الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفنون الجميلة
تعريف الفنون الجميلة:
الفنون الجميلة أو الصنائع النفيسة، وأسماها بعضهم نواضر الفنون وقيل إن العرب أطلقوا عليها اسم الآداب الرفيعة هي الصنائع التي من شأنها إدخال السرور بجمالها وجلالها على النفوس البشرية، وتربي ملكة الذوق والشعور، وهي سبعة أقسام: الموسيقى، الغناء، التصوير، النقش، البناء، الشعر والفصاحة، الرقص. وأرجعها بعضهم إلى ثلاثة فروع فقط: التصوير والشعر والموسيقى. ولقد كان لهذه الديار حظ كبير من هذه الفنون بقدر ما ساعدتها بقعتها وطاقتها، وربما تم فيها أشياء لم تصلنا أخبارها، أما الدول التي تعاقبت على الشام بعد الإسلام، فإن ما وصلنا من أنباء هذه الفنون فيها قد تعرّض له كاتبوه بالعرض كأن يكون المشتغل بالموسيقى أو التصوير مثلاً ذا مشاركة في فنون أُخرى من أدب وشعر، وطب وفلك، وحديث وفقه، أو أن القوم دوّنوا عامة سير الموسيقيين والمغنين والمصورين والنقاشين مثلاً فضاع ما دونوه في جملة ما ضاع من أخبار حضارتنا.
الموسيقى والغناء:
نشأت الموسيقى مع البشر ولازمتهم في جميع ما عرف من أدوارهم في حياتهم الخاصة والعامة، وفي مظاهر سلمهم وحربهم، وسعادتهم وشقائهم، وأفراحهم وأتراحهم، وسفرهم وحضرهم، وتعبهم وراحتهم، ودينهم ودنياهم، والمرء من طبعه أن لا يستغني عن رفع صورته، ليطرب نفسه وجليسه، وقلبه
يصبو بالفطرة إلى سماع أوتار تهزه وتطربه. فالموسيقى تجمع الحواس وتنشط لها النفوس، وبها يجسر الجبان، ويعطف اللئيم، ويرّق الكثيف، ويلين القاسي، ويقوى الضعيف، ويكف الظالم، ويعتدل المائل، فهي مدعاة السرور، مجلبة الطرب،
مسلاة الحزين، مفرّجة الكروب، مهوّنة الخطوب، عنوان الحياة الداخلية، مظهر الأخلاق القومية، مصورة الانفعالات النفسية، أصدق عامل على التحمس، أقوى دافع إلى النهوض والتحسس، معلمة أنفع الدروس الشريفة مذكرة بالمطالب العالية، فيها يتجلى العقل البشري بإشارات وحركات، تعمل عملها في الأفئدة والوجدانات.
ولقد ثبت أن العنصر السامي من أكثر العناصر ولوعاً بالطرب والخيال، وقيل: إن الحثيين من أقدم شعوب الشام كانوا أقل عناية بالموسيقى والغناء من جيرانهم البابليين والآشوريين والآراميين، ومع هذا كان لهم من الغناء ما ابتدعوه بفطرتهم، ومنه ما أخذوه من مجاوريهم. وكان الآراميون مولعين بالغناء والضرب بالإيقاع على آلات لهم يبوّقون بها ويزمرون، ويطرّبون بها فَيطرَبون، وهي بالطبع على حالة ابتدائية على مثال الشعوب التي سبقتهم إلى سبقتهم إلى سكنى هذا القطر. ومثل هذا يقال في الفينيقيين الذين اقتبسوا مدنية الفراعنة، وهم من أصل سامي، فإنهم كانوا يعرفون الموسيقى، ومنها ما نقلوه عن المصريين لتمازج مدنية السلائل المصرية بمدنية فينيقية الصغيرة، وإذ كان للمصريين عناية فائقة في معابدهم بالموسيقى على ما ظهر من تماثيلهم التي مثلت بها الضاربين والمغنين، تعلم جيرانهم أهل فينيقية بعض هذه العناية، ولكن على طريقة الاحتذاء لا إبداع فيها، ويقال ذلك في الكنعانيين والإسرائيليين فقد أُولعوا بها وظهرت آثارها في معابدهم وبيعهم، وأمام أربابهم ومعبوداتهم، وفي حروبهم وغاراتهم وأعيادهم ومآتمهم واجتماعاتهم، على ما فهم من نصوص التوراة. ومزامير داود مشهورة مذكورة، والآلات التي اشتهرت عند الشعوب القديمة وعانت استعمالها، ترجع في الأكثر إلى شبابة وبوق وصنج وطبل ودف.
ولقد دلت بعض النقوش التي عثر عليها في وادي موسى وجرش وتدمر أن العمالقة والنبط والعرب لم يكونوا أقل من الشعوب التي سبقتهم إلى نزول هذه
الديار ولوعاً بالتلحين والإيقاع والضرب على القيثار والنفخ بالمزمار، وقد
نقل اليونان والرومان إلى هذا القطر موسيقاهم وأُصول غنائهم على الأرجح كما نقلوا أربابهم، واقتبسوا أرباباً مع أربابهم، وإذ طال عهد دولتيهم كثيراً تأصلت موسيقاهم، وثبتت مصطلحاتهم، وربما نقلوا بعض مصطلح الأمة التي حكموا عليها، في غنائها وموسيقاها. ولما انتشرت النصرانية في الشام في القرن الثالث للميلاد عُني منتحلوها بالموسيقى في كنائسهم عناية اليهود بها من قبل في بِيعَهم، وإذ اقتبست النصرانية كثيراً من عادات الروم ومصطلحاتها لم تقصر في اقتباس الموسيقى والتلحين والغناء لثبوت فوائدها الروحية.
ولما جلت بعض القبائل العربية إلى الشام يوم سيل العرم وقبله وبعده، حملت معها ما ألفت أن تفزع إليه من اللحون، وتضرب عليه من الآلات، حتى إذا كان الإسلام، وكانت مدنية الفاتحين إلى السذاجة والفطرة، وكان غناؤهم لا يتعدى الحداء والإنشاد يوم الغارة والحَفْل، وفي ظل الخيام والآطام، أخذت موسيقاهم تقتبس من الموسيقى الشامية الرومية كما تقتبس من الموسيقى الفارسية. وقال بعض العارفين: كان اقتباسها من الموسيقى الفارسية فقط. وزعم بعضهم أن أخذها كان من الرومية أكثر. ولا يعقل أن يتأخر العرب في نقل الموسيقى إلى القرن الأول للهجرة واستعدادهم لها كاستعدادهم لغيرها من الفنون، ولهم من فطرتهم ومناخ أرضهم أعظم دافع للولوع بها، وهم المعروفون بحب الارتحال وكانت لهم صلات مع جيرانهم من الأمم الأخرى منذ الزمن الأطول ولم تكن أُمة من الأمم بعد فارس والروم أولع بالملاهي والطرب من العرب.
ومع هذا فنحن مضطرون أن نشايع القائلين بأن أول من غنى هذا الغناء العربي بمكة ابن مسجح، نقل غناء الفرس إلى غناء العرب. ثم كثر الموالي من الفرس فكانوا يتعلمون في مكة والمدينة، ومنها ينتقلون إلى الشام والعراق ومصر وغيرها
من الأصقاع التي استظلت براية الإسلام. وفي الأغاني أن سعيد ابن مسجح أبو عثمان مولى بني جُمح وقيل إنه مولى بني نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، مكي أسود مغنٍ متقدم، من فحول المغنيين وأكابرهم، هو أول من وضع الغناء منهم، ونقل غناء الفرس إلى غناء العرب، ثم رحل إلى الشام، وأخذ ألحان الروم.
وقيل: إن أول من أخرج الغناء العربي جرادة، جارية ابن جدعان وفيه نظر
فإن الغناء معهود من عهد عاد، حتى كان من جملة مغنياتهم الجرادتان اللتان يضرب بهما المثل فيقال غنته الجرادتان. وكان النظر بن الحارث بن كَلَدة أول من ضرب على العود أخذه عن الفرس وعلمه أهل مكة فانتشر في الحجاز وكان يتغنى أيضاً. وفي القصة التي ساقها صاحب الأغاني في الدعوة التي دعي إليها حسان بن ثابت في آل نُبيط وقد أتوا بجاريتين إحداهما رائقة والأخرى عزة فجلستا وأخذتا مزهريهما وضربتا ضرباً عجيباً وغنتا بقول حسان:
انظر خليلي بباب جلق هل
…
تبصر دون البلقاء من أحد
ورواية حسان نفسه أنه كان في الجاهلية مع جبلة بن الأيهم، وقد رأى عنده عشر قيان: خمس يغنين بالرومية بالبرابط الأعواد وخمس يغنين غناء أهل الحيرة، أهداهن إليه إياس بن قبيصة وكان يفد إليه من يغنيه من العرب من مكة وغيرها. في ذلك كله إشارة إلى أن الغناء العربي في الشام أقدم من الإسلام.
موسيقى كل أمة ملازمة لها كروحها، وهي مظهر من مظاهر حياتها، فلا يعقل أن تخلو أمة من روح حتى تجئ أمة أُخرى فتقبسها روحها. ولكن الأمة إذا اختلطت بأُخرى، وكان عند الثانية فضل على الأولى في شيء، وفي الثانية طبيعة الاقتباس ومرونة على الاحتذاء والتشبه، قد تحمل الأولى إلى الثانية ما ينمي فيها ذاك الروح فتعدله على أُسلوبها ومناحيها.
ولقد زعم بعضهم أن الإسلام لم يُحِلّ الموسيقى محلها اللائق بها، وادعى بعضهم
أنه حرمها، فكان الحظر أسهل من الإطلاق في نظرهم، بيد أن الإسلام وهو دين الفطرة لا يخرج عن حد قيود العقل، إلا أنه لا يقول بالإفراط في شيء حتى ولا بالعبادة، لأنه يكون قد دعا إذ ذاك إلى البطالة واللهو، وهما مخالفان للشرع، وبذلك تكون الموسيقى وبالاً على من يأخذ نفسه بها، ومصيبة على من ينصرف إلى سماعها، ولو صح ما قالوا فلماذا رأينا جِلّة من الصحابة والتابعين لحنوا وتغنوا، وسمعوا الألحان وطربوا لها، ولو لم يجزها الشارع الأعظم في أوقات معينة وحوادث وقعت، هل كان يجرأ أحد من أصحابه ومن بعدهم على الجلوس في مجالس الطرب، والدين غض والعهد بصاحبه غير بعيد، قال عبد الله بن قيس: كنت فيمن يلقى عمر مع أبي عبيدة مَقْدَمهُ الشام، فبينما عمر يسير إذ لقيه المقلّسون من أهل أذرعات بالسيوف والرّيحان فقال عمر:
امنعوهم فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين هذه سنتهم، أو كلمة نحوها، وإنك إن منعتهم منها يروا أن في نفسك نقضاً لعهدهم فقال: دعوهم. والتقليس الضرب بالدف والغناء واستقبال الولاة عند قدومهم المصر بأصناف اللهو. وقيل المقلس هو الذي يلبس القالس أو القلنسوة وهي أشبه بقبعات الروم.
ولما استقر الملك لأمية في الشام ودخلت الحضارة كان في جملة ما دخل إليه الغناء على صورة لا خنا فيها ولا تبذل، ولقد روى المبرّد أن معاوية استمع على يزيد ذات ليلة فسمع من عنده غناء أعجبه، فلما أصبح قال ليزيد: من كان مُلهيك البارحة فقال له يزيد: ذاك سائب خاثر، قال: إذاً فأخثر له من العطاء. وقالوا: إن معاوية قال لما دخل على ابن جعفر يعوده فوجده مُفيقاً وعنده جارية وفي حجرها عود: ما هذا يا ابن جعفر؟ فقال: هذه جارية أروّيها رقيق الشعر فتزيده حسناً بحسن نغمتها قال: فلتقل، فحركت عودها وغنت وكان معاوية قد خضب.
أليس عندك شكر للذي جعلت
…
ما ابيض من قادمات الريش كالحمم
وجددت منك ما قد كان أخلقه
…
ريب الزمان وصرف الدهر والقدم
فحرك معاوية رجله فقال له ابن جعفر: لم حركت رجلك يا أمير المؤمنين قال: كل كريم طروب.
ورأينا بعض خلفاء بني أُمية في دمشق وأُمراءهم وساداتهم، يضعون ألحاناً ويسمعون الغناء ويولعون بالموسيقى، ويجيزون أربابهم ويواسونهم من غير نكير: ومنهم عمر بن عبد العزيز، وناهيك به من كامل، في جميع الفضائل. فقد دوّنت له صنعة في الغناء أيام إمارته على الحجاز سبعة ألحان يذكر سعاد فيها، وكان أحسن خلق الله صوتاً. قال أبو الفرج: وأما الألحان التي صنعها فهي محكمة لا يقدر على مثلها إلا من طالت دربته بالصنعة وحذق في الغناء. وممن صنع في شعره غناءً يزيد بن عبد الملك الأموي وممن غنى وله أصوات صنعها مشهور وكان يضرب بالعود ويوقع بالطبل ويمشي بالدف على مذهب أهل الحجاز، الوليد بن يزيد. وقد ذكروا أنه كان للخلفاء من بني العباس غناء، ومنهم من كان يضرب بالعود، ومن خلفاء العباسيين السفاح والمنصور والواثق وابن المعتز والمعتضد وكثير غيرهم من أبناء الخلفاء، دع سائر الطبقات من أهل
الرفاهية والسعة، ممن كانوا في كل زمان ينشطون إلى سماع الأغاني، ويبرون الرجال والنساء من أرباب الموسيقى والغناء، ويغالون بابتياع الجواري اللائي حذقن الغناء، وبرعن في الموسيقى وشدون شيئاً من الأدب.
وكانت تغلو في العادة قيمة مثل هذه الطبقة من الجواري. والسواذج منهن أي غير المثقفات دون من عُني أولياؤهن بثقافتهن في الرتبة والقيمة مهما بلغ من جمالهن، والموسيقى والشعر في مقدمة ما كان يطلب منهن. وذكر المسعودي أن كثيراً من الجواري اشتهرن بالغناء بالمدينة، وكان يقصدهن بعض الناس من بغداد، وربما وافى الواحدة وجوه أهل المدينة من قريش والأنصار وغيرهما، ومنهن القارئة
القوّالة، ولم تكن محبة القوم إذا ذاك لريبة ولا فاحشة. وكان لبعض الموسيقيين والموسيقيات والمغنين من أرباب النباهة والفضل، يد في إصلاح بعض الأحوال وتخفيف النوازل عند العظماء، ولطالما ارتجلوا ألحاناً وأبياتاً ظاهرها طرب وغرام وسلوى، وباطنها وعظ وعبرة وتعريض، ذلك لأن الموسيقى عندهم كانت على الأغلب مرافقة للشعر والأدب، وكم من شاعر تدفقت الحكمة على قلبه، وجاش بها صدره، فهذّب نفساً بل نفوساً بأبيات يقولها.
جاء أبو النصر الفارابي الفيلسوف إلى الشام على عهد سيف الدولة بن حمدان فأدهشه ومن عنده من الموسيقيين على إتقانهم لها، وأقام في دمشق ومات فيها، قال ابن أبي أُصيبعة: إن الفارابي المعلم الثاني وصل في علم صناعة الموسيقى وعملها إلى غاياتها، وأتقنها إتقاناً لا مزيد عليه، وإنه صنع آلة غريبة يسمع عنها ألحاناً بديعة، يحرّك بها الانفعالات، ويحكى أن القانون الذي كان يضرب عليه للطرب هو من وضعه، وأنه كان أول من ركّب هذه الآلة تركيبها المعهود اليوم. وقد ذكر المؤرخون من تنافس سيف الدولة بن حمدان مع الوزير المهلبي للاستئثار بمغنية أديبة مشهورة اسمها الجيداءُ ما يدلّ على ولوع القوم بالموسيقى، وكان لجيداءُ في مجالس سيف الدولة من ارتجال الألحان والأدب البارع ما اشتهر أمره، وفي عصره اشتهرت في إنطاكية المغنية المشهورة بنت يُحنا.
ولم تبرح الشام تخرج من رجال الموسيقى والغناء رجالاً كانوا بهجة
عصورهم، ومنهم أبو المجد بن أبي الحكم من الحكماء المشهورين من أهل القرن السادس، كان يعرف الموسيقى ويلعب بالعود، ويجيد الإيقاع والغناء والزمر وسائر الآلات، عمل أرغناً وبالغ في إتقانه (1) وحاول أيضاً عمل الأرغن واللعب به أبو زكريا يحيى البياسي من أطباء الناصر صلاح الدين.
وكان من البارعين في هذا الفن من العلماء قسطاً بن لوقا البعلبكي وعبد المؤمن
بن فاخر ونجم الدين بن المنفاخ المعروف بابن العالمة وفخر الدين الساعاتي. وكان رشيد الدين بن خليفة أعرف زمانه بالموسيقى واللعب بالعود، وأطيبهم صوتاً ونغمة حتى إنه شوهد من تأثير الأنفس عند سماعه مثل ما يحكى عن أبي نصر الفارابي، فكثر إعجاب المعظم به جداً وحَظيَ عنده. ومنهم علم الدين قيصر أخذ الموسيقى عن الفيلسوف كمال الدين بن يونس في الموصل.
وكان أحمد بن صدقة طُنبورياً مقدماً حاذقاً حسن الغناء ومحكم الصنعة، وكان ينزل في الشام فاستدعاه المتوكل إلى بغداد وأجزل صلته. وكان خلفاء بني العباس كلما سمعوا بنابغة في هذا الفن حملوه من القاصية وأغدقوا عليه الهبات ذكراً كان أم أُنثى، ولهم في ذلك نوادر إن لم تصحّ كلها ففي بعضها إشارة إلى ما كانوا فيه من حب هذا الفنّ.
ومنهم الجمال البستي كان يلعب بالجغانة الأصل الصغانة وهي القيثارة ولي خطابة جامع التوبة بدمشق على عهد الملك الأشرف، فلما توفي تولى موضعه العماد الواسطي الواعظ وكان يتهم باستعمال الشراب، وصاحب دمشق يومئذ الصالح عماد الدين إسماعيل. فكتب إليه عبد الرحيم المعروف بابن زويتينية الرحبي أبياتاً، يعرّض بها الرجلين ويرجو أن يعاد جامع التوبة إلى ما كان عليه محله من قبل، وهو خان للفسق والفجور، لأن حظه حتى بعد أن صار جامعاً أن يتولاه موسيقار، وشرّيب عقار، فقال:
يا مليكاً أوضح الحقّ
…
لدينا وأبانَهْ
جامع التوبة قد
…
قلّدني منه أمانهْ
قال قل للملك الصا
…
لح أعلى الله شانه
يا عماد الدين يا من
…
حمد الناس زمانه
كم إلى كم أنا في ضّرٍ
…
وبؤسٍ وإهانه
لي خطيب واسطي
…
بعشق الشرب ديانه
والذي قد كان من قب
…
لُ يغني بجغانه
فكما نحن فما زل
…
نا ولا أبرح حانه
ردّني للنمط الأو
…
ل واستبقِِ ضمانه
وكان محمد بن علي الدهان المتوفى سنة 731 شاعراً موسيقياً ملحناً قانونياً دهاناً، وكان الكمال القانوني من المشهورين في عصره بقانونه، وصفه عبد الرحمن بن المسجف 635 الدمشقي فقال:
لو كنت عينت الكمال وجسّه
…
أوتار قانون له في المجلس
لرأيت مفتاح السرور بكفه ال
…
يسرى وفي اليمنى حياة الأنفس
وذكر ابن حجر في أخبار سنة 779 أن دنيا بنت الاقباعي المغنية الدمشقية اشتهرت بالتقدم في صناعتها، فاستدعاها الناصر حسن على البريد إلى مصر فأكرمها، ثم وفدت على الأشرف فحظيت عنده، وهي كانت من أعظم الأسباب في إسقاط مكس المغاني، سألت السلطان في ذلك فأجابها إليهن واستمر إبطاله في الدولة. واشتهرت في القرن الثامن بدمشق فرحة بنت المخايلة المغنية كما اشتهرت المغنية المعروفة بالحضرمية وهي التي كانت مع عرب آل مِرا يوم وافوا دمشق لحرب التتر في زهاء أربعة آلاف فارس، فكانت تغنيهم من الهودج سافرة وكانوا يرقصون بتراقص المهاري وتقول:
وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة
…
ليلي لاقينا جُذاماً وحميرا
لما لقينا عصبة تغلبية
…
يقودون جُرداً للمنية ضمّرا
لما قرعنا النبع بالنبع بعضه
…
ببعض أبت عيدانه أن تَكسرا
لقيناهم كأسا سقونا بمثله
…
ولكنهم كانوا على الموت أصبرا
ومنذ الزمن الأطول إلى أيامنا ما خلت الشام من عوادة وطنبورية وكراعة وربابية
وصناجة ورقاصة وزفانة. ولم يخل عصر بعد زهو الشام على عهد الأمويين والعباسيين ومن بعدهم من المماليك وغيرهم من مبرزين في الغناء والموسيقى. واشتهر في دمشق بضرب القانون وكان أستاذاً فيه أحمد التلعفري 813 كان كاتب المنسوب. ومن النابهين ابن القاطر الدمشقي من أهل القرن الحادي عشر كانت له شهرة عند أرباب هذا الفن فإذا حضروا معه مجلساً عظّموه وتراخوا في العمل حتى يشير إليهم، ذكر ذلك المحبي وترجم له ولرجب بن علوان الحموي وقال: إن هذا كان يعرف الموسيقى على اختلاف أنواعها وهو أعرف من أدركه وسمع به، وله أغان صنعها على طريقة أساتذة هذا الفن. ومنهم برسلوم الحلبي رئيس أطباء الدولة العثمانية ونديم السلطان محمد بن إبراهيم كان حسن الصوت عارفاً بالموسيقى. واشتهرت أُسرة بني فرفور في القرنين الماضيين بدمشق بالشعر والآداب وقد أخرجت رجلين من أبنائها عارفين بالموسيقى وهما جمال الدين وعبد الرحمن.
وفي تراجم أهل الغناء الذي كتبه الكنجي المتوفى سنة 1150هـ ترجمة ستة وعشرين مغنياً من معاصريه في دمشق وفيهم المؤذن والمنشد في الأذكار والمغني على الآلات الموسيقية، مما يدل على الإقبال على الموسيقى حتى في أعصر الظلمات فإذا كانوا في عصره على هذا القدر في دمشق فقط فكم كان في حلب وغيرها من المدن، وحلب مشهورة من القديم بغرام أبنائها بالموسيقى منذ عهد سيف الدولة بن حمدان، دع الموسيقيات والمغنيات ممن غفل المؤرخون عن ذكرهم أمثال علوة محبوبة البحتري في حلب التي ذكرها كثيراً في شعره الخالد.
ومن الموسيقيين من كانوا يمارسون الموسيقى للتكسب وهم المحترفون، ومنهم من كان يخدم هذا الفن المهم حباً به وهم الهواة، ومن هؤلاء طبقة من الرجال والنساء لا يستهان بها ولكنها كانت ولا زالت متكتمة، ومنهم من تستعمل من الموسيقى أو
تسمع منها ما لا يعبث بوقارها إن كانت من أرباب
المظاهر الدينية أو الدنيوية مخافة أن ترمى بما يثلم الشرف، لأن بعض الفقهاء شددوا على الغناء والموسيقى، وكان بعضهم يعد ساقطاً من العدالة كل من يغني بأجرة من الموسيقيين والمغنين، ويتسامحون مع من يغني في جماعة من أصحابه، ويعون الغناء فناً يفقر صاحبه، وجاء في الأمة مثل شيخ الإسلام عبد العزيز ابن عبد السلام 660 وكان على نسكه وورعه يحضر السماع ويرقص ويتواجد والناس تقول في المثل ما أنت إلا من العوام ولو كنت ابن عبد السلام. وصناعة الغناء كما قال ابن خلدون: آخر ما يحصل في العمران من الصنائع لأنها كمالية، وأول ما ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه.
ولقد أدركنا وأدرك أجدادنا أن الشام كلها كانت لا تخلو معظم طبقاتها من موسيقيين، وكل مجلس من مجالسهم أو سهرة من سهراتهم، أو نزهة من نزهاتهم، كانت تضم أُناساً أتقنوا هذا الفن حتى صار لهم ملكة، فكان السرور يملأ القصور والدور، والموسيقى والإنشاد من الأمور المألوفة لا يستغني عنها بحال، أما في القرى والبوادي فكان لهم الغناء والحداء، وضرب الرباب والقيثارة والمزمار والدف والكوبة، أي أن لهم ما يطرب آذانهم وترتاح إليه أرواحهم وتسهل معاناته وممارسته، ومن مشاهير الموسيقيين في النصف الأول من القرن الماضي محمد السؤالاتي الدمشقي أخذ عنه أرباب الموسيقى في عصره من المصريين والشاميين ذكره في سفينة الملك.
ومن أهل المظاهر الذين عُرفوا بالموسيقى في أوائل هذا القرن الشيخ أبو الهدى الصيادي من حلب وعبد الرزاق البيطار من دمشق وكانا من أساتذة هذا الفن الجليل، ومنهم من عُنوا بالموسيقى فبرزوا فيها من أبناء هذه الديار مثل محمود الكحال. أحمد السفرجلاني. عمر الجراح. عبد القادر الحفني. محيي الدين كرد
علي. سامي الشوا. رحمون الحلبي. توفيق الصباغ. علي الدرويش. باسيل الحجار. محمد الشاويش. نجيب زين الدين. مصطفى سليمان بك. شفيق شبيب. محمد علي الأسطه. رضا الجوخدار. مصطفى الصواف حمدي ملص. رجب خلقي. يوسف الزركلي. محمد الأنصاري. محمد محمود الأتاسي. ميشيل الله ويردي. مدحت الشربجي. اليكسي بطرس. اليان نعمة. إسكندر معلوف. بولس صلبان. نصوح الكيلاني. تحسين يوقلمه جي. عباد الحلو. طلعت شيخ الأرض. حسن التغلبي. جميل البربير. أحمد التنير. أمين
النقيب. محي الدين بعيون. وديع صبرا. عزت الصلاح. قسطندي الخوري. أحمد الشيخ. محمد الجراح. إبراهيم شامية. فريد الأطرش. وغيرهم ممن جعلوا الموسيقى حرفة أو للتسلية في خلواتهم ومنهم من كانوا صلة بين الموسيقى القديمة والموسيقى الجديدة. ومن المنشدات المطربات فريدة مخيش. رمزية جمعة. خيرية السقا. نادرة. فيروز. أسمهان الأطرش. ماري جبران. ماري عكاوي. لور دكاش.
ولقد أنبغت بيروت وحلب كثيرين من المغنين والغالب أن في هاتين المدينتين خاصية حسن الصوت. سألت صديقنا الشيخ كامل الغزي من أساتذة حلب عن المغنين والموسيقيين في بلده فكتب لي رسالة قال فيها:
إن حلب لا تخلو في أكثر أوقاتها من الشداة والمترنمين الذي يعدون بالمئات ويعرف عند الحلبيين من يأخذ على غنائه أجرة باسم ابن الفن، ومن رجال أواسط القرن الماضي مصطفى يشبك، فتح نادياً لممارسة الفنون الموسيقية دعاه بقاعة بيت مشمشان، كان يختلف إليه في أوقات معينة كثير من المولعين بالموسيقى ليتلقوها عن أستاذها. وما زال الحلبيون يضربون المثل بالمكان الذي تتوفر فيه دواعي الطرب فيقولون: ولا قاعة بيت مشمشان. ومن رجال أواسط القرن الماضي عبد الله البويضاتي ومن رجال القرن الماضي وأوائل القرن الحالي مجمد
بن عبده. إسماعيل السيخ. جبرا الأكشر. آجق باش. طاهر النقش. محمد الوراق. الدرويش صالح قصير الذيل. محمد غزال. باسيل حجار. أحمد سالم. بن عقيل. وممن أخذ عن هذا بعض فصول الرقص المعروف بالسماح السيد أحمد أبو خليل القباني الممثل الموسيقار الدمشقي والسيد عبده الحمولي المطرب المصري وهما من المشاهير. ومن تلامذته امرأة قنصل إيطاليا في حلب كانت تقول إن السيد أحمد بن عقيل يقل نظيره في هذا الفن حتى في أوربا قال: ومن الأحياء في حلب عبده بن محمد عبده وشرف الدين المعري ومن قينات القرن الماضي وأوائل القرن الحالي الحاجة عائشة المسلمينية.
وقال: إن العود المعروف بالبرط لم يكن معروفاً في حلب في القرن الماضي حتى جاء حلب سنة 1293 هـ رجل من أهل دمشق اسمه سعيد الشامي فأخذ