المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تعليق ابن تيمية - درء تعارض العقل والنقل - جـ ٦

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌الوجه الثالث والأربعون

- ‌كلام الرازي عن الجهة والمكان

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌المقام الأول

- ‌كلام ابن سينا في الإشارات عن الخيال والوهميات

- ‌الرد المفصل على كلام ابن سينا

- ‌كلام الرازي في شرح الإشارات

- ‌تعليق ابن تيمية عود لمناقشة ابن سينا

- ‌كلام آخر لابن سينا في الإشارات

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن سينا في إثبات القوة الوهمية وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام ابن سينا في الشفاء عن قوة الوهم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌عود إلى كلام ابن سينا في مقامات العارفين في الإشارات

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌فصل تابع كلام ابن سينا في الإشارات عن مقامات العارفين

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌فصل: تابع كلام ابن سينا في مقامات العارفين وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌عود إلى مناقشة كلام ابن سينا عن الوهم

- ‌الرد على قول الرازي: الوجه الأول

- ‌كلام عبد العزيز الكناني في مسألة الاستواء والعلو

- ‌كلام ابن كلاب في مسألة العلو

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌قول القائل: أنا لا أصفه بالوصفين المتقابلين لأن القابل لذلك لا يكون إلا جسماً

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌كلام الإمام أحمد في الرد على الجهمية والزنادقة في إثبات علو الله واستوائه

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام آخر للإمام أحمد عن المعية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الرازي في الرد على الحلولية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن عربي في فصوص الحكم عن علاقة الواجب بالممكن

- ‌كلام الأبهري وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌فصل

- ‌كلام ابن كلاب في كتاب الصفات عن العلو وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام الأشعري في الإنابة عن الاستواء وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام الباقلاني في التمهيد إثبات العلو والاستواء

- ‌كلام القاضي أبو يعلى في إبطال التأويل في إثبات العلو والاستواء

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن رشد في مناهج الأدلة عن العلو والجهة

- ‌كلام ابن رشد في مسألة رؤية الله تعالى

- ‌تعليق ابن تيمية على كلام ابن رشد في مناهج الأدلة

- ‌فصل مذهب السلف والأئمة في العلو والمباينة

- ‌كلام أبي نصر السجزي في كتاب الإبانة

- ‌كلام أبي عمر الطلمنكي في الوصول إلى معرفة الأصول

- ‌كلام نصر المقدسي في الحجة على تارك المحجة

- ‌كلام أبي نعيم الأصبهاني ي عقيدته

- ‌كلام أبي أحمد الكرخي في عقيدته

- ‌كلام ابن عبد البر في كتاب التمهيد

- ‌كلام معمر بن أحمد الأصبهاني في وصيته

- ‌كلام ابن أبي حاتم

- ‌كلام أبي محمد المقدسي

- ‌كلام أبي عبد الله القرطبي في شرح معنى الاستواء

- ‌كلام أبي بكر النقاش

- ‌كلام أبي بكر الخلال في كتاب السنة

- ‌كلام عبد الله بن أحمد في كتاب السنة

- ‌كلام أبي بكر البيهقي في الأسماء والصفات

- ‌كلام أبي حنيفة في كتاب الفقه الأكبر

- ‌كلام عبد الله بن المبارك الذي رواه عته البخاري

- ‌كلام ابن خزيمة

- ‌كلام ربيعة بن أبي عبد الرحمن

- ‌كلام مالك بن أنس

- ‌كلام آخر لبعض الأئمة

- ‌الوجه الثاني من وجوه الرد على الوجه الأول من كلام الرازي الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌فصل الوجه الثاني من كلام الرازي في الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌فصل الوجه الثالث من كلام الرازي في الأربعين

- ‌كلام ابن سينا في الإشارات

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الرد على الوجه الرابع من كلام الرازي من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الرد على الوجه الخامس من كلام الرازي من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الرد على الوجه السادس من كلام الرازي من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌فصل تابع كلام الرازي في الأربعين

- ‌الرد عليه

- ‌وجوه للرازي في الأربعين الوجه الأول

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌جواب الرازي في نهاية المعقول على حجة التركيب في مسألة الصفات

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الثاني من وجوه الرازي في الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه الثالث من وجوه الرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الرابع من وجوه الرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السابع

- ‌الوجه الثامن

- ‌الوجه الخامس من وجوه الرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السابع

- ‌الوجه الثامن

- ‌الوجه التاسع

- ‌الوجه العاشر

- ‌الوجه السادس من وجوه الرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌بقية كلام الرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد على كلام الرازي

- ‌كلام الرازي عن الجهة في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه

- ‌بقية كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة

الفصل: ‌تعليق ابن تيمية

الأكمه والأبرص، ولم يوجد في حق غيره.

فقلت له: فقد سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، ولأنه ظهر على يد موسى قلب العصا ثعباناً، وانقلاب الخشبة ثعباناً أعجب من انقلاب الميت حياً، فهو أولى بالدلالة على الحلول في الجملة) .

قال: (وبالجملة مذهب النصارى والحلولية أخس من أن يلتفت إليه) .

‌تعليق ابن تيمية

قلت: ما ذكره من إبطال الحلول بإلزام النصارى كلام صحيح، ولكن هذا إنما يستقيم على قول أهل الإثبات المثبتين لمباينته للعالم، فأما على قول الجهمية النفاة فلا تستقيم هذه الحجة.

وذلك أن الحلول على وجهين:

أحدهما: أهل الحلول الخاص، كالنصارى والغالية من هذه الأمة، الذين يقولون بالحلول، إما في علي، وإما في غيره.

الثاني: القائلون بالحلول العام، الذين يقولون في جميع المخلوقات نحواً مما قالته النصارى في المسيح عليه السلام، أو ما هو شر

ص: 151

منه، ويقولون: النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا كما يقول ذلك الاتحادية أصحاب صاحب (الفصوص) وأمثاله، وهم كثيرون في الجهمية.

بل عامة عباد الجهمية وفقهائهم، وعامة الذين ينتسبون إلى التحقيق من الجهمية، هم من هؤلاء كابن الفارض، وابن سبعين، والقونوي، والتلمساني، وأمثالهم.

فإذا قال الجهمي الذي يقول: إنه في كل مكان، ويقول مع ذلك بأن وجوده غير وجود المخلوقات، أو يقول بالاتحاد من وجه والمباينة من وجه، كما هو قول ابن عربي وأمثاله، كما حكى الإمام أحمد عنهم، يقول: إنه في كل مكان لا مماس للأمكنة ولا مباين لها، وأنه حال في العالم أو متحد به لا كحلول الأعراض والأجسام في الأجسام وأشباه ذلك.

فاحتج موافقوهم على نفي المباينة كالرازي وأمثاله بما ذكروه من قولهم: الحلول إنما يعقل إذا كان الحال مفتقراً إلى المحل، فإما أن يكون الحلول جائزاً أو واجباً، فإن كان جائزاً انتفى افتقاره إلى المحل، فلزم الجمع بين النقيضين: أن يكون مفتقراً إلى المحل غير مفتقراً إليه لكون حلوله جائزاً لا واجباً، وإن كان الحلول واجباً لم يكن الحال واجباً بنفسه بل بغيره.

ص: 152

قال لهم الحلولية: قولكم الحلول المعقول يقتضي افتقار الحال إلى المحل إنما يكون إذا كان الحال عرضاً، فضلاً عن أن يكون جسماً، فضلاً عن أن يكون لا جسماً ولا عرضاً، فأما إذا قدر حال ليس بجسم ولا عرض، فلم قلتم: إن حلوله يقتضي افتقاره إلى المحل؟ وقالوا لهم: إذا جوزتم وجود موجود لا مباين لغيره ولا حال فيه، فلم لا يجوز وجود موجود حال في غيره ليس مفتقراً إليه؟

فإذا قلتم: لا نعقل حالاً في شيء إلا مفتقراً إليه.

قيل لكم: هذا كما قلتموه للمثبتة: هذا من حكم الهم والخيال، لما قال المثبتة: لا نعقل موجوداً إلا مبايناً لغيره أو محايثاً له.

وهذا هو السؤال الذي أورده أحمد من جهة الجهمية حيث قالوا: (هو في كل مكان: لا مماس ولا مباين، فضلاً عن أن يقولوا: مفتقراً، فإن الافتقار إنما يعقل في حلول الأعراض، فأما حلول الأعيان القائمة بأنفسها في الأعيان القائمة بأنفسها، فلا يجب فيه الافتقار.

والقائلون بالحلول إنما يقولون: هو حلول عين في عين، لا حلول صفة في محل.

فلهذا قال لهم الإمام أحمد وأمثاله: أهو مماس أو مباين؟ فإذا سلبوا هذين المتقابلين تبين مخالفتهم لصريح العقل، وكانت هذه الحجة عليهم خيراً من حجة الرازي، حيث أنه نفى حلول العرض في محله، فإن هذا لم يقله أحد.

ص: 153

وكذلك ما نفاه من الاتحاد، ليس فيه حجة على ما ادعوه من الاتحاد، فإنهم لا يقولون ببقائهما بحالهما، ولا ببقاء أحدهما، وإنما يشبهون الاتحاد باتحاد الماء واللبن، والماء والخمر واتحاد النار والحديد.

فقوله: (هذا ليس باتحاد) نزاع لفظي، فهم يسمون هذا اتحاداً، فلا بد من بيان بطلان ما أثبتوه من الحلول والاتحاد، وإلا كان الدليل منصوباً في غير محل النزاع.

أما الأئمة الذين ردوا على الحلولية، فأبطلوا نفس ما ادعوه، وإن كان هؤلاء لا يقرون بأنا نقول بالحلول، كما لا يقر القائلون بأنه لا داخل العالم ولا خارجه بالتعطيل، فلزوم الحلول لهؤلاء كلزوم التعطيل لهؤلاء، والتعطيل شر من الحلول.

ولهذا كان العامة من الجهمية إنما يعتقدون أنه في كل مكان، وخاصتهم لا تظهر لعامتهم إلا هذا، لأن العقول تنفر عن التعطل أعظم من نفرتها عن الحلول، وتنكر قول من يقول: إنه لا داخل العالم ولا خارجه أعظم مما تنكر أنه في كل مكان، فكان السلف يردون خير قوليهم وأقربهما إلى المعقول، وذلك مستلزم فساد القول الآخر بطرق الأولى.

ص: 154

ومن العجب أن الجهمية من المعتزلة وغيرهم ينسبون المثبتين للصفات إلى قول النصارى، كما قد ذكر ذلك عنهم أحمد وغيره من العلماء.

وبهذا السبب وضعوا على ابن كلاب حكاية راجت على بعض المنتسبين إلى السنة، فذكروها في مثالبه، وهو أنه كان له أخت نصرانية، وأنها هجرته لما أسلم، وأنه قال لها: أنا أظهرت الإسلام لأفسد على المسلمين دينهم، فرضيت عنه لأجل ذلك.

وهذه الحكاية إنما افتراها بعض الجهمية من المعتزلة ونحوهم، لأن ابن كلاب خالف هؤلاء في إثبات الصفات، وهم ينسبون مثبتة الصفات إلى مشابهة النصارى، وهو أشبه بالنصارى، لأنه يلزمهم أن يقولوا: إنه في كل مكان، وهذا أعظم من قول النصارى، أو أن يقولوا ما هو شر من هذا، وهو أنه لا داخل العالم ولا خارجه.

ولهذا كان غير واحد من العلماء كعبد العزيز المكي وغيره، يردون عليهم بمثل هذا، ويقولون: إذا كان المسلمون كفروا من يقول: إنه

ص: 155

حل في المسيح وحده، فمن قال بالحلول في جميع الموجودات أعظم كفراً من النصارى بكثير.

وهم لا يمكنهم أن يردوا على من قال بالحلول، إن لم يقولوا بقول أهل الإثبات، القائلين بمباينته للعالم فيلزمهم أحد الأمرين: إما الحلول، وإما التعطيل، والتعطيل شر من الحلول.

ولا يمكنهم إبطال قول أهل الحلول مع قولهم بالنفي الذي هو شر منه وإنما يمكن ذلك لأهل الإثبات.

وهم وإن قالوا: إن مذهب النصارى والحلولية أخس من أن يلتفت إليه، فلا يقدرون على إبطاله مع قولهم بالتجهم، ولهذا لم يكن فيما ذكروه حجة على إبطاله، فيلزمهم: إما إمكان تصحيح قول النصارى والحلولية، وإما إبطال قولهم، وهذا لا حيلة فيه لمن تدبر ذلك.

وهب أنهم يمكنهم إبطال قول النصارى في تخصيصهم المسيح بالحلول والاتحاد، حيث يقال: إذا جوز الحلول والاتحاد بالمسيح جاز بغيره، فإن القائلين بعموم الحلول والاتحاد يلتزمون هذا، ويقولون: النصارى كفرهم لأجل التخصيص، وكذلك عباد الأصنام إنما أخطأوا من حيث عبدوا بعض المظاهر دون بعض، والعارف المحقق عندهم من لا يقتصر على بعض المظاهر والمجالي، بل يعبد كل شيء كما قد صرح بذلك ابن عربي صاحب الفتوحات المكية وفصوص الحكم، وأمثاله من أئمة هؤلاء الجهمية القائلين بوحدة الوجود

ص: 156

الذين هم محققو أهل الحلول والاتحاد، ولهذا كان هؤلاء لهم الظهور والاستطالة على نفاة الحلول والمباينة جميعاً، بل هؤلاء يخضعون لأولئك ويعتقدون فيهم ولاية الله، وينصرونهم على أهل الإيمان القائلين بمباينة الخالق للمخلوق، كما قد رأيناه وجربناه.

وسبب ذلك أن قول هؤلاء الحلولية والاتحادية مسقف بالتأله والتعبد، والتصوف والأخلاق، ودعوى المكاشفات والمخاطبات، ونحو ذلك مما لا يكاد يفهمه أكثر النفاة، فإذا كانوا لا يفهمون حقيقة قولهم سلموا إليهم ما يقولونه، وظنوا أن هذا من جنس كلام أكابر أولياء الله، الذين أطلعهم الله من الحقائق على ما يقصر عنه عقول أكثر الخلائق، وسلموا لهم ما لا يفهمونه من أقوالهم، كما يسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم ما لا يفهمونه من أقواله، فيعظمون هؤلاء كما يعظمون الرسول، بمثابة من صدق محمداً رسول الله ومسيلمة الكذاب: صدق كلا منهما في أنه رسول، كحال أهل الردة الذين آمنوا بمسيلمة المتنبي، مع دعواهم أنهم مؤمنون بمحمد رسول الله، ولا يعرفون ما بين قول هذا وقول هذا من المناقضة والمنافاة، لعدم تحققهم في الإيمان بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فهكذا نفاة العلو والصفات من الجهمية، أو نفاة العلو وحده، إذا سمعوا النصوص الإلهية المثبتة للعلو والصفات، أعرضوا عن فهم

ص: 157

معناها، وإثبات موجبها ومقتضاها، وآمنوا بألفاظ لا يعرفون مغزاها، وآمنوا للرسول إيماناً مجملاً بأنه لا يقول إلا حقاً، ولم يكن في قلوبهم من العلم بمباينة الله لخلقه وعلوه عليهم ما ينفون به بدعة الحلولية والاتحادية وأمثالهم، لأن أحد المتقابلين إنما يرتفع عن القلب بإثبات مقابله، وأحد النقيضين لا يزول عن القلب زوالاً مستقراً إلا بإثبات نقيضه.

فإذا كان حقيقة الأمر أن الرب تعالى، إما مباين للعالم، وإما مداخل له، كان من لم يثبت المباينة لم يكن عنده ما ينافي المداخلة، بل إما أن يقر بالمداخلة، وإما أن يبقى خالياً من اعتقاد المتقابلين المتناقضين، ولا يمكنه مع عدم اعتقاد نقيض قول أن يعتقد فساده، ولا ينكره ولا يرده، بل يبقى بمنزلة من سمع أن محمداً قال: إنه رسول الله، وأن مسيلمة قال: إنه رسول الله، وهو لم يصدق واحداً منهما، ولم يكذب واحداً منهما، فمثل هذا يمتنع أن يرد على مسيلمة أو يكذبه.

فهكذا من كان لم يقر بأن الخالق تعالى مباين للمخلوق، لم يمكنه أن يناقض قول من يقول بالحلول والاتحاد، بل غايته أن لا يوافقه كما لم يوافق قول أهل الإثبات، فهو لم يؤمن بما قاله محمد رسول الله والمؤمنون به، ولا بما قاله مخالفوه الدجالون الكذابون، من أهل الحلول والاتحاد وغيرهم من نفاة العلو.

ص: 158

وقول النفاة للمباينة والمداخلة جميعاً، لما كان في حقيقة الأمر نفياً للمتقابلين المتناقضين، بمنزلة قول القرامطة الذين يقولون: لا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز - كان قولهم في العقل أفسد من قول من لا يؤمن بمحمد ولا بمسيلمة، فإن كلاهما مبطل، لكن بطلان سلب النقيضين وما هو في معنى النقيضين، أبين في العقل من الإقرار بنبوة رسول من رسل الله صلى الله عليهم أجمعين، فلهذا لا تكاد تجد أحداً من نفاة المباينة والمداخلة جميعاً، أو من الواقفة في المباينة، يمكنه مناقضة الحلولية والاتحادية مناقضة يبطل بها قولهم، بل أي حجة احتج بها عليهم عارضوه بمثلها، وكانت حجتهم أقوى من حجته.

فإذا قال لهم: لا يعقل الحلول إلا حلول العرض، فيكون الحال مفتقراً إلى المحل، أو قال ما هو أبلغ من هذا مما احتج به الأئمة عليهم: لو كان حالاً لم يخل من المباينة والمماسة، فإن القائم بنفسه إذ حل في القائم بنفسه لم يخل من هذا وهذا - قالوا للنفاة: هذا إنما يكون إذا كان الحال متخيراً أو قائماً بمتحيز، أو قالوا: هذا هو المعقول من حلول الأجسام وأعراضها، فأما إذا قدرنا موجوداً قائماً بنفسه ليس بجسم ولا متحيز، لم يمتنع أن يكون حالاً بلا افتقار إلى المحل، ولا مماسة ولا مباينة.

ص: 159

فإن قال إخوانهم من النفاة للعلو والمباينة: هذا لا يعقل.

قالوا لهم: إذا عرضنا على العقل وجود موجود قائم بنفسه، ولا مباين للعالم ولا محايث له ولا داخل فيه ولا خارج عنه، وعرضنا على العقل وجود موجود في العالم: قائم بنفسه، لا مماس له ولا مباين له، وليس بجسم ولا متحيز، أو وجود موجود مباين له، وليس بجسم ولا متحيز - كان هذا أقرب إلى العقل.

وذلك أن وجود موجود لا يشار إليه، ولا يكون محيزاً: لا جسماً ولا جوهراً: إما أن يكون ممكناً، وإما أن لا يكون، فإن لم يكن ممكناً بطل قول من يثبت موجوداً، لا داخل العالم ولا خارجه، ولا يشار إليه، وكان حينئذ قول من أثبت موجوداً خارج العالم أو داخله، وقال: إنه لا يشار إليه - أقل فساداً في العقل من هذا، وإن كان وجود موجود لا يشار إليه، وولا يكون جسماً ولا متحيزاً، ممكناً في العقل، فمن المعلوم إذا قيل مع ذلك: إنه خارج العالم، لم يجب أن يشار إليه، ولا يكون جسماً منقسماً ولا مطابقاً موازياً محاذياً للعرش، لا أكبر ولا أصغر ولا مساوياً.

وإن قيل مع ذلك: إنه حال في العالم، لم يجز أن يقال: إنه مماس أو مباين، لأن المماسة والمباينة عندهم من عوارض الجسم المشار إليه، فما

ص: 160

لا يكون جسماً لا يشار إليه لا يوصف لا بهذا ولا بهذا، وإذا كان قائماً بنفسه لا يشار إليه امتنع أن يقال: هو عرض أو كالعرض المفتقر إلى المحل، بل إثبات ما لا يشار إليه، وهو داخل العالم أو خارجه أقرب إلى ما تثبته العقول من إثبات ما لا يشار إليه، ولا هو داخل العالم ولا خارجه.

ومما يقرر هذه الحجج: أن هؤلاء النفاة لما أرادوا بيان إمكان وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه، وأن نفي ذلك ليس معلوماً بضرورة العقل - احتجوا على ذلك بإثبات الكليات، واحتجوا بأن الفلاسفة وطائفة من متكلمي المسلمين من المعتزلة والشيعة والأشعرية أثبتوا النفس، وقالوا: إنها لا داخل البدن ولا خارجه، ولا توصف بحركة ولا سكون، ولا مباينة لغيرها، ولا حلول فيه.

قالوا: وقول هؤلاء ليس معلوم الفساد بالضرورة، والمثبتون لما طلبوا بيان فساد قولهم، بينوا أن الكليات وجودها في الأذهان لا في الأعيان، وأن قول هؤلاء معلوم الفساد بالضرورة حتى عند جماهير المتكلمين من المعتزلة والأشعرية والكرامية وغيرهم.

والمقصود هنا أن يقال لهؤلاء: إذا جوزتم إثبات الكليات لا

ص: 161

داخل العالم ولا خارجه، مع أنها متعلقة بمعينات، بل جعلتموها جزءاً من المعينات، حيث قلتم: المطلق جزء من المعين، وجوزتم وجود نفوس مجردات عقلية، لا داخل العالم ولا خارجه، مع أنها متعلقة بأبدان بني آدم تعلق التدبير والتصريف، وجوزتم أيضاً وجود نفس فلكية كذلك على أحد قوليكم، فما المانع أن يكون واجب الوجود، مع تدبيره وتصريفه للعالم، متعلقاً به تعلق النفوس بالأبدان، وتعلق الكليات بالأعيان.

والنصارى لا يصلون إلى أن يقولوا: إن اللاهوت في الناسوت كالنفس في البدن، بل مباينة اللاهوت للناسوت عندهم أعظم من مباينة النفس للبدن، فإذا جوزتم ما يكون لا داخل العالم ولا خارجه، مع تعلقه بالأبدان أعظم من تعلق اللاهوت بالناسوت عند النصارى، أمكن أن يكون واجب الوجود متعلقاً بالأبدان، بل الموجودات كلها كذلك، وكان قول الجهمية الذين يقولون: إن اللاهوت في كل مكان أقرب إلى المعقول من قول من يقول: إن المجردات في الأبدان والأعيان.

ومما يزيد الأمر وضوحاً أن هؤلاء الفلاسفة المشائين، ومن وافقهم من المتكلمة والمتصوفة يثبتون خمس أنواع من الجواهر: واحد منها هو الجوهر الذي يمكن إحساسه، وهو الجسم في اصطلاحهم، وأربعة: هي جواهر عقلية لا يمكن الإحساس بها، وهي: العقل،

ص: 162