الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الناس عن عبادة الله وطاعته وطاعة رسله، وأشدهم فجوراً وتعدياً لحدود الله، وانتهاكاً لمحارمه، ومخالفة لكتابة ولرسوله، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع.
عود إلى مناقشة كلام ابن سينا عن الوهم
وحينئذ فنقول قوله: (إن القضايا الوهمية كاذبة) .
إن أراد به القضايا الكلية التي تناقض معقولاً، فتلك عندهم ليست من قضايا الوهم.
وإن أراد به ما يدركه الوهم من الأمور المعينة في المحسوسات، فتلك صادقة عنده لا كاذبة، وهي لا تعارض الكليات.
وقوله: (إن الوهم الإنساني يقضي بها قضاءً شديد القوة لأنه ليس يقبل ضدها ويقابلها) .
فيقال له: هذا يقتضي تمكنها من الفطرة، وثبوتها في النفس، وأن الفطرة لا تقبل نقيضها، وهذا يقتضي صحتها وثبوتها، لا ضعفها وفسادها.
وأما قوله: (لأن الوهم تابع للحس، فما لا يوافق المحسوس لا يقبله الوهم) .
فيقال له: إن أردت بالوهم التابع للحس ما سميته وهماً، وهو توهم معاني جزئية غير محسوسة في المحسوسات الجزئية، فلا ريب أن
الوهم تابع للحس، وهذا الوهم قد ذكرت أنه صحيح مطابق كالحس، فإن قدحت في هذا قدحت في الحس، وإن جعلت هذا معارضاً للعقل، كان بمنزلة جعل الحس معارضاً للعقل.
وإن أردت بالوهم ما يقضي قضاءً كلياً أن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه محال، ونحو ذلك من القضايا الكلية التي تزعم أنها معارضة للعقل، كان هذا الكلام باطلاً من وجهين:
أحدهما: أن هذه قضايا كلية مطلقة، والوهم قد ذكرت أن تصوراته جزئية، فلا يكون هذا من الوهميات.
الثاني: أن يقال: هذه القضايا الكلية كسائر القضايا الكلية التي مبادئها من الحس، كالقضاء بأن السواد والبياض يتضادان، والحركة والسكون يتناقضان، والجسم الواحد لا يكون في مكانين، وأمثال ذلك.
بل هذه بمنزلة الحكم بأن الموجود إما أن يكون قائماً بنفسه، وإما أن يكون قائماً بغيره، وإما أن يكون قديماً وإما أن يكون محدثاً، وإما أن يكون واجباً بنفسه، وإما أن يكون ممكناً بنفسه، وأمثال ذلك.
فالقدح في هذه القضايا الكلية كالقدح في تلك، فإن الجاز القدح في هذه لأن مبادئها الحس جاز القدح في تلك وإلا فلا، إذ الحس وما يتبعه - مما يسمونه توهماً وتخيلاً - لا يدرك إلا أموراً معينة جزئية، ثم يقضي الذهن قضاءً كلياً، فإن جاز أن تكون تلك القضايا الكلية باطلة بسبب كونها مبدئها من هذا الوهم، الذي هو في الأصل الصحيح
عندهم، جاز أن تكون القضايا الكلية باطلة إذا كان مبدئها من الحس عندهم.
فلو قال قائل يمكن في الموجود غير المحسوس أن يكون لا وجباً ولا ممكناً، ولا قديماً ولا محدثاً، ولا قائماً بنفسه ولا قائماً بغيره - كان بمنزلة قول القائل: يمكن فيه أن يكون لا مبايناً لغيره ولا محايثاً له، ولا مداخلاً له ولا خارجاً عنه.
وإن جاز أن يقال لهذا: هذه قضايا وهمية، والوهم تابع للحس، جاز أن يقال للأول: وهذه قضايا وهمية، أو يقال: قضايا حسية وحكم الحس والوهم لا يقبل إلا في الحسيات، فلا يحكم في الوجود المطلق وتوابعه، لأن ذلك معقول غير محسوس، فما به ترد تلك القضايا الكلية يمكن أن يقال في أمثالها من القضايا الكلية المتناولة لجميع الموجودات والمعلومات.
وأما قوله في بيان أنها كاذبة: (من المعلوم أن المحسوسات إذا كان لها مبادئ وأصول، كانت تلك قبل المحسوسات ولم تكن محسوسة، ولم يكن وجودها على نحو وجود المحسوسات، فلم يمكن أن يتمثل ذلك الوجود في الوهم) .
فيقال له: هذا كلام على تقدير أن يكون للمحسوسات مباد لا يمكن تعلق الحس بها، وهذا هو رأس المسألة وأول النزاع فإذا جعلت هذا حجة في إثبات مطلوبك فقد صادرت على المطلوب.
ثم يقال لك: الوهم إنما يتصور عندك في الأمور الجزئية، وهذه القضايا كلية لا جزئية.
ويقال لك أيضاً: هذا بعينه يرد عليك في تقسيم الوجود إلى: قائم بنفسه وبغيره، وقديم ومحدث، وجوهر وعرض، وعلة ومعلول، ونحو ذلك فإن ما ذكرته من هذه القضايا يتناول هذه.
ويقال لك ما تعني بقولك: (إن المحسوسات إذا كان لها مباد وأصول كانت قبل المحسوسات) .
أتعني به أن ما أحسسناه له مباد وأصول لم نحسها؟ أم تعني به أن ما يمكن أن يحس به يجب أن يكون له مبدأ لا يمكن الإحساس به؟ .
فإن عنيت الأول فهو مسلم، لكن لا يلزم من عدم إحساسنا بها أن لا يكون الإحساس بها ممكناً، ولا يقول عاقل: إن كل ما لم نشهده الآن لا يمكن أن نشهده بعد الموت، أو في وقت آخر، فإنه ما من عاقل إلا ويجوز أن يكون فوق الأفلاك ما لا نشهده الآن، بل يجوز أن تكون هناك أفلاك ونجوم لا ندركها فضلاً عن غيرها.
وإن قال: إنه لا بد أن يكون لكل ما يمكن أن يحس به مبدأ لا
يمكن أن نحس به، فهذا ممنوع، وهو رأس المسألة ولم يذكر عليه دليلاً.
وهو في إشاراته لم يذكر على ذلك من الأدلة إلا ما ذكره الرازي وأمثاله، فإنه قال:(في الوجود وعلله: إنه قد يغلب على أوهام الناس أن الموجود هو المحسوس، وأن ما لا يناله الحس بجوهره، ففرض وجوده محال، وأن ما لا يتخصص بمكان أو يوضع بذاته كالجسم، أو بسبب ما هو فيه كأحوال الجسم، فلا حظ له ولا وجود) .
قال: (وأنت يتأتى لك أن تتأمل نفس المحسوس، فتعلم منه بطلان قول هؤلاء، فإنك، ومن يستحق أن يخاطب، تعلمان أن هذه المحسوسات قد يقع عليها اسم واحد، لا على الاشتراك الصرف، بل بحسب معنى واحد، مثل اسم الإنسان، فإنكما لا تشكان في أن وقوعه على زيد وعمرو بمعنى واحد موجود، فذلك المعنى الموجود لا يخلو: إما أن يكون بحيث يناله الحس، أو لا يكون.
فإن كان بعيداً من أن يناله الحس فقد أخرج التفتش من المحسوسات ما ليس بمحسوس، وهذا
أعجب.
وإن كان محسوساً فله لا محالة: وضع، وأين، ومقدار معين، وكيف معين، لا يتأتى أن يحس، بل ولا أن يتخيل إلا كذلك، فإن كل محسوس وكل متخيل فإنه يتخصص لا محالة بشيء من هذه الأحوال، وإذا كان كذلك لم يكن ملائماً لما ليس بتلك الحال، فلم يكن مقولاً على كثيرين يختلفون في تلك الحال.
فإذن الإنسان من حيث هو واحد بالحقيقة، بل من حيث الحقيقة الأصلية التي لا تختلف فيها الكثرة غير المحسوس، بل معقول صرف، وكذلك الحال في كل الكلي) .
فهذا لفظه، وأتباعه مشوا خلفه فأثبتوا ما ليس بمحسوس بإثبات الكليات المعقولة، وقد عرف بالاضطرار أن الكليات لا تكون كلية إلا في العقل لا في الخارج، بل ليس في الخارج كلي البتة، والذي يقال إنه كلي طبيعي لا يوجد إلا معيناً جزئياً، فما كان كلياً في العقل يوجد في الخارج معيناً لا كلياً، كما قد بسط في موضعه.
فهذا الكلام وأمثاله هو الذي يثبت به أن للموجود مبادئ لا يمكن أن يحس بها.
وأما قوله: (إذا كانت للمحسوسات مبادئ كانت غير محسوسة) ، فتلبيس لأن لفظ (المحسوس) يراد به ما هو محسوس لنا
بالفعل وما يمكن إحساسه، ولا ريب أن المحسوسات بالفعل لها مبادئ غير محسوسة.
لكن لم قلت: إن كل ما يمكن إحساسه له مبدأ لا يمكن إحساسه، هذه حكاية المذهب.
وأما قوله: (ولهذا كان الوهم مساعداً للعقل في الأصول التي تنتج وجود تلك المبادئ، فإذا تعديا معاً إلى النتيجة نكص الوهم وامتنع عن قبول ما سلم موجبه) ، فهذا ممنوع.
وقد عرف أن أدلته على إثبات ذلك من جنس هذه الأدلة التي أثبت بها الموجودات العقلية الثابتة في الخارج بإثبات كليات، وهو مثل إثباته لما كان خارج الذهن.
ثم يقال له: الوهم المساعد للعقل: إن أردت به ما سميته وهماً، وهو ما يتصور في المحسوسات الجزئية معاني غير محسوسة، كالصداقة والعداوة، فليس في هذه التصورات مقدمة تساعد على إثبات موجود لا يمكن الإحساس به، بل تلك المقدمات مثل إثبات الكليات وأمثالها ليس فيها مقدمة يتصورها هذا الوهم.
وإن أردت بالوهم المساعد ما يقضي قضايا كلية، مثل قضاء الذهن بأن بين هذا الإنسان وهذا الإنسان إنسانية مشتركة، ونحو ذلك فهذه قضايا عقلية لا وهمية.
وأيضاً فالقاضي بإثبات إنسانية مطلقة هو القاضي بأن كل
موجودين لا بد أن يكون أحدهما مبايناً للآخر أو محايثاً له، كما أنه هو القاضي بأن كل موجودين لا بد أن يقارن وجود أحدهما الآخر أو يتقدم عليه، وأن كل موجود فلا بد أن يكون قائماً بنفسه أو بغيره.
فهذه القضايا الكلية إن سميتها وهمية كانت العقليات هي الوهميات، وإن سميتها عقليات وقدرت تناقضها لزم تناقض العقليات.
واعلم أن هؤلاء قد يجيبون بجواب يمكن أن يجاب به كل من قدح في العقليات الكلية.
وقولك: (فإذا تعديا معاً إلى النتيجة نكص الوهم) .
يقال لك: ما الوهم الناكص: أهو الذي سميته وهماً؟ فذاك إنما يتصور معاني جزئية، فليس له في الكليات حكم: لا بقبول ولا رد فلا يقال فيه: لا يقبل ولا ينكص، كما لا يقال في القضايا الكلية: إن الحس يقبلها ولا يردها، كما لا يقال: إن البصر يميز بين الأصوات، والسمع يميز بين الألوان.
وإن قلت: إن العقل يثبت موجوداً معيناً لا يمكن الإشارة إليه، والوهم لا يتصور معيناً لا يشار إليه.
فيقال لك: العقل إنما يثبت أموراً كلية مطلقة، لا يثبت شيئاً معيناً إلا بواسطة غيره، كالحس وتوابع الحس، ولهذا كان القياس العقلي المنطقي لا ينتج إن لم يكن فيه قضية كلية، وإذا أردنا أن ندخل شيئاً من المعينات تحت القضايا الكلية، فلا بد من تصور للمعينات غير التصور للقضايا الكلية.
فإذا علمنا أن كل شيء: فإما قائم بنفسه أو بغيره، وان كل موجود: فإما واجب بنفسه وإما ممكن بنفسه، وأن كل موجود: فإما قديم وإما محدث، وأن كل موجود أو كل ممكن فهو: إما جوهر وإما عرض، وأردنا أن نحكم على معين بأنه قديم أو محدث، أو جوهر أو عرض، أو واجب أو ممكن، أو نحو ذلك، فلا بد من أن نعينه بغير ما به علمنا تلك القضية الكلية، فتصور المعين الداخل في القضية الكلية شيء وتصور القضية الكلية شيء آخر.
فليتدبر الفاضل هذا، ليتبين له أن من لم يثبت موجوداً يمكن الإحساس به لم يثبت إلا قضايا كلية في الأذهان، كما يثبتون العدد المطلق، والمقدار المطلق، والحقائق المطلقة، والوجود المطلق، وكل هذه أمور ثابتة في الأذهان، لا موجودة في الأعيان.
ولهذا من أثبت أن في الوجود موجوداً واجباً قديماً، وقال: إنه يمتنع الإشارة إليه، امتنع أن يكون عنده معيناً مختصاً، ولزم أن يكون مطلقاً مجرداً في الذهن، فلا حقيقة له في الخارج.
وهذا مذهب أئمة الجهمية، فإنهم يثبتون موجوداً مطلقاً يمتنع وجوده في الخارج، فابن سينا وأتباعه يقولون: هو وجود مطلق بشرط نفي جميع الأمور الثبوتية، وهو أبلغ الأقوال في كونه معدوماً، وآخرون يقولون: هو مطلق بشرط نفي الأمور الثبوتية والسلبية، لا بشرط شيء من الأمور الثبوتية والسلبية كما يقول هذا وهذا طائفة من ملحدة الباطنية ومن وافقهم من الصوفية.
ومن المعلوم أن الوجود المشروط فيه نفي هذا وهذا ممتنع، فكيف بالمشروط فيه النفي؟ فإن ما اشترط فيه العدم كان أولى بالعدم مما لم يشترط فيه وجود ولا عدم، ومما اشترط فيه نفي الوجود والعدم جميعاً؟ وهذا هو المطلق بشرط الإطلاق.
وهم يقرون في منطقهم ما هو متفق عليه بين العقلاء من أن المطلق بشر الإطلاق لا وجود له في الخارج، ويقررون أن الفصول المميزة بين موجودين لا بد أن تكون أموراً وجودية لا تكون عدمية، وهم لا يميزون الوجود الواجب عن الوجود الممكن إلا بأمور عدمية، ومن ظن أن مذهب ابن سينا إثبات وجود خاص بمنزلة الوجود المشروط
بسلب جميع الحقائق، فجعل فيه وجوداً مشتركاً ووجوداً مختصاً، لم يفهم مذهبه، كما فعل ذلك الطوسي منتصراً له فلم يفهم مذهبه.
والقونوي وأمثاله يقولون: هو المطلق لا بشرط، وهذا إما أن يكون ممتنعاً في الخارج، وإما أن يكون جزءاً من الممكنات، فيكون الواجب جزءاً من الممكنات.
وقد بسط بيان تناقض أقوالهم في غير هذا الموضع، واعتبر ما ذكرناه من أن كل ما يثبتونه بالبرهان القياسي فإنه قضايا كلية مطلقة، بأنهم إذا أرادوا أن يعينوا شيئاً موجوداً في الخارج داخلاً في تلك القضية الكلية، عينوه إما بالحس الباطن أو الظاهر، إذ العقل يدرك الكليات والحس هو الذي يدرك الجزئيات، فإذا أثبتوا أن الحركة الإرادية مسبوقة بالتصور، وأرادوا تعيين ذلك، عينوا: إما نفس الإنسان فيشيرون إليها، وإما النفس الفلكية فيشيرون إلى الفلك.
وإن أثبتوا وجود موجود معين في الخارج يدخل تحت هذه القضية من غير إشارة إليه تعذر ذلك عليهم.
وكذلك إذا ثبت بالعقل أن الكل أعظم من الجزء، وأن الأمر المساوية لشيء واحد متساوية، وأن الشيء الواحد لا يكون موجوداً معدوماً ونحو ذلك، فمنى أراد الإنسان إدخال معين في هذه القضية
الكلية أشار إليه.
والقضايا الكلية تارة يكون لجزيئاتها وجود في الخارج، وتارة تكون مقدورة في الأذهان، لا وجود لها في الأعيان، وهذا كثيراً ما يقع فيها الغلط والالتباس.
وليس المقصود الأول بالعلم إلا علم ما هو ثابت في الخارج، وأما المقدورات الذهنية فتلك بحسب ما يخطر للنفوس من التصورات، سواء كانت حقاً أو باطلاً، وما يثبته هؤلاء النفاة من إثبات موجود لا يمكن الإشارة إليه، ولا هو داخل العالم ولا خارجه عند التأمل والتدبر نبين أنه من المقدرات الذهنية، لا من الموجودات العينية.
وغير أن ابن سينا وأتباعه م المنطقيين، مثل أبي البركات صاحب المعتبر وغيره، لم يخرجوا هذه القضايا التي سماها ابن سينا (وهميات) من الأوليات البديهيات، كما أخرجها ابن سينا، وما أظن صاحب المنطق أرسطو أخرجها أيضاً.
وأما قوله: (وهذا الضرب من القضايا أقوى في النفس من
المشهورات التي ليست بأولية، وتكاد تشاكل الأوليات وتدخل في المشبهات بها) إلى آخره.
يقال له: هذا أيضاً مما يبين قوتها وصدقها، فإنهم اعترفوا بأنها أقوى من المشهورات التي ليست بأولية، وهذه المشهورات عند أكثر العقلاء من العقليات الضروريات، فإذا كانت هذه أقوى منها لزم أن تكون أقوى من بعض العقليات الضروريات، وذلك يوجب صدقها.
وذلك أنه قال: (فأما المشهورات فمنها هذه الأوليات ونحوها مما يجب قبوله، لا من حيث هي واجب قبولها، بل من حيث عموم الاعتراف بها، ومنها الآراء المسماة بالمحمودة، وربما خصصناها باسم المشهورة، إذ لا عمدة لها إلا الشهرة، وهي أن لو خلي الإنسان وعقله المجرد، ووهمه وحسه، لم يؤدب بقبوله قضايا ما والاعتراف بها، ولم يمكنه الاستقراء بظنه القوي إلى حكم لكثرة الجزئيات، ولم يستدع إليها ما في طبعه الإنساني من الرحمة والخجل، والأنفة والحمية، وغير ذلك- لم يقض بها الإنسان طاعة لعقله أو وهمه
وحسه، مثل حكمنا أن سلب مال الإنسان للإنسان قبيح، وأن الكذب قبيح، ومن هذا الجنس ما يسبق إلى وهم كثير من الناس، وليس شيء من هذا يوجبه العقل الساذج، ولو توهم الإنسان نفسه، وأنه خلق دفعة، تام العقل، ولم يسمع أدباً، ولم يطع أنفعالاً نفسياً أو خلقاً، لم يقض في أمثال هذه القضايا بشيء بل أمكنه أن يجهله ويتوقف فيه، ولي كذلك حال قضائه، لأن الكل أعظم من الجزء.
وهذه المشهورات قد تكون صادقة، وقد تكون كاذبة، وإن كانت صادقة فليست تنسب إلى الأوليات ونحوها، إذا لم يكن بينة الصدق عند العقل الأول إلا بنظر، وإن كانت محمودة عنده، والصادق غير المحمود، وكذلك الكاذب غير الشنيع، ورب شنيع حق، ورب محمود كاذب.
والمشهورات: إما من الواجبات، وإما من التأديبات الصلاحية، وما تتطابق عليها الشرائع الإلهية، وإما خلقيات وانفعالات، وإما استقرائيات، وهي: إما بحسب الإطلاق، وإما بحسب صناعة.
قلت: ليس هذا موضع بسط القول.....
قال ابن سينا: (وأما القضايا الوهمية فهي قضايا كاذبة، إلا أن الوهم الإنساني يقضي بها قضاء شديد القوة، لأنه ليس يقبل ضدها ومقابلها، بسبب أن الوهم تابع للحس، فما لا يوافق الحس لا يقبله الوهم، ومن المعلوم أن المحسوسات إذا كان لها مبادئ وأصول كانت تلك قبل المحسوسات، ولم تكن محسوسة، ولم يكن
وجودها على نحو وجود المحسوسات، فلم يمكن أن يتمثل ذلك الوجود في الوهم، ولهذا كان الوهم مساعداً للعقل في الأصول التي تنتج وجود تلك المبادئ، فإذا تعديا معاً إلى النتيجة نكص الوهم، وامتنع عن قبول ما سلم موجبه.
وهذا الضرب من القضايا أقوى في النفس من المشهورات التي ليست بأولية، وتكاد تشاكل الأوليات، وتدخل في المشبهات بها، وهي أحكام للنفس في أمور متقدمة على المحسوسات، أو أعم منها، على نحو ما يجب أن لا يكون لها، وعلى نحو ما يجب أن يكون أو يظن.
في المحسوسات، مثل اعتقاد المعتقد أنه لا بد من خلاء ينتهي إليه الملاء إذا تناهى، وانه لا بد في كل موجود من أن يكون مشاراً إلى جهة وجوده) .
فيقال له: هذا الكلام إنما يصح أن لو ثبت وجود أمور لا يمكن الإحساس بها، حتى يكون حكم هذه في ما هو مقدم على تلك، أو ما هو أعم منها، وثبوت وجود هذه الأمور إنما يصح إذا ثبت إمكان ذلك، وإمكان ذلك إنما يصح إذا ثبت بطلان هذه القضايا التي يسميها الوهميات، فلو أبطلت هذه الوهميات بإثبات ذلك لزم الدور، فإن هذه القضايا تحكم بامتناع وجود ما لا يمكن الإشارة إليه، والمقدمات
التي تثبت ذلك ليست مسلمة عندها، بل لا يمكن عندها تسليم ما يستلزم نقيض ذلك، فإنه قدح في الضروريات بالنظريات.
وأيضاً فالوهم عندهم إنما يتصور معاني جزئية، وهذه القضايا كلية، فامتنع أن يكون وهمية.
وأيضاً فما يثبت به وجود هذه الموجودات قضايا سوفسطائية، كما بين في موضعه.
وأما قوله: (وهذه الوهميات، لولا مخالفة السنن الشرعية لها، لكانت تكون مشهورة وإنما تثلم في شهرتها الديانات الحقيقية والعلوم الحكمية) .
فيقال له: هذا من أصدق الدليل على صحتها، وذلك أن هذه مشهورة عند جميع الأمم الذين لم تغير فطرتهم، وعند جميع الأمم المتبعين لسنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، من المسلمين واليهود والنصارى، وإنما يقدح فيها المبتدعة من أهل الديانات، كالمعتزلة ونحوهم.
وابن سينا لما كان من أتباع القرامطة الباطنية، وهو يعاشر أهل الديانات المبتدعين من الرافضة والمعتزلة، أو من فيه شعبة من ذلك،
وهؤلاء يقولون: إن الله ليس فوق العرش، لم تكن هذه مشهورة عند هؤلاء.
ومن المعلوم باتفاق هؤلاء وغيرهم، أن الأنبياء لم يقدحوا في هذه القضايا، ولا أخبروا بما يناقضها، بل أخبار الأنبياء كلها توافق هذه القضايا.
والقرآن والتوراة والإنجيل فيها من الموافق لهذه القضايا ما لا يحصيه إلا الله.
وكذلك في الأخبار النبوية والآثار السلفية، بل لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم قول يناقض إثبات هذه القضايا.
وابن سينا وأمثاله مقرون بان الكتب الإلهية إنما جاءت بما يوافق مذهب المثبتة للصفات والعلو، بما لا يناقض ذلك، وهم يسمون ذلك تشبيهاً، ويقولون: الكتب الإلهية إنما جاءت بالتشبيه، ويجعلون هذا مما احتجوا به، كما قد حكينا كلامه في ذلك، وأنه احتج بذلك على هؤلاء الذين وافقوه على نفي الصفات والعلو.
وقال: إذا كان هذا التوحيد حق، والأنبياء لم تخبر به بل بنقيضه، فكذلك في أمر المعاد، فكيف يزعم من هذا أن السنن الشرعية والديانات الحقيقة منعت هذه أن تكون مشهورة.
فعلم أن المانع لشهرتها هو قول لم يوجد عن الأنبياء وأتباع الأنبياء، وأن شهرتها إنما امتنعت بين هؤلاء الذين ابتدعوا قولاً ليس مشروطاً،
وحينئذ فيكون المانع من شهرتها عند من لم تشتهر عنده سنة بدعية لا شرعية، وديانة وضعها بعض الناس، ليست منقولة عن نبي من الأنبياء.
ولا ريب أن المشركين والمبدلين من أهل الكتاب لهم شرائع وديانات ابتدعوها ووضعوها، وتلك لا يجب قبولها عند العقلاء، وإنما يجب أن يتبع ما يثبت نقله عن الأنبياء المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم.
وكذلك قوله إنه: (يثلم في شهرتها العلوم الحكمية) .
فيقال له: قد نقل غيرك من الفلاسفة القدماء أنهم كانوا يقولون بموجب هذه القضايا، كما بين ذلك ابن رشد الحفيد وغيره، بل المنقول عن متقدمي الفلاسفة وأساطينهم بل أرسطو، وعن كثير من متأخريهم، القول بما هو أبلغ من هذه القضايا، من قيام الحوادث بالواجب، وما يتبع ذلك، كما تقدم نقل بعض ذلك عنهم.
وقوله: (ولا يكاد المدفوع عن ذلك يقاوم نفسه في دفع ذلك، لشدة استيلاء الوهم) .
فيقال له: هذا يدل على تمكنها في الفطرة، وثبوتها في الجبلة.
وأنها مغروزة في النفوس، فمن دفع ذلك عن نفسه لم يقاوم نفسه، ولم يمكنه دفعها عن نفسه.
وهذا حد العلم الضروري، وهو الذي يلزم نفس العبد لزوماً لا يمكنه معه دفعه عن نفسه، فإذا لم يمكن الإنسان أن يدفع هذه القضايا عن نفسه، ولا يقاوم نفسه في دفعها، تبين أنها ضرورية، وأن هؤلاء الدافعين لها يريدون تغيير فطرة الله التي فطر الناس عليها، وتغيير خلقه، كأمثالهم من الجاحدين المكذبين بالحق، الذين يكذبون بالحق المعلوم بالبهتان والسفسطة، وأن قدحهم في هذا كقدح أمثالهم من السوفسطائية في أمثال هذه.
وأما قوله: (لشدة استيلاء الوهم) .
فقد قلنا غير مرة: إن الوهم قد فسروه بالقوة التي تتصور معاني جزئية في محسوسات جزئية، وهذا الوهم إنما تصرفه في الجزئيات من المعاني، وأما هذه القضايا فهي قضايا كلية، فهي من حكم العقل الصريح، فالمخالف لها مخالف لصريح العقل، وهو المتبع لقضايا الوهم الفاسد، فإنه يثبت موجوداً مطلقاً بشرط الإطلاق، أو موجوداً لا داخل العالم ولا خارجه، وهذا الموجود لا يثبته في الخارج إلا الوهم والخيال الفاسد، لا يثبته لا عقل صريح ولا نقل صحيح، بل ولا وهم مطابق، ولا خيال مستقيم، كما لا يثبته حس سليم، فنفاة ذلك ينفون موجب العقل والشرع والحس السليم، والوهم المستقيم، والخيال القويم، ويثبتون ما لا يدرك إلا بوهم فاسد، وخيال فاسد.
وقوله: (على أن ما يدفعه الوهم ولا يقبله إذا كان في المحسوسات فهو مدفوع منكر) .
فيقال له: هذا أيضاً حجة عليكم، فإن المنازع يقول: أنه لم يقم دليل شرعي ولا عقلي على إثبات موجود لا يمكن أن يعرف بالحس بوجه من الوجوه، وإن كان لا يمكن أن يعرف كثير من الناس بحسه، ولا يمكن أن يعر ف بالحس في كثير من الأحوال.
وقد عرف من مذهب السلف وأهل السنة والجماعة أن الله يمكن أن يرى في الآخرة، وكذلك الملائكة والجن يمكن أن ترى، وما يقوم بالمرئيات من الصفات يمكن أن يعرف بطريقها، كما تعرف المسموعات بالسمع، والملموسات باللمس، ويقول: إن الرسل صلوات الله عليهم قسموا الموجودات إلى غيب وشهادة، وأمروا الإنسان بالإيمان بما أخبروا به من الغيب.
وكون الشيء شاهداً وغائباً أمر يعود إلى كونه الآن مشهوداً أو ليس الآن بمشهود، فما لم يكن الآن مشهوداً يمكن أن يشهد بعد ذلك، بخلاف هؤلاء النفاة، فإنهم قسموا الموجودات في الخارج إلى محسوس، وإلى معقول لا يمكن الإحساس به بحال.
وهذا مما ينفيه صريح العقل لا مما يثبته، وإنما المعقول الصرف ما كان ثابتاً في العقل كالعلوم الكلية، وليس للكليات وجود في الخارج، مع انه قد يقال: إنه يمكن الإحساس بها أيضاً، إذا أمكن الإحساس
بمحلها، كما يمكن الإحساس بأمثالها من الأعراض، كالعلم والقدرة والإرادة وغير ذلك.
لكن نحن لا نحس الآن بهذه الأمور بالحس الظاهر، وعدم إحساسنا الآن بذلك، لا يمنع أن الملائكة يمكنها الإحساس بذلك، وأنه يمكننا الإحساس بذلك في حال أخرى، وأنه يمكن كل واحد أن يحس بما في باطن غيره، كما يمكنه الإحساس الآن بوجهه وعينه، وإن كان الإنسان لا يرى وجهه وعينه، فقد يشهد الإنسان من غيره ما لا يشهده من نفسه، وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع.
وأيضاً فالحس نوعان: حس ظاهر يحسه الإنسان بمشاعره الظاهرة فيراه ويسمعه ويباشره بجلده، وحسن باطن كما أن الإنسان يحس بما في باطنه من اللذة والألم، والحب والبغض، والفرح والحزن، والقوة والضعف وغير ذلك.
والروح تحس بأشياء لا يحس بها البدن، كما يحس من يحصل له نوع تجريد، بالنوم وغيره، بأمور لا يحس بها غيره.
ثم الروح بعد الموت تكون أقوى تجرداً، فترى بعد الموت وتحس بأمور لا تراها الآن ولا تحس بها.
وفي الأنفس من يحصل له ما يوجب أن يرى بعينه ويسمع بأذنه ما لا يراه الحاضرون ولا يسمعونه، كما يرى الأنبياء الملائكة ويسمعون
كلامهم، وكما يرى كثير من الناس الجن ويسمعون كلامهم.
وأما من يقول بعض الفلاسفة: إن هذه المرئيات والمسموعات إنما هي في نفس الرائي لا في الخارج، فهذا مما قد علم بطلانه بأدلة كثيرة، وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع.
ومن كان له نوع خبرة بالجن: إما بمباشرته لهم في نفسه وفي الناس، أو بالأخبار المتواترة له عن الناس، علم من ذلك ما يوجب له اليقين التام بوجودهم في الخارج، دع ما تواتر من ذلك عن الأنبياء.
وكذلك ما تواتر عن الأنبياء من وصف الملائكة هو مما يوجب العلم اليقيني بوجودهم في الخارج، كقصة ضيف إبراهيم المكرمين، ومجيئهم إلى إبراهيم، وإتيانه لهم بالعجل السمين ليأكلوه، وبشارتهم لسارة بإسحاق ويعقوب ثم ذهابهم إلى لوط، ومخاطبتهم له، وإهلاك قرى قوم لوط، وقد قص الله هذه القصة في غير هذه الموضع.
وكذلك قصة مريم وإرسال الله إليها جبريل في صورة بشر حتى نفخ فيها الروح، وكذلك قصة إتيان جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم:«تارة في صورة أعرابي» .
«وتارات في صورة دحية الكلبي» .
فمن علم أن الروح قد تحس بما لا يحس به البدن، وأن من الناس من يحس بروحه وبدنه ما لا يحسه غيره من الناس، توسع له طرق الحس، ولم يرى الحس مقصوراً على ما يحبه جمهور الناس في الدنيا بهذا البدن، فإن هذا الحس غنما يدرك بعض الموجودات.
وحينئذ فإذا قيل: إن كل قائم بنفسه أو كل موجود يمكن الإحساس به، فإنه يراد بذلك ما هو أعم من هذا الحس، بحيث يدخل في ذلك هذا وهذا، وليس للنفاة دليل على إثبات ما ليس بمحسوس بهذا الحس، والعقليات التي يثبتونها إنما هي الكليات الثابتة في الذهن، وتلك في الحقيقة وجودها في الأذهان لا في الأعيان.
وهذا منتهى ما عند ابن سينا وأمثاله من الفلاسفة، ولهذا كان كمال الإنسان عندهم أن يصير عالماً معقولاً موازياً للعالم الموجود، ويجعلون النعيم والعذاب أمرين قائمين بالنفس، من جملة أعراضها لا ينفصل شيء من ذلك عنها، وقد بينا بعض ما في هذا القول من الضلال في غير هذا الموضع.
ولهذا جعل في منطقه العلوم اليقينية العقلية هي هذه العقليات، ونفى أن تكون المشهورات العملية من اليقينيات، ونفى أن يكون ما يثبت الموجودات الحسية الغائبة من اليقينيات، وسمى هذه وهميات، فبإنكاره هذا أنكر الموجودات الغائبة عن إحساس أكثر الناس في هذه الدنيا، فلم يصدق بالموجودات الغائبة، ولا بكثير مما يشاهد في هذا العالم من الملائكة والجن وغير ذلك، وبإنكاره المشهورات أن تكون يقينية أنكر موجب القوة العملية في النفس التي بها تستحسن ما ينفعها من الأعمال، وتستقبح ما يضرها، فأخرج الأعمال التي لا تكمل النفس إلا بها من أن تكون يقينية، كما أخرجها من أن تكون من الكمال، ولم يجعل كمال النفس إلا مجرد علم مجرد، لا حب معه لله تعالى في الحقيقة، وإنما الأعمال عندهم لأجل إعداد النفس لنيل ما يظنونه كمالاً من العلم.
وهذا العلم الذي يدعونه غالبه جهل، وما فيه من العلم فليس علماً
بموجودات معينة، وإنما هو علم أمور مطلقة في الذهن لا وجود لها في الخارج، فلم يحصل له من الكمالات العلمية والعملية ما يوجب سعادتهم في الآخرة، ولا نجاتهم من النار، وكان كثير من اليهود والنصارى أقرب إلى السعادة والنجاة منهم، كما قد بسط في موضعه.
والمقصود هنا أن الناس متفقون على أن حكم الذهن بأنه ما من موجود قائم بنفسه وإلا يمكن الإشارة إليه، وأنه يمتنع وجود موجودين ليس أحدهما مبايناً للآخر ولا محايثاً له، بل إن صانع العالم فوق العالم - ليس مما تواطأ عليه الناس وقبله بعضهم عن بعض، كقول النفاة: إنه يمكن وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه، بل ذلك مما أقر به الناس بفطرتهم، وعرفوا ببدائه عقولهم، وضروات قلوبهم.
والقادحون فيما يسلمون ذلك، ويدعون أن فطر الناس أخطأت في هذا الحكم، وأنه من حكم الوهم والخيال الباطل.
فإذا كانوا معترفين بأن هذا مما أقروا به بلا مواطأة، لم يمكن أن يقال: إنهم كذبوا على فطرتهم، لأن هؤلاء القائلين بذلك أضعاف أضعاف أضعاف أهل التواتر، بل هم جماهير بني آدم، فإذا قالوا: إن هذا أمر نجده في قلوبنا وفطرتنا، وجب تصديقهم في ذلك.
وحينئذ فلا يجوز إبطال هذه القضايا البديهية بقضايا نظرية،