الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والنفس، والمادة والصورة، مع اتفاقهم على أن الأجسام المحسوسة مركبة من المادة والصورة، وهما جوهران عقليان، كما يقولون: إن الأعيان المعينة المحسوسة فيها كليات طبيعية عقلية هي أجزاء منها.
فإذا كان هؤلاء يثبتون في الجواهر المحسوسة، معها جواهر عقلية لا ينالها الحس بحال، ويجعلون هذا حالاً وهذا محلاً - لم يمكنهم مع ذلك أن ينكروا كون الوجود الواجب هو حالاً أو محلاً لهذه المحسوسات.
وهذا هو الذي انتهى إليه محققوهم، كابن سبعين وأمثاله، فإنهم جعلوا الوجود الواجب مع الممكن - كالمادة مع الصورة، وكالصورة مع المادة، أو ما يشبه ذلك - يجعلون الوجود الواجب جزءاً من الممكن، كما أن المطلق جزء من المعين، حتى أن ابن رشد الحفيد وأمثاله يجعلون الوجود الواجب كالشرط في وجود الممكنات، الذي لا يتم وجود الممكنات إلا به، مع أن الشرط قد يكون وجوده مشروطاً بوجود المشروط، فيكون كل منهما شرطاً في وجود الآخر.
كلام ابن عربي في فصوص الحكم عن علاقة الواجب بالممكن
وهذه حقيقة قولهم: يجعلون الواجب مع الممكن، كل منهما مفتقر إلى الآخر ومشروط به، كالمادة والصورة.
فابن عربي يجعل أعيان الممكنات ثابتة في العدم، والوجود الواجب فاض عليها فلا يتحقق وجوده إلا بها، ولا تتحقق ماهيتها إلا به، وبنى قوله على أصلين فاسدين.
أحدهما: أن الوجود واحد، ليس هنا وجودان أحدهما واجب بنفسه، والآخر بغيره.
والثاني: أن وجود كل شيء زائد عن حقيقته وماهيته، وأن المعدوم شيء، موافقة لمن هذا وهذا: من المعتزلة والفلاسفة، ومن وافقهم من متأخري الأشعرية، فالحقائق والذوات عنده ثابتة في العدم، ووجود الحق فاض عليها، فكان كل منهما مفتقراً إلى الآخر، ولهذا يقول: إن الحق يتصف بجميع صفات المخلوقات من النقائص والعيوب، وأن المخلوق يتصف بجميع صفات الله تعالى من صفات الكمال، كما قال:(ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات، وأخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص وصفات الذم؟ ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق، فهي من أولها إلى آخرها صفات له، كما أن صفات المحدثات حق للحق) .
ولهذا قال: (فالأمر الخالق المخلوق، والأمر المخلوق الخالق، كل ذلك من عين واحدة، لا بل هو العين الواحدة، وهو العيون الكثيرة:
{فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر} [الصافات: 102] ،
فالولد عين أبيه، فما رأى يذبح غير نفسه {وفديناه بذبح عظيم} [الصافات 107] ، فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان، بل بحكم ولد من هو عين الوالد {وخلق منها زوجها} [النساء: 1] ، فما نكح سوى نفسه) .
وقال: (فيعبدني وأعبده ويحمدني وأحمده) .
وقال: (ولما كان فرعون في مرتبة الحكم، قال:{أنا ربكم الأعلى} [النازعات: 24] أي، وإن كان الكل أرباباً بنسبة ما، فأنا الأعلى منهم بما أعطيته من الحكم فيكم، ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله لم ينكروه، وأقروا
بذلك، وقالوا:{إنما تقضي هذه الحياة الدنيا} ، {فاقض ما أنت قاض} [طه: 72] فالدولة لك، فصح قوله:{أنا ربكم الأعلى} [النازعات: 24] ، وإن كان عين الحق) .
وقال: (فكان موسى أعلم بالأمر من هارون لأنه علم ما عبده أصحاب العجل لعلمه بأن الله قد قضى أن لا يعبد إلا إياه، وما حكم الله بشيء إلا وقع، فكان عتاب موسى على أخيه هارون لما وقع الأمر في إنكاره، وعدم اتساعه، فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء) .
وقال في قصة قوم نوح: {ومكروا مكرا كبارا} [نوح: 22] ، لأن الدعوة إلى مكر بالمدعو، فإنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية) .
وقوله: (ادعوا إلى الله عين المكر، فأجابوه مكراً، كما دعاهم مكراً)، فقالوا في مكرهم:{لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا} [نوح: 23] ، فإنهم إذا تركوا هؤلاء جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء، فإن الحق في كل معبود وجهاً يعرفه من يعرفه ويجهله من يجهله، كما قال في المحمديين:{وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه} [الإسراء: 23] : أي حكم الله.
وفسر قوله: قضى، بمعنى قدر لا بمعنى أمر.
قال: (وما حكم الله بشيء إلا وقع) .
(والعارف يعرف من عبد.
وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد غير الله في كل معبود) .
وأمثال هذا الكلام كثير في كلام هذا وأمثاله، كابن سبعين الذي حقق قول هؤلاء الفلاسفة تحقيقاً لم يسبق إليه، وكان آخر قوله:(وأن الله في النار نار، وفي الماء ماء، وفي الحلو حلو، وفي المر مر، وأنه في كل شيء تصوره ذلك الشيء) .
كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع.
وكذلك ابن حموية الذي يتكلم بنحو هذا في مواضع من كلامه.
وكذلك ابن الفارض في قصيدته المشهورة التي يقول فيها:
لها صلواتي بالمقام أقيمها
…
وأشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصل واحد ساجد إلى
…
حقيقته بالجمع في كل سجدة
وما كان لي صلى سواي ولم تكن
…
صلاتي لغيري في أدا كل ركعة
إلى أن قال:
وما زلت إياها وإياي لم تزل
…
ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت
إلي رسولاً كنت مني مرسلاً
…
وذاتي بآياتي علي استدلال
فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن
…
منادي أجابت من دعاني ولبت
وقد رفعت تاء المخاطب بيننا
…
وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي
وفارق ضلال الفرق فالجمع منتج
…
هدى فرقة بالاتحاد تحدث
فإن العارف المحقق من هؤلاء يقول: أرسل من نفسه إلى نفسه رسولاً بنفسه، فهو المرسل والمرسل إليه والرسول،.
ويقول من هو من أكبر من أضلوه من أهل الزهادة والعبادة مع الصدق في تسبيحاته وأذكاره: (الوجود واحد، وهو الله، ولا أرى الواحد، ولا أرى الله) .
ويقول أيضاً (نطق الكتاب والسنة بثنوية الوجود، والوجود واحد لا ثنوية فيه) .
ويكرر ذلك كما يكرر المسلمون: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وعنده أن غاية هذا التحقيق والعرفان.
ويجيء من هو من أفضل المتكلمين من النفاة للعلو: يعتقد في مثل هذا أنه كان من أفضل أهل الأرض، أو أفضلهم، ويأخذ ورقة فيها سر مذهبه، ويرقي بها المرضي، كما يرقي المسلمون بفاتحة الكتاب، كما أخبرنا بذلك الثقاة، وهم يقدمون تلك الرقية على فاتحة الكتاب.
ويقول من هو من شعرائهم العارفين:
وما أنت غير الكون بل أنت عينه
…
ويشهد هذا السر من هو ذائق
ويقول:
وتلتذ إن مرت على جسدي يدي
…
لأني في التحقيق لست سواكم
وأمثال هذا كثير.
والمتكلمة النفاة منهم من يوافق هؤلاء ومنهم من لا يوافقهم، ومن وافقهم يقال له: أين ذاك النفي - لا داخل ولا خارج - من هذا الإثبات؟ وهو أنه وجود كل موجود.
فيقول: هذا حكم عقلي، وهذا حكم ذوقي.
أو يرجع عن ذلك النفي، ويقول: المطلق جزء من المعينات، والوجود الواجب للموجودات،: مثل الكلي الطبيعي للأعيان، كالجنس لأنواعه، والنوع لأشخاصه، كالحيوانية في الحيوانات، والإنسانية في الأناسي، وهذا غايته أن يجعله شرطاً في وجود الممكنات، لا مبدعاً فاعلاً لها، فإن الكليات لا تبدع أعيانها، بل غايتها إذا كانت موجودة في الخارج أن تكون شرطاً في وجودها، بل جزءاً منها.
ومن لا يوافقهم أكثرهم يسلمون لهم أقوالهم، أو يقولون: نحن لا نفهم هذا، أو يقولون: هذا ظاهره كفر، لكن قد تكون له أسرار وحقائق يعرفها أصحابها.
ومن هؤلاء من يعاونهم وينصرهم على أهل الإيمان، المنكرين للحلول والاتحاد، وهو شر ممن ينصر النصارى على المسلمين، فإن قول هؤلاء شر من قول النصارى، بل هو شر ممن ينصر المشركين على المسلمين.
فإن قول المشركين الذين يقولون: إنما نعبدهم: {ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] ، خير من قول هؤلاء، فإن هؤلاء أثبتوا خالقاً ومخلوقاً غيره يتقربون به إليه، وهؤلاء يجعلون وجود الخالق وجود المخلوق.
وغاية من تجده يتحرى الحق منهم أن يقول: العالم لا هو الله ولا غير الله.
ولما وقعت محنة هؤلاء الملاحدة المشهورة، وجرى فيها ما جرى من الأحوال، ونصر الله الإسلام عليهم، طلبنا شيوخهم لنتوبهم، فجاء من كان من شيوخهم، وقد استعد لأن يظهر عندنا غاية ما يمكنه أن يقول لنا ليسلم من العقاب، فقلنا له: العالم هو الله أو غيره؟ فقال: لا هو الله ولا غيره.
وهذا كان عنده هو القول الذي لا يمكن أحد أن يخالف فيه، ولو علم أنا ننكره لما قاله لنا، كان من أعيان شيوخهم ومحققيهم
وممن لا أتباع ومريدون، وله ولأصحابه سلطان ودولة، ومعرفة ولسان وبيان، حتى أدخلوا معهم من ذوي السلطان والقضاة والشيوخ والعامة، ما كان دخولهم في ذلك سبباً لانتقاص الإسلام، ومصيره أسوأ من دين النصارى والمشركين، لولا ما من الله به من نصر الإسلام عليهم، وبيان فساد أقاويلهم، وإقامة الحجة عليهم، وكشف حقائق ما في أقوالهم من التلبيس، الذي باطنه كفر وإلحاد، لا يفهمه إلا خواص العباد.
والمقصود هنا أن الحلولية إذا أراد النفاة للمباينة والحلول جميعاً - من متكلمة الفلاسفة والمعتزلة والأشعرية، كابن سينا والرازي وأبي حامد وأمثالهم - أن يردوا عليهم حجة عقلية تبطل قولهم لم يمكنهم ذلك كما تقدم، بل يلزم من تجويزهم إثبات وجود لا داخل العالم ولا خارجه تجويز قول الحلولية، ولهذا لا تجد في النفاة من يرد على الحلولية رداً مستقيماً، بل إن لم يكن موافقاً لهم كان معهم بمنزلة المخنث، كالرافضي مع الناصبي، فإن الرافضي لا يمكنه أن يقيم حجة على الناصبي الذي يكفره علناً أو يفسقه، فإنه إذا قال للرافضي: بماذا علمت أن علياً مؤمن ولي الله من أهل الجنة قبل ثبوت إمامته، وهذا إنما يعلم بالنقل، والنقل إما متواتر وإما آحاد.
فإن قال له الرافضي: بما تواتر من إسلامه ودينه وجهاده وصلاته وغير ذلك من عباداته.
قال له: وهذا أيضاً متواتر عن أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم من الصحابة، وأنت تعتقد كفرهم أو فسقهم.
وقال له أيضاً: أنت تقول: إن علياً كان يستجيز التقية، وأن يظهر خلاف ما يبطن، ومن كان هذا قوله أمكن أن يظهر الإسلام مع نفاقه في الباطن.
فإن قال الرافضي للناصبي: علمت ذلك بثناء النبي صلى الله عليه وسلم وشهادته له بالإيمان والجنة، كقوله:«لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» ، وقوله:«أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى» ، ونحو ذلك.
قال له الناصبي: قد نقل أضعاف ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان، وأنت تطعن في تلك المنقولات أو تقول: إنهم ارتدوا بعد موته، فما يؤمنك إن كان قولك في هؤلاء صحيحاً أن يكون علي ذلك؟ .
وأيضاً فهذه الأحاديث إنما نقلها الصحابة الذين تذكر أنت كفرهم وفسقهم، والكافر والفاسق لا تقبل روايته.
فإن قال: هذه نقلها الشيعة.
قال له الناصبي: الشيعة لم يكونوا موجودين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: إن الصحابة ارتدوا إلا نفراً قليلاً: إما عشرة أو أقل، أو أكثر.
ومثل هؤلاء يجوز عليهم المواطأة على الكذب.
فإن قال: أنا أثبت إيمانه بالقرآن، كقوله تعالى:{والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} [التوبة: 100] وقال: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح: 29] .
وقال: {وكلا وعد الله الحسنى} [النساء: 95] .
وقوله: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} [الفتح: 18] .
قال له الناصبي: هذه الآيات تتناول أبي بكر وعمر وغيرهما من المهاجرين والأنصار كما تتناول علياً، ليس في ظاهرها ما يخص علياً.
فإن جاز أن يدعي خروج هؤلاء منها، أو أنهم دخلوا فيها ثم خرجوا بالردة، أمكن الخوارج الذين يكفرون علياً أن يقولوا مثل ذلك.
والمقصود هنا أن الرافضة لا يمكنهم إقامة حجة صحيحة على
الخوارج، وإنما يتمكن من ذلك أهل السنة والجماعة، الذين يقرون بعموم هذه الآيات، وتناولها لأهل بيعة الرضوان كلهم، ويقرون بالأحاديث الصحيحة المروية في فضائل الصحابة، وأنهم كانوا صادقين في روايتهم، فهم الذين يمكنهم الرد على الخوارج والروافض بالطرق الصحيحة السليمة على التناقض.
وهكذا الرد على الحلولية وبيان إبطال قولهم بالحق إنما يتمكن منه أهل السنة المثبتة لعلو الله على خلقه ومباينته لهم، فإن قول هؤلاء نقيض قول الحلولية، ومن علم ثبوت أحد النقيضين أمكنه إبطال ما يقابله، بخلاف قول النفاة فإنه متضمن رفع النقيضين، أو ما هما في معنى النقيضين، ورفع النقيضين أشد بطلاناً من المناقض الباطل، فإن رفعهما يعلم امتناعه بصريح العقل، وأما انتفاء أحدهما فهو أخفى في العقل من رفعهما، فمن رفع النقيضين، أو ما في معناهما، لم يمكنه إبطال قول من أثبت أحدهما، وما من حجة يحتج بها من رفع المتقابلين، إلا ويمكن ممن أثبت أحدهما أن يحتج عليه بما هو أقوى منها من جنسها.
ولهذا كان إطباق العقول السليمة على إنكار قول النفاة المتقابلين أعظم من إطباقها على إنكار قول الحلولية، لأن الموجود الواجب الوجود كلما وصف بصفات المعدومات الممتنعات، كان اعظم بطلاناً وفساداً من وصفه بما هو أقرب إلى الموجود.
ومما يبين هذا أن الصفات السلبية ليس فيها بنفسها مدح ولا توجب
كمالاً للموصوف، إلا أن تتضمن أمراً وجودياً، كوصفه سبحانه بأنه لا تأخذه ولا نوم، فإنه يتضمن كمال حياته وقيوميته.
وكذلك قال تعالى: {وما مسنا من لغوب} [ق: 38] ، متضمن كمال قدرته.
وقوله: {لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض} [سبأ: 3] يقتضي كمال علمه.
وكذلك قوله: {لا تدركه الأبصار} [الأنعام: 103] يقتضي عظمته، بحيث لا تحيط به الأبصار.
وكذلك نفي المثل والكفو عنه يقتضي أن كل ما سواه فإنه عبد مملوك له، ولك يقتضي من كماله ما لا يحصل إذا كان له نظير مستغن عنه، مشارك له في الصنع، فإن ذلك نقص في الصانع، فأما العدم المحض والنفي الصرف، مثل كونه لا يمكن رؤيته بحال، وكونه لا مبايناً للعالم ولا مداخلاً له، فإن هذا أمر يوصف به المعدوم لا يمكن رؤيته بحال، وليس هو مبايناً للعالم ولا مداخلاً له، والمعدوم المحض لا يتصف بصفة كمال ولا مدح، ولهذا كان تنزيهه الله تعالى بقوله:(سبحان الله) يتضمن مع نفي صفات النقص عنه، إثبات ما يلزم ذلك من عظمته، فكان التسبيح تعظيم، له مع تبرئته من السوء.
ولهذا جاء التسبيح عند العجائب الدالة على عظمته، كقوله تعالى:{سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} [الإسراء: 1] ، وأمثال ذلك.
ولما قال: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون} [الصافات: 180] ،
كان تنزيهه عما وصفوه به متضمناً لعظمته اللازمة لذلك النفي.
وإذا كان كذلك، فنفاة النقيضين، وما هو في معنى النقيضين، لم يتضمن وصفهم له بذلك شيئاً من الإثبات ولا التعظيم، بخلاف القائلين بالحلول في جميع الأمكنة، فإنهم يصفونه بما فيه تعظيم له.
ولهذا من يقول من يعذر الطائفتين: إن هؤلاء قصدوا تنزيهه، وهؤلاء قصدوا تعظيمه، فإذا كان التنزيه، إن لم يتضمن تعظيماً لم يكن مدحاً، كان من وصفه بما فيه تعظيم أقرب إلى المعقول ممن وصفه بما يشركه فيه المعدوم، من غير أن يكون فيه تعظيم، فلم يكن أولئك النفاة أن يبطلوا حج هؤلاء المعظمين له، وإذا ردوا عليهم ببيان ما في قولهم من إثبات ما لا يعقل أو التناقض، قالوا لهم: إن في قولهم من إثبات ما لا يعقل ومن التناقض ما هو أعظم من ذلك.
فإن قال النفاة: هؤلاء الحلولية قد أثبتوا حلولاً يقتضي افتقاره إلى المحل، كالصورة مع المادة، وكالوجود مع الثبوت، ونحو ذلك مما يقتضي أن أحدهما محتاج إلى الآخر، نحن قد بينا: إنما يعقل الحلول إذا كان الحال محتاجاً إلى المحل، وذلك باطل، لأن ذلك يناقض وجوبه كما تقدم، فقد أبطلنا قول هؤلاء.
قيل عن هذا جوابان:
أحدهما: أنه ليس كل من قال بالحلول يقول افتقاره إلى المحل، بل كثير من القائلين بالحلول يقولون: إنه في كل مكان مع استغنائه عن
المحل، وهو قول النجارية وكثير من الجهمية، وقول من يقول بالحلول الخاص كالنصارى وغيرهم.
الثاني: أنه بتقدير أن يكون الحلول مستلزماً للافتقار، فأنتم لم تثبتوا غناه عما سواه، فإن طريقة الرازي والآمدي وأمثالهما في إثبات الصانع، هي طريقة ابن سينا في إثبات واجب الوجود، وهذه الطريقة لا تدل على إثبات موجود قائم بنفسه واجب الوجود.
وإن قيل: إنها تدل على ذلك، فلم تدل على أنه مغاير للعالم، بل يجوز أن يكون هو العالم.
ومن طريقهم قال هؤلاء بوحدة الوجود، فإن طريقتهم المشهورة: أن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن، الممكن لا بد له من واجب، فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين.
وهذا القدر يدل على أنه لا بد من وجود واجب، ومن قال: كل موجود واجب فقد وفى بموجب هذه الحجة، ومن قال: إن الوجود الواجب مع الممكن كالصورة مع المادة أو كالوجود مع الثبوت، فقد وفى بموجب هذه الحجة، بل لا يمكنهم إثبات لوجود واجب مغاير للممكن إن لم يثبتوا أن في الوجود ما هو ممكن يقبل الوجود والعدم.
وهم يدعون أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم قد يكون قديماً أزلياً، ولا يمكنهم إقامة دليل على ثبوت الإمكان بهذا الاعتبار.
ولهذا لما احتاجوا إلى إثبات الإمكان استدلوا بأن الحادث لا بد له محدث، وأن الحوادث مشهودة.
وهذا حق، لكنه يدل على أن المحدث لا بد له من قديم، فيلزم ثبوت قديم، لكن لا يلزم من ذلك عندهم أن يكون واجب الوجود ثابتاً إلا بذلك التقسيم، إذ كانوا يجوزون على القديم، أن يكون ممكن الوجود، فإذا قالوا: القديم إن كان ممكناً فلا بد له من واجب، لم يمكنهم إثبات واجب إلا بإثبات هذا الممكن، وهذا ممتنع، وهو أيضاً مستلزم للدور، فإنه لا يمكنهم إثبات واجب الوجود إلا بإثبات ممكن الوجود، ولا يمكن إثبات ممكن الوجود إلا بإثبات أن المحدث ممكن وله فاعل، وذلك لا يستلزم إلا إثبات قديم، والقديم عندهم لا يجب أن يكون واجب الوجود، فلا يمكنهم أن يثبتوا واجب الوجود حتى يثبتوا ممكن الوجود، والذي قد يكون قديماً، وهذا لا يمكن إثباته إلا بإثبات الممكن الذي هو حادث، وهذا لا يدل إلا على إثبات قديم، والقديم عندهم لا يستلزم أن يكون واجب الوجود.
وأيضاً فإذا أثبتوا واجب الوجود فإنهم لم يثبتوا أنه مغاير لهذه المشهودات إلا بطريقة التركيب، وهي باطلة.
وحينئذ فيمكن أن يقول لهم أهل الحلول: الواجب هو حال.
وإيضاح ذلك أنهم قسموا الوجود إلى واجب وممكن، لكن جعلوا الممكن منه ما هو قديم ومنه ما هو محدث، وحينئذ فلا يمكن إثبات الواجب إلا بإثبات هذا الممكن، وهذا الممكن لا يمكن إثباته.
وأيضاً فهم لا يثبتون الممكن إلا بإثبات الحادث، والحادث لا بد له من القديم، والقديم لا يستلزم أن يكون واجباً.
وإذا قالوا: القديم إن كان واجباً ثبت الواجب، وإن كان ممكناً ثبت الواجب، فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين.
قيل: هذا إذا صح لزم أنه لا بد من واجب، كما أن الموجود مستلزم أنه لا بد من واجب، وهذا مما لا نزاع فيه، لكنه لا يدل على إثبات صانع، لا على أنه مغاير للأفلاك، ولا على أنه ليس بحال، بل يستلزم أنه لا بد من موجود يمتنع عدمه، وهذا مما يوافق عليه منكرو الصانع، والقائلون بقدم العالم، وأهل الحلول، وغيرهم، فتبين أنه ليس في كلامهم إبطال مذهب الحلول.
والمقصود هنا أن السلف والأئمة كانوا يردون على من أقوال النفاة ما هو أقرب إلى الإثبات، فيكون ردهم لما هو أقرب إلى النفي بطريق الأولى، وقول النفاة لمباينته للعالم ومداخلته له، أبعد عن العقل من قول المثبتين، لأنه قائم بنفسه في كل مكان، مع نفي مماسته ومباينته.
والسلف ردوا هذا وهذا، وكان ذلك تنبيهاً على إبطال الحلول، بمعنى حلول العرض في المحل.
لكن هذا لم يقل به أحد، وإن كان النفاة لم يمكنهم إلا إبطاله خاصة دون أقوال أهل الحلول المعروفة عنهم.
ومما يبين هذا أن الطوائف كلها اتفقت على إثبات موجود واجب بنفسه، قديم أزلي لا يجوز عليه العدم، ثم تنازعوا فيما يجب له ويمتنع عليه.
فالنفاة تصفه بهذه الصفات السلبية: أنه لا مباين للعالم ولا مداخل، ولا فوق ولا تحت، ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء،
ولا يقرب إليه شيء ولا يقرب هو من شيء وأمثال ذلك، بل ويقولون أيضاً: إنه لا تمكن رؤيته ولا غير ذلك من الإحساس به، ولا يمكن الإشارة إليه.
وآخرون منهم يقولون: ليس له علم ولا قدرة ولا حياة، ولا غير ذلك من الصفات.
وآخرون يقولون: لا يسمى موجوداً حياً عالماً قادراً إلا مجازاً، أو بالاشتراك اللفظي، وأن هذه الأسماء لا تدل على معنى معقول، ويقولون: إذا أثبتنا هذه الصفات لزم أن يكون متحيزاً، والمتحيز مركب، أو كالجوهر الفرد في الصغر، ونحو ذلك، فيفرون من هذه الصفات، لاعتقادهم أن ذلك يقتضي التجسيم، والأجسام عندهم موجودة، لكنها عند بعضهم محدثة، وعند بعضهم ممكنة، فإذا وصفوا الواجب القديم بذلك، لزم أن يكون عندهم ممكناً أو محدثاً، وذلك ينافي وجوبه وقدمه، ويقولون: إن هذه المقدمات معلومة بالنظر.
وأما المثبتون فيقولون: الموصوف بهذه الصفات السلبية لا يكون إلا ممتنعاً، والامتناع ينافي الوجود، فضلاً عن وجوب الوجود، فيقولون: إن الواصفين له بهذه الصفات وصفوه بما لا يتصف به إلا ما يمتنع وجوده، ومن وصف ما يجب وجوده بما يمتنع وجوده، فقد جعله دون المعدوم الممكن الوجود.
ويقولون: إن هذه المقدمات معلومة بالضرورة، فهم يقولون لأولئك: أنتم فررتم من وصفه بالإمكان فوصفتموه بالامتناع، ومن وصفه بالحدوث فوصفتموه بالعدم.
ويقولون: إن الأجسام الجامدة خير من الموصوف بهذه الصفات، فضلاً عن الأجسام الحية الناقصة، فضلاً عن الأجسام الحية الكاملة.
ومن المعلوم أنه إذا دار الأمر بين جسم حي كامل، وبين معدوم أو ممتنع، كان ذلك خيراً من هذا، وإن كانت هذه النتيجة لازمة لمقدمات يقول أهلها: إنها معلومة بالاضطرار، كانت أثبت من مقدمات يقول أهلها: أنتم لا تعلمونها إلا بالنظر، مع اختلافهم في كل مقدمة منها.
فعلم بذلك أن المثبتة هم أقطع بما يقولونه وأشد تعظيماً لما يثبتونه، وأن النفاة أقرب إلى الظن، وأبعد عن التعظيم والإثبات.
يبين ذلك أن عمدة النفاة على أنه لو ثبت هذه الصفات: من العلو والمباينة ونحو ذلك، للزم أن يكون جسماً، وكون الواجب القديم جسماً ممتنع.
وهذه المقدمة هي نظرية باتفاقهم، وكل طائفة منهم تطعن في طريق الآخرين.
والعمدة فيها طريقان: طريق الجهمية والمعتزلة، وطريق الفلاسفة.
ومن وافق على هذه المقدمة من الفقهاء وأهل الكلام، من الأشعرية وغيرهم فهو تبع فيها: إما للمعتزلة والجهمية، وإما للفلاسفة.
فأما المعتزلة والجهمية فطريقهم هي طريق الأعراض والحركات،
وأنه لو ثبت للقديم الصفات والأفعال لكان محلاً للأعراض والحركات، وذلك يقتضي تعاقبها عليه.
وذلك يوجب حدوثه.
وقد عرف أن الفلاسفة - مع طوائف من أهل الحديث والفقه والتصوف والكلام - يطعنون في هذه الطريقة.
وقد صنف الأشعري نفسه كتاباً بين فيه عجز المعتزلة عن إثبات هذه الطريق، كما سيأتي بيان ذلك.
وأما طريق الفلاسفة فهي مبنية على أن واجب الوجود لا يكون متصفاً بالصفات، لأن ذلك يستلزم التركيب.
وقد علم ما بينه نظار المسلمين من فساد هذه الطريقة.
فإذا ليس بين النفاة مقدمة اتفقوا عليها يبنون عليها النفي، بل هم يشتركون فيه كاشتراك المشركين وأهل الكتاب في تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، واشتراك أهل البدع في مخالفة الحديث والسنة، مآخذ كل فريق غير مآخذ الآخر.
وإذا كانت مقدماتهم ليست مما اتفقوا عليه، بل ولا اتفق عليه أكثرهم، بل أكثرهم ينكر صدق جميعها، علم أنها ليست مقدمات فطرية ضرورية، لأن الضروريات لا ينكرها جمهور العقلاء، الذين لم يتواطأوا عليها، ولا يكفي أن تكون بعض المقدمات معلومة، بل لا بد أن تكون الجميع معلومة، وما لم تكن معلومة بالضرورة، فلا بد أن تستلزمها مقدمات ضرورية، وليس معهم شيء من ذلك، بل غاية
هؤلاء لفظ (التركيب) وأنه لا يكون واجباً، وقد علم ما في ذلك من الإجمال والاشتراك.
وغاية هؤلاء أن الأعراض لا تبقى، وجمهور العقلاء يخالفون في ذلك، وأن الأفعال يجب تناهيها، وقد علم نزاع العقلاء فيها، وجمهورهم يمنعون امتناع تناهيها من الطرفين.
وقد ذكرنا اعتراض الأرموي وغيره من شيوخه في هذه المقدمات، وقد سبقه إلى ذلك الرازي وغيره، وقدحوا فيها قدحاً بينوا به فسادها، على وجه لم يعترضوا عليه.
وإن كلام الرازي يعتمدها في مواضع أخر، فنظره استقر على القدح فيها.
وكذلك الأثير الأبهري في كتابه المعروف بتحرير الدلائل في تقرير المسائل هو وغيره - قدحوا في تلك الطرق وبينوا فساد عمدة الدليل، وهو بطلان حوادث لا أول لها.
وذكر الأبهري الدليل المتقدم: دليل الحركة والسكون، وقولهم: لو كان الجسم أزلياً لكان: إما متحركاً أو ساكناً، والقسمان باطلان.
أما الأول فلأنها لو كانت متحركة للزم الجمع بين المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية بالغير، لأن الحركة تقتضي المسبوقية بالغير، والأزل يقتضي عدم المسبوقية، فيلزم الجمع بينهما، ولأنها لو كانت متحركة لكانت بحال لا يخلو من الحوادث، وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، وإلا لكان الحادث أزلياً.
وهو محال.
ولأنها لو كانت متحركة