الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما من طائفة من طوائف الضلال - وإن كثرت - إلا وهي مجتمعة على جحد بعض العلوم الضرورية.
الوجه الثالث
أن يقال: ما من طائفة من طوائف الكلام والفلسفة إلا وجمهور الناس يقولون: إنهم جحدوا العلوم الضرورية.
فالقائلون بأن الممكن قد يترجح أحد طرفيه بلا مرجح من القادر أو غيره، يقول جمهور العقلاء: إنهم جحدوا العلوم الضرورية.
والقائلون بأن الأجسام لا تبقى والأعراض لا تبقى، يقول جمهور الناس: إنهم جحدوا العلوم الضرورية.
والقائلون بأن الأصوات المتعاقبة تكون قديمة، أزلية الأعيان باقية، وأن الأصوات المسموعة من الآدميين هي قديمة، يقول جمهور العقلاء: إنهم خالفوا العلم الضروري.
والقائلون بأن الكلام هو معنى واحد: هو الأمر بكل ما أمر به، والخبر عن كل ما أخبر به، وأنه وإن عبر عنه بالعربية كان هو القرآن، وإن عبر عنه بالعبرية كان هو التوراة، يقول جمهور العقلاء إنهم جحدوا العلم الضروري.
والقائلون بأن العالم هو العلم والمعلوم، والعاقل هو العقل والمعقول، والعاشق هو العشق والمعشوق، واللذة هي الملتذ، والعلم هو القدرة والقدرة هي الإرادة، يقول جمهور العقلاء: إنهم خالفوا العلوم الضرورية.
والقائلون بأن الوجود الواجب وجود مطلق بشرط الإطلاق أو لا بشرط يقول جمهور العقلاء: إنهم خالفوا العلوم الضرورية.
والقائلون بأن النفس لا تدرك إلا الكليات دون الجزئيات، يقول جمهور العقلاء: إنهم خالفوا العلم الضروري.
والقائلون بأن كل موجود يجوز أن تتعلق به الإدراكات الخمسة، وأن الصوت يرى، والطعم يسمع، واللون يشم، يقول جمهور العقلاء: إنهم خالفوا العلم الضروري.
والقائلون بأنه يحدث إرادة لا في محل، أو يحدث فناء لا في محل، يقول جمهور العقلاء: أن فساد قولهم معلوم بالضرورة.
والقائلون بأن الإرادة تحدث في الإنسان من غير سبب يوجب حدوثها، مما يقول جمهور العقلاء: إن فساد قولهم معلوم بالضرورة.
والقائلون بأنه حي عليم قدير، من غير حياة ولا علم ولا قدرة، مما يقول جمهور العقلاء: إن فساد قولهم معلوم بالضرورة.
والقائلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي بالخلافة نصاً جلياً أشاعه بين المسلمين، فكتموه ولم يظهروه، يقول جمهور العقلاء: إن قولهم معلوم الفساد بالضرورة.
والقائلون بان للأمة إماماً معصوماً عمره سنتان - أو ثلاث أو أربع - دخل السرداب من أكثر من أربعمائة سنة، أو أن علياً لم يمت،
وأمثال ذلك، يقول جمهور الناس: إن قولهم معلوم الفساد بالضرورة.
وكذلك قول القائلين بأن الأعراض لا تبقى زمانين، مما يقول جمهور العقلاء: إن فساده معلوم بالضرورة.
وكذلك من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمي المنافقين مؤمنين، ويجعل إيمانهم كإيمان المؤمنين غير المنافقين، وهم مع ذلك مخلدون في النار، مما يعلم جمهور العقلاء المسلمين فساده بالاضطرار من دين الإسلام.
وكذلك القائلون بأن القرآن العزيز زيد فيه زيادات، ونقص منه أشياء، مما يعلم بالضرورة امتناعه في العادة.
وقول النصارى: إن الكلمة اتحدث بالمسيح، وإنها ليس هي الآب الجامع للأقانيم، وهي مع ذلك الرب الذي يخلق ويرزق، وهي جوهر، والجوهر عندهم واحد ليس إلا الآب، مما يقول الناس: إنه معلوم الفساد بالضرورة.
ومثل هذا إذا تتبعناه كثير.
فوجده الأقوال التي يقول جمهور الناس: إنها معلومة الفساد بالضرورة في قول طوائف كثيرة من الناس أكثر من أن تستوعب، فكيف يقال: لا يجوز إطباق الجمع الكثير على إنكار ما علم بالبديهة؟
ولكن إذا قيل: ما الفرق بين هذا وبين ما لا يمكن التواطؤ عليه من إثبات منف أو نفي ثابت، كما في خبر أهل التواتر.
كان الجواب: أن الفطر التي لم تتواطأ يمتنع اتفاقها على جحد ما يعلم بالبديهة، فأما مع المواطأة فلا يمتنع اتفاق خلق كثير على الكذب، الذي يعلمون كلهم أنه كذب، وإن تضمن من جحد الحسيات والضروريات وإثبات نقيضها ما شاء الله.
وأما في المذاهب فقد يجتمع على جحد الضروريات جمع كثير، إذا كان هناك شبهة أو هوى، فيكون عامتهم لم يفهموا ما قاله خاصتهم، مثل التعبير عن هذه المسألة بنفي الجهة والحيز والمكان، فيظن عامتهم أن مرادهم تنزيه الله تعالى عن أن يكون محصوراً في خلقه، أو مفتقراً إلى مخلوق، فيوافقون على هذا المعنى الصحيح، ظانين أنه مفهوم تلك العبارة، فأما إذا فهموا هم حقيقة قولهم، وهو أنه ما فوق السماوات رب، ولا وراء العالم شيء موجود، فهذا لا يوافقهم عليه - بعد - فهمه - أحد بفطرته، وإنما يوافقهم عليه من قامت عنده شبهة من شبه النفاة، لا سيما إن كان له هوى وغرض.
وإذا كان المتفقون على هذا النفي - بعد فهمه - إنما قالوه لما قامت عندهم من حجج النفاة، أمكن غلطهم في ذلك وخطؤهم، واتفاقهم على جحد ما يخالف ذلك، وإن كان معلوماً بالضرورة، كما