الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الغزل والحياكة والنساجة:
كانت النساجة والحياكة والغزل راقية في معظم ما عرف من أدوار الارتقاء وقلما أخرجت الشام رُذالة المتاع ورديئه، بل كانت تخرج جيده ونفيسه، وكان أهلها ولا
يزالون يحسنون غسلها ونفشها ومشطها وحلجها وفتلها ومشقها وحياكتها ونسجها. واشتهر القطر منذ القديم ببزه وقماشه وديباجه وخزه وبروده وكان للدباجين صناع الديباج والأكسية والمسوح صناعة رابحة، وإلى اليوم لم يبرح حلاجو القطن، ومنهم من يستعمل لها الآلات الإفرنجية الحديثة، ومنهم من اقتصر على القوس والنداف على الطريقة القديمة في الحلج والغزل في مغازل أولية تدار بالأيدي يخرجون بها كل ما يقوم بالحاجة.
أخذت معظم المدن والبلدان حظها من هذه الصناعات، فاشتهرت في غابر الدهر مدينة أعناك في حوران بأكسيتها الجيدة اشتهارها ببسطها، وعرفت بعلبك بثيابها المنسوبة إليها من الأحزام والمشّات وثوبها المعروف بالبعلبكي. وتأفقت شهرة الثياب البلعسية نسبة إلى كورة البلعاس من عمل حمص على الأرجح. وعرفت منبج بالأكسية التي كانت تعمل فيها وتنسب إليها فيقال الأنبجاني والأنبجاني كساء صوف له خمل ولا علَم له وهي من أدون الثياب. ومن ثيابهم الخميصة الشامية وهي بَرْنكانٌ أسود مُعْلَم من المرعزّي والصوف ونحوه أو كساء أسود مربع له علمان، وقد تكرر في الحديث الشريف ذكر الأنبجاني والخميصة. والخميصة قد تكون من الحرير والبَرَنكان والبرّكان والبرَّكاني والبَرَنكاني الكساء الأسود وجمعه برانك.
وكان يعمل في صفد من الثياب ما يقال له الصفدية. وتعمل الثياب الحفية نسبة لكورة الحفة غربي حلب. وكان لأهل رصافة هشام بن عبد الملك في غربي الرقة حذق في عمل الأكسية وكل رجل فيها غنيهم وفقيرهم يغزل الصوف والنساء ينسجن. وكانت تعمل في الشام الأكسية المرنبانية قال ابن سيده: يقال كساء مرنباني ومؤرنب فالمرنباني لأنه لون الأرنب والمؤَرنب ما قد خلط في غزله وبر الأرانب، ويقال بل هو كالمرنباني. وكانت تصنع فيخا القطيفة المخملة أي ذات
الخمل وهي المخمل.
واشتهرت حمص بمصنوعاتها من ثياب وفوط وغيرها وقيل: إن حمص تتلو
إسكندرية مصر فيما يعمل فيها من الثياب الفائقة على اختلاف الأنواع، وحسن الأوضاع، لولا قلة مائه، وقحولة جسمه، مع أنه يبلغ الغاية في الثمن، وإن لم تلحق بالإسكندرية فإنها تفوق صنعاء اليمن. وقال الأدريسي في صور: إنه يعمل فيها من الثياب البيض المحمولة إلى الآفاق، كل شيء حسن عالي الصفة والصنعة، ثمين القيمة، وقليلاً ما يصنع مثله في سائر البلاد المحيطة بها. وكذلك حماة وطرابلس وحلب. ولكل بلد ومدينة خاصية تحتفظ بها في نوع من الصناعة تبرع فيها، وأهم ما كان منها في مدينة دمشق.
فقد ذكر الإدريسي أنها كانت في عصره جامعة لصنوف من المحاسن وضروب من الصناعات وأنواع من الثياب الحرير كالخز والديباج النفيس الثمن العجيب الصنعة، والعديم المثال، الذي يحمل منها إلى كل بلد، ويتجهز به منها إلى كل الآفاق والأمصار المصاقبة لها، والمتباعدة عنها. ومصانعها في كل ذلك عجيبة، تضاهي ديباجتها بديع ديباجة الروم، وتقارب ثياب دستوا، وتنافس أعمال أصبهان، وتشف على أعمال طُرز نيسابور، من جليل ثياب الحرير المصمتة، وبدائع ثاب تنيس، وقد احتوت طرزها على أفانين من أعمال الثياب النفيسة، ومحاسن جمة، فلا يعادلها جنس ولا يقاومها مثال.
وقيل: إن اسم الدمقس مشتق من اسم مدينة دمشق. ونقل الشاميون إلى الأندلس صنعة الثياب المزركشة بالرسوم من الحرير والكتان من دمشق فنسبت إليها عندهم وقالوا في فعلها أي عمل ثياباً على النمط الدمشقي. قال البدري: ومن محاسن دمشق ما يصنع فيها من القماش، وهو النسج على تعداد نقوشه وضروبه ورسومه، ومنها عمل القماش الأطلس بكل جنسه وأنواعه ومنها عمل القماش
السابوري بجميع ألوانه وحسن لمعانه، ومنها عمل القماش الهرمزي على اختلاف أشكاله، وتباين أوصاله، ومنها عمل القماش الأبيض القطني. وكان من أنواع الثياب في القديم ما أُنسيناه وأُنسينا أسماءه ومنها المنيّر والمعيّن والمسيّر والمفوف والمسهم والمعمد والمعرّج والمهلهل والمكعب والمطيّر والمخيّل. ولاشتهار دمشق بالحرائر والمنسوجات الغزلية الفائقة بوشيها وحسن طرازها، عرفت هذه الصناعات باسم المدينة فيقال لها الداماسكو والداماسكو ثوب غليظ برسوم جعلت في جسم الثوب ويتفننون في ذلك تفنناً غريباً ويعملون كل
ما يجمع إلى المتانة الإبداع في الصناعة. قال ابن عربشاه: إن الحريريين في دمشق نسجوا لتيمورلنك قباء بالحرير والذهب ليس له دِرز فإذا هو شيء عجيب. ولما نجحت الصنائع الإفرنجية - وكانت صنائع الحرائر والطرائف تروج زمناً ثم تنحمق وتكسد - واخترع أحد صناع الإنكليز نسيج الشيت اليمني كاد يقضى على صناعاتنا هذه، لولا رجل دمشقي اسمه عبد المجيد الأصفر من أهل هذه الصناعة، فاخترع القماش المعروف بالديما فحال دون النساجة والبوار دفعة واحدة. ثم إن رجلاً اسمه الروماني من أهل دمشق أيضاً، تفنن في المنسوجات الحريرية تفنناً عجيباً، فلما مات كادت هذه الصناعة تموت معه، وتغلبت المنسوجات الأوربية على منسوجات حلب وطرابلس وحماة وحمص ودمشق لرخص ثمنها، وكثرة تفننهم في تلوينها، وتغيير أشكالها وطرازها، وإن كان البلى يسرع إليها، وعلى الرغم مما تقدم لم تنفك هذه الصناعة متماسكة أحوالها. على ما أصاب القطر من الأزمات الاقتصادية. ويزعمون أن ما يتعلق بها من الصنائع حتى تصلح وتصير أثواباً، يقرب من سبعين صنعة. تصرف مصنوعاتها في الشام ومصر والجزيرة، وكانت قبل الحرب العامة تصرف منها كميات وافرة في آسيا الصغرى والروم ايلي فلما وضعت في العهد الأخير الحواجز الجمركية في وجهها في تركيا عادت إلى
الكساد.
ومع هذا لا يزال بعض أهل هذه الصناعة يصنعون الديما وأنواع الحرير والحبر والشال البديع والأعبئة الحريرية للنساء، ما يتفاخر سياح الإفرنج باقتنائه في بيوتهم، وإلباس أُسرهم منه في السهريات وأوقات السمر، على حين كان الناس هنا ولا سيما في المدن يزهدون فيها على متانتها وجمالها، لأنهم بلوا بداء التقليد يقبلون على كل ما تأتيهم به أوربا ولو كان فيه بوارهم. وأهل معامل الحرير والقطن اليوم في المجدل من عمل غزة وبيروت وبكفيا وزوق مكايل ودير القمر وبيت شباب والكفير وحمص وحماة وحلب وأنطاكية ودمشق، تعمل فيها الأعبئة والكوفيات والزنانير والملاءات والشراشف والديما والألاجة والنمارق والأرائك والسجوف والشفوف واللحف والبرانس والطيالسة والميازر والبراقع والأزر والجلابيب والقطائف المخمل.
ومن الصناعات التي كانت الشام وما برحت تفتخر بها صناعة الشقق الحريرية والقطنية، وهي عبارة عن قماش محوك طوله تسعة أذرع في عرض ذراع. ولصناعه تفنن في نقشه وصبغه، يدل على رسوخ قدم في الصناعة، وذوق جميل فيها، واشتهرت مدن الشام بإتقان تلك الصناعة، ومنها دمشق وحلب وحمص وحماة وطرابلس، وأشهرها المسماة بالمصرية والحامدية والحموية والحمصية والحلبية. وتفصيل تلك الشقق على الطراز العربي وهي قطنيها وحريريها على غاية من المتانة والجمال. وكانت قديماً لباساً عاماً للأهلين فقيرهم وغنيهم رجالهم ونسائهم وقل المنفق منها الآن لاعتياد الناس اللباس الإفرنجي، ولا تزال مع هذا لباس أكثرية الأهالي يعملون منها القفاطين القنابيز وتدر تلك الصناعة عليهم أرباحاً وفيرة، وتصدر إلى الأناضول ومصر والحجاز والعراق، ويعد تجار تلك الصناعة من الأغنياء غالباً. ومن الصناعات الدقيقة الصنع أيضاً الشال القطني
والحريري والزنانير والشملات، وأتقنها ما عمل في طرابلس وبيروت وحلب ودمشق، ومن صناعات الشام الكوفيات الحريرية على اختلاف ألوانها ووشيها بالقصب الفضي بنقوش ورسوم غاية في الإبداع وسلامة الذوق والمتانة، وما فتئت هذه الصناعات إلى الآن زاهرة رغم مزاحمة الأوربيين بكل ما عندهم من قوة تجارية وصناعية وتفنن وإبداع.
ومن الصناعات التي كانت من متممات اللباس لكنها ضعفت للغاية صناعة المشدات المعروفة بالكمار وهي تنسج بالصوف والغزل ذات طاقين طويلين تشد على الخصور، ولا تزال لباس الوطنيين الذين لم يتأوربوا أي لم يتشبهوا بالأوربيين فضعفت صناعتها. وقد أحدث السادة كسم وقباني معملاً لحياكة الحرير في دمشق ضاهيا به ما يصنع من نوعه في فرنسا، وكذلك أحدث السادة توفيق وكامل وسعيد الكحالة معملاً لصنع ثياب الكتان والشراشف ينافس مصنوعات أوربا، وأحدث السيد أنطون مزنر في دمشق معملاً لصنع الشال الحرير غاية الغايات إتقاناً وجمالاً. وفي دمشق ثلاثون آلة لغسل الحرير على الطرز الحديث. ومما تمتاز به حماة عن سائر المدن الصناعية نسج المآزر للنساء مما يستعملنه في الحمام وتسمى المناشف، وما تغطى به الفرش ويسمى الشراشف
وينسج بالكتان ويوشى بالحرير من كل الألوان وهو غاية الغايات في دقة الصنعة والمتانة يصدر إلى كثير من جهات العالم. وتصنع حلب من هذه المآزر أنواعاً كانت تضاهي بها المآزر التي ترد من العجم إلى أن بذتها وقامت مقامها. ومن المنسوجات الرائجة أيضاً صناعة الأعبثة فهي من أهم الصناعات على اختلاف أنواعها ومنها الخشنة التي يلبسها الفلاحون، وحياكتها غاية في المتانة ولها ألوف من الأنوال في دمشق وحمص وحلب وقرى القلمون، وذلك لتوفر مادتها الأولية ولأنها لباس عامة الفلاحين، ويوجد أيضاً ألوف الأنوال في دمشق وقرية جرمانا
وحمص وهي تصنع أعبئة من الصوف النحيف والوبر برسم الأمراء والكبراء ويصدر منها إلى الخارج ولا سيما إلى فارس ويبتاع الحجاج أيام الموسم من دمشق خاصة من تلك الأعبئة ألوفاً وهي مشهورة بحسن صناعتها وعلى غاية المتانة، مع أنها من النسج النحيف الناعم، ومما يدل على ذوق صناعها تفننهم في ألوانها على اختلاف ضروبها، وفي دمشق وبيروت ولبنان وحمص وحلب من الأنوال لعمل الأعبئة من الحرير وهي على غاية الرواء والجمال والمتانة وفي النهاية من سلامة الذوق بوشيها وألوانها. وتصدر إلى أوربا وأميركا ومصر وإيران. ومما يؤسف له الآن دخول الحرير النباتي إلى الديار الشامية وصنع العباءة منه مؤثرين له لرخص ثمنه مما يكون منه بعد بضع سنوات القضاء على صناعة العباءة الحريرية في الشام إن لم تتدارك بما يحفظ وراءها.
واشتهرت حلب بالمناديل الحريرية والمقصبة المعروفة بالبوشية وفيها 53 معملاً كما فيها 124 للخام و 247 لمنسوجات الغزل و 159 للحرير و117 للأغباني أو تقليد الزنار الهندي، وصناعة الأغباني في دمشق رائجة كل الرواج وهي عبارة عن قطعة ثوب مربعة طولها ذراعان في مثلهما، تعمل من الحرير الدقيق، لونها أبيض وأدكن، وتطرز بألوان الحرير الجميلة، وبأنواع الرسوم التي قد تعجز عنها ريشة المتفننين من المصورين، وكانت تلك الصنعة مختصة أولاً بالهند تصدر منها إلى أطراف العالم، وكان قليل منها يطرز في حلب ويستعمل للعمائم فقط على قماش قطني وبعض الحرير. وأما الآن فقد تناولتها أيدي جميع الشاميين أذكياء وأكثر من يصنعها النساء يطرزن منها أثواباً
طول الثوب تسعة أذرع وعرضه ذراع واحد، وتعمل منها القفاطين، وهي الألبسة الوطنية في الشام، وفيه اليوم ألوف من الآلات تصنع هذا النوع من القماش، وتسمى القطعة منه أي ما طوله ذراعان وعرضه كذلك سُلْك أغباني وهو يستعمل في الشام غطاء للرأس أي
كوفية، وزناراً، وملفاً للأولاد الرضع، وعمامة، ويصدر منه إلى الخارج كميات وافرة، وله تجار كثار أخصائيون في دمشق وحلب وبيروت وحماة وحمص وطرابلس وفلسطين وجميع المدن الصغيرة ويصدر إلى الهند وفارس وتركيا والحجاز والعراق ومصر والسودان والصين.
واشتهرت الشهباء بصناعة الأشغال الحريرية المعمولة بالقصب وأقمشة الجوخ المعمولة بالسيم والثياب المفصصة بالجوهر والزّبرج أي الزينة من وشيٍ وذهب ويقال لهذه الصناعة صنعة القصبجية والألتونية فهي ممتازة بعمل الفضي ومشهورة بالزركشة والتطريز، وعرفت زوق مكايل بصناعة الوشي وزركشة القصب والنسيج أيضاً، واهتدى صناعها منذ تسعين سنة إلى رسم الأشكال التي يريدونها على المنوال بالمحواك، واصطنعوا من الأثاث والأكيسة والطنافس ما يأخذ بمجامع القلوب إتقاناً، وعملوا نسائج هذا القز فأبدعوا فيه وأظهروا الصور الشمسية على النسيج فجاءت كأنها لم تمس بيد، صنعوا بها صور العظماء والملوك والأمراء مجسمة، فكانت من أنفس أعلاق القصور. وصناعة زركشة القصب هذه كانت راقية جداً في دمشق، وصفها أحد سياح القرن الحادي عشر بقوله: وبباب جيرون على يسار الخارج منه حارة الذهبيين، وهي أماكن يمد فيها خيوط الذهب غلاظاً أولاً، ثم لا يزالون يعالجونها بالإدخال خرقاً بعد خرق، وكل ثان أضيق من قبله، حتى تنتهي إلى الرقة، إلى أن تصير كالشعر ثم يطرقونها بمطارق لطيفة وصناعة محكمة، ثم يلفون ذلك المطروق على خيوط الحرير فيتركب منه القصب المعلوم ونحو ذلك عملهم للفضة اه. وسمى هذه الصناعة البدري صناعة الذهب المسبوك والمضروب والمجرور والمرفوع والممدود والمرصوع وكان القوم يغالون في لبس الأردية والأكسية والمعاطف والسراويلات التي تعمل من هذا القصب على الجوخ ويلبسه المترفون