الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن عنيت بالجسم أنه يماثل شيئاً، من المخلوقات لم نسلم الملازمة.
فأي شيء أجبت به الملحدة من هذه الأجوبة، قال لك المثبت لمباينته للعالم وعلوه عليه مثل ما قلت أنت لهؤلاء الملاحدة.
قال ما تعني بقولك: لو كان عالياً على العالم مبايناً له كان جسماً؟ إن عنيت أنه بدن، لم نسلم لك الملازمة.
وإن عنيت انه يبل التفريق والتبعيض فكذلك.
وإن عنيت أنه مركب من الجواهر المفردة، أو من المادة والصورة لم نسلم الملازمة أيضاً.
وإن عنيت شيئاً أنه يكون مماثلاً لشيء من المخلوقات لم نسلم الملازمة.
وإن عنيت أنه يشار إليه أو أنه يرى منه شيء دون شيء منع انتفاء اللازم.
الوجه الرابع
أن يقال: الحكم بأن المعلوم: إما موجود وإما معدوم، وأن الموجود: إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره، وإما واجب وإما ممكن، وإما قديم وإما محدث، وإما متقدم على غيره وإما مقارن له، وإما مباين لغيره وإما محايث له، وأن القائم بنفسه أو القائم القابل لصفات الكمال: إما حي وإما ميت، وإما عالم وإما جاهل، وإما قادر وإما عاجز، وإن ما لا يقبل ذلك أنقص مما يقبله، وأن المتصف بصفات الكمال أكمل من المتصف بصفات النقص، وممن لا يقبل الاتصاف لا بهذا ولا بهذا.
وهذه العلوم وأمثالها مستقرة في العقول، وهي إما علوم ضرورية،
أو قريبة من الضرورية، والقطع بها أعظم من القطع بوجود موجود لا يمكن الإشارة الحسية إليه، وأن الواجب الوجود لا يشار إليه، فإن ما يشار إليه فهو جسم، فلو أشير إليه لكان جسماً وليس بجسم فإن هذه الأمور إما أن تكون معلومة الفساد بالضرورة أو بالنظر، وإما أن تكون إذا علمت لا تعلم إلا بطرق نظرية، فلا يمكن القدح بها في تلك المقدمات الضرورية، فالاعتبار والقياس تارة يكون بلفظ الشمول والعموم، وتارة بلفظ التشبيه والتمثيل.
وكذلك إذا قلنا: إما أن يكون قائماً بنفسه أو بغيره أو قديماً أو محدثاً، أو واجباً أو ممكناً، فكذلك إذا قلنا: إما أن يكون مبايناً أو محايثاً أو داخلاً أو خارجاً.
فبين ابن كلاب - وغره من أئمة النظار - لهؤلاء النفاة: أنكم إذا جوزتم خلو الرب عن الوصفين المتقابلين - الذين يعلمون أنه يمتنع خلو الوجود عنهما - لزمكم مثل ذلك، وأن تصفوه بسائر الممتنعات، فقال: إذا وصفتموه بأنه لا مماس ولا مباين، وأنتم تعلمون أن الموجود الذي تعرفونه لا يكون إلا مماساً أو مبايناً، فوصفتموه بما هو عندكم محال فيما تعرفونه من الموجودات، لزمكم أن تصفوه بأمثال ذلك من المحالات، فتقولون: لا قديم ولا محدث ولا قائم بنفسه ولا غيره، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل وأمثال ذلك.
وذكر أيضاً حجة أخرى رابعة فقال: أليس يقال لما ليس بثابت
في الإنسان: لا مماس ولا مباين؟ فإذا قالوا: نعم، قيل: فأخبرونا عن معبودكم: مماس هو أم مباين؟ فإذا قالوا لا يوصف بهما.
قيل لهم: فصفة إثبات الخالق كصفة عدم المخلوق، فلم لا تقولون عدم، كما تقولون للإنسان: عدم إذا وصفتموه بصفة العدم.
يقول: أنتم تعرفون أن سلب هذين المتقابلين جميعاً هو من صفات المعدومات، فالموجود الذي تعرفونه، القائم بنفسه، لا يقال: إنه ليس مبايناً لغيره من الأمور القائمة بأنفسها ولا مماساً لها، بخلاف المعدوم، فإنه يقال: لا هو مماس لغيره ولا مباين له، فإذا وصفتموه بصفة المعدوم، فجعلتم ما هو صفة لما هو عدم في الموجودات صفة للخالق الموجود الثابت، وحينئذ فيمكن أن يوصف بأمثال ذلك، فيقال: هو عدم كما يوصف ما عدم من الأناسي بأنه عدم، فقال لهم: إذا كان عدم الموجود وجوداً له، فإذا كان العدم وجوداً، كان الجهل علماً، والعجز قوة، أي إذا جعلتم المعدوم - الذي لا يعقل إلا معدوماً - جعلتموه موجوداً، أمكن حينئذ أن يجهل علماً، والعجز قوة، والموت حياة والخرس كلاماً والصمم سمعاً، والعمى بصراً وأمثال ذلك.
وهذا حقيقة قول النفاة، فإنهم يصفون الرب بما لا يوصف به إلا المعدوم، بل يصفون الموجود الواجب بنفسه، الذي لا يقبل العدم بصفات الممتنع الذي لا يقبل الوجود، فإن كان هذا ممكناً أمكن أن يجعل أحد المتناقضين صفة لنقيضه، كما ذكر.
ولا ريب أن النفاة لا تقر بوصفه بالامتناع والعدم والنقائص، لكن نقول: لا نصفه لا بهذا ولا بهذا، لا نصفه بالعلم ولا الجهل ولا الحياة ولا الموت، ولا القدرة ولا العجز ولا الكلام ولا الخرس.
فإذا قيل لهم: عن لم يوصف بصفة الكمال، لزم اتصافه بهذه النقائص.
قالوا: هذا إنما يكون فيما يقبل الاتصاف بهذا وهذا.
ويقول المنطقيون: هذان متقابلان تقابل العدم والملكة، لا تقابل السلب والإيجاب، والمتقابلان تقابل السلب والإيجاب لا يرتفعان جميعاً، بخلاف المتقابلين تقابل العدم والملكة، كالحياة والموت، والعمى والبصر، فإنهما قد يرتفعان جميعاً إذا كان المحل لا يقبلهما كالجمادات، فإنها لما لم تقبل الحياة والبصر والعلم لم يقل فيها إنها حية ولا ميتة، ولا عالمة ولا جاهلة، وقد أشكل كلامهم هذا على كثير من النظار، وأضلوا به خلقاً كثيراً، حتى الآمدي وأمثاله من أذكياء النظار، اعتقدوا أن هذا كلام صحيح، وأنه يقدح في الدليل الذي استدل به السلف والأئمة، ومتكلمو أهل الإثبات في إثبات السمع والبصر وغير ذلك من الصفات.
وهذا من جملة تلبيسات أهل المنطق والفلسفة، التي راجت على هؤلاء فأضلتهم عن كثير من الحق الصحيح، المعلوم بالعقل الصريح.
وجواب هذا من وجوه بسطناها في غير هذا الموضع.
منها أن يقال: فما يقبل الاتصاف بهذه الصفات، مع إمكان
انتفائه عنه، أكمل ممن لا يقبل الاتصاف بها بحال.
فالحيوان الذي يقبل أن يتعاقب عليه العدم والملكة، فيكون إما سميعاً وإما أصم، وإما بصيراً وإما أعمى، وإما حياً وإما ميتاً - أكمل من الجماد الذي لا يقبل لا هذا ولا هذا، بل الحيوان الموصوف بهذه النقائص، مع إمكان اتصافه بهذا الكمال، أكمل من الجماد الذي لا يقبل ذلك.
فإذا قلتم: إن الموجود الواجب لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال - مع أن المتصف بالنقائص يمكنه الاتصاف بها - جعلتموه أنقص من الحيوانات، وجعلتموه بمنزلة الجمادات، وكان من وصفه بهذه النقائص، مع إمكان اتصافه