الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مبني على هذه المقدمات الثلاث، فإن لم تثبت الثلاث بطل كلامكم، فكيف إذا تبين بطلان واحدة منها، فكيف إذا تبين بطلانها كلها.
وبيان ذلك في كل مقام.
المقام الأول
أما المقام الأول: فإن المثبتين قالوا: إنهم يعلمون بالبديهة امتناع وجود موجودين لا يكون أحدهما سارياً في الآخر ولا مبايناً له بالجهة، وانه لا يمكن وجود موجود قائم بنفسه لا يمكن الإشارة إليه، بل قد يقولون: إن علمتم بأن الله فوق العالم علم ضروري فطري، وأن الخلق كلهم إذا حزبهم شدة أو حاجة في أمر وجهوا قلوبهم إلى الله يدعونه ويسألونه، وأن هذا أمر متفق عليه بين الأمم التي لم تغير فطرتها، لم يحصل بينهم بتواطئ واتفاق.
ولهذا يوجد هذا في فطرة الأعراب والعجائز والصبيان، من المسلمين واليهود والنصارى والمشركين، ومن لم يقرأ كتاباً ولم يتلق مثل هذا عن معلم ولا أستاذ.
وهذا القدر ما زال يذكره المصنفون في هذا الباب، من أهل الكلام والحديث وغيرهم.
قالوا: وإذا كان مما يجيز هؤلاء الذين لم يتواطئوا بثبوته عندهم كانوا صادقين، فإنه يمتنع على الجمع الكثير الكذب من غير تواطئ وبمثل هذا علم ثبوت ما يخبر به أهل التواتر مما يعلم بالحس والضرورة، فإن المخبر إذا لم يكن خبره مطابقاً فإما أن يكون متعمداً للكذب، وإما أن يكون مخطئاً، وتعمد الكذب يمتنع في العادة على الجمع الكثير من غير تواطئ والخطأ على الجمع الكثير ممتنع في
الأمور الحسية والضرورية.
قالوا: وهذا بخلاف إثبات موجودين ليس أحدهما داخلاً في الآخر، ولا خارجاً عنه، فإن هذا لا تقوله إلا طائفة يذكرون أنهم علموا ذلك بالنظر لا بالضرورة، وقد تلقاه بعضهم عن بعض، فهو قول تواطئوا عليه، ولهذا لا يقول ذلك من لم ينظر في كلام النفاة.
وإما الإقرار بعلو الله تعالى: ورفع الأيدي إليه، فهو مما اتفقت عليه الأمم، الذين يقولون ذلك ويفعلونه، من غير اتفاق ولا مواطأة.
وحينئذ فالجمع الكثير: إما أن يجوز عليهم الاتفاق على مخالفة البديهيات، وإما أن لا يجوز، فإن لم يجز ذلك عليهم، ثبت أن هذه المقدمة بديهة، لأنه اتفق عليها أمم كثيرة بدون التواطؤ، وإن جاز ذلك عليهم بطل احتجاجهم على أن هذه المقدمة ليست بديهية، فإن الجمع الكثير أنكروها، وإذا بطلت حجتهم على أنها ليست بديهية، بقي أحد المتناظرين يقول: إن مقدمته معلومه له بالبديهة، والآخر لا يمكنه إبطال قوله، فلا تكون له حجة عقلية على بطلان قوله، وهو المطلوب.
فكيف والنفاة لا يدعون بديهيات فطرية ولا سمعيات شرعية
وإنما يدعون نظريات عقلية.
والمثبتون يقولون: معنا نظريات عقلية مع البديهيات الفطرية ومع السمعيات اليقينية الشرعية النبوية.
وأيضاً فيقال: إذا قال المنازعون المثبتون: إن قولنا معلوم بالبديهة، لم يمكن أن يناظر بقضية نظرية، لأنه لا يمكن القدح بالنظريات في الضروريات، كما لا يقبل قدح السوفسطائي بنظره فيما يقول الناس إنه معلوم بالبديهة، ولا يقبل مجرد قوله على منازعه، بل المرجع في القضايا الفطرية الضرورية إلى أهل الفطر السليمة، التي لم تتغير فطرتهم بالاعتقادات الموروثة والأهواء.
ومن المعلوم أن هذه المقدمة مستقرة في فطر جميع الناس، الذين لم يحصل لهم ما يغير فطرتهم من ظن أو هوى.
والنفاة لا ينازعون في أن هذا ثابت الفطرة، لكن يزعمون أن هذا من حكم الوهم والخيال، وأن حكم الوهم والخيال إنما يقبل في الحسيات لا في العقليات.
قالوا: ويتبين خطأ الوهم والخيال في ذلك بأن يسلم للعقل مقدمات تستلزم نقيض حكمه، مثل أن يسلم للعقل مقدمات تستلزم ثبوت موجود ليس بجسم ولا في جهة فيعلم حينئذ أن حكمه الأول باطل.
والمثبتون يقولون: هذا كلام باطل لوجوه:
أحدها: أنه إذا جاز أن يكون في الفطرة حكمان بديهيان، أحدهما مقبول والآخر مردود، كان هذا قدحاً في مبادئ العلوم كلها، وحينئذ لا يوثق بحكم البديهية.
الثاني: أنه إذا جوز ذلك، فالتمييز بين النوعين: إما أن يكون بقضايا بديهية، أو نظرية مبنية على البديهية، وكلاهما باطل، فإنا إذا جوزنا أن يكون في البديهيات ما هو باطل، لم يمكن العلم بأن تلك البديهية المميزة بين ما هو صحيح من البديهيات الأولى، وما هو كاذب مقبول التمييز، حتى يعلم أنها من القسم الصحيح، وذلك لا يعلم إلا ببديهية أخرى مبينة مميزة، وتلك لا يعلم أنها من البديهيات الصحيحة إلا بأخرى فيفضي إلى التسلسل الباطل، أو ينتهي الأمر إلى بديهية مشتبهة لا يحصل بها التمييز، فلا يبقى طريق يعلم به الحق من الباطل، وذلك يقدح في التمييز، والنظريات موقوفة على البديهيات، فإذا جاز أن تكون البديهيات مشتبهة: فيها حق وباطل، كانت النظريات المبنية عليها أولى بذلك، وحينئذ فلا يبقى علم يعرف به حق وباطل، وهذا جامع كل سفسطة.
وبتقدير ثبوت السفسطة، لا تكون لنا عقليات يثبت بها شيء فضلاً عن أن تعارض الشرعيات.
الثالث: أن قول القائل: إن الوهم يسلم للعقل قضايا بديهية تستلزم إثبات وجود موجود، تمتنع الإشارة الحسية إليه، ممنوع.
الرابع: أنه بتقدير التسليم بكون المقدمة جدلية، فإن الوهم إذا سلم للعقل مقدمة، لم ينتفع العقل بتلك القضية، إلا أن تكون معلومة له بالبديهة الصحيحة، فإذا لم يكن له سبيل إلى هذا انسدت المعارف على العقل، وكان تسليم الوهم إنما يجعل القضية جدلية، لا برهانية، وهذا وحده لا ينفع في العلوم البرهانية العقلية.
الخامس: أن قول القائل: إن حكم الوهم والخيال إنما يقبل في الحسيات دون العقليات إنما يصح إذا ثبت أن في الخارج موجودات لا يمكن أن تعرف بالحس بوجه من الوجوه، وهذا إنما يثبت إذا ثبت أن في الوجود الخارجي ما لا يمكن الإشارة الحسية إليه، وهذا أول المسألة، فإن المثبتين يقولون: ليس في الوجود الخارجي إلا ما يمكن الإشارة الحسية إليه، أو لا يعقل موجود في الخارج إلا كذلك.
فإذا قيل لهم: حكم الوهم والخيال مقبول في الحسيات دون العقليات.
والمراد بالعقليات موجودات خارجة قائمة بأنفسها لا يمكن الإشارة الحسية إليها.
قالوا: إبطال لحكم الفطرة الذي سميتموه الوهم والخيال، موقوف على ثبوت هذه العقليات، وثبوتها موقوف على إبطال هذا
الحكم، وإذا لم يثبت هذا إلا بعد هذا، ولا هذا بعد هذا، كان هذا من الدور الممتنع.
السادس: أن يقال: إن أردتم بالعقليات ما يقوم القلب من العلوم العقلية الكلية ونحوها، فليس الكلام هنا في هذه، ونحن لا نقبل مجرد حكم الحس ولا الخيال في مثل هذه العلوم الكلية العقلية، موجودات خارجة لا يمكن الإشارة الحسية إليها، فلم قلتم: إن هذا موجود، فالنزاع في هذا، ونحن نقول: إن بطلان هذا معلوم بالبديهية.
السابع: أن يقال: الوهم والخيال يراد به ما كان مطابقاً وما كان مخالفاً، فأما المطابق، مثل توهم الإنسان لمن هو عدوه أنه عدوه، وتوهم الشاة أن الذئب يريد أكلها، وتخيل الإنسان لصورة ما رآه في نفسه بعد مغيبه، ونحو ذلك، فهذا الوهم والخيال حق، وقضاياه صادقة، وأما غير المطابق: فمثل أن يتخيل الإنسان أن في الخارج ما لا وجود له في الخارج، وتوهمه ذلك مثل من يتوهم فيمن يحبه أنه يبغضه، ومثل ما يتوهم الإنسان أن الناس يحبونه ويعظمونه، والأمر بالعكس، والله لا يحب كل مختال فخور، فالمختال الذي يتخيل في نفسه أنه عظيم، فيعتقد في نفسه أكثر مما يستحقه، وأمثال ذلك.
قالوا: وإذا كان الأمر كذلك، فلم قلتم: إن حكم الفطرة بأن الموجودين إما متباينان وإما متحايثان من حكم الوهم والخيال الباطل، ونحن نقول: إنه من حكم الوهم والخيال المطابق.
فإذا قلتم: إن العقل دل على أنه باطل، كان الشأن في المقدمات التي ينبني عليها ذلك، وتلك المقدمات أضعف في الفطرة من هذه المقدمات، فكيف يدفع الأقوى بالأضعف.
الثامن: أن المثبتين قالوا: بل المقدمات المعارضة لهذا الحكم هي من الوهم والخيال الباطل، مثل إثبات الكليات في الخارج، وتصور النفي والإثبات المطلقين ثابتين في الخارج، وتصور الأعداد المجردة ثابتة في الخارج، فإن هذه المتصورات كلها لا تكون إلا في الذهن، ومن اعتقد أنها ثابتة في الخارج فقد توهم وتخيل ما لا حقيقة له، وجعل هذا التوهم والخيال الباطل مقدمة في دفع القضايا البديهية.
التاسع: أن يقال: لا نسلم أن في الفطرة قضايا تستلزم نتائج تناقض ما حكمت به أو لا كما يدعونه، فإن هذا مبني على أن المقدمات المستلزمة ما يناقض الحكم الأول مقدمات صحيحة، وليس الأمر كذلك، كما سنبينه إن شاء الله تعالى، فإن هذه المقدمات هي النافية لعلو الله على خلقه ومباينته لعباده، والمقدمات المستلزمة لهذا ليست مسلمة، فضلاً عن أن تكون بديهية.
الوجه العاشر: أن الذين جعلوا هذه القضايا من حكم الوهم الباطل هم طائفة من نفاة الصفات الجهمية، من المتكلمين والمتفلسفة، ومن تلقى ذلك عنهم، وهذا معروف في كتب ابن سينا ومن اتبعه من أهل المنطق.