الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال أيضاً في شفائه: (ويشبه أن تكون القوة الوهمية هي بعينها المفكرة المتخيلة والمتذكرة، وهي بعينها الحاكمة، فتكون بعينها حاكمة، وبأفعالها وحركاتها متخيلة بما تعمل من الصور والمعاني، والمتذكرة بما ينتهي إليه عملها، وأما الحافظة فهي قوة خزانتها) .
تعليق ابن تيمية
فهذه ألفاظه، ومن الناس من قال: هذا يدل على اضطرابه في أمر هذه القوى، وليس المقصود هنا الكلام فيما يتنازعون فيه، وهو أن هذه الإدراكات الجزئية والأفعال الجزئية: هل هي للنفس، وإن كان بواسطة الجسم، أو هي للجسم، وهل محل هذه شيء واحد أو أشياء متعددة؟ وهل هو بقوة واحدة أو بقوى متعددة؟
فإن الكلام في هذا مما لم يتعلق بالمقصود في هذا المكان، فإنه لا خلاف بين العقلاء أن الإنسان - بل وغيره من الحيوان - يتصور في غيره ما يحبه ويواليه عليه ويرجو وجوده، ويتصور ما يبغضه ويعاديه عليه ويخاف وجوده.
فهذا التصور أمر معلوم في الإنسان وفي الحيوان، وهم سموا التصور وهماً، وقالوا إنه يحصل بقوة تسمى الوهمية.
والناس متنازعون في إدراك الحيوان وأفعاله: كالسمع، والبصر، والتفكير، والعقل، وغير ذلك من أنواع التصورات والأفعال، سواء كان تصور ولاية أو عداوة أو غير ذلك،: هل هو بقوى في الحيوان أم لا؟ .
فالأول: قول الجمهور، والثاني: قول من يقول: إنه ليس للعبد قدرة مؤثرة في مقدوره.
والأولون على قولين: منهم من يخص القوى بالأفعال الاختيارية، ومنهم من يجعله في جميع الحوادث.
وهؤلاء نوعان: منهم من يقول بقول المتفلسفة الذين يقولون: إن الله موجب بذاته بدون مشيئة وعلمه بالجزئيات، وهذا باطل شرعاً وعقلاً.
ومنهم من يقول: إن الله خالق ذلك كله بمشيئته وعلمه وقدرته.
وهذا مذهب سلف الأمة وأئمتها، وجمهور علمائها: يثبتون ما في الأعيان من القوى والطبائع، ويثبتون للعبد قدرة حقيقة وإرادة، ويقولون: عن هذه الأمور جعلها الله أسباباً لأحكامها، وهو يفعل بها، كما قال تعالى:{حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات} [الأعراف: 57] .
وقال تعالى: {وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها} [البقرة: 164] .
إلى غير ذلك من نصوص الكتاب والسنة.
وكلام السلف والأئمة المذكور في غير هذا الموضع، ولهذا نص أحمد بن حنبل والحارثي والمحاسبي وغيرهما أن العقل غريزة في الإنسان.
ولكن من قال بالقول الأول من نفاة الأسباب والقوى الذين سلكوا مسلك الأشعري في نفي ذلك قالوا: إنما العقل هو نوع من العلوم الضرورية، كما قال ذلك القاضي أبو بكر بن طيب، والقاضي أبو يعلى، والقاضي أبو بكر بن العربي وغيرهم.
والمقصود أن هذا التصور لمعان في الأعيان المشهودة: كتصور أن هذا يوافقني ويواليني وينفعني وفيه ما أحبه، وهذا يخالفني ويعاديني ويضرني وفيه ما أبغضه، أمر متفق عليه بين العقلاء، سواء قيل بتعدد القوى، أو اتحادها أو عدمها، وسواء قيل: المدرك هو النفس أو البدن.
إذا كان كذلك، فيقال إذا كان (الوهم) مفسراً عندهم بما ذكروه من تصور معنى (غير محسوس في الأعيان المحسوسة وألا يتأدى من الحس، فمعلوم أن هذا تدخل فيه كل صفة تقوم بالحي من الصفات الباطنة: كالقدرة والإرادة والحب والبغض والشهوة والغضب، وأمثال ذلك.
فإن القدرة في القادر، كالعداوة في العدو، والصداقة في الصديق، بل قد يكون ظهور الولاية والعداوة والحب والبغض، إلى الحس الظاهر أقرب من ظهور القدرة.
وعلى هذا فيكون تصور الملك، والملك هو أيضاً من الوهم، فإن كون الشخص المعين ملكاً لغيره أو مالكاً لغيره: هو تصور معنى في الشخص المحسوس، وذلك المعنى غير محسوس، ولا يتخيل تخيل المحسوسات.
وكذلك تصور الشهوة والنفرة: يكون أيضاً من باب التصور الوهمي في اصطلاحهم، وكذلك تصور الألم في الغير واللذة فيه، هو من الباب، فإن ما يجده الحيوان في نفسه من اللذة والألم غير محسوس.
فإن قيل: هذه الأمر تدرك بآثار تظهر يدرك الحس تلك الظواهر، فلا يقال: هي موهومة.
قيل: إن كان هذا كافياً، فمعلوم أن تصور الشاة صورة الذئب المحسوسة إدراك لتلك الصورة، فتلك الصورة مستلزمة للعداوة،
وكذلك إدراك التيس صورة الشاة، وكذلك إدراك الإنسان شعار صديقه وعدوه، مثل إدراك كل من الطائفتين المقتتلتين شعار الأخرى المسموعة بالأذن، كالشعائر المتداعي بها، والمرئية، كالرايات المرئية هي أيضاً مما يدرك بالحس، ويستدل بها على الولاية والعداوة التي ليست بمحسوسة، بل هي في الأشخاص المحسوسة.
ففي الجملة ليس من شرط الصورة الوهمية عندهم أن يدركها الوهم بلا توسط شيء محسوس، بل لا تدرك تلك المعاني إلا في الأشياء المحسوسة، ولا بد أن تدرك تلك الأشياء المحسوسة فيكون الوهم مقارناً للحس، لا بد من ذلك وإلا فلو أدرك الوهم ما يدركه مجرداً عن الحس لكان يدرك ما يدركه لا في أعيان محسوسة، فلا بد أن يدرك بباطنه، وهو القوة المسماة بالوهم عندهم، وبظاهره، وهو الحس: ما في المدرك من الأمر الباطن، وهو المعنى كالصداقة والعداوة، والظاهر، وهو الشخص الذي هو محل ذلك.
وعلى هذا فميل كل جنس إلى ما يناسبه في الباطن هو بسبب إدراك هذه القوة، كما يتفق في المتحابين والمتباغضين والمتحابون قد يكون تحابهم لاشتراكهم في التعاون على ما ينفعهم ودفع ما يضرهم، كما يوجد في أجناد العساكر، وأهل المدينة الواحدة، وأهل الدين الواحد، والنسب الواحد ونحو ذلك.
وفي الجملة فميل الحيوان إلى ما يظن أنه ينفعه، ونفوره عما يظن أنه يضره: بسبب هذه القوة، فإن إدراكه كون هذا نافعاً له موافقاً له ملائماً له، وكون هذا ضاراً له مخالفاً له منافراً له: هو بهذه القوة.
وعلى هذه فينبغي إن يكون إدراك ما في الأغذية والأدوية من الملائمة هو بهذه القوة، فإن الإنسان يتوهم في الخبز أنه يلائمه إذا أكله، كما يتوهم الفرس ذلك في الشعير، ويتوهم في السيف أنه يضره إذا ضرب به، كما يتوهم الحمار ذلك في العصا.
وفي الجملة فتصور الإنسان - بل والحيوان- لما ينفعه ويضره هو بهذه القوة على موجب اصطلاحهم، فإن الإنسان إذا رأى بئراً محفورة يتصور أنه إن وقع فيها عطب- كان هذا بهذه القوة، لأن الحس إنما شهد مكاناً عميقاً، أما كونه يضر الإنسان إذا سقط فيه فهذا لا يعلم بالحس، ولهذا كان من لا تمييز له يسقط في مثل هذا المكان، كالصبي والمجنون والبهيمة، وإن كان له حس، فالذي يسميه الناس عقلاً سماه هؤلاء وهماً، وتصور الإنسان أن هذا ماله وهذا مال غيره، وهذه الدار داره وهذه دار غيره، هو بهذه القوة لأن الحس الظاهر لا يميز بين هذا وهذا، وإنما يعرف هذا من هذا بقوة باطنة تتصور في المحسوس ما ليس بمحسوس، وهو أن هذه الدار أو المال له أو لأقاربه أو لأصدقائه، وتلك الدار أو المال للأجانب أو الأعداء، فإن هذه المعاني هي في المحسوس وليست محسوسة، وإدراك كون هذا الإنسان
عادلاً جواداً رحيماً شجاعاً، وهذا ظالماً بخيلاً قاسياً جباناً، هو على موجب اصطلاحهم وهم، فإن هذا إدراك أمور غير محسوسة في المحسوسات.
وكذلك سائر الأخلاق التي بها مدح وقدح، مثل البر والفجور والعفة، والصدق والكذب والكرم واللؤم، وأمثال ذلك، فإن هذه معان تقوم بالشخص المحسوس، ونفس الأخلاق القائمة فيه ليست بمحسوسة، وإنما يحس بالأفعال الظاهرة الصادرة عنها، كما يحس بالأفعال الظاهرة الصادرة عن الصداقة والعداوة.
ومعلوم أن إدراك هذه الأمور هي مما يدخل في مسمى العقل والعلم والمعرفة عند عامة العقلاء، بل إدراك كون المعروف معروفاً، وكون المنكر منكراً، هو أيضاً مما يدخل في (الوهم) على اصطلاحهم، فإن المعروف هو المحبوب الموافق الملائم، والمنكر هو المكروه المخالف المنافي، وما يدرك به هذه المعاني من الأمور الحسية وهم، بل على قولهم كل معنى يدرك في الأعيان المحسوسة فإدراكه بالوهم، ولا يبقى فرق بين الوهميات والعقليات في مثل هذا، إلا كون الوهميات جزئية والعقليات كلية.
ومعلوم أن إدراك كثير من هذه المعاني من خواص العقل، ومما يبين هذا أن الرجل إذا رأى امرأته مع من يظن به السوء كان هذا إدراكاً لأمر
غير محسوس في المحسوس، وهو إدراك ما ينافيه، وهو ميل الأجنبي إلى امرأته، وميل امرأته إليه.
وكذلك المرأة إذا وجدت مع زوجها امرأة أخرى فظنت أن بينهما اتصالاً وحصلت لها الغيرة، فالغيرة إنما تحصل بهذه القوة، فإن الغيرة من باب كراهة المؤذي وبغضه، وهو من جنس إدراك العداوة فيما يغار منه، كما أن الرجل يميل إلى أبيه وأمه وزوجته لما يستشعره من محبتهم ومودتهم، وإدراك ما منهم من المحبة والمودة هو أيضاً عندهم وهم، لأنه إدراك في المحسوس بما ليس بمحسوس، وهو الولاية التي بينهما، كما قالوا في إدراك التيس معنى الشاة، وإذا رأى إنسان امرأة أجنبية فقد يدرك منها أنها تميل إليه، فيكون كإدراك التيس معنى في الشاة، وقد يدرك منها أنها تنفر عنه، فيكون كإدراك الشاة معنى في الذئب، وهذا باب واسع.
والمقصود أن يجمع بين هذا وببن ما قاله ابن سينا في مقامات العارفين وهو خاتمة مصحفهم، وقد قال الرازي:(هذا الباب أجل ما في هذا الكتاب، فإنه رتب علم الصوفية ترتيباً ما سبقه إليه من قبله، ولا يلحقه من بعده) .
وأقره الطوسي على هذا الكلام وقال: (قد ذكر الفاضل
الشارح أن هذا الباب أجل ما في هذا الكتاب، فإنه رتب فيه علوم الصوفية ترتيباً ما سبقه إليه من قبله ولا لحقه من بعده) .
وهذا الذي هو غاية ما عند هؤلاء من معارف الصوفية إذا تدبره من يعرف ما بعث الله به رسوله، وما عليه شيوخ القوم -المؤمنون بالله ورسوله- المتبعون لكتاب والسنة، تبين له أن ما ذكره في الكتاب بعد كمال تحقيقه لا يصير به الرجل مسلماً، فضلاً عن أن يكون ولياً لله، وأولياء الله هم المؤمنون المتقون، فإنه غايته هو الفناء في التوحيد الذي وصفه، وهو توحيد غلاة الجهمية المتضمن نفي الصفات، مع القول بقدم أفلاك، وأن الرب موجب بالذات لا فاعل بمشيئتة ولا يعلم بالجزئيات، ولو قدر أنه فناء في توحيد الربوبية المتضمن للإقرار بما بعث الله به رسوله من الأسماء والصفات، لم يكن هذا التوحيد وحده موجباً لكون الرجل مسلماً، فضلاً عن أن يكون عارفاً ولياً لله، إذ كان هذا التوحيد يقر به المشركون عباد الأصنام، فيقرون بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وإنما يجعل الفناء في هذا التوحيد هو غاية العارفين صوفية هؤلاء الملاحدة كابن طفيل صاحب رسالة حي بن يقظان وأمثاله، ولهذا يستأنسون بما يجدونه من كلام أبي حامد
موافقاً لقولهم، إذ كان في كثير من كلامه ما يوافق الباطل من قول هؤلاء، كما في كثير من كلامه رد لكثير من باطلهم.
ولهذا صار كالبرزخ بينهم وبين المسلمين، فالمسلمون ينكرون ما وافقهم فيه من الباطل عند المسلمين، وهم ينكرون عليه ما خالفهم فيه من الباطل عند المسلمين.
ومن أسباب ذلك أن هؤلاء جعلوا غاية الإنسان وكماله في مجرد أن يعلم الوجود أو يعلم الحق، فيكون عالماً معقولاً مطابقاً للعالم الموجود، وهو التشبه بالإله على قدر الطاقة، وجعلوا ما يأتي به من العبادات والأخلاق إنما هي شروط وأعوان على مثل ذلك فلم يثبتوا كون الرب تعالى معبوداً مألوهاً يحب لذاته، ويكون كمال النفس أنها تحبه، فيكون كمالها في معرفته ومحبته، بل جعلوا الكمال في مجرد معرفة الوجود عند أئمتهم، أو مجرد معرفته، عند من يقرب إلى الإسلام منهم.
فهذا أحد نوعي ضلالهم.
والنوع الآخر أنه لو قدر كمالها في مجرد العلم، فما عندهم ليس بعلم، بل كثير منه جهل.
والقدر الذي حصل لهم من العلم لا تحصل به النجاة، فضلاً عن حصول السعادة الكبرى، فهم أبعد من الكمال البشري، وعن النجاة في الآخرة والسعادة، من اليهود والنصارى من حيث هم كذلك، وإن كان من اليهود والنصارى من هو أبعد عن ذلك ممن كان أقرب إلى الإسلام من اليهود والنصارى، إذ النجاة والسعادة باتباع الرسل علماً وعملاً.
وكتبهم ليس فيها إيمان بنبي معين ولا كتاب معين: لا توراة ولا إنجيل، ولا قرآن، ولا إبراهيم، ولا موسى، ولا عيسى، بل ولا فيها إثبات رب معين، وإنما فيها إثبات موجود كلي وأمور كلية، ولا فيها الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة ما سواه، ومعلوم أن النجاة والسعادة لا تحصل إلا بذلك، بل ليس عندهم الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، ولا الإيمان بأن الله قدر مقادير العباد، فإنه عندهم لا يعلم الجزئيات، فكيف يقدرها؟ ومعلوم أن السعادة لا تحصل إلا بذلك.
وهؤلاء لما كان قولهم مخالفاً للفطرة التي فطر الله عليها عباده: من الإقرار به ومن محبته.
كان ما ذكروه من كمال النفس منافياً لهذا ولهذا.
ولهذا اضطرب كلامهم في هذا الباب، فتارة يحتاجون أن يثروا بما يوجب محبته وموالاته، مع الإقرار به سبحانه وبعلوه على خلقه، وتارة يدعون ما يوجب انتفاء هذا وهذا.