الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القدس في شجون واجب الإيثار، قد عرف اللذة الحق، وولى وجهه سمتها، مترحماً على هذا المأخوذ عن رشده إلى ضده، وإن كان ما يتوخاه بكده مبذولاً له حسب وعده) .
تعليق ابن تيمية
فيقال: ينبغي أن يفرق بين كون الإنسان محباً مريداً، وبين كونه يعرف أنه محب مريد، وكذلك يفرق بين كونه سامعاً رائياً عالماً، وبين كونه عالماً بكونه كذلك ذاكراً له.
مثال ذلك: أن الإنسان لا يفعل فعلاً اختيارياً وهو يعلم أنه يفعله إلا بإرادة، فكل من شهد المسجد ليصلي فيه الصلاة الحاضرة وهو يعلم أنها الجمعة أو الفجر، امتنع أن يصلي إلا وهو ناو لهذه الصلاة، ومع هذا فقد يظن كثير من الناس أنه لا ينوي أو لا تحصل له نية حتى يتكلم بذلك، وربما كرر ذلك، ورفع صوته به، وآذى من حوله، وأصابه من جنس ما يصيب الجنون.
وكذلك المعرفة بالله فطرية ضرورية، كما قد بسط في موضعه، وكذلك حب الله ورسوله حاصل لكل مؤمن، ويظهر ذلك بما إذا خير المؤمن بين أهله وماله وبين الله ورسوله، فإنه يختار الله ورسوله.
والمؤمنون متفاضلون في هذه المحبة، ولكن المنافقون - الذين أظهروا الإسلام ولما يدخل الإيمان في قلوبهم - ليسوا من هؤلاء وما من مؤمن إلا وهو إذا ذكر له رؤية الله اشتاق إلى ذلك شوقاً لا يكاد يشتاقه إلى شيء.
وقد قال الحسن البصري: لو علم العابدون أنهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت أنفسهم في الدنيا.
والحب لله يقوى بسبب قوة المعرفة وسلامة الفطرة، ونقصها من نقص المعرفة ومن خبث الفطرة بالأهواء الفاسدة.
ولا ريب أن النفوس تحب اللذة بالأكل والشرب والنكاح، وقد تشغل النفوس بأدنى المحبوبين عن أعلاهما، لقوة حاجته العاجلة إليه، كالجائع الشديد الجوع، فإن ألمه بالجوع قد يشغله عن لذة مناجاته لله في الصلاة.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «لا يصلين أحدكم بحضرة طعام، ولا وهو يدافع الأخبثين» .
وإن كانت الصلاة قرة عين العارفين، والإنسان إنما يشتاق إلى من يشعر به من المحبوبات، فأما ما لم يشعر به فهو لا يشتاق إليه، وإن كان لو شعر به لكان شوقه إليه أشد من شوقه إلى غيره.
ولما كانت الجنة فيها كل نعيم يتنعم به من غير تنغيص مما يعرفونه وما لا يعرفونه.
كما قال تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة: 17] .
وقال: {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين} [الزخرف: 71] .
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: إني أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
بله ما أطلعتم عليه، ثم قرأ {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} [السجدة: 17] الآية» .
وكان النعيم الذي فيها منه ما له نظير عند المخاطبين، إذا ذكر اشتاقوا إليه، ومنه ما لا نظير له عندهم - أخبرهم الله تعالى منه بما له نظير، فإنه بذلك يحصل شوقهم ورغبتهم فيما أمروا به، ثم إذا فعلوا ما أمروا به نالوا بذلك ما لم يخطر بقلوبهم، كما أخبر بذلك الكتاب والسنة.
ولذة النظر، وإن كانت أفضل اللذات، وسببها- وهو حب الله ورسوله - موجود في قلب كل مؤمن، لكن الظاهر من الحب والشهوات، ومعرفة الناس لكون ذلك مشتهاة ومرغوباً فيها، وان محبتها
غالبة، وذكرهم لذلك أظهر من معرفتهم بما في حب الله ورسوله.
والنظر إليه من ذلك، ومن ذكرهم لذلك، وإن كان ذلك موجوداً فيهم، فوجود الشيء غير معرفته وذكره وظهوره، فذكر الله في كتابه من اللذات الظاهرة، كالأكل والشرب والنكاح، ما يعرف كل أحد أنه لذة، وما تشتاق إليه كل نفس، ويعرفون أنه مما يرغب فيه، وذلك لا ينال إلا بعبادة الله وطاعته.
وهم إذا عبدوا الله فقد يحصل لهم من حلاوة المعرفة والعبادة ما هو اعظم من ذلك، وإذا كشف الحجاب في الآخرة فنظروا إليه كان ذلك أحب إليهم من جميع ما أعطاهم، فكان ترغيبهم في العبادة بذلك شائقاً لهم إلى هذا، وكان كمن أسلم رغبة في الدنيا، فلم تغرب الشمس إلا والإسلام أحب إليه مما طلعت عليه الشمس، وكمن دخل في العلم والدين لرغبه في مال أو جاه، أو رهبة من عزل أو عقوبة أو أخذ مال، فلما ذاق حلاوة العلم والإيمان كان ذلك أحب إليه مما طلعت عليه الشمس.
وإذا كان هذا في الدنيا، فما الظن بما في الآخرة؟ وإذا عرفت هذا عرفت شيئين: أحدهما: أن كل مؤمن تحقق إيمانه فإنما يعبد الله، والله أحب إليه من كل ما سواه، وإن كان لا يستشعر هذا في
نفسه، بل يكون ما يرجوه من الأكل والشرب النكاح، وما يخافه من العقاب باعثاً له على العبادة، لكن إذا ذاق حلاوة الإيمان وطعم العبادة، كان الله أحب إليه من كل شيء، وإن كان يغيب عن علمه بحاله، حتى لا يرغب ولا يرهب إلا من غير ذلك، فما كل محبوب واجب يستحضر في كل وقت، ولا تحصل به الرغبة، ولا من فواته الرهبة، بل تحصل الرغبة والرهبة بالمحبوب الأدنى والمرهوب الأدنى، ويقوده ذلك إلى المحبوب الأعلى، وهذا موجود فيمن ذاق طعم المحبوب الأعلى، فإنه قد يعترض له هوى في محبوب أدنى، فيكون حضوره ودواعي الشهوة إليه يوجب تقديمه، مع علمه بأنه يفوته بذل ما هو أحب إليه منه، وكمن يشتهي شيئاً فيتناوله، وهو بعلم أنه يضره وأنه يفوته به ما هو أحب إليه، بل يعلم أنه يوجب له ما يضره فإذا حصل له ترهيب يصده عن ذلك، أو رغبة فيما ترغب فيه نفسه حتى يترك ذاك، كان هذا دواء نافعاً له يشتاق به إلى المحبوب الأعلى.
والله قد أنزل كتابه شفاءً لما في الصدور، وهدىً للخلق، ورحمةً لهم، وبعث رسوله بالحكمة.
وأما ما ذكره هذا الرجل من الكلام المزخرف الذي قال الله فيه: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون * ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون} [الأنعام: 112-113] .
وذلك أنه عظم من يعبد الحق لذاته، وعبادة الحق تعالى لذاته أصل عظيم، وهو أصل الملة الحنيفية، وأساس دعوة الأنبياء، لكن هذا حاصل فيما جاءت به الرسل، لا في طريق الصحابة، فإن أصحابه لا يعبدون الله، بل ولا يحبونه أصلاً، بل ولا يطيعونه، وإنما العبادات عندهم رياضة للنفوس لتصل إلى علمهم الذي يدعون أنه كمال النفس، والكمال عندهم في التشبه به لا في أن يكون محبوباً مراداً.
ولهذا لم يتكلم أحد منهم في مقامات العارفين بمثل هذا الكلام الذي تكلم به ابن سينا، وهو أراد أن يجمع بين طريقهم وطريق العارفين أهل التصوف، فأخذ ألفاظاً مجملة، إذا فسر مراد كل واحد منها، تبين أن القوم من أبعد الناس عنه محبة الله وعبادته، وأنهم أبعد عن ذلك من اليهود والنصارى بكثير كثير.
ولهذا يظهر فيهم من إهمال العبادات والأوراد والأذكار والدعوات، ما لا يظهر في اليهود والنصارى، ومن سلك منهم مسلك العبادات فإن لم يهده الله إلى حقيقة دين الإسلام، وإلا صار آخر أمره ملحداً من الملاحدة، من جنس ابن عربي وابن سبعين وأمثالهما.
وأيضاً فإنه استحقر ما وعد الناس به في الآخرة من أنواع النعيم، وطلب تزهيد الناس فيما رغبهم الله فيه، وهو مضادة للأنبياء، وهو في الحقيقة منكر لوجود ذلك، كما هو في الحقيقة منكر لوجود محبة الله ومعرفته والنظر إليه، وإنما الذي أثبته من ذلك خيال، كما أن الذي أثبته من لذة المعرفة إنما هو مجرد كونه عالماً معقولاً موازياً للعالم