهم، فتجيء ثمرات شجر أخضر وأصفر وأحمر، وكل لونٍ لم تنبت إلَّا الحلل، فينشر عليهم حللًا وقُمصًا، ثمَّ يقول: عبادي وخلقي وجيراني ووفدي قد طعموا وشربوا وفكهوا وكُسوا، طيِّبوهم، فيتناثر عليهم المسلك مثل رُذاذِ المطرِ، ثمَّ يقول: عبادي وجيراني وخلقي ووفدي قد طعموا وشربوا وفَكهوا وكسوا وطيِّبوا لأتجلينَّ لهم حتَّى ينظروا إليَّ، فإذا تجلَّى لهم فنظروا إليه؛ نضرت وجوههم، ثمَّ يقال لهم: ارجعوا إلى منازلكم، فتقول لهم أزواجهم: خرجتم من عندنا على صورة، ورجعتم على غيرها؟ فيقولون: ذلك أنَّ اللَّه جلَّ ثناؤه تجلَّى لنا فنظرنا إليه، فنضرتْ وجوهنا"

(1)

.

وقال عبد اللَّه بن المبارك: أنبأنا إسماعيل بن عيَّاش، قال: حدثني ثعلبة بن مسلم عن أيوب بن بشير العجلي عن شُفي بن ماتع

(2)

أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ من نعيم أهل الجنَّة أنَّهم يتزاورون على المطايا والنجب، وأنَّهم يُؤْتَون في الجنَّة بخيلٍ مُلجمة مسرجة لا تروث ولا تبول، يركبونها حتَّى ينتهوا حيث شاء اللَّه، فيأتيهم مثلُ السحابة فيها

(1)

أخرجه ابن أبي الدنيا في صفة الجنَّة رقم (339).

وسنده ضعيف جدًا، فيه عبد اللَّه بن عَرَادة.

انظر: تهذيب الكمال (15/ 295).

(2)

في "ج": زيادة "الأصبحي".

ص: 583