الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكثير من أهل المنطق، كابن رشد الحفيد وغيره، يخاف ابن سينا فيما ذكره في هذا الباب من الإلهيات والمنطقيات، ويذكر أن مذهب الفلاسفة المتقدمين بخلاف ما ذكروه، وأما الأساطين قبله فالنقل عنهم مشهور بخلافهم في هذا الباب.
كلام ابن سينا في الإشارات عن الخيال والوهميات
والمقصود أن هذا الكلام عامة من تكلم به من المتأخرين أخذوا من ابن سينا.
ومن تدبر كلامه وكلام أتباعه فيه وجده في غاية التناقض والفساد، فإنه قال في (إشارته) التي هي كالمصحف لهؤلاء المتفلسفة الملحدة - لما ذكر مواد القياس، وتكلم عن القضايا من جهة ما يصدق بها وذكر أن: أصناف القضايا المستعملة فيما بين القائسين ومن يجري مجراهم أربعة: مسلمات، ومظنونات وما معها.
ومشتبهات بغيرها، ومتخيلات.
قلت: المتخيلات هي مواد القياس الشعري، والمشتبهات هي مواد السوفسطائي، وما قبل ذلك هو مواد البرهان والخطابي والجدلي.
قال: والمسلمات: إما معتقدات، وإما مأخوذات.
والمعتقدات أصنافها ثلاثة: الواجب قبولها، والمشهورات
والوهميات.
والواجب قبولها: أوليات، ومشاهدات، ومجربات وما معها من الحدسيات والمتواترات وقضايا أقيستها معها.
وتكلم عن القضايا الواجب قبولها بما ليس هذه موضعه، وقد بسط الكلام فيما في منطقهم اليوناني من الفساد - مثل كلامهم في الفرق بين الذاتيات اللازمة للماهية، ودعواهم أن الحد الحقيقي يفيد تعريف الماهية، وأن الحقائق مركبة من الأجناس والفصول، وكلامهم في الكليات الخمسة، وما ذكروه في مواد البرهان، ودعواهم أن التصورات المكتسبة لا تنال إلا بحدهم، والتصديقات المكتسبة لا تحصل إلا بمثل قياسهم، وغير ذلك مما ليس هذا موضعه.
والمقصود هنا أنه قال: (وأما القضايا الوهمية الصرفة فهي قضايا كاذبة، إلا أن الوهم الإنساني يقضي بها قضاء شديد القوة، لأنه ليس يقبل ضدها ومقابلها، بسبب أن الوهم تابع للحس، فما لا يوافق المحسوس لا يقبله الوهم، ومن المعلوم أن المحسوسات إذا كان لها مبادئ وأصول كانت تلك قبل المحسوسات، ولم تكن محسوسة، ولم يكن وجودها على نحو وجود المحسوسات، فلم يمكن أن يتمثل ذلك
الوجود في الوهم، ولهذا كان الوهم مساعداً للعقل في الأصول التي تنتج وجود تلك المبادئ، فإذا تعديا معاً إلى النتيجة نكص الوهم، وامتنع عن قبول ما سلم موجبه.
وهذا الصنف من القضايا أقوى في النفس من المشهورات التي ليست بأولية، وتكاد تشاكل الأوليات وتدخل في المشبهات بها، وهي إحكام للنفس في أمور متقدمة على المحسوسات، أو أعم منها على نحو ما يجب أن لا يكون لها، وعلى نحو ما يجب أن يكون أو يظن في المحسوسات، مثل اعتقاد المعتمد أنه لا بد من خلاء ينتهي إليه الملاء إذا تناهى، وانه لا بد في كل موجود أن يكون مشاراً إلى جهة وجوده.
وهذه الوهميات لولا مخالفة السنن الشرعية لها، لكانت تكون مشهورة، وإنما يثلم في شهرتها الديانات الحقيقية والعلوم الحكمية، ولا يكاد المدفوع عن ذلك يقاوم نفسه في دفع ذلك، لشدة استيلاء الوهم على أن ما يدفعه الوهم ولا يقبله إذا كان في المحسوسات
فهو مدفوع منكر، بل إنه باطل شنع، بل تكاد أن تكون الأوليات والوهميات التي لا تزاحم من غيرها مشهورة ولا تنعكس) .
قلت: وقد ذكر في غير هذا الموضع شرح أقوى الدراكة، وذكر القوى التي تتخيل بها المحسوسات والتي تحفظ بها، وسمى الأولى على اصطلاحهم (الحس المشترك) والثانية (الخيال) .
قال: وأيضاً فالحيوانات - ناطقها وغير ناطقها - تدرك في المحسوسات الجزئية معاني جزئية غير محسوسة، ولا متأدية من طريق الحواس، مثل إدراك الشاة معنى في الذئب غير محسوس، وإدراك الكبش معنى في النعجة غير محسوس: إدراكاً جزئياً يحكم به كما يحكم الحس بما يشاهده، فعندك قوة هذا شأنها، وأيضاً فعندك وعند كثير من الحيوانات العجم قوة تحفظ هذه المعاني بعد حكم الحاكم بها، غير الحافظ للصور) وهذه هي الذاكرة.
قال: (وتجد قوة أخرى لها أن تركب وتفصل ما يليها من الصور المأخوذة عن الحس والمعاني المدركة بالوهم، وتركب أيضاً الصور بالمعاني وتفصلها عنها، وتسمى عند استعمال العقل مفكرة، وعند استعمال الوهم متخيلة، وكأنها قوة ما للوهم، وبتوسط الوهم للعقل) .
قلت: والمقصود أن يعرف اصطلاحهم ومرادهم بلفظ الخيال والوهم ونحو ذلك، وأن الخيال هو تصور الأعيان المحسوسة في الباطن، والوهم تصور المعاني التي ليست محسوسة في تلك الأعيان، كلاهما تصور معين جزئي، والعقل هو الحكم العام الكلي، الذي لا يختص بعين معينة ولا معنى معين.
وإذا عرف ذلك فيقال: هذه القوة في الباطن بمنزلة القوة الحسية في الظاهر، والقدح فيها كالقدح في الحسيات، وهذه القوة لا يجوز أن يناقض تصورها للمعقول، كما لا يناقض سائر القوى الحسية
للمعقول، لأن المعقولات أمور كلية تتناول هذا المعين وهذا المعين، سواء كان جوهراً قائماً بنفسه، أو معنى في الجوهر والحس الباطن والظاهر، لا يتصور إلا أموراً معينة فلا منافاة بينهما، فالحس الظاهر يدرك الأعيان المشاهدة وما قام بها من المعاني الظاهرة كالألوان والحركات، والذي سموه الوهم جعلوه يدرك ما في المحسوسات من المعاني التي لا تدرك بالحس الظاهر، كالصداقة والعداوة ونحو ذلك، والتخيل هو بمثل تلك المحسوسات في الباطن، ولهذا جعلوا الإدراكات ثلاثة: الحس والتخيل والعقل.
قال ابن سينا: (والشيء يكون محسوساً عندما يشاهد، ثم يكون متخيلاً عند غيبته بتمثل صورته في الباطن، كزيد الذي أبصرته مثلاً، إذا غاب عنك فتخيلته، وقد يكون معقولاً عندما يتصور من زيد مثلاً معنى الإنسان الموجود أيضاً لغيره.
وهو عندما يكون محسوساً تكون غشيته غواش غريبة عن ماهيته، لو أزيلت عنه لم تؤثر في كنه ماهيته، مثل: أين، ووضع وكيف، ومقدار بعينه، لو
توهمت بدله غيره لم يؤثر في حقيقة ماهية إنسانيته.
والحس ينال من حيث هو مغمور في هذه العوارض التي تلحقه بسبب المادة التي خلق منها، لا يجردها عنه، ولا يناله إلا بعلاقة وضعية بين حسه ومادته، ولذلك لا يتمثل في الحس إلا ظاهر صورته إذا زال.
وأما الخيال الباطن فيتخيله مع تلك العوارض، لا يقتدر على تجريده المطلق عنها، لكنه يجرده عن تلك العلاقة المذكورة التي يتعلق بها الحس، فهو يتمثل صورته مع غيبوبة حاملها.
وأما العقل فيقتدر على تجريد الماهية المكنوفة باللواحق الغريبة المشخصة مستثبتاً إياها حتى كأنه عمل بالمحسوس عملاً جعله معقولاً.
وأما ما هو في ذاته بريء عن الشوائب المادية، ومن اللواحق