المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كلام ابن رشد في مناهج الأدلة عن العلو والجهة - درء تعارض العقل والنقل - جـ ٦

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌الوجه الثالث والأربعون

- ‌كلام الرازي عن الجهة والمكان

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌المقام الأول

- ‌كلام ابن سينا في الإشارات عن الخيال والوهميات

- ‌الرد المفصل على كلام ابن سينا

- ‌كلام الرازي في شرح الإشارات

- ‌تعليق ابن تيمية عود لمناقشة ابن سينا

- ‌كلام آخر لابن سينا في الإشارات

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن سينا في إثبات القوة الوهمية وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام ابن سينا في الشفاء عن قوة الوهم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌عود إلى كلام ابن سينا في مقامات العارفين في الإشارات

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌فصل تابع كلام ابن سينا في الإشارات عن مقامات العارفين

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌فصل: تابع كلام ابن سينا في مقامات العارفين وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌عود إلى مناقشة كلام ابن سينا عن الوهم

- ‌الرد على قول الرازي: الوجه الأول

- ‌كلام عبد العزيز الكناني في مسألة الاستواء والعلو

- ‌كلام ابن كلاب في مسألة العلو

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌قول القائل: أنا لا أصفه بالوصفين المتقابلين لأن القابل لذلك لا يكون إلا جسماً

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌كلام الإمام أحمد في الرد على الجهمية والزنادقة في إثبات علو الله واستوائه

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام آخر للإمام أحمد عن المعية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الرازي في الرد على الحلولية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن عربي في فصوص الحكم عن علاقة الواجب بالممكن

- ‌كلام الأبهري وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌فصل

- ‌كلام ابن كلاب في كتاب الصفات عن العلو وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام الأشعري في الإنابة عن الاستواء وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام الباقلاني في التمهيد إثبات العلو والاستواء

- ‌كلام القاضي أبو يعلى في إبطال التأويل في إثبات العلو والاستواء

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن رشد في مناهج الأدلة عن العلو والجهة

- ‌كلام ابن رشد في مسألة رؤية الله تعالى

- ‌تعليق ابن تيمية على كلام ابن رشد في مناهج الأدلة

- ‌فصل مذهب السلف والأئمة في العلو والمباينة

- ‌كلام أبي نصر السجزي في كتاب الإبانة

- ‌كلام أبي عمر الطلمنكي في الوصول إلى معرفة الأصول

- ‌كلام نصر المقدسي في الحجة على تارك المحجة

- ‌كلام أبي نعيم الأصبهاني ي عقيدته

- ‌كلام أبي أحمد الكرخي في عقيدته

- ‌كلام ابن عبد البر في كتاب التمهيد

- ‌كلام معمر بن أحمد الأصبهاني في وصيته

- ‌كلام ابن أبي حاتم

- ‌كلام أبي محمد المقدسي

- ‌كلام أبي عبد الله القرطبي في شرح معنى الاستواء

- ‌كلام أبي بكر النقاش

- ‌كلام أبي بكر الخلال في كتاب السنة

- ‌كلام عبد الله بن أحمد في كتاب السنة

- ‌كلام أبي بكر البيهقي في الأسماء والصفات

- ‌كلام أبي حنيفة في كتاب الفقه الأكبر

- ‌كلام عبد الله بن المبارك الذي رواه عته البخاري

- ‌كلام ابن خزيمة

- ‌كلام ربيعة بن أبي عبد الرحمن

- ‌كلام مالك بن أنس

- ‌كلام آخر لبعض الأئمة

- ‌الوجه الثاني من وجوه الرد على الوجه الأول من كلام الرازي الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌فصل الوجه الثاني من كلام الرازي في الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌فصل الوجه الثالث من كلام الرازي في الأربعين

- ‌كلام ابن سينا في الإشارات

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الرد على الوجه الرابع من كلام الرازي من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الرد على الوجه الخامس من كلام الرازي من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الرد على الوجه السادس من كلام الرازي من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌فصل تابع كلام الرازي في الأربعين

- ‌الرد عليه

- ‌وجوه للرازي في الأربعين الوجه الأول

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌جواب الرازي في نهاية المعقول على حجة التركيب في مسألة الصفات

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الثاني من وجوه الرازي في الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه الثالث من وجوه الرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الرابع من وجوه الرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السابع

- ‌الوجه الثامن

- ‌الوجه الخامس من وجوه الرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السابع

- ‌الوجه الثامن

- ‌الوجه التاسع

- ‌الوجه العاشر

- ‌الوجه السادس من وجوه الرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌بقية كلام الرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد على كلام الرازي

- ‌كلام الرازي عن الجهة في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه

- ‌بقية كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة

الفصل: ‌كلام ابن رشد في مناهج الأدلة عن العلو والجهة

ومبشر بن فاتك، وأبي علي بن الهيثم، والسهروردي المقتول، وابن رشد، وأمثالهم، وإن كانوا في هذه الدعاوى ليسوا صادقين على الإطلاق، بل الأقيسة البرهانية في العلم الإلهي في كلام المتكلمين أكثر منهما في كلامهم وأشرف، وإن كان قد يوجد في كلام المتكلمين أقيسة جدلية وخطابية بل وسوفسطائية، فهذه الأنواع في العلم الإلهي هي في كلام الفلاسفة أكثر منها في كلام المتكلمين وأضعف، إذا قوبل ما تكلموا فيه من العلم الإلهي بما تكلم فيه المتكلمون، بل ويستعملون من هذا الضرب في الطبيعيات، بل وفي الرياضيات قطعة كبيرة.

‌كلام ابن رشد في مناهج الأدلة عن العلو والجهة

والمقصود هنا ذكر ما ذكره ابن رشد عنهم، وهذا لفظه في كتاب مناهج الأدلة في الرد على الأصوليين، قال: (والقول في الجهة.

وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة، في أول الأمر،

ص: 212

يثبتونها لله سبحانه، حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية، كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله.

وظواهر الشرع تقتضي إثبات الجهة مثل قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5]، ومثل قوله تعالى:{وسع كرسيه السماوات والأرض} [البقرة: 255]، ومثل قوله:{ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} [الحاقة: 17] ومثل قوله: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون} [السجدة: 5]، ومثل قوله:{تعرج الملائكة والروح إليه} [المعارج: 4]، ومثل قوله:{أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور} [الملك: 16] ، إلى غير ذلك من الآيات، التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولاً، وإن قيل فيها: إنها من المتشابهات، عاد الشرع كله متشابهاً لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء، وأن منها تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأن من في السماء نزلت الكتب، وإليها

ص: 213

كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم، حتى قرب من سدرة المنتهى) .

قال: (وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك.

والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها هو أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان، وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية) .

قال: (ونحن نقول: إن هذا كله غير لازم، فإن الجهة غير المكان.

وذلك أن الجهة هي: إما سطوح الجسم نفسه المحيطة به، وهي ستة، وبهذا نقول: إن للحيوان فوقاً وسفلاً، ويميناً وشمالاً، وأماماً وخلفاً، وإما سطوح جسم آخر تحيط بالجسم من الجهات الست.

فأما الجهات التي هي سطوح الجسم نفسه فليست بمكان للجسم نفسه أصلاً.

وأما سطوح الجسم المحيطة به فهي له مكان، مثل سطوح الهواء المحيطة بالإنسان، وسطوح الفلك المحيطة بسطوح الهواء هي أيضاً مكان للهواء.

وهذه الأفلاك بعضها محيط ببعض ومكان له، وأما سطح الفلك الخارج فقد تبرهن أنه ليس خارجه جسم،

ص: 214

لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون خارج ذلك الجسم أيضاً جسم آخر، ويمر الأمر إلى غير نهاية.

فإذاً سطح آخر أجسام العالم ليس مكاناً أصلاً، إذ ليس يمكن أن يوجد فيه جسم، فإذاً إن قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة فواجب أن يكون غير الجسم، فالذي يمتنع وجوده هنالك هو عكس ما ظنه القوم، وهو موجود هو جسم، لا موجود ليس بجسم.

وليس لهم أن يقولوا: إن خارج العالم خلاء.

وذلك أن الخلاء قد تبين في العلوم النظرية امتناعه، لأن ما يدل عليه اسم الخلاء ليس هو شيئاً أكثر من أبعاد ليس فيها جسم، أعني طولاً وعرضاً وعمقاً، لأنه إن وقعت الأبعاد عنه عاد عدماً، وإن أنزل الخلاء موجوداً لزم أن تكون أعراض موجودة في غير جسم.

وذلك لأن الأبعاد هي أعراض من باب الكمية ولا بد، ولكنه قد قيل في الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة إن ذلك الموضع هو مسكن الروحانيين، يريدون الله والملائكة.

وذلك أن ذلك الموضع ليس بمكان ولا يحويه زمان، وكذلك إن كان كل ما يحويه الزمان والمكان فاسداً، فقد يلزم أن يكون ما هنالك غير فاسد ولا كائن،

ص: 215

وقد تبين هذا المعنى فيما أقوله، وذلك أنه لما لم يكن ههنا شيء يدرك إلا هذا الموجود المحسوس أو العدم، وكان من المعروف بنفسه أن الموجود إنما ينسب إلى الوجود، أعني أنه يقال: إنه موجود في الوجود، إذ لا يمكن أن يقال: إنه موجود في العدم، فإن كان ههنا موجود هو أشرف الموجودات، فواجب أن ينسب من الوجود المحسوس إلى الجزء الأشرف، وهي السماوات.

ولشرف هذا الجزء، قال الله تعالى:{لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس} [غافر: 57] .

قال: (فهذا كله يظهر على التمام للعلماء الراسخين في العلم.

فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل، وأنه الذي جاء به الشرع وانبنى عليه، فإن إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع، وأنه وجه العسر في نفيهم هذا المعنى مع نفي الجسمية، هو

ص: 216

أنه ليس في الشاهد مثال له، وهو بعينه السبب في أنه لم يصرح الشرع بنفي الجسم عن الخالق سبحانه، لأن الجمهور إنما يقع لهم التصديق بحكم الغائب، متى كان ذلك معلوم الوجوه في الشاهد، مثل العلم في الفاعل، فإنه لما كان في الشاهد شرطاً في وجوده كان شرطاً في وجود الصانع الغائب، وأما متى كان الحكم الذي في الغائب غير معلوم الوجود في الشاهد عند الأكثر، ولا يعلمه إلا العلماء الراسخون، فإن الشرع يزجر عن طلب معرفته، إن لم تكن بالجمهور حاجة إلى معرفته، مثل العلم بالنفس، أو يضرب له مثال في الشاهد.

فإن بالجمهور حاجة إلى معرفته في سعادتهم، وإن لم يكن ذلك المثال هو الأمر المقصود فتفهيمه مثل كثير مما جاء من أحوال المعاد.

والشبهة الواقعة في نفي الجهة عند الذين نفوها ليس يتفطن الجمهور لها، لا سيما إذا لم يصرح لهم بأنه ليس بجسم، فيجب أن يمتثل في هذا كله فعل الشرع، ولا يتأول ما لم يصرح الشرع بتأوله.

والناس في هذه الأشياء في الشرع على ثلاث رتب: صنف لا

ص: 217

يشعرون بالشكوك العارضة في هذا المعنى، وخاصة متى تركت هذه الأشياء على ظاهرها في الشرع، وهؤلاء هم الأكثرون، وهم الجمهور.

وصنف عرفوا حقيقة هذه الأشياء، وهم الراسخون في العلم، وهؤلاء هم الأقل من الناس، وصنف عرضت لهم في هذه الأشياء شكوك ولم يقدروا على حلها، وهؤلاء هم فوق العامة دون العلماء، وهذا الصنف هم الذين يوجد في حقهم التشابه في الشرع، وهم الذين ذمهم الله تعالى.

وأما عند العلماء والجمهور فليس في الشرع تشابه.

فعلى هذا المعنى ينبغي أن يفهم المتشابه.. ومثال ما عرض لهذا الصنف من الشرع مثال ما يعرض لخبز البر مثلاً، الذي هو الغذاء النافع لأكثر الأبدان، أن يكون لأقل الأبدان ضاراً، وهو نافع للأكثر، وكذلك التعلم الشرعي هو نافع للأكثر، وربما يضر الأقل.

ولهذا الإشارة بقوله تعالى: {وما يضل به إلا الفاسقين} [البقرة: 26] .

لكن هذا إنما يعرض في آيات الكتاب العزيز في الأقل منها والأقل من الناس، وأكثر ذلك هي الآيات التي تتضمن الإعلام عن أشياء في الغائب ليس لها مثال في الشاهد، فيعبر عنها بالشاهد الذي هو أقرب الموجودات إليها، وأكثرها شبهاً بها، فيعرض لبعض الناس أن

ص: 218

يرى الممثل به هو الممثل نفسه، فتلزمه الحيرة والشك، وهو الذي يسمى متشابهاً في الشرع.

وهذا ليس يعرض للعلماء والجمهور، وهم صنفا الناس بالحقيقة، لأن هؤلاء هم الأصحاء، والغذاء الملائم إنما يوافق أأبدان الأصحاء، وأما أولئك فمرضى، والمرضى هم الأقل.

ولذلك قال تعالى: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} [آل عمران: 7] ، وهؤلاء هم أهل الجدل والكلام.

وأشد ما عرض على الشريعة من هذا الصنف أنهم تأولوا كثيراً مما ظنوه ليس على ظاهره، وقالوا: إن هذا التأويل هو المقصود به، وإما أتى به في صورة المتشابه ابتلاءً لعباده واختباراً لهم، ونعوذ بالله من هذا الظن بالله، بل نقول: إن كتاب الله العزيز إنما جاء معجزاً من جهة الوضوح والبيان، فإذا ما أبعد عن مقصود الشرع من قال فيما ليس بمتشابه: إنه متشابه، ثم أوله بزعمه، وقال لجميع الناس: إن فرضكم هو اعتقاد هذا التأويل، مثل ما قالوه في آية الاستواء على العرش، وغير ذلك مما قالوا: إن ظاهره متشابه.

وبالجملة فأكثر التأويلات التي زعم القائلون بها أنها المقصود من الشرع إذا تؤملت

ص: 219

وجدت ليس يقوم عليها برهان، ولا تفعل فعل الظاهر في قبول الجمهور لها، وعلمهم عنها، فإن المقصود الأول في العلم في حق الجمهور إنما هو العمل، فما كان أنفع في العمل فهو أجدر.

فأما المقصود بالعلم في حق العلماء فهو الأمران جميعاً: أعني العلم والعمل) .

قال: (ومثال من أول شيئاً من الشرع، وزعم أن ما أوله هو الذي قصد الشرع، وصرح بذلك التأويل للجمهور، مثال ما أتى إلى دواء قد ركبه طبيب ماهر لحفظ صحة جميع الناس، أو الأكثر، فجاء رجل فلم يلائمه ذلك الدواء المركب الأعظم لرداءة مزاج كان به، ليس يعرض إلا لأقل الناس، فزعم أن بعض تلك الأدوية التي صرح باسمه الطبيب الأول في ذلك الدواء العام المركب لم يرد به ذلك الدواء الذي جرت به العادة في ذلك أن يدل بذلك الاسم عليه، وإنما أراد به دواءً آخر مما يمكن أن تدل عليه بذلك استعارة بعيدة، فأزال ذلك الدواء الأول من ذلك المركب الأعظم،

ص: 220

وجعل فيه بدله الدواء الذي ظن أنه قصده الطبيب، وقال للناس: هذا هو الذي قصده الطبيب الأول، فاستعمل الناس ذلك الدواء المركب على وجه الذي تأوله عليه هذا المتأول، ففسدت به أمزجة كثير من الناس، فجاء آخرون شعروا بفساد أمزجة الناس عن ذلك الدواء المركب، فراموا إصلاحه بأن أبدلوا بعض أدويته بدواء آخر غير الدواء الأول، فعرض من ذلك للناس نوع من المرض غير المرض الأول، فجاء ثالث فتأول أدوية ذلك المركب على غير التأويل الثاني، فعرض للناس نوع ثالث من المرض غير النوعين المتقدمين، فجاء متأول رابع فتأول دواءً آخر غير الأدوية المتقدمة، فعرض للناس نوع رابع من المرض غير الأمراض المتقدمة، فلما طال الزمان بهذا الدواء المركب الأعظم، وسلط الناس التأويل على أدويته وغيروها وبدلوها، عرض منه للناس، أمراض شتى، حتى فسدت المنفعة المقصودة بذلك الدواء المركب في حق أكثر الناس، وهذه حال الفرق الحادثة في هذه الشريعة، وذلك أن كل فرقة منهم تأولت في الشريعة تأويلاً غير

ص: 221

التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى، وزعمت أنه الذي قصد صاحب الشرع، حتى تمزق الشرع كل ممزق، وبعد جداً عن موضوعه الأول.

ولما علم الرسول صلى الله عليه وسلم أن مثل هذا يعرض، ولا بد في شريعته قال:«ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» يعني بالواحدة التي سلكت ظاهر الشرع ولم تؤوله تأويلاً صرحت به للناس) .

قال: (وأنت إذا تأملت ما عرض في هذه الشريعة، في هذا الوقت، من الفساد العارض فيها من قبل التأويل، تبينت أن هذا المثال صحيح.

فأول من غير هذا الدواء الأعظم هم الخوارج، ثم المعتزلة بعدهم، ثم الأشعرية، ثم الصوفية، ثم جاء أبو حامد فطم الوادي على القرى، وذلك أنه صرح بالحكمة كلها للجمهور، وبآراء

ص: 222

الحكماء، على ما أداه إليه فهمه، وذلك في كتابه الذي سماه بالمقاصد، وزعم أنه إنما ألف هذا الكتاب للرد عليهم، ثم وضع كتابه المعروف بتهافت الفلاسفة، فكفرهم فيه في مسائل ثلاثة من جهة خرقهم فيها الإجماع فيما زعم، وبدعهم في مسائل، وأتي فيه بحجج مشككة، وشبه محيرة أضلت كثيراً من الناس عن الحكمة والشريعة جميعاً، ثم قال في كتابه المعروف بجواهر القرآن إن الذي أثبته في كتاب التهافت هي أقاويل جدلية، وأن الحق إنما أثبته في المضنون به على غير أهله ثم جاء في كتابه المعروف بـ مشكاة الأنوار فذكر فيه مراتب العارفين بالله، وقال: إن سائرهم محجوبون، إلا الذين اعتقدوا أن الله سبحانه غير محرك السماء الأولى، وهو الذي صدر عنه هذا المحرك، وهذا تصريح منه باعتقاد مذاهب الحكماء في العلوم الإلهية، وهو قد قال في غير ما وضع: إن علومهم الإلهية تخمينات، بخلاف الأمر في سائر علومهم، وأما في كتابه الذي سماه المنقذ من الضلال فتحامل فيه على

ص: 223

الحكماء، وأشار إلى أن العلم إنما يحصل بالخلوة والفكرة، وأن هذه المرتبة من جنس مراتب الأنبياء في العلم، وكذلك صرح بذلك بعينه في كتابه الذي سماه بكيمياء السعادة فصار الناس بسبب هذا التخليط والتشويش فرقتين: فرقة انتدبت لذم الحكماء والحكمة، فرقة انتدبت لتأويل الشرع وروم صرفه إلى الحكمة، وهذا كله خطأ، بل ينبغي أن يقر الشرع على ظاهره، ولا يصرح للجمهور بالجمع بينه وبين الحكمة، لأن التصريح بذلك هو تصريح بنتائج الحكمة لهم، دون أن يكون عندهم برهان عليها، وهذا لا يحل ولا يجوز، أعني التصريح بشيء من نتائج الحكمة لم يكن عنده

البرهان عليها، لأنه لا يكون مع العلماء الجامعين بين الشرع والعقل، ولا مع الجمهور المتبعين لظاهر الشرع، فلحق من فعله هذا إخلال بالأمرين جميعاً، أعني بالحكمة وبالشرع عند أناس، وحفظ الأمرين أيضاً جميعاً عند آخرين.

أما إخلاله بالشريعة فمن جهة إفصاحه فيه بالتأويل الذي لا يجب الإفصاح به، وأما إخلاله بالحكمة فلإفصاحه أيضاً بمعان فيها لا

ص: 224

يجب أن يصرح بها إلا في كتب البرهان، وأما حفظه للأمرين جميعاً، فإن كثيراً من الناس لا يرى بينهما تعارضاً من جهة الجمع الذي استعمل منهما، وأكد هذا المعنى بأن عرف وجه الجمع بينهما، وذلك في كتابه الذي سماه التفرقة بين الإسلام والزندقة، وذلك أنه عدد فيه أصناف التأويلات، وقطع فيه على أن المتأول ليس بكافر.

وإن خرق الإجماع في التأويل.

فإذاً ما فعل من هذه الأشياء هو ضار للشرع بوجه، وللحكمة بوجه، ونافع لهما بوجه، وهذا الذي فعله هذا الرجل إذا فحص عنه ظهر أنه ضار بالذات للأمرين جميعاً.

أعني الحكمة والشريعة، وأنه نافع لهما بالعرض.

وذلك أن الإفصاح بالحكمة لمن ليس من أهلها يلزم عن ذلك بالذات: إما إبطال الحكمة، وإما إبطال الشريعة، وقد يلزم عنها بالعرض الجمع بينهما.

والصواب كان ألا يصرح بالحكمة للجمهور، فأما قد وقع التصريح، فالصواب أن تعلم الفرقة من الجمهور التي ترى أن الشريعة مخالفة للحكمة أنها ليست مخالفة لها، وكذلك يعرف الذين يرون أن الحكمة

ص: 225