المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الناس عنه. ومن العازفين على الكمنجة أوائل هذا القرن شعيا - خطط الشام - جـ ٤

[محمد كرد علي]

فهرس الكتاب

- ‌التاريخ المدني

- ‌العلم والأدب

- ‌ما يُراد بالعلم والأدب:

- ‌العلم والأدب عند أقدم شعوب الشام:

- ‌مواطن العلم في القطر قديماً:

- ‌ما حمل العرب من العلم إلى الشام:

- ‌جمع القرآن ونشره في الشام:

- ‌العلم والأدب في القرن الأول:

- ‌عناية خالد بن يزيد بالنقل وأوائل التدوين:

- ‌العلم والأدب في القرن الثالث:

- ‌الأدب في القرن الرابع ونهضته على عهد سيف

- ‌الدولة وأبي العلاء المعري:

- ‌الآداب في القرن الخامس:

- ‌العلم والأدب في القرن السادس:

- ‌العلم والأدب في القرن السابع:

- ‌الإمام ابن تيمية والإصلاح الديني والأدب والعلم في

- ‌القرن الثامن:

- ‌العلوم في القرن التاسع:

- ‌انحطاط العلم والأدب في القرن العاشر:

- ‌الآداب في القرن الحادي عشر:

- ‌العلوم والآداب في القرن الثاني عشر:

- ‌العلم والأدب في القرن الثالث عشر:

- ‌العلوم المادية في منتصف القرن الثالث عشر:

- ‌العلوم والآداب في أواخر القرن الثالث عشر وأوائل

- ‌الرابع عشر:

- ‌المعاصرون من العلماء والأدباء:

- ‌تأثيرات الأجانب في التربية:

- ‌الآداب في القرن الرابع عشر:

- ‌الجامعات والكليات:

- ‌الإخصاء:

- ‌الصحافة العربية:

- ‌الطباعة والكتب:

- ‌الفنون الجميلة

- ‌تعريف الفنون الجميلة:

- ‌الموسيقى والغناء:

- ‌التصوير:

- ‌النقش:

- ‌البناء:

- ‌الشعر والفصاحة:

- ‌الرقص:

- ‌التمثيل:

- ‌متى ترتقي الفنون الجميلة:

- ‌الزراعة الشامية

- ‌العامر والغامر:

- ‌قلة العناية بالأنهار:

- ‌خراب الزراعة والمزارع:

- ‌عوامل الخراب:

- ‌آفة الهجرة على الزراعة:

- ‌خصب الأراضي ومعالجتها وما يزرع فيها:

- ‌تقسيم السهول والجبال:

- ‌من الذين أدخلوا الطرق الجديدة:

- ‌درس الزراعة:

- ‌نقص كبير:

- ‌التحسين الأخير:

- ‌عناية القدمين بالزراعة:

- ‌أصناف الزروع والأشجار:

- ‌الأشجار غير المثمرة:

- ‌الصناعات الزراعية القديمة:

- ‌معادن الشام وحمّاتها:

- ‌الحمّات الشامية:

- ‌نظرة في الفلاحة الشامية الحديثة

- ‌أقاليم الشام:

- ‌أتربة الشام:

- ‌حراج الشام:

- ‌الري في الشام:

- ‌زروع الشام وأشجارها:

- ‌الأشجار المثمرة:

- ‌الحيوانات الدواجن في الشام:

- ‌الصناعات الزراعية في الشام:

- ‌زراعة الشام من الوجهتين المالية والاقتصادية:

- ‌الضرائب الزراعية:

- ‌طرائق استثمار الأرض:

- ‌إقراض الزراع:

- ‌الخلاصة:

- ‌الصناعات الشامية

- ‌مواد الصناعات:

- ‌الغزل والحياكة والنساجة:

- ‌الدباغة وصناعات الجلود:

- ‌تربية دود الحرير:

- ‌النجارة:

- ‌القيانة والحدادة والنحاسة:

- ‌الزجاجة:

- ‌الدهان:

- ‌الفخارة والقيشاني:

- ‌الوراقة:

- ‌المرايا:

- ‌الصياغة:

- ‌صناعة الصدف والرخام:

- ‌السجاد والحصير:

- ‌الصناعات المحدثة:

- ‌تأثير الصناعات في الماديات والأخلاق:

- ‌التجارة الشامية

- ‌موقع الشام من التجارة وتجارة القدماء:

- ‌تجارة العرب:

- ‌التجارة في القرون الوسطى:

- ‌التجارة في القرون الحديثة:

- ‌التجارة والاقتصاديات في العهد الحديث:

- ‌الورق النقدي والعوامل في تدني الاقتصاديات:

- ‌ الحواجز الجمركية

- ‌العامل الاقتصادي:

- ‌الواردات والصادرات:

- ‌صناعة البلاد في سنة 1925:

- ‌ما يجب للنجاح في الاقتصاديات:

- ‌تجارة فلسطين في الدور الجديد:

- ‌تجارات الأمم المختلفة في الشام:

- ‌رأي في ازدياد الثروة والتجارة:

الفصل: الناس عنه. ومن العازفين على الكمنجة أوائل هذا القرن شعيا

الناس عنه. ومن العازفين على الكمنجة أوائل هذا القرن شعيا الكمنجاتي وإسحاق عدس ونيقولاكي الحجار. ومن الأحياء سامي الشوا ووالده أنطوان موسيقار أيضاً. والعازفون بالناي المعروف عند العرب بالبراعة كان نابغة فيه أوائل القرن عبده زرزور وكل من في حلب اليوم خريجوه وتلاميذه اه. ومن الموسيقيين الحلبيين أيضاً عبد الكريم بلّة وحبيب العبديني وأحمد مكانس وعمر البطش ومصطفى طمرق توفوا في أوائل هذا القرن.

ولقد بدأت الموسيقى التركية تنازع الموسيقى العربية في أواخر القرن الماضي لأنها خُدمت أكثر من موسيقانا، ثم جاءت الموسيقى الإفرنجية، فأصبحت الموسيقى الشامية مزيجاً لا يقام له وزن، لم يحتفظ بالقديم وهو من روحه وعاداته ولم يحسن اقتباس الجديد لأنه ليس من مصطلحه. ولا يفوتنا القول إن الموسيقى في العصور المتأخرة كان لها في أذكار بعض أرباب الطرق الصوفية مقام رفيع. ومنهم من أتبعها بالصنوج والأوتار، ومنهم من شفعها برقص، وقد قام منهم

مبرزون في صنعتهم، وماتت شهرتهم، يوم سمنت نأمتهم، والموسيقى في الكنائس على اختلاف الطوائف المسيحية وتباين العصور، ما زالت شائعة معتبرة وكم من موسيقار عندهم تقلبت به الحال حتى رقي بفضله إلى أرقى درجات الكهنوت.

‌التصوير:

أخذ الحثيون التصوير على الأغلب كما أخذوا النقش والبناء عن جيرانهم من البابليين والأشوريين، وربما أخذوا عن المصريين أيضاً، لكنهم لم يجودوه كل الإجادة على ما رأينا من تصاويرهم المكتشفة، وخالفنا رأي بعض المشتغلين بآثارهم المعجبين بمدنيتهم، فإن الآثار التي اكتشفت للحثيين في جرابلس تدل على مبلغ تلك الأمة من الإتقان في النقش والتصوير. وقد قال لنا الأستاذ هروزني التشكي وهو أخصائي بآثار الحثيين: إن عادياتهم مما يعجب منه، ولا تقلّ بجمالها عن بقية آثار الأمم الأخرى، وكذلك فعل الكنعانيون والفينيقيون والإسرائيليون، أخذوا عن آشور وبابل ومصر هذا الفن، ولم يعرف أنه كان لهم طرز خاص في التصوير، وكانوا على ما ظهر دون من اقتبسوا عنهم. أما

ص: 101

التدمريين فأجادوا في تصويرهم وكانوا ينقشون على القبور صور من دفن فيها من الرجال والنساء، مثل أهل جنوة في إيطاليا في العصور الأخيرة، ومنها صورة جاريتيت رآهما أوس بن ثعلبة التيمي في القرن الأول وقال فيهما أبياته المشهورة:

فتاتي أهل تدمر خبراني

ألمّا تسأما طول المقام

قيامكما على غير الحشايا

على جبل أصم من الرخام

وفي دار الآثار بدمشق مجموعة تماثيل من قبور تدمر كأنها تنطق، ومنها صورة فتاة مزينة الرأس يستدل منها على صورة تصفيف الشعور في ذاك العصر. وكيف كانت أزياء نساء تدمر وبهرجة رؤوسهن وأقراطهن وعصباتهن، وفيما ظهر مؤخراً في مدينة تدمر من تماثيل صاحبتها زينب ووصيفاتها وفي غير ذلك من الشخوص دليل على تبريز التدمريين في هذا الشأن.

أما التصوير عند الروم واليونان في الشام فإن منه نموذجات تأخذ بمجامع القلوب قال الثعالبي: لم يبدع التصوير إبداع الروم والرومان أحد من الأمم، فقد كان لهم إغراب في خرط التماثيل وإبداع في عمل النقوش والتصوير، حتى إن مصورهم

يصور الإنسان ولا يغادر شيئاً إلا الروح، ثم لا يرضى بذلك حتى يصوره ضاحكاً، ثم لا يرضى بذلك حتى يفصل بين ضحك الشامت، وضحك الخجل، وبين المبتسم والمستغرب، وبين ضحك المسرور وضحك الهازئ، فيركب صورة في صورة، وصورة في صورة.

والمصانع الشامية من العهد الروماني هي ذات أشكال معتادة في تلك الأعصر لها نقش ظاهر خاص بها من النقوش النباتية الكبيرة المنقولة عن نباتات القطر ولا سيما في فلسطين على عهد الملوك والقضاة ومنها ما يستعمل فيه صور الطيور. قال دوسو: إن في الكتابات التي وجدت في الصفا صورة فرسان مسلحين برماح طويلة على مثال بدو هذه الأيام، وأحياناً تمثلهم وهم يطاردون غزالاً أو وعلاً أو يصطادون أسداً، ومنهم الفرسان يحملون الرماح والمشاة مسلحون بالقوس والنشاب. ولقد غصت فلسطين على عهد الإمبراطور قسطنطين بالمصانع التي تذكر بالحوادث الخطيرة التي وردت في الإنجيل وقد زينت هذه المصانع بالفصوص التي تمثل هذه المشاهد.

ص: 102

جاء الإسلام للقضاء على الوثنية وعبادة الأصنام، فحاذر المسلمون إذا أجازوا الرسم المجسم أن يكون في عملهم مدرجة للعرب إلى الرجوع إلى عبادة الأصنام، فجعلوا في التجويز بعض القيود الخفيفة، ولما ذهبت تلك الخشية أخذت مسألة التصوير تنحل شيئاً فشيئاً ويُعمد إلى ما فيه مصلحة منه. ذكر المقريزي أن الرسول عليه السلام أقر نقود العرب في الجاهلية التي كانت ترد إليهم من المماليك الأخرى والدنانير قيصرية من قبل الروم مصورة وأن عمر ضرب الدراهم على نقش الكسروية وشكلها وبأعيانها وضرب معاوية دنانير عليها تمثال متقلداً سيفاً.

ورأينا زيد بن خالد الصحابي استعمل الستر الذي فيه صور ولم ينكر الناس عمله.

قال صديقنا السيد محمد رشيد رضا في المنار: ومن الآثار في حكم التصوير وصنع الصور والتماثيل اتخاذ أحد أعاظم أئمة التابعين القاسم بن محمد ابن أبي بكر رض الحجلة التي فيها تصاوير القندس والعنقاء، وهو ربيب عمته عائشة الصديقة وأعلم الناس بحديثها وفقهها، ومنها استعمال يسار بن نمير مولى عمر بن الخطاب رض وخازنه الصور في داره، ومنها صنع الصور في دار مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وكل منهما وَليَ إمارة المدينة وكانا من التابعين قال: وعمل مروان يدل على أن التصوير كان مستعملاً في عصر الصحابة، فمن عرض مسألة التصوير واتخاذ الصور على هذه القواعد الشرعية علم منها أن دين الفطرة الذي قرن كتابه ووصف بالحكمة، ورفع منه الحرج والعسر عن الأمة، لم يكن ليحرم صناعة نافعة في كثير من العلوم والأعمال ويحتاج إليها في حفظ الأمن وفنون القتال، وإنما يجرم ما فيه مفسدة أو ما كان ذريعة إلى مفسدة اه.

ويعجبني ما كتبه أُستاذنا الإمام الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية في وصف رحلته إلى صقلية عام 1322هـ 1894م في مجلة المنار وقد ذكر تنافس الغربيين في حفظ الصور المرسومة على الورق والنسيج فقال: إذا كنت تدري السبب في حفظ سلفك للشعر وضبطه في دواوين والمبالغة في تحريره خصوصاً شعر الجاهلية، وما عُني الأوائل رحمهم الله بجمعه وترتيبه، أمكنك أن تعرف السبب في محافظة القوم على هذه المطبوعات من الرسوم والتماثيل، فإن الرسم

ص: 103

ضرب من الشعر يُرى ولا يُسمع، والشعر ضرب من الرسم الذي يُسمع ولا يُرى. إن هذه الرسوم والتماثيل قد حفظت من أحوال الأشخاص في الشؤون المختلفة، ومن أحوال الجماعات في المواقع المتنوعة، ما تستحق به أن تسمى ديوان الهيئات والأحوال البشرية. يصورون الإنسان أو الحيوان في حال الفرح والرضى، والطمأنينة والتسليم، وهذه المعاني المرجة في هذه الألفاظ، متقاربة لا يسهل عليك

تمييز بعضها من بعض، ولكنك تنظر في رسوم مختلفة فتجد الفرق ظاهراً باهراً، يصورونه مثلاً في حالة الجزع والفزع والخوف والخشية. والجزع والفزع مختلفان في المعنى، ولم أجمعهما هنا طمعاً في جمع عينين في سطر واحد، بل لأنهما مختلفان حقيقة، ولكنك ربما تعصر ذهنك لتحديد الفرق بينهما وبين الخوف والخشية، ولا يسهل عليك أن تعرف متى يكون الفزع ومتى يكون الجزع، وما الهيأة التي يكون عليها الشخص في هذه الحال أو تلك. أما إذا نظرت إلى الرسم وهو ذلك الشعر الساكت فإنك تجد الحقيقة بارزة لك تمتع بها نفسك، كما يتلذذ بالنظر فيها حسك.

قال: ربما تعرض لك مسألة عند قراءة هذا الكلام، وهي ما حُكم هذه الصور في الشريعة الإسلامية، إذا كان القصد منها ما ذكر من تصوير هيئات البشر في انفعالاتهم النفسية وأوضاعهم الجثمانية، هل هذا حرام أو جائز أو مكروه أو مندوب أو واجب؟ فأقول لك: إن الرسم قد رسم، والفائدة محققة لا نزاع فيها، ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصور قد محي من الأذهان، فإما أن تفهم الحكم من نفسك بعد ظهور الواقعة، وإما أن ترفع سؤالاً إلى المفتي فهو يجيبك مشافهة، فإذا أوردت عليه حديث إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون أو ما في معناه مما ورد في الصحيح، فالذي يغلب على ظني أنه سيقول لك إن الحديث جاء في أيام الوثنية، وكانت الصور تتخذ في ذلك العهد لسببينك الأول اللهو والثاني التبرك بمثال من ترسم صورته من الصالحين، والأول مما يبغضه الدين والثاني مما جاء الإسلام لمحوه، والمصور في الحالين شاغل عن الله أو ممهد للإشراك به، فإذا زال هذان العارضان وقصدت الفائدة، كان تصوير الأشخاص بمنزلة تصوير النبات والشجر في المصنوعات، وقد صنع ذلك في حواشي المصاحف وأوائل السور، ولم يمنعه أحد من العلماء مع أن الفائدة

ص: 104

في نقش المصحف موضع

النزاع، أما فائدة الصور فمما لا نزاع فيه على الوجه الذي ذكر. . . وبالجملة فانه يغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم، بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين لا من جهة العقيدة ولا من جهة العمل اه.

لما جاء الفاتحون إلى الشام كانت في تصويرها عالة على الروم والفرس وبقيت على ذلك مدة قليلة لأن التصوير لم يكن يعرف أنه كان في متفرق أقطار جزيرة العرب اللهم إلا في اليمن، برع فيه أهلها براعة أثبتتها الآثار والمصانع، وكانت الأثواب اليمانية المزركشة المبرقشة المصورة مما يحمل إلى الحجاز وسائر أرجاء الجزيرة وما إليها منذ عهد الجاهلية، وأول ما عرف التصوير في الشام على عهد المسلمي كان في زمن الوليد باني الجامع الأموي بدمشق والمسجد الأقصى في القدس وغيرهما، وما نظن أن جميع من صوروا له ما أراد من الحيوان والنبات والشجر والمدن والأصقاع كانوا من أصول عربية بل كان فيهم الفرس والروم الذين دخلوا في خدمة الدولة العربية، ومنهم من بعثت به مملكة بيزنطية ليساعدوا الخليفة على عمله النافع، وقد وجد الأثري موسيل التشكي في قصير عمرة على سبعين كيلو متراً من قصر المشتى في البلقاء كتابات ونقوشاً تشير إلى فتح الأندلس في أيام الوليد وفيه من النقوش الزاهية والتصاوير العجيبة ما يأخذ بالأبصار. قال صاحبنا شيخو: وفي هذه القصور من الآثار الهندسية ومن التصاوير ومن تمثيل أحوال البادية كالصيد والغزوات والمآدب والمصانع ما أذهل العلماء لوجوده في البراري. ويقول ريسون: إن العرب قد نهجوا في الفنون الجميلة نهج البيزنطيين، ولم يخالفوهم إلا بعد تجسيم الحيوان، ولكنهم استعاضوا عنه بالنقش النباتي من تشبك أوراق وأقواس باهرة وفصفصة زاهرة وآكام ومعاهد ساحرة.

وفي التاريخ العام أن الإسلام حظر تمثيل الصور الآدمية ولكن هذا الحظر لم يمنع الخلفاء من أن يكون في قصورهم صور وتماثيل. ومع هذا لم يخلف العرب في النقش ولا في الرسم آثاراً خارقة للعادة، وما بقي من آثارهم وعادياتهم الحجرية وأنواطهم المنقوشة، وعاجهم ومجوهراتهم، يشهد باستعدادهم الفني، فإنهم نقلوا عن غيرهم في هذا الشأن أولاً ثم أخذوا يمرنون أنفسهم على حسن

ص: 105

الهندسة بالنقل عما عثروا عليه بادئ بدء ولا سيما عن الآثار البيزنطية، فكانوا يخشون أول أمرهم ثم أخذوا يجرأون فيعدلون ما يريدون احتذاءه بل يخترعون ويبدعون، فظهر لهم علم جديد مستق على غير مثال، قال: ولا نعلم هل كان للعرب قبل الإسلام طرز من البناء الخاص بهم، لأنه لم يبق من الزم السابق للإسلام سوى خرائب مبعثرة، ومن الهجرة إلى القرن العاشر كان عهد الطرز اليوناني العربي، وعلى مثاله جاء بناء المسجد الأقصى في القدس، والجامع الأموي في دمشق، والجامع الأعظم في قرطبة، والتأثيرات اليونانية ظاهرة فيها اه.

وبعد أن ترجم العرب كتب الفنون والصناعات عن الروم والفرس والقبط والسريان والهند، منذ أول النصف الثاني من القرن الأول، أخذوا يزينون كتبهم ببعض الصور، يصورونها لتمثيل المسائل العلمية للأبصار، ولا سيما كتب النبات والبيطرة والحيوان والجراحة والهندسة والفلك والجغرافيا وبعض كتب الأدب والمحاضرات والمقامات، فاستعملوها بحسب الحاجة وأجادوا بالنسبة لعصورهم، على ما ثبت ذلك بشهادة المحفوظ من مخطوطات العرب في متاحف الشرق والغرب، وأكثر من أثر عنهم التصوير والإجادة فيه وصنع التماثيل ووضعها في قصورهم خلفاء بني أمية في الأندلس، ومن جاء بعدهم من الملوك، والصور - كما قال ابن أبي أُصيبعة - إنما جعلت لارتياح القلوب إليها واشتياق النظر إلى رؤيتها، والصبيان يلازمون بيوت الصور للتأديب بسبب الصور التي فيها، وكذلك

نقشت اليهود هياكلها، وصورت النصارى كنائسها وبيعها، وزوق المسلمون مساجدهم.

نعم زوّق المسلمون مساجدهم، وكانوا أوائل الإسلام يكتفون بالصلاة مساجد أشبه بالأرض القفراء، ويفضلون السجود على الحصا ويعدون فرشها بالبواري بدعة، وذلك لئلا تشتغل العين بشيء يبعد النفس من الخشوع لبارئها، ثم أخذوا يتأنقون في مساجدهم، ويفرشونها بالطنافس والزرابيّ، ويصورون حيطانها، وينقشون فيها آيات ثم مشجرات وأماكن جميلة، ومعظم ما انتهى إلينا أو بلغنا خبره في العصور العشرة الأخيرة في الشام تصوير المسائل العلمية، والأمصار والشجار، والسفن تمخر في البحار، ثم تصوير الحيوان والإنسان ولكن على قلة.

ص: 106

لا جرم أن التصوير في هذه الديار كان ضعيفاً بعض الشيء لأن مسألته كان فيها نظر عند بعض الفقهاء الذين جمدوا على ما فهموه من الشريعة، والتصوير عارض على الملة غير مغروس في فطرتها، ولكن المسلمين تطوروا بطور الأمصار التي نزلوها. ولم يتوقف ملوكهم وأمراؤهم على فتاوى الفقهاء لإقامة المعالم واقتباس الحضارة، فقد ذكر ابن بطريق أن بطريق الروم في قنسرين طلب إلى أبي عبيدة ابن الجراح الموادعة على نفسه سنةً حتى يلحق الناس بهرقل الملك، ومن أقام فيها فهو في ذمة وصلح، فأجابه أبو عبيدة إلى ذلك، فسأله البطريق وضع عمود بين الروم والمسلمين، وصوّر الروم في ذلك العمود صورة هرقل جالساً في ملكه فرضي أبو عبيدة، ومرّ بالصورة أحد العرب، ووضع زج رمحه في عين تلك الصورة ففقأ عين التمثال عن غير قصد، فأقبل البطريق وقال لأبي عبيدة: غدرتمونا يا معشر المسلمين، ونقضتم الصلح، وقطعتم الهدنة فقال أبو عبيدة: فمن نقضه؟ فقال البطريق: الذي فقأ عين ملكنا. فقال أبو عبيدة: فما تريدون؟ فقال: لا نرضى حتى نفقأ عين ملككم. فقال أبو عبيدة: صوروا بدل

صورتكم هذه صورتي ثم اصنعوا بي ما أحببتم وما بدا لكم، فقال: لا نرضى إلا بصورة ملككم الأكبر فأجابهم أبو عبيدة إلى ذلك فصورت الروم تمثال عمر بن الخطاب في عمود، وأقبل رجل منهم ففقأ عين الصورة برمحه فقال البطريق: قد أنصفتمونا.

وذكر المقريزي أن خماريويه بن أحمد بن طولون أمير مصر والشام المتوفى سنة 282هـ عمل في داره في القاهرة مجلساً برواقه سماه بيت الذهب، طلى حيطانه كلها بالذهب المجال باللازورد، المعمول في أحسن نقش وأظرف تفصيل، وجعل فيه على مقدار قامة ونصف صوراُ في حيطانه بارزة من خشب معمولة على صورته وصورة حظاياه، والمغنيات اللاتي يغنينه بأحسن تصوير وأبهج تزويق، وجعل على رؤوسهن الأكاليل من الذهب الخالص الإبريز الرزين والكراذن المرصعة بأصناف الجواهر، وفي آذانها الأخراص الثقال الوزن، المحكمة الصنعة، وهي مسمّرة في الحيطان ولُونت أجسامها بأصناف أشباه الثياب من الأصباغ العجيبة. فكان هذا البيت من أعجب مباني الدنيا.

ص: 107

كانت هذه القاعة المصورة في القرن الثالث. وظهر في عصر الأيوبيين والمماليك مصورون شاميون أبدعوا في التصوير على الجدران وعلى الكتب، ومنها ما كان إلى القرن السابع في دير باعنتل قرب حمص، كان فيه على رواية ياقوت عجائب منها آزج بيت مستطيل أبواب فيها صور الأنبياء محفورة منقوشة فيها، وصورة مريم في حائط منتصبة، كلما ملت إلى ناحية كانت عينها إليك. ومنها ما كان في هيكل دير مران في سفح قاسيون بدمشق من صورة عجيبة دقيقة المعاني. وذكر ابن جبير أنه كان في كنيسة مريم بدمشق في القرن السادس من التصاوير أمر عجيب، وكان مثل ذلك في كنيسة القيامة وغيرها من كنائس فلسطين.

كان اليازوري من وزراء الفاطميين يفضل كثيراً على المصورين الشرقيين وكانوا

من المسلمين. وقد جعل الظاهر بيبرس رنكه أي أشعاره الأسد، وجعل دراهمه على صورته، وجعل أقوش الأفرم رنكه في غاية الظرف وهو دائرة بيضاء يشقها شطب أخضر كأنه مسن عليه سيف أحمر يمر من البياض الفوقاني إلى البياض التحتاني وقال فيه نجم الدين هاشم البعلبكي.

سيوف سقاها من دماء عداته

وأقسم عن ورد الرّدى لا يردها

وأبرزها في أبيض مثل كفه

على أخضر مثل المسنّ يحدها

قالوا: وقد كان الخواطئ ينقشن رنكه على معاصمهن وفي أماكن مستورة من أجسامهن.

ومن أجمل ما أبقت الأيام وإن لم يتم لها إلى الآن قرنان، الصورة الباقية في دار أسعد باشا العظم في حماة من أبدع ما حوت من النقوش العجيبة وغيرها، وهي صورة رسمت على قطعتين من الخشب جعلتا في حائط القاعة الكبرى ونقشت عليهما صورة حماة في ذلك العهد بجوامعها ومدارسها، ونواعيرها وقصورها، ظهر منها أن حماة كانت أعمر مما هي عليه الآن عرفنا ذلك بفضل التصوير.

أخذت العرب نقوش الفسيفساء عن الروم وبالغت فيها ولا يزال إلى اليوم قطع في الدور وغيرها، وأهمها ما لا يزال في كنيسة مادبا في البلقاء من مصوّر فلسطين ونهر الأردن يشقها من وسطها والأسماك تعوم فيه، والمدن التي كانت

ص: 108

عامرة لعهد واضعها، ولا يزال القسم الأعظم منها بحاله لم يصب بأذى الأيام. وآثار الفسيفساء كثيرة مبعثرة في دور مادبا لم تزل على بريقها، وفي دار سليم الصناع في مادبا بركة ماء معمولة بالفسيفساء الملونة أيضاً تخال ما فيها ماء حقيقياً وعلى جوانبها الثلاثة الباقية رسوم بالفسيفساء تمثل الحيوانات والطيور البرية والداجنة، تسرح في جنينة زاهرة والطيور المائية واقفة في وسط الماء على آنية تشبه الزهرية، وفي كل زاوية من زواياها صورة إنسان تخالف الأخرى. وفي

هذه البليدة عدة قاعات فرشت أرضها بالفسيفساء يطلق الماء عليها لتغسل كما يُغسل بلاط القاعات وأفنية الدور.

قال في مسالك الأمصار: والفسيفساء مصنوع من زجاج يذهب ثم يطبق عليه زجاج رقيق ومن هذا النوع المسحور المسجور وأما الملون فمعجون وقد عمل منه في هذا الزمان 740 - 750 شيء كثير برسم الجامع الأموي وحُصل منه عدة صناديق وفسدت في الحريق الواقع سنة أربعين وسبعمائة وعمل منه قِبَل للجامع التنكزي ما على جهة المحراب، غير أنه لا يجيء تماماً مثل المعمول القديم في صفاء اللون وبهجة المنظر، والفرق بين الجديد والقديم أن القديم قطعه متناسقة على مقدار واحد والجديد قطعه مختلفة وبهذا يعرف الجديد والقديم اه.

ووصف ابن فضل الله هذا يمكن أن يستنتج منه أن الفسيفساء كانت تعمل في الشام، وأن هذه الصناعة اللطيفة وإن اختصت بها القسطنطينية قد نقلت إلى الشام وجود عملها. وكان الوليد بن عبد الملك يحمل الفسيفساء على البريد من القسطنطينية إلى دمشق حتى صفح بها حيطان المسجد الجامع ومكة والمدينة. وكانت الفسيفساء في الجامع الأموي قبل حريقه الأول في القرن الرابع ملونة مذهبة تحوي صور أشجار وأمصار وكتابات، على غاية الحسن والدقة ولطافة الصنعة، وقلّ شجرة أو بلد مذكور إلا وقد مثل على تلك الحيطان قاله المقدسي وقال غيره: إنه مثلث في صور الجامع صفات البلاد والقرى وما فيهما من العجائب وأن الكعبة المشرفة صوّرت فوق المحراب كما قال فيه بعض المحدثين:

إذا تفكرت في الفصوص وما

فيها تيقنت حذق واضعها

أشجارها لا تزال مثمرة

لا ترهب الريح في مدافعها

كأنها من زمردٍ غرست

في أرض تبرٍ يُغشى بفاقعها

ص: 109

فيها ثمار تخالها ينعت

وليس يخشى فساد يانعها

تقطف باللحظ لا بجارحة ال

أيدي ولا تجتني لبائعها

وتحتها من رخامه قطع

لا قطع الله كف قاطعها

أحكم ترخيمها المرخم قد

بان عليها إحكام صانعها

قال صديقنا أحمد تيمور في رسالته التصوير عند العرب بعد كلامه على محاسن الجامع الأموي وما فيه من التصاوير: ولا نعلم إن كانت هذه الصور من عمل العرب فتدخل فيما قصدناه، أو من عمل صناع الروم الذين استعان بهم الوليد بن عبد الملك عند بناء المسجد وقد علل المقدسي زخرف الجامع الأموي فقال: قلت يوماً لعمي: يا عم لَمْ يحسن الوليد حيث أنفق أموال المسلمين على جامع دمشق، ولو صرف ذلك في عمارة الطرق والمصانع ورمّ الحصون، لكان أصوب وأفضل، قال: لا تغفل بُنيّ، إن الوليد وفق وكشف له عن أمر جليل، وذلك أنه رأى الشام بلاد نصارى، ورأى لهم فيها بيعاً حسنة قد افتن زخارفها وانتشر ذكرها كالقمامة وبيعة لدّ والرّها فاتخذ للمسلمين مسجداً شغلهم به عنهن، وجعله أحد عجائب الدنيا، ألا ترى أن عبد الملك لما رأى عظم قبة القمامة وهيأتها خشي أن تعظم في قلوب المسلمين فنصب على الصخرة قبة على ما ترى 1هـ. ولذلك حرص المسلمون في كل دور على السير على قدم الوليد في الاحتفاظ بنقوش الجامع وتحاسينه وتزايينه وتزاويقه، ومما أبقته الأيام من نقوش الفسيفساء أو الفصوص حيطان قبة الظاهر بيبرس في دمشق، فإنها الأثر الباقي من هذه الصناعة في هذا الصقع، بعد أن دثرت فسيفساء الجامع بما تعاقب عليه من الحريق في أدوار كثيرة ولم يبق منها إلا ما كشف مؤخراً في الحلئط الغربي من صور الأشجار وغيرها. ومن القصور المصورة الجدران دار الملك رضوان بحلب وفيها يقول الرشيد النابلسي من قصيدة يمدحه بها سنة 589 ويذكر ما على جدران الدار من الصور:

دارٌ حكت دارينَ في طيب ولا

عطرٌ بساحتها ولا عطار

رفعت سماء عمادها فكأنها

قطبٌ على فلك السعود يدار

وزهت رياض نقوشها فبنفسج

غضٌ ووردٌ يانعٌ وبهار

ص: 110

نَوْر من الأصباغ مبتهج ولا

نورٌ وأزهارٌ ولا أزهار

ومنها:

صور ترى ليث العرين تجاهه

فيها ولا يخشى سطاه صوار

وفوارساً شبت لظى حرب وما

دعيت نزَالِ ولم يُشَنّ مغار

وموسدين على أسرّة ملكهم

سكراً ولا خمر ولا خمار

هذا يعانق عوده طرباً وذا

أبداً يقبّل ثغره المزمار

ثم لما تزوّج بضيفة خاتون ابنة عمه العادل واسكنها في هذه الدار وقعت نار عقب العرس فاحترقت واحترق جميع ما فيها، فجددها وسماها دار الشخوص لكثرة ما كان من زخارفها.

ومن القصور المصورة القصر الأبلق الذي بناه الظاهر بيبرس في مرجة دمشق أوائل النصف الثاني من القرن السابع، وعلى أنقاضه بنيت التكية السليمانية، وكان على واجهته مائة أسد منزّلة صورها بأسود في أبيض، وعلى الشمالية اثنا عشر أسداً منزلة صورها بأبيض في أسود، وهذه الصور أجمل من صور الأسود والنمورة وغيرها من الحيوانات التي كانت في قلعة حلب، ومن الحمامات المصورة حمام سيف الدين بدمشق عثر أحمد تيمور على قصيدة في ديوان عمر ابن مسعود الحلبي الشهير بالمحّار في وصف هذا الحمام جاء فيها:

وخطّ فيها كل شخص إذا

لاحظته تحسبه ينطق

ومثل الأشجار في لونها

ولينها لو أنها تورق

أطيارها من فوق أغصانها

بودها تنطق أو تزعق

وهيئة الملك وسلطانه

وجيشه من حوله يحدق

هذا بسيف وله عبسة

وذا بقوس وبه يعلق

ومن التصوير على النسيج على ما ذكره البدري من تصوير الأبيض القطني المصوّر لأحياء القصور وأموات القبور وكان يصنع في دمشق. ومن التصوير في الكتب ما ذكره أبو الفداء في حوادث سنة 642 في ترجمة المظفر صاحب حماة قال: استخدم الشيخ علم الدين قيصر المعروف بتعاسيف وكان مهندساً

ص: 111

فاضلاً في العلوم الرياضية فعمل له كرة من الخشب مدهونة، ورسم فيها جميع الكواكب المرصودة. وذكر ابن قاضي شهبة أن علي بن محمد بن صالح الرسام عالم صفد المتوفى سنة 749 هـ كان في أول أمره يرسم القماش وقال: إن عنده كتاباً في علم الفلك صورت فيه جميع الأبراج والنجوم بليقتي الكتاب أي بالأحمر والأسود تحت كل صورة أرجوزة بتعريفها. قال القاضي جمال الدين ابن واصل: وساعدت الشيخ علم الدين على عملها وكان المظفر يحضر ونحن نرسمها ويسألنا عن مواضع دقيقة منها. وقد اطلع مؤلف كتاب نهر الذهب على مخطوط في وصف شجرة الإفادة التي كانت في الجامع الأموي بحلب وتعد من الذخائر النفيسة العلمية قال: إنها كانت عظيمة الرواء مصنوعة من حجر ونحاس وحديد ذات خطوط وجداول في أصول العلوم الرياضية شبيهة بشجرة ذات جذع وأغصان وأوراق عظيمة في كل ورقة منها أصل من أصول تلك العلوم. وكان الطلبة يقدمون حلب من القاصية للاشتغال بالعلوم الرياضية المرسومة في هذه الشجرة. واسم غارس شجرة الإفادة خليل بن أحمد غرس الدين على ما في در الحبب.

ويدخل في باب النقش والصنائع الغريبة ما رواه المقدسي في حوادث سنة 990 يوم عُمل ختان ابن درويش باشا والي دمشق، فإنهم صنعوا شيئاً يسمى النقل بجامع المصلى وبجامع ايلخان خارج محلة القراونة وبجامع التوبة، وهو يشتمل

على أربع عشرة قلعة من الورق المحشو بالبارود وأربع عشرة فرساً وأربعة عشر عفريتاً كذلك، وعلى صور طيور ووحوش وكلاب وغي ذلك، وعل قصر عظيم من الشمع الملون المشتمل على صورة أنواع الفواكه والبقول والأزهار والأطيار وغيرها كل ذلك من الشموع المصبغة والتذهيب والتفضيض، وكان ارتفاعه على علو الجملون الذي بجامع المصلى بحيث لم يتأت نقله منه وإخراجه إلا بعد فك الجملون المذكور، وهدم قوس أحد أبواب الجامع المذكور وهدم مواضع متعددة في طريقه إلى دار السعادة، وهدم الحائط الشرقي من باب دار السعادة أيضاً حتى أُدخل، وكان لهذا النقل يوم مشهود خرج للفرجة عليه جميع أهل دمشق رجالاً ونساء لم يتخلف أحد. ثم في اليوم الثاني منه نقل النقل الذي صنع بجامع محلة القراونة وبجامع التوبة وهو يشتمل على قصرين عظيمين من

ص: 112

الشمع أيضاً أحدهما أطول من القصر المقدم بنحو أربع أذرع والآخر دونه مشتملين عل ما تقدم وعلى صور أنواع الحيوانات من السكر من الخيل والجمال والفيلة والسباع والطيور وغيرها، كل ذلك من السكر المعقود وعلى النقول والملبسات بالسكر أيضاً.

وكان رشيد الدين بن الصوري يستصحب مصوراً ومعه الأصباغ والليق على اختلافها وتنوعها، فكان يتوجه إلى المواضع التي بها النبات مثل جبل لبنان وغيره من المواضع التي قد اختص كل منها بشيء من النبات، فيشاهد النبات ويحققه ويُريه للمصور فيعتبر لونه ومقدار ورقه وأغصانه وأصوله، ويصور بحسبها ويجتهد في محاكاتها. ثم إنه سلك في تصوير النبات مسلكاً مفيداً، وذلك أنه كان يُري النبات للمصور في إبان نباته وطراوته فيصوره، ثم يريه إياه أيضاً وقت كماله وظهور بزره فيصوره تلو ذلك، ثم يريه إياه أيضاً في وقت ذواه ويبسه فيصوره، ومن ذلك نستدل أنه كان في القطر أكثر من مصور في ذاك

العصر، وأن ذلك التصوير بالأصباغ كان مألوفاً، وقد بلغ من حذق المصورين أن يصوروا النبات على أنحاء شتى، أما عنايتهم بالنبات نفسه فمسألة ينظر فيها علماء النبات يستخرجون منها ما يريدون، وهذا كان في الثلث الأول من القرن السابع للهجرة أي في القرن الثالث عشر للميلاد.

ولا شك أن كل هذه البدائع كانت من صنع صُنُع الأيدي من الشاميين، فمن المصورين على الخزف ومن المصورين على الخشب ومن المصورين على النسيج ومن المصورين على النحاس والحديد، فمن المصورين على الخزف الغيبي قال تيمور: إن له قطعاً بدار الآثار العربية بمصر، عثروا عليها بأطلال الفسطاط وقد كتب عليها اسمه فكتب على بعضها الغيبي فقط وعلى بعضها الغيبي الشامي وإن في دار الآثار العربية أيضاً لوحاً من القاشاني لمحمد الدمشقي عليه صورة مكة المكرمة والكعبة المعظمة صورها سنة 1139هـ وكتب عليها اسمه. وبعد فهذا القليل الذي قرأناه واستأنسنا به يدل على ذوق وإبداع، وإن مشاركة الأمة في هذا الفن كانت على حصة موفورة. وفي هذا العصر نبغ في الشام مصورون لا بأس بهم أخذوا عن إيطاليا وفرنسا وغيرهما وكادوا يجارون

ص: 113