الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والسلام: «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، وأن نخاطبهم على قدر عقولهم» ، ومن جعل الناس شرعاً واحداً في التعليم فهو كمن جعلهم شرعاً واحداً في عمل من الأعمال، وهذا كله خلاف المحسوس والمعقول) .
قال: (وقد تبين لك من هذه أن الرؤية معنى ظاهر، وأنه ليس يعرض فيه شبهة إذا أخذ الشرع على ظاهره في حق الله تبارك وتعالى، أعني إذا لم يصرح فيه بنفي الجسمية ولا إثباتها) .
تعليق ابن تيمية على كلام ابن رشد في مناهج الأدلة
قلت: هذا الرجل قد ذكر في كتابه أن أصناف الناس أربعة: الحشوية، والأشعرية، والمعتزلة والباطنية: باطنية الصوفية وهو يميل إلى باطنية الفلاسفة الذين يوجبون إقرار الجمهور على الظاهر كما يفعل ذلك من يقول بقولهم من أهل الكلام والفقه والحديث، ليس هو من باطنية الشيعة كالإسماعيلية ونحوهم الذين يظهرون الإلحاد
ويتظاهرون بخلاف شرائع الإسلام، وهو في نفي الصفات أسوأ حالاً من المعتزلة وأمثالهم، بمنزلة إخوانه الفلاسفة الباطنية، حتى أنه يجعل العلم هو العالم، والعلم هو القدرة، وهو مع موافقته لابن سينا على نفي الصفات، يبين فساد طريقته التي احتج بها وخالف بها قدماء الفلاسفة، وهو أن ما يشهد به الوجود من الموجود الواجب يمتنع كونه موصوفاً لأن ذلك تركيب، ووافق أبا حامد - مع تشنيعه عليه - على أن استدلال ابن سينا على نفي الصفات بأن وجوب الوجود مستلزم لنفي التركيب، المستلزم لنفي الصفات - طريقة فاسدة، واختار طريقة المعتزلة، وهي أن ذلك تركيب، والمركب يفتقر إلى مركب، وهي أيضاً من نمط تلك في الفساد.
وكذلك أيضاً زيف طريقهم التي استدلوا بها على نفي التجسيم: زيف طريقة ابن سينا وطرق المعتزلة والأشعرية بكلام طويل، واعتمد هو في نفي التجسيم على إثبات النفس الناطقة، وأنها ليست بجسم، فيلزم أن يكون الله ليس بجسم.
ولا ريب أن هذه الحجة أفسد من غيرها، فإن الاستدلال على نفي كون النفس جسماً أضعف بكثير من نفس ذلك في الواجب، والمنازعون له في النفس أكثر من المنازعين له في ذلك، لكن مما يطمعه، ويطمع أمثاله في ذلك ضعف مناظرة أبي حامد لهم في مسألة النفس، فإن أبا حامد بين فساد أدلتهم التي استدلوا بها على نفي كون الواجب ليس بجسم، وبين أنه لا حجة لهم على ذلك، وغنما الحجة على ذلك طريق
المعتزلة: طريقة الأعراض والحوادث.
وأما في مسألة النفس فهو موافق لهم على قولهم لاعتقاده صحة طريقهم.
وابن رشد يذم أبا حامد من الوجه الذي يمدحه به علماء المسلمين ويعظمونه عليه، ويمدحه من الوجه الذي يذمه به علماء المسلمين، وإن كانوا قد يقولون: إنه رجع عن ذلك، لأن أبا حامد يخالف الفلاسفة تارة، ويوافقهم أخرى، فعلماء المسلمين يذمونه بمن وافقهم فيه من الأقوال المخالفة للحق الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم الموافقة لصحيح المنقول وصريح المعقول، كما وقع من الإنكار عليه أشياء في كلام رفيقه أبي الحسن المرغيناني، وأبي نصر القشيري، وأبي بكر الطرشوشي، وأبي بكر بن العربي، وأبي
عبد الله المازري، وأبي عبد الله الذكي، ومحمود الخوارزمي، وابن عقيل، وأبي البيان الدمشقي، ويوسف الدمشقي، وابن حمدون القرطبي القاضي، وأبي الفرج بن الجوزي، وأبي محمد المقدسي، وأبي عمرو بن الصلاح، وغير واحد من علماء المسلمين وشيوخهم.
والمتفلسفة، الذين يوافقون ما ذكره من أقوالهم، يذمونه لما اعتصم به من دين الإسلام ووافقه في الكتاب والسنة، كما يفعل ذلك ابن رشد الحفيد هذا، وابن الطفيل صاحب رسالة حي بن يقظان، وابن سبعين، وابن هود، وأمثالهم.
وهؤلاء وأمثالهم يعظمون ما وافق فيه الفلاسفة، كما يفعل ذلك صاحب خلع النعلين وابن عربي صاحب الفصوص، وأمثالهم ممن يأخذ المعاني الفلسفية يخرجها في قوالب المكاشفات والمخاطبات الصوفية، ويقتدي في ذلك بما وجده من ذلك في كلام أبي حامد ونحوه.
وأما عوام هؤلاء فيعظمون الألفاظ الهائلة مثل: لفظ الملك، والملكوت، والجبروت، وأمثال ذلك مما يجدونه في كلام هؤلاء وهم لا يدرون هل أراد المتكلم بذلك ما أراده الله ورسوله، أم أراد بذلك ما أراده الملاحدة كابن سينا وأمثاله.
والمقصود هنا أن ابن رشد هذا مع اعتقاده أقوال الفلاسفة الباطنية - لا سيما الفلاسفة المشائين أتباع أرسطو صاحب التعاليم الذين لهم التصانيف المعروفة في الفلسفة - ومع أن قول ابن رشد هذا في الشرائع من جنس قول ابن سينا وأمثاله من الملاحدة، من أنها أمثال مضروبة لتفهيم العامة ما يتخيلونه في أمر الإيمان بالله واليوم الاخر، وأن الحق الصريح الذي يصلح لأهل العلم، فإنما هو أقوال هؤلاء الفلاسفة، وهذه عند التحقيق منتهاها التعطيل المحض، وإثبات وجود مطلق لا حقيقة له في الخارج غير وجود الممكنات، وهو الذي انتهى إليه أهل الوحدة والقائلون بالحلول والاتحاد، كابن سبعين وأمثاله ممن حقق هذه الفلسفة ومشوا على طريقة هؤلاء المتفلسفة الباطنية من متكلم ومتصوف، وممن أخذ بما يوافق ذلك من كلام أبي حامد وأمثاله، وزعموا أنهم يجمعون بين الشريعة الإلهية والفلسفة اليونانية، كما زعم ذلك أصحاب رسائل إخوان الصفا وأمثالهم من هؤلاء الملاحدة.
وابن رشد هذا، مع خبرته بكلام هؤلاء وموافقته لهم، يقول: إن جميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك، وقرر ذلك بطريق عقلية من جنس تقرير ابن كلاب والحارث المحاسبي، وابن العباس القلانسي، والأشعري،
والقاضي أبي بكر، وأبي الحسن التميمي، وابن الزاغوني، وأمثالهم ممن يقول إن لله فوق العرش وليس بجسم.
وقال هؤلاء المتفلسفة كما يقوله هؤلاء المتكلمون الصفاتية: إن إثبات العلو لله لا يوجب إثبات الجسمية، بل ولا إثبات المكان، وبناء ذلك على أن المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي الملاقي للسطح الظاهر من الجسم المحوي، وهذا قول أرسطو وأتباعه، فهؤلاء يقولون: مكان الإنسان هو باطن الهواء المحيط به، وكل سطح باطن من الأفلاك فهو مكان للسطوح الظاهرة مما يلاقيه.
ومعلوم أنه ليس وراء الأجسام سطح جسم باطن يحوي شيئاً، فلا مكان هناك على اصطلاحهم، إذ لو كان هناك محوى لسطح الجسم لكان الحاوي جسماً، وإذا كان كذلك فالموجود هنالك لا يكون في مكان ولا يكون جسماً، ولهذا قال:(فإذاً إن قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة فواجب أن يكون غير جسم، فالذي يمتنع وجوده هناك هو وجود جسم، لا وجود ما ليس بجسم) .
فقرر إن كان ذلك كما قرر إثباته، كما ذكره من أنه لا بد من نسبة بينه وبين العالم المحسوس.
والذي يمكن منازعوه من الفلاسفة أن يقولوا له: لا يكمن أن يوجد هناك شيء: لا جسم ولا غيره، أما الجسم فلما ذكره، وأما غيره فلأنه يكون مشاراً إليه بأنه هناك، وما أشير إليه فهو جسم.
وهذا كما يقول المعتزلة للكلابية وقدماء الأشعرية ومن وافقهم من أهل الحديث كالتميميين وأمثالهم أتباعهم، فيقول ابن رشد لهم ما تقوله الكلابية للمعتزلة، وهو أن وجود موجود ليس هو وراء أجسام العالم ولا داخل فيها، إما أن يكون ممكناً وإما أن لا يكون، فإن لم يكن ممكناً بطل قولهم، وإن كان ممكناً فوجد موجود هو وراء أجسام العالم وليس الجسم أولى بالجواز، لأنه إذا عرضنا على العقل وجود موجود قائم بنفسه، لا في العالم ولا خارجاً عنه، ولا يشار إليه، وعرضنا عليه وجود موجود يشار إليه فوق العالم ليس بجسم، كان إنكار العقل للأول
أعظم من إنكاره للثاني، فإن كان الأول مقبولاً وجب قبول الثاني وإن كان الثاني مردوداً وجب رد الأول، فلا يمكن منازعو هؤلاء أن يبطلوا قولهم مع إثباتهم لموجود قائم بنفسه، لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه.
وما ذكره ابن رشد من أن: هذه الصفة - صفة العلو - لم يزل أهل الشريعة في أول الأمر يثبتونها لله تعالى حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الشريعة - كلام صحيح، وهو يبين خطأ من يقول: إن النزاع في ذلك ليس إلا مع الكرامية والحنبلية، وكلامه هذا أصح مما زعمه ابن سينا حيث ادعى أن السنن الإلهية منعت الناس عن شهرة القضايا التي سماها (الوهميات) مثل أن: كل موجود فلا بد أن يشار إليه، فإن تلك السنن ليست إلا سنن المعتزلة والرافضة والإسماعيلية ومن وافقهم من أهل البدع ليست سنن الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين.
وما نقله ابن رشد عن هذه الأمة فصحيح، وهذا مما يرجع أن نقله لأقوال فلاسفة أصح من نقا ابن سينا.
ولكن التحقيق أن الفلاسفة في هذه المسألة على قولين وكذلك في مسالة ما يقوم بذاته من الأفعال وغيرها من الأمور، للفلاسفة في ذلك قولان.
والرازي إذا قال: (اتفق الفلاسفة) فإنما عنده ما في كتاب ابن سينا وذويه.
وكذلك الفلاسفة الذين يرد عليهم أبو حامد إنما هم هؤلاء.
ولا ريب أن مسائل الإلهيات كالنبوات ليس لأرسطو وأتباعه فيها كلام طائل.
أما النبوات فلا يعرف له فيها كلام، وأما الإلهيات فكلامه فيها قليل جداً.
وأما عامة كلام الرجل فهو في الطبيعيات والرياضيات، ولهم كلام في الروحانيات من جنس كلام السحرة والمشركين.
وأما كلامهم في واجب الوجود نفسه، فكلام قليل جداً مع ما فيه من الخطأ، وهم لا يسمونه واجب الوجود، ولا يقسمون الوجود إلى واحب وممكن، وإنما فعل هذا ابن سينا وأتباعه، ولكن يسمونه المحرك الأول والعلة الأولى، كما قد بسط أقوالهم في موضع آخر.
وعلم ما بعد الطبيعة عندهم هو العلم الناظر في الوجود ولواحقه، وتلك الأمور كلية عامة مطلقة تتناول الواجب وغيره.
وبعض كلامهم في ذلك خطأ وبعضه صواب، وغالبه تقسيم لأجناس الجواهر والأعراض، ولهذا كانوا نوعين: نوعاً نظارين مقسمين للكليات، ونوعاً متأهلين بالعبادة والزهد على أصولهم أو جامعين بين الأمرين كالسهروردي والمقتول، وأتباع ابن سبعين، وغيرهم.
وأما كلامهم في نفس العلة الأولى فقليل جداً، ولهذا كانوا على قولين: منهم من يثبت موجوداً واجباً مبايناً للأفلاك، ومنهم من ينكر ذلك، وحجج مثبتي ذلك على نفاته منهم حجج ضعيفة، وقدماؤهم كأرسطو كانوا يستدلون بأنه لا بد للحركة من محرك لا يتحرك، وهذا لا دليل عليه بل الدليل يبطله.
وابن سينا سلك طريقته المعروفة، وهو الاستدلال بالوجود على الواجب، ثم دعواه أن الواجب لا يجوز أن يتعدد ولا تكون له صفة وهذه أيضاً طريقة ضعيفة ولعلها أضعف من طريقة أولئك، أو نحوها، أو قريبة منها.
وإذا كان كلام قدمائهم في العلم بالله تعالى قليلاً كثير الخطأ، فإنما كثر كلام متأخريهم لما صاروا من أهل الملل، ودخلوا في دين المسلمين واليهود والنصارى، وسمعوا ما أخبرت به الأنبياء من أسماء الله وصفاته وملائكته وغير ذلك، فأحبوا أن يستخرجوا من أصول سلفهم ومن كلامهم ما يكون فيف موافقة لما جاءت به الأنبياء لما رأوا في ذلك من الحق العظيم الذي لا يمكن جحده، والذي هو أشرف المعارف وأعلاها، فصار كل منهم يتكلم بحسب اجتهاده، فالفارابي لون، وابن سينا لون، وأبو البركات صاحب المعتبر لون، وابن رشد الحفيد لون، والسهروردي المقتول لون وغير هؤلاء ألوان أخر.
وهم في هواهم بحسب ما تيسر لهم من النظر في كلام أهل
الملل.
فمن نظر في كلام المعتزلة والشيعة، كابن سينا وأمثاله، فكلامه لون، ومن خالط أهل السنة وعلماء الحديث، كأبي البركان وابن رشد فكلامه لون آخر أقرب إلى صريح المعقول وصحيح المنقول من كلام ابن سينا.
لكن قد يخفى ذلك على من يمعن النظر، ويظن أن قول ابن سينا أقرب إلى المعقول، كما يظن أن كلام المعتزلة والشيعة أقرب إلى المعقول من كلام الأشعرية والكرامية وغيرهم من أهل الكلام، ومن نظار أهل السنة والجماعة.
ومن المعلوم - بعد كمال النظر واستيفائه - أن كل من كان إلى السنة وإلى طريق الأنبياء أقرب كان كلامه في الإلهيات بالطرق العقلية أصح، كما أن كلامه بالطرق النقلية أصح، لأن دلائل الحق وبراهينه تتعاون وتتعاضد، لا تناقض وتعارض.
وما ذكره ابن رشد في اسم المكان يتوجه من يسلم له مذهب أرسطو، وأنا المكان هو السطح الداخل الحاوي المماس للسطح الخارج المحوي.
ومعلوم أن من الناس من يقول: إن للناس في المكان أقوالاً آخر، منهم من يقول: إن المكان هو الجسم الذي يتمكن غيره عليه ومنهم من يقول: إن المكان هو ما كان تحت غيره وإن لم يكن ذلك متمكناً عليه ومنهم من يزعم أن المكان هو الخلاء وهو أبعاد.
والنزاع في هذا الباب نوعان: أحدهما معنوي، كمن يدعي وجود مكان هو جوهر قائم بنفسه ليس هو الجسم، وأكثر العقلاء ينكرون ذلك.
والثاني نزاع لفظي، وهو من يقول المكان من يحيط بغيره، يقول آخر: ما يكون غيره عليه أو ما يتمكن عليه.
ولا ريب أن لفظ (المكان) يقال على هذا وهذا، ومن هنا نشأ تنازع أهل الإثبات: هل يقال: أن الله تعالى في مكان أم لا؟ هذا كتنازعهم في الجهة والحيز، لكن قد يقر بلفظ الجهة من لا يقر بلفظ (الحيز) أو (المكان) ، وربما أقر بلفظ الحيز أو المكان ومن لا يقر بالآخر.
وسبب ذلك إما إتباع ما ورد، أو اعتقاد في أحد اللفظين من المعنى المردود ما ليس في الآخر.
وحقيقة الأمر في المعنى أن ينظر إلى المقصود، فمن اعتقد أن المكان لا يكون إلا ما يفتقر إليه المتمكن، سواء كان محيطاً به أو كان تحته فمعلوم أن الله سبحانه ليس في مكان بهذا الاعتبار، ومن اعتقد أن العرش هو المكان، وأن الله فوقه، مع غناه عنه، فلا ريب أنه في مكان بهذا الاعتبار.
فمما يجب نفيه بلا ريب وافتقار الله إلى ما سواه، فإنه سبحانه غني عن ما سواه، وكل شيء فقير إليه، فلا يجوز أن يوصف بصفة تتضمن افتقاره إلى ما سواه.
وأما إثبات النسب والإضافات بينه وبين خلقه، فهذا متفق عليه بين أهل الأرض، وأما علوه على العالم ومباينته للمخلوقات، فمتفق عليه بين الأنبياء والمرسلين، وسلف الأمة وأئمتها، وبين هؤلاء الفلاسفة كما ذكر ذلك عنهم، لكن آخرون من الفلاسفة ينازعون في ذلك.