الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ليس بعظيم كبير في نفسه - أعظم نقصاً من وصفه بإحاطة ما يستلزم إحاطته بجميع الموجودات.
الوجه الخامس
أن يقال: هب أن العالم كري، فلم قلت: إنه إذا كان فوق العالم يلزم أن يكون تحت بعضه، فإن هذا إنما يلزم إذا قدر أنه محيط بالعالم كله من جميع الجهات، فأما إذا قدر أنه فوق العالم من هذه الجهة التي عليها الحيوان والنبات والمعدن، لم يلزم أن يكون تحت العالم من تلك الجهة، فلو فرضنا مخلوقين أحدهما مدور، والآخر فوق المدور، ليس محيطاً به، كما يجعل الإنسان تحت قدمه حمصة أو بندقة، لك يلزم أن يكون الذي فوق المدور تحت المدور بوجه من الوجوه.
وإذا قيل: المحيط بالمدور، كالفلك التاسع المحيط بالأرض، وهو العالي من كل جانب.
قيل: هو العالي بالنسبة إلى ما في جوف المدور، وأما بالنسبة إلى ما فوق المدور فلا، بل المحيط وما في جوفه تحت ذلك الفوقاني مطلقاً، كما أن الحمصة والبندقة تحت الرجل الموضوعة عليها.
ومما يوضح ذلك أن مركز الفلك هو السفل المطلق للفلك، والفلك من كل جانب عال عليه، فإذا قدر فوق الفلك من الجانب الذي يلي الجانب الذي عليه الأنام ما هو أعلى من الفلك من هذا الجانب وليس محيطاً به، ولا مركز العال مركزاً له - امتنع أن يكون هذا تحت شيء من العالم، بل هو قطعاً فوق الأفلاك من هذا الجانب، وليس تحتها من ذلك الجانب، فيلزم أن يكون هو فوقها لا تحتها.
وإذا قال القائل: هذا كما لا يوصف بالسفول، فهو لا يوصف أيضاً بالعلو، فإن العالي المطلق هو المحيط، إذاً ليس إلا المحيط والمركز، وهذا إذا لم يكن محيطاً لم يكن عالياً.
قيل: عن هذا جوابان: أحدهما: أنه على هذا التقدير إذا كان محيطاً لم يكن سافلاً البتة، بل يكون عالياً، وعلى هذا فإذا كان هو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وهو الباطن الذي ليس دونه شيء، ولو أدلى المدلي بحبل لهبط عليه - كان محيطاً بالعالم عالياً عليه مطلقاً، ولم يلزم من ذلك أن يكون فلكاً ولا مشابهاً للفلك، فإن الواحد من المخلوقات تحيط قبضته بما في يده من جميع جوانبها، وليس شكلها شكل يده، بل ولا شكل يده شكلها.
وذكر أن بعض الشيوخ سئل عن كون الرب عالياً محيطاً بالعالم ممسكاً له، فقال: بعض مخلوقاته كالباشق مثلاً يقبض بيده حمصة، فيكون فوقها محيطاً بها ممسكاً لها، فإذا كان هذا لا يمتنع في بعض مخلوقاته، فكيف يكون ممتنعاً في حقه.
الثاني: أنه إذا قدر أنه عال وليس بمحيط، لم يلزم أن يكون له مركز، ولا أن يكون مركز العالم مركزاً له، وأن يكون المركز هو السفل بالنسبة إليه، وأن يكون العالي هو المحيط بالنسبة إليه، بل ذلك إنما يلزم في المحيط والمحاط به، فالمركز من المحيط كالنقطة من الدائرة، فإذا قدر ما ليس بدائرة ولا هو كرة، لم يكن له مركز كنقطة الدائرة.
ولهذا لو
قدر أن السماوات ليست محيطة بالأرض لم يكن لها مركز، مع تقدير الكرة المستديرة، فلا بد لها من نقطة في وسطها هو المركز، وأما ما ليس بمستدير ولا هو كرة فليس مركز الكرة - وهو النقطة التي وسطها - مركزاً له، سواء جعل فوق المستدير أو تحته، فلا يمتنع أن يكون شيء فوق المستدير وتحته إذا لم يكن مستديراً، ولا يكون مع هذا مشاركاً للمستدير في أن النقطة التي هي المحيطة مركزاً له، بل المركز نسبته إلى جميع جهات المحيط واحدة، وليست نسبته إلى ما فوق المحيط أو تحته - إذا قدر أن فوقه شيء أو تحته شيء ليس مستدير - نسبة واحدة، بل يكون المركز مع المحيط تحت هذا الشيء المعين الذي ليس بمستدير، كما قد يمكن أن يكون فوق شيء آخر، فالمركز بالنسبة إلى المحيط تحته، والمحيط فوقه.
وأما ما يقدر فوق المحيط فهو عال على الجميع قطعاً، ويمتنع أن يقال: إنه ليس فوق المحيط، فإنه معلوم بصريح العقل أن الهواء فوق الأرض، والسماء فوق الأرض، وهذا معلوم قبل أن يعلم كون السماء محيطة بالأرض، بل الإحاطة قد يظن أنها مناقضة للعلو، لا يقول أحد: إن العلم بالعلو موقوف على العلم بها، ولا إن العلو مشروط بها، فإن الطير فوق الأرض، وليست محيطاً بها، والسحاب فوق الأرض وليس محيطاً بها، وكل جزء من أجزاء الفلك هو فوق الأرض وليس محيطاً بها، فتبين أن العلو معنى معقول، مع أنه لا يشترط فيه الإحاطة، وإن كانت الإحاطة لا تناقضه.
وهؤلاء النفاة حائرون: تارة يجعلون الإحاطة مناقضة للعلو، وتارة يجعلونها شرطاً في العلو لازمة له.
ونحن قد بينا خطأهم في هذا وهذا، فلا هي مناقضة له، ولا هي منافية له.
ولهذا كان الناس يعلمون أن السماء فوق الأرض، والسحاب فوق الأرض، قبل أن يخطر بقلوبهم أنها محيطة بالأرض.
وكذلك يعلمون أن الله فوق العالم، وإن لم يعلموا أنه محيط به، وإذا علموا أنه محيط لم يمنع ذلك علمهم بأنه فوق.
فتبين أنه ليس من شرط العلم بكون الشيء عالياً أن يعلم أنه محيط، ولو كانت الإحاطة شرطاً في العلم، امتنع العلم بالمشروط دون شرطه، ولكن لما كان في نفس الأمر الأفلاك عالية محيطة، كانت الإحاطة والعلو متلازمين في هذا - محال، فإن قدر أن كل عال فهو محيط، كان العلو والإحاطة متلازمين، وإن قدر وجود موجود عال ليس بمحيط لم تكن الإحاطة لازمة للعلو.
فقد تبين أنه بتقدير أن يكون الرب عالياً ليس بمحيط فهو عال، وبتقدير أن يكون عالياً محيطاً فهو عال، فثبت علوه على التقديرين، وهو المطلوب.
وإذا كان هذا معقولاً في مخلوقين، ففي الخالق بطريق الأولى.
وقد قررت هذا على وجه آخر بأن يقال: فإن قيل: المحيط لا يتميز منه جانب دون جانب بكونه فوقاً وسفلاً، فلا يمكن إذا قدر شيء
خارجاً عنه أن يقال: هو فوقه إلا كما يقال: هو سفله، وحينئذ ففرض شيء خارج عن المدور المحيط مع كونه فوقه، جمع بين الضدين.
قيل: الجواب عن هذا من وجوه:
أحدها: أن هذا الكلام إن كان صحيحاً لزم بطلان حجتكم، وإن لم يكن صحيحاً لزم بطلانها، فثبت بطلانها على تقدير النقيضين، فيلزم بطلانها في نفس الأمر، لأن الحق في نفس الأمر لا يخلو عن النقيضين.
بيان ذلك أن المحيط إما أن يصح أن يقال: إن بعضه عال وبعضه سافل، وإما أن لا يصح، فإن لم يصح بطل أن يكون الخارج عنه تحت شيء من العالم، بل إذا قدر أنه يحيط به، ولو بقبضته له، لزم أن يكون عالياً عليه مطلقاً، ولم يكن سافلاً تحت شيء من العالم، وإن صح أن يكون بعضه عالياً وبعضه سافلاً، أمكن أن يكون مبايناً للعالم من الجهة العالية، فيكون عالياً عليه.
وإن قيل: بل المحيط إذا حاذى رؤوسنا كان عالياً، وإذا حاذى أرجلنا كان سافلاً، فلا يزال بعضه عالياً، وبعضه سافلاً.
قيل: فعلى هذا التقدير يكون العالي ما كان فوق رؤوسنا، وحينئذ فإذا كان مبايناً للعالم من جهة رؤوسنا دون أرجلنا، لم يزل عالياً علينا دائماً، وهو المطلوب.
الوجه الثاني: أن يقال: هب أنه محيط بالعالم وفوقه من
جميع الجهات، فإنما يلزم ما ذكرت أن لو كان من جنس فلك من الأفلاك، فإن المتخيل قد يتوهم أن ما استدار وأحاط بالأفلاك، كان تحت بعض العالم من بعض الجهات.
ومن المعلوم أن الله تعالى ليس مثل فلك من الأفلاك، ولا يلزم إذا كان فوق العالم ومحيطاً به أن يكون مثل فلك، فإنه العظيم الذي لا أعظم منه.
وقد قال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} [الزمر: 67] .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه ما يوافق ذلك، مثل حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يهزهن، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟» وفي رواية: «أنها تكون بيده مثل الكرة في يد الصبيان» وروي ما هو أقل من ذلك.
والمقصود أنه إذا كان الله أعظم وأكبر وأجل من أن يقدر العباد قدره، أو تدركه أبصارهم، أو يحيطون به علماً، وأمكن أن تكون السماوات والأرض في قبضته لم يجب - والحال هذه - أن يكون تحت العالم، أو تحت شيء منه، فإن الواحد من الآدميين إذا قبض قبضة أو بندقة أو حمصة أو حبة خردل، وأحاط بها بغير ذلك، لم يجز أن يقال: إن أحد جانبيها فوقه، لكون يده لما أحاطت بها كان منها