الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمقصود أن ابن كلاب إمام الأشعري وأصحابه، ومن قبلهم كالحارث المحاسبي وأمثاله، يبين أن من قال: لا هو في العالم ولا خارج منه، فقوله فاسد، خارج عن طريق النظر والخبر، وأنه قد ورد خبر الله نصاً، ولو قيل له: صفة بالعدم، ما قدر أن يقول أكثر منه، وأنه قال ما لا يجوز في خبر ولا معقول، وأنهم قالوا: هذا هو التوحيد الخالص، وهو النفي الخالص، فجعلوا النفي الخالص هو التوحيد الخالص.
وهذا الذي قاله هو الذي يقوله جميع العقلاء، الذين يتكلمون بصريح العقل، بخلاف من تكلم في المعقول بما هو وهم وخيال فاسد.
ولذلك قال: (إذا قالوا: ليس هو فوق وليس هو تحت فقد أعدموه لأن ما كان لا تحت ولا فوق فعدم) .
وهذا كله يناقض قول هؤلاء الموافقين للمعتزلة والفلاسفة، من متأخري الشيعة، ومن وافقهم من الحنبلية والمالكية والحنفية والشافعية، وغيرهم من طوائف الفقهاء، الذين بقولون: ليس هو تحت وليس هو فوق.
وذكر حجة ثالثة فقال: (أنتم تصفونه بالصفات الممتنعة، التي مضمونها الجمع بين المتقابلين في الموجودات، فيلزمكم أن تصفوه بسائر المتقابلات) .
قال: (فيقال لهم: إذا قلنا الإنسان - يعني: وغيره من الأعيان القائمة بأنفسها - لا مماس ولا مباين للمكان، فهذا محال باعترافهم) .
تعليق ابن تيمية
وهم يقولون: إنه لا مماس ولا مباين للمكان، فيصفونه بالصفة
المستحيلة الممتنعة في المخلوق، التي لا تثبت في التوهم، ويقولون: يجوز أن نصفه بما يمتنع تصوره وتوهمه في غيره من هذا السلوب، فإذا جوزوا أن يوصف بما يمتنع تصوره في سائر الموجودات، فليصفوه بسائر الممتنعات من الموجودات، فيقولوا: لا هو قديم ولا محدث، ولا قائم بنفسه ولا بغيره، ولا متقدم على غيره ولا مقارن له، ونحو ذلك، ويقولوا: هذا إنما يمتنع في غيره من الموجودات لا فيه.
وحينئذ فيقولون: لا هو حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، ولا موجود ولا معدوم، وهذا منتهى قول القرامطة، وهو جمع النقيضين، أو رفع النقيضين.
ومن المعلوم أن العقل إذا جزم بامتناع اجتماع الأمرين، أو امتناع ارتفاعهما، سواء كان أحدهما وجوداً والآخر عدماً، وهو التناقض الخاص، أو كانا وجودين،، فإنا نعلم ذلك ابتداءً بما نشهده في الموجودات التي نشهدها، كما أن ما يثبت من الصفات كالحياة والعلم والقدرة والكلام وأمثال ذلك، إنما نعلمه ابتداء بما نعلمه في الموجودات التي نعرفها، ثم إذا اخبرنا الصادق المصدوق عن الغيب الذي لا نشهده، فإنما نفهم مراده الذي أراد أن يفهمنا إياه لما بين ما أخبر به من الغيب، وبين ما علمناه في الشاهد من القدر الجامع الذي فيه نوع تناسب وتشابه، فإذا أخبرنا عما الجنة من الماء واللبن والعسل والخمر والحرير والذهب، لم نفهم ما أراد إفهامنا إن لم نعلم هذه الموجودات في الدنيا، ونعلم أن بينها وبين ما في الجنة قدرا مشتركاً وتناسباً
وتشابهاً يقتضي أن نعلم ما أراد بخطابه، وإن كانت تلك الموجودات مخالفة لهذه من وجه آخر.
كما قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء.
رواه الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس، وقد رواه غيره واحد منهم محمد بن جرير الطبري في التفسير في قوله:{وأتوا به متشابها} [البقرة: 25] .
وإذا كان بين المخلوق والمخلوق قدر فارق مع نوع من إثبات القدر المشترك، الذي يقتضي التناسب والتشابه من بعض الوجوه، فمعلوم أن ما بين الخالق والمخلوق من المفارقة والمباينة أعظم مما بين المخلوق والمخلوق، فهذا مما يوجب نفي مماثلة صفاته لصفات خلقه، ويوجب أن ما بينهما من المباينة والمفارقة أعظم مما بين مخلوق ولمخلوق، مع أنه لولا أن بين مسمى الموجود الموجود، والحي والحي، والعليم والعليم، والقدير والقدير، وأمثال ذلك من المعنى المتفق المتواطئ المناسب والمتشابه، ما
يوجب فهم المعنى لم يفهمه، ولا أمكن أن يفهم أحد ما أخبر به عن الأمور الغائبة.
وإذا كان هذا في الخطاب السمعي الخبري، فكذلك في النظر القياسي العقلي، فإنما نعرف ما غاب عنا باعتباره بما شهدناه، فيعتبر الغائب بالشاهد، ويحصل في قلوبنا بسبب ما نشهده من الأعيان والجزئيات الموجودة قضايا كلية عقلية، فيكون إدراج المعينات فيها هو قياس الشمول، كالذي يسميه المنطقيون المقدمتان والنتيجة، ويكون اعتبار المعين بالمعنى هو قياس التمثيل الجامع المشترك، سواء كان هو دليل الحكم أو علة دليل الحكم.
والناس في هذا المقام: منهم من يزعم أن القياس البرهاني هو قياس الشمول، وأن قياس التمثيل لا يفيد اليقين، بل لا يسمى قياساً إلا بطريق المجاز، كما يقول ذلك من يقوله من أهل المنطق، ومن وافقهم من نفاة قياس التمثيل في العقليات والشرعيات كابن حزم وأمثاله، ومنهم من ينفي قياس التمثيل في العقليات دون الشرعيات، كأبي المعالي ومتبعيه، مثل الغزالي والرازي والآمدي وأبي محمد المقدسي وأمثالهم.
ومنهم من يعكس ذلك فيثبت قياس التمثيل في العقليات دون الشرعيات، كما هو قول أئمة أهل الظاهر، مثل داود بن علي وأمثاله،
وقول كثير من المعتزلة البغداديين، كالنظام وأمثاله، ومن الشيعة الإمامية، كالمفيد والمرتضى والطوسي وأمثالهم.
وكثير من هؤلاء يقول: إن قياس التمثيل هو الذي يستحق أن يسمى قياساً على سبيل الحقيقة، وأما تسمية قياس الشمول قياساً فهو مجاز، كما ذكر ذلك الغزالي وأبو محمد المقدسي وغيرهما.
والذي عليه جمهور الناس، وهو الصواب، أن كليهما قياس حقيقة، وأن كليهما يفيد اليقين تارة والظن أخرى، بل هما متلازمان، فإن قياس التمثيل مضمونه تعلق الحكم بالوصف المشترك، الذي هو علة الحكم، أو دليل العلة، أو هو ملزوم للحكم، وهذا المشترك هو الحد الأوسط في قياس الشمول، فإذا قال القايس: نبيذ الحنطة المسكر حرام، قياساً على نبيذ العنب، لأنه شراب مسكر، فكان حراما قياساً عليه، وبين أن المسكر هو مناط التحريم، فيجب تعلق التحريم بكل مسكر - كان هذا قياس تمثيل.
وهو منزلة أن يقول: هذا شراب مسكر، وكل مسكر حرام، فالمسكر الذي جعله في هذا القياس حداً أوسط، هو الذي جعله في ذلك القياس الجامع المشترك الذي هو مناط الحكم، فلا فرق بينهما عند التحقيق في المعنى، بل هما متلازمان، وإنما يتفاوتان في ترتيب المعاني والتعبير عنها، ففي الأول يؤخر الكلام في المشترك الذي هو الحد الأوسط، وبيان أنه مستلزم للحكم متضمن له، ويذكر الأصل الذي هو نظير الفرع ابتداءً.
وفي الثاني يقدم الكلام في الحد الوسط ويبين شموله وعموه، وانه مستلزم للحكم ابتداء.