الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السكة في دار: ما دخلت هذه السكة دار قوم إلا ذلوا، ولو قال: ما خلت هذه السكة من دار قوم إلا ذلوا لكان أقرب إلى الصواب. شعار الغرب اليوم الأرض هي الوطن ومن توفر على تحسينها يخدم وطنه وإذا كانت الفلاحة عندنا ينظر إليها نطر احتقار فمن باب أولى أن ينظر إلى الفلاح كذلك وهو خادم الوطن الحقيقي. وإذا كان الفلاح كالسلطان في مزرعته عند الأمم الممدنة، فهو هنا عبد لقّ لصاحب الأرض
وللحكومة وللمرابي.
وبينا نرى أرباب المزارع في الممالك الراقية، ومصر منها، يُعنون براحة فلاحيهم وتعليم أبنائهم وبناتهم، وتوفير قسطهم من الصحة والهناء، ويجعل لهم حتى في قراهم مدارس ومعابد ودور تمثيل وصور متحركة للتسلية، نجد أكثر المزارعين هنا يجدّون في أن يبقوا فلاحيهم جهلاء أغبياء حتى يخضعوا لهم بزعمهم أبد الدهر خضوعاً أعمى، وقلّ أن سمعت بأن مزارعاً أنشأ لفلاحيه عندنا مدرسة بسيطة أو مسجداً وأتاهم بخطيب يعلمهم أو بطبيب يطبهم، ولذلك تجد القرى التي يملكها أفراد صفراً من هذه الوجهة، لأن صاحب القرية لا يهتم إلا لتكثير الدخل السنوي وإرهاق فلاحه، وابن البادية والقائمون على الزرع والضرع أقل الأمة ويا للأسف حظاً من التفكر بسعادتهم: انهم ليسوا مادة الثروة، إذا اختل نظامهم تطرق الخلل إلى سائر مذاهب المعاش، ومقومات الحضارة ومظاهر الرخاء والهناء.
ولا يزال يدور على الألسن في وصف الفلاحين أنهم غبر الوجوه إذا لم يُظلموا ظَلَموا ولكن تثقيف أودهم بالتربية قلما يخطر ببال، وقطع الجرثومة من أساسها لا نراه دواء عاجلاً!
التحسين الأخير:
على أن من الواجب أن يقال أيضاً: إنه استفادت كثير من قرى الغوطة والمرجين ووادي العجم والبقاع وبعلبك والحولة وجبال عامل وعكار والحصن ونابلس وعكا والخليل وغزة وسهول حمص وحماة وحلب وإنطاكية وإسكندرونة والسويدية عمراناً منذ ثمانين سنة بفضل بعض طبقة الأعيان، لأنهم استطاعوا أن يحموها من عيث البادية وعبث الظلمة من العمال، وأن يمدوها بالمال وقت
العسرة فغُرّموا على تحسنها أموالاً، وصرفوا قواهم إلى الانتفاع بها ما أمكن. وكان العربان يداهمون حتى القرى القريبة من الحواضر، ويطلبون منها اخوة أو الخاوة
وهي مبلغ من المال يتقاضونه من الفلاحين البائسين يؤدونه لصعاليك البدو صاغرين، وإذا استنكفوا عن أداء ما يطلب منهم، محتجين بضيق ذات اليد أو رداءة الموسم، نهبوا دورهم وحرقوا عروضهم وغلاتهم واعتدوا على أرواحهم. وقد كانت معظم الأرياف مأوى الأشقياء وعصابات قطاع الطرق، فما كان الفلاح يجسر أن ينتقل من قرية إلى أخرى، أو يحمل محاصيله إلى المدن، ولا أن يعمل في حقله البعيد قليلاً عن القرية أو المزرعة.
فلما طبق قانون الولايات سنة 1281هـ ثم أُنشئت المحاكم النظامية كان من أثرها القضاء على عصابات من أرباب الدعارة، وقلّت الشقاوة، فانصرف الفلاحون كلهم إلى العمل، لأن الأسعار بدت بالارتفاع، فبعد أن كان الحوراني ينقل غلاته على الجمال إلى بيروت أو عكا فلا يتحصل منها غير أجرة النقل، أصبح الفلاح يحمل غلاته إلى المواني البحرية ولا سيما غزة ويافا وحيفا وبيروت وطرابلس واللاذقية والإسكندرية فتأتيه بأرباح طائلة، لأن الحبوب كالثمار، أصبحت تسافر في البحار، ويدفع في ثمنها النضار.
وانتبه الفلاح لحاله بكثرة اختلاطه بابن المدن فعرف بؤسه، فلم يكن على ما كان منذ سبعين سنة مملوكاً لجهله الطبيعي، ولظالميه من المرابين وغيرهم من أدوات التخريب. وكان من تأسيس المصارف الزراعية، وإن كانت قليلة رؤوس الأموال، ويجب أن يكون فيها التسهيل كثيراً، أن أنزلت معدل الربا إلى سبعة في المئة، فخففت من غلواء المرابين والصيارفة. ولو زيد في ترقية المصارف الزراعية وأُنشئت مصارف عقارية تقرض أرباب العقارات أيضاً بفائدة معتدلة لزادت المنافع المطلوبة للزراعة.
وصادف أن قلت آفات الزراعة في العهد الأخير، فأصبحت الأوبئة في البشر والبقر لا تفعل فعلها الشديد كما كانت في الأدوار السالفة، وردمت بعض
المستنقعات الصغيرة التي كانت بجوار بعض القرى، وعني ديوان الصحة بفتح مستوصفات في القصبات ومستشفيات في المدن، فتحسنت الصحة بعض الشيء، وأصبح الفلاح يدرك فائدة التطبب، وإن أعوزه الطبيب أحياناً، وفتحت وزارة