المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تعليق ابن تيمية عود لمناقشة ابن سينا - درء تعارض العقل والنقل - جـ ٦

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌الوجه الثالث والأربعون

- ‌كلام الرازي عن الجهة والمكان

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌المقام الأول

- ‌كلام ابن سينا في الإشارات عن الخيال والوهميات

- ‌الرد المفصل على كلام ابن سينا

- ‌كلام الرازي في شرح الإشارات

- ‌تعليق ابن تيمية عود لمناقشة ابن سينا

- ‌كلام آخر لابن سينا في الإشارات

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن سينا في إثبات القوة الوهمية وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام ابن سينا في الشفاء عن قوة الوهم

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌عود إلى كلام ابن سينا في مقامات العارفين في الإشارات

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌فصل تابع كلام ابن سينا في الإشارات عن مقامات العارفين

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌فصل: تابع كلام ابن سينا في مقامات العارفين وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌عود إلى مناقشة كلام ابن سينا عن الوهم

- ‌الرد على قول الرازي: الوجه الأول

- ‌كلام عبد العزيز الكناني في مسألة الاستواء والعلو

- ‌كلام ابن كلاب في مسألة العلو

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌قول القائل: أنا لا أصفه بالوصفين المتقابلين لأن القابل لذلك لا يكون إلا جسماً

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌كلام الإمام أحمد في الرد على الجهمية والزنادقة في إثبات علو الله واستوائه

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام آخر للإمام أحمد عن المعية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام الرازي في الرد على الحلولية

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن عربي في فصوص الحكم عن علاقة الواجب بالممكن

- ‌كلام الأبهري وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌فصل

- ‌كلام ابن كلاب في كتاب الصفات عن العلو وتعليق ابن تيمية عليه

- ‌كلام الأشعري في الإنابة عن الاستواء وتعليق ابن تيمية

- ‌كلام الباقلاني في التمهيد إثبات العلو والاستواء

- ‌كلام القاضي أبو يعلى في إبطال التأويل في إثبات العلو والاستواء

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام ابن رشد في مناهج الأدلة عن العلو والجهة

- ‌كلام ابن رشد في مسألة رؤية الله تعالى

- ‌تعليق ابن تيمية على كلام ابن رشد في مناهج الأدلة

- ‌فصل مذهب السلف والأئمة في العلو والمباينة

- ‌كلام أبي نصر السجزي في كتاب الإبانة

- ‌كلام أبي عمر الطلمنكي في الوصول إلى معرفة الأصول

- ‌كلام نصر المقدسي في الحجة على تارك المحجة

- ‌كلام أبي نعيم الأصبهاني ي عقيدته

- ‌كلام أبي أحمد الكرخي في عقيدته

- ‌كلام ابن عبد البر في كتاب التمهيد

- ‌كلام معمر بن أحمد الأصبهاني في وصيته

- ‌كلام ابن أبي حاتم

- ‌كلام أبي محمد المقدسي

- ‌كلام أبي عبد الله القرطبي في شرح معنى الاستواء

- ‌كلام أبي بكر النقاش

- ‌كلام أبي بكر الخلال في كتاب السنة

- ‌كلام عبد الله بن أحمد في كتاب السنة

- ‌كلام أبي بكر البيهقي في الأسماء والصفات

- ‌كلام أبي حنيفة في كتاب الفقه الأكبر

- ‌كلام عبد الله بن المبارك الذي رواه عته البخاري

- ‌كلام ابن خزيمة

- ‌كلام ربيعة بن أبي عبد الرحمن

- ‌كلام مالك بن أنس

- ‌كلام آخر لبعض الأئمة

- ‌الوجه الثاني من وجوه الرد على الوجه الأول من كلام الرازي الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌فصل الوجه الثاني من كلام الرازي في الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌فصل الوجه الثالث من كلام الرازي في الأربعين

- ‌كلام ابن سينا في الإشارات

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الرد على الوجه الرابع من كلام الرازي من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الرد على الوجه الخامس من كلام الرازي من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الرد على الوجه السادس من كلام الرازي من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌فصل تابع كلام الرازي في الأربعين

- ‌الرد عليه

- ‌وجوه للرازي في الأربعين الوجه الأول

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌جواب الرازي في نهاية المعقول على حجة التركيب في مسألة الصفات

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الثاني من وجوه الرازي في الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه الثالث من وجوه الرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الرابع من وجوه الرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السابع

- ‌الوجه الثامن

- ‌الوجه الخامس من وجوه الرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌الوجه السادس

- ‌الوجه السابع

- ‌الوجه الثامن

- ‌الوجه التاسع

- ‌الوجه العاشر

- ‌الوجه السادس من وجوه الرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه من وجوه: الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس

- ‌بقية كلام الرازي في لباب الأربعين

- ‌الرد على كلام الرازي

- ‌كلام الرازي عن الجهة في لباب الأربعين

- ‌الرد عليه

- ‌بقية كلام الرازي في لباب الأربعين عن الجهة

الفصل: ‌تعليق ابن تيمية عود لمناقشة ابن سينا

وثانيها: أن يحصل فيه أحد الموضعين دون الآخر، فيكون مانعاً من الشركة، ولكنه لا يتوقف على الوجود الخارجي، وهو التخيل.

فإني إذا شاهدت زيداً ثم غاب، فإني أتخيله على ما هو عليه من الشخصية، فنفس ما تخيلته يمنع من الشركة، وأما هذا الإدراك فإنه لا يتوقف على وجود المدرك في الخارج، فإني يمكنني أن أتخيله بعد عدمه.

وثالثهما: أن يخلو عن الموضعين جميعاً، فلا يكون مانعاً من الشركة، ولا موقوفاً على وجود المدرك في الخارج، وهو المسمى بالإدراك العقلي) .

‌تعليق ابن تيمية عود لمناقشة ابن سينا

قلت: فقد بينوا أن الإدراك العقلي هو ما لا يمنع الشركة، ولا يشترط فيه وجود المدرك من خارج.

ومعلوم أن هذا هو إدراك الكليات الثابتة في العقل.

وإذا كان كذلك، فقوله:(وهو عندما يكون محسوساً تكون غشيته غواش غريبة عن ماهيته، لو أزيلت عنه لم تؤثر في كنه ماهيته) كلام يستلزم أن يكون في الخارج شيئان: أحدهما: ماهية مجردة عن المحسوسات، والثاني: محسوسات غشيت تلك الماهية المجردة المعقولة الثابتة في الخارج، وهذا باطل يعلم بطلانه بالضرورة من تصور ما يقول.

ص: 28

فإنه إن كان المعقول المجرد لا يكون إلا في النفس، فكيف يكون في الخارج معقول مجرد تقارنه المعينات المحسوسة واحداً بعد واحد، أو تقارنه تارة وتفارقه تارة أخرى؟ وقوله:(مثل، أين، ووضع، وكيف ومقدار بعينه، لو توهمت بدله غيره، لم يؤثر في حقيقة ماهية إنسانيته) .

يقال له: نعم إذا تصورنا بدل المعنى غيره، لم يؤثر فيما في النفس من الإنسان المعقول الكلي المجرد، فإن مطابقته لهذا المعين كمطابقته لهذا المعين، كما لا يؤثر ذلك في لفظ الإنسان المطلق، فإن مطابقته لهذا المعين كمطابقته لهذا المعين، فشمول اللفظ ومعناه الذي هو في الذهن سواء، لكن ذلك المعين إذا توهمنا بدله غيره، لم يكن في ذلك البدل من هذا المعين أصلاً، بل كان البدل نظيره وشبيهه ومثله، فإما أن يكون هو إياه، أو يكون في الخارج حقيقة معينة في هذا المعين، هي نفسها حقيقة ثابتة في هذا المعين، فهذا هو محل الغلط.

ويقال لمن ظن هذا: لما خلق الله هذا المعين، كانت تلك الحقيقة موجودة قبله أو حدثت معه.

فإن حدثت معه، فهي معينة لا مطلقة كلية، لأن الكلي لا يتوقف على وجود هذا المعين، وإن كانت موجودة قبله، فإن كانت

ص: 29

مجردة من الأعيان لم يحتج فيها إلى شيء من المعينات، وإلا فالقول في مقارنتها لذلك المعين كالقول في هذا.

وأيضاً فإنه يقال: هل انتقلت من غيره وقارنته؟ أو قامت به وغيره؟ فإن انتقلت من غيره فارقت ذلك المعين، فثبت أن المعين لا يحتاج إلى مطلق يقارنه، وإن قامت به وبغيره، فإما أن يكون جوهراً أو عرضاً، فإن كانت عرضاً فالعرض الواحد لا يكون في محلين.

وإن كانت جوهراً فالجوهر الواحد لا يكون في محلين.

فإن قال: هذا في الجواهر المحسوسة، وأما الجواهر المعقولة فقد تقدم بمحلين.

قيل: إن أردت بالجواهر المعقولة ما في القلوب، فتلك أعراض لا جواهر.

وإن أردت هذه الكليات التي تدعي وجودها في الخارج، فتلك لا محل لها عندك، فضلاً عن أن تقوم بمحلين.

وهذا أيضاً مما يناقض قولهم: إن المطلق جزء من المعين، فكيف يكون ما لا يتخصص بحيز ولا مكان ولا جزءاً مما يتخصص بحيز ومكان.

وإذا قال القائل: المعقول الذي لا حيز له ولا مكان ولا جهة ولا يشار إليه، جزء وبعض وداخل في هذا الجسم المتحيز، الذي له مكان وجهة وحيز - لعلم كل عاقل فساد ما يقول.

وهذا حقيقة قول هؤلاء.

وأيضاً فتلك الحقيقة المجردة المطلقة إذا كانت كلية، والكلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وكانت جزءاً من المعين - كان في

ص: 30

كل معين كليات كثيرة، لا يمنع تصورها من وقوع الشركة فيها، فيكون في كل إنسان معين حيوان كلي، وناطق كلي، وإنسان كلي، وجسم كلي، وحساس كلي، وقائم بنفسه كلي، وجوهر كلي وموجود كلي، ومخلوق كلي، وآكل كلي وشارب كلي، ومتنفس كلي، وأمثال ذلك مما يمكن أن يوصف به الإنسان.

ومن المعلوم بصريح العقل أن الكلي الذي قد يعم جزئيات كثيرة لا يكون بعض جزئي واحد، فإن الكثير لا يكون بعض القليل وجزءه، ولا يكون ما يتناول أموراً كثيرة ويشملها ويعمها، أو يصلح لذلك، بعض واحد لا يقبل العموم والشركة.

وقوله: (والحس ينال من حيث هو مغمور في هذه العوارض التي تلحقه بسبب المادة التي خلق منها، لا يجردها عنه، ولا يناله إلا بعلاقة وضعية) .

فيقال: هذا مبني على أن في الخارج شيئاً موجوداً في هذا الإنسان المعين، عرض له هذا الإنسان المعين، وهذا مكابرة للحس والعقل.

والمادة التي خلق منها بدنه ليست موجودة الآن، بل استحالت وعدمت، وليس فيه الساعة مني أصلاً.

وقوله: (لا يجردها عنه) إنما يصح لو كان هنا مادة موجودة مغايرة لهذا البدن المشهود، حتى يمكن تجريد أحدهما على الآخر.

نعم إن أريد بالمادة البدن، وأن الروح مقارنة للبدن فهذا كلام صحيح.

ص: 31

لكن الروح معينة، والبدن معين ومقارنة أحدهما الآخر ممكن، وهؤلاء يشتبه عليهم مقارنة الروح للبدن وتجريدها عنه، بمقارنة الكليات المعقولة لجزئياتها وتجريدها عنها، والفرق بين هذا وهذا أبين من أن يحتاج إلى بسط.

وهم يلتبس عليهم أحدهما بالآخر، فيأخذون لفظ (التجريد) و (المقارنة) بالاشتراك، ويقولون: العقول المفارقة للمادة، ولا يميزون بين كون الروح قد تكون مقارنة للبدن، وبين المعقولات الكلية التي لا تتوقف على وجود معين، فإن الروح - التي هي النفس الناطقة - موجودة في الخارج، قائم بنفسه، إذا فارقت البدن.

وأما العقليات الكلية المنتزعة من المعينات فإنما هي في الأذهان لا في الأعيان، فيجب الفرق بين تجريد الروح عن البدن، وتجريد الكليات عن المعينات.

وأما قوله: (وكذلك لا يتمثل في الحس إلا ظاهر صورته) .

فسبب هذا أن الحس لا يدركه كله، وإن كان كله محسوساً، بمعنى أنه يمكن إحساسه ورؤيته في الجملة، ولكن باطنه ليس بمحسوس لنا

ص: 32

عند رؤية ظاهره، لا لعدم إمكان إحساسه، لكن لاحتجاب باطنه، أو لمعنى آخر.

وهذا أيضاً من مثارات غلطهم، فإنهم قد لا يفرقون في المحسوس بين ما هو محسوس بالفعل لنا، وبين ما يمكنه إحساسه، وإن كنا الآن لا نستطيع أن نحسه.

فإن عنى بالمحسوس الأول، فلا ريب أن الأعيان منها ما هو محسوس، ومنها ما ليس بمحسوس، وما أخبرتنا به الأنبياء من الغيب ليس محسوساً لنا، فلا نشهده الآن، بل هو غيب عنا، ولكن هو مما يمكن إحساسه، ومما يحسه الناس بعد الموت.

ولهذا كانت عبارة الأنبياء عليهم السلام تقسم الأمور إلى غيب وشهادة، قال تعالى:{الذين يؤمنون بالغيب} [البقرة: 3]، وقال:{تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك} [هود: 49]، وقال:{هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم} [الحشر: 22] .

وأما هؤلاء فيقسمونها إلى محسوس ومعقول.

والمعقول في الحقيقة: ما كان في العقل، وأما الموجودات الخارجية فيمكن أن ينالها الحس، وأن يوقف الإحساس بها على شروط متيقنة الآن.

ص: 33

وأما قوله: (وأما الخيال الباطن فيتخيله مع تلك العوارض لا يقتدر على تجريده المطلق عنها، لكنه يجرده عن تلك العلاقة المذكورة التي تعلق بها الحس، فهو يتمثل صورته مع غيبوبة حاملها) .

فيقال له: هذه حجة عليكم، فإن ما يتخيله الإنسان في نفسه إنما هو موجود في نفسه، فالصورة الخيالية ليست موجودة في الخارج، ولا يشترط في التخيل ثبوت المتخيل في الخارج.

وقولكم: (يتخيله مع تلك العوارض) إثبات لشيئين ولا حقيقة لذلك، بل لم يتخيل إلا الصورة التي هي عرض قائم بنفسه.

وقولكم: (فهو يتمثل صورته مع غيبوبة حاملها) كلام ملتبس، فإن الصورة التي تخيلها في نفسه ليس لها حامل في الخارج، وحامل الصورة التي في الخارج هو موجود معها، فالصورة المحمولة في الخارج ليست عين ما في نفسه، وما في نفسه ليست الصورة المحمولة.

والتحقيق أنه يتخيل الصورة مع غيبوبتها بالكلية عن حسه الظاهر، وليس مع غيبوبة حاملها قط، سواء عني بالصورة نفس الشخص المتصور.

أو نفس الشكل القائم به.

وقوله: إن الخيال يتخيله مع تلك العوارض لا يقدر على

ص: 34

تجريده المطلق عنها، لكنه يجردها عن تلك العلاقة المذكورة التي تعلق بها الحس، وأما العقل فيقدر على تجريد الماهية المكنوفة باللواحق الغريبة المشخصة مستثبتاً إياها، حتى كأنه عمل بالمحسوس عملاً جعله معقولاً) .

فقد يعترض على بذلك بأن يقال: إنه يقتضي أن تجريد الخيال الكلي من جنس تجريد العقل، فإن ما يتخيله المختال هو مثال المحسوس المعين، فلم يجرد منه معنى كلي أصلاً، لكن إن ارتسم فيه صورة تشاكله، كما ترتسم في الحائط صورة تشاكل الصورة المعينة، ثم قد يتخيل المعين بجميع صفاته، وقد يتخيل بعضها دون بعض، وقد يتصور عينه مع مغيب صورة بدنه - كان المتصور حقيقة المعينة، كالروح دون الإنسانية المطلقة.

وأما العقل فقد يراد به عقل الصورة المعينة، فهو من جهة كونه تصوراً معيناً من جنس التخيل، ومن جهة كونه لا يختص بشكل معين من جنس تصور العقل.

وقد يراد بالعقل تصور الكلي المطلق، كتصور الإنسان المطلق، وجوابه أن الإنسان المطلق قد يتخيل مطلقاً، والبهائم لها تخيل كلي، ولهذا إذا رأت الشعير حنت إليه، ولولا أن في خيالها صورة مطلقة مطابقة لهذا الشعير وهذا الشعير، لم تطلب هذا المعين حتى تذوقه،

ص: 35

فطلبها له إذا رأته يقتضي أنها أدركت أن مثل الأول، وإنما تدرك التماثل إذا كان في النفس صورة تطابق المتماثلين يعتبر بها تماثلهما.

لكن يقال: فحينئذ لا فرق بين التخيل والتعقل من جهة كون كل منهما يكون معيناً ويكون مطلقاً، وكل منهما ليس عين ما فيه هو عين الموجود في العقل بل مثاله.

فقوله: (حتى كأنه عمل بالمحسوس عملاً جعله معقولاً) .

تحقيقة أن المحسوس لم يعمل به شيء أصلاً، ولا فيه معقول أصلاً، بل العقل تمثل معقولاً يطابق المحسوس وأمثاله.

وقوله: (وأما ما هو في ذاته بريء عن الشوائب المادية وعن اللواحق الغريبة التي لا تلزم ماهيته عن ماهيته، فهو معقول لذاته) .

ففيه كلامان:

أحدهما: أن يقال: ثبوت مثل هذا المعقول تبع لثبوت المعقول المنتزع من المحسوس، وذلك ليس إلا في العقل، لا وجود له في الخارج فيكون المعقول المجرد كذلك، وحينئذ فليس في ذلك ما يقتضي أن يكون في الخارج معقول مجرد.

الثاني: أن يقال: ثبوت هذه المعقولات المجردة في الخارج فرع إمكان وجودها، وإمكان وجودها مبني على إمكان وجود ما لا يمكن

ص: 36

الإحساس به، فلا يجوز إثبات إمكان وجود ذلك بناء على وجود هذه المجردات، لأن ذلك دور قبلي، وهو ممتنع.

والمقصود أن في كلامهم ما يقتضي أنه ليس في المعقولات إلا ما يعقله العاقل في نفسه، مثل العلم الكلي، وقد يدعون ثبوت هذه المعقولات في الخارج فيتناقضون، وهذا موجود في كلام أكثرهم، يقولون كلهم: الكليات وجودها في الأذهان لا في العيان، ثم يقول بعضهم: إن الكليات تكون موجودة في الخارج، ولهذا كثيراً ما يرد بعضهم على بعض في هذا الموضع، وهو من أصول ضلالتهم ومجازاتهم.

وكلامهم في المعقولات المجردة من هذا النمط، وليس لهم دليل على إثباتها، وإذا حرر ما يجعلونه دليلاً لم تثبت إلا أمور معقولة في الذهن.

واسم (الجوهر) عندهم يقال على خمسة أنواع على: العقل، والنفس، والمادة والصورة، والجسم، وهم متنازعون في واجب الوجود: هل هو داخل في مسمى (الجوهر) على قولين، فأرسطو وأتباعه يجعلونه من مقولة الجوهر، وابن سينا وأتباعه لا يجعلونه من مقولة الجوهر، وإذا حرر ما يثبتونه من العقل والنفس والمادة والصورة، لم يوجد عندهم إلا ما هو معقول في النفس أو ما هو جسم، أو عرض قائم بجسم، كما قد بسط في موضعه.

ص: 37

والمراد هنا أن يعرف أن المعقولات التي هي العلوم الكلية الثابتة في النفس لا ينازع فيها عاقل.

وكذلك تصور المعينات الموجودة في الخارج، سواء كان المتصور عيناً قائمة بنفسها، أو معنى قائماً بالعين، وسواء سمي ذلك التصور تعقلاً أو تخيلاً أو توهماً، فليس المقصود النزاع في الألفاظ، بل المقصود المعاني.

وإذا عرف أن الإنسان يقوم به تصور لأمور معينة موجودة في الخارج، وتصور كلي مطابق للمعينات، تبين ما وقع من الاشتباه في هذا الباب.

فقول القائل: إن حكم الوهم أو الخيال قد يناقض حكم العقل: إذا أراد به أن التصور المعين الذي في النفس لما هو محسوس، أو لما يحسه، كالعداوة والصداقة، قد يناقض العقل الذي حكمه كلي عام - كان هذا باطلاً.

وإن أراد به أن العقل يثبت أموراً قائمة بنفسها، تقوم بها معاني، وتصوره للمحسوسات ولما قام بها يناقض ذلك - كان هذا أيضاً باطلاً، فإنه لا منافاة بين هذا وهذا، وذلك لأن الكلام ليس في مناقضة تصور الجزئيات للكليات، بل في تناقض القضايا الكلية بالسلب والإيجاب.

ص: 38

وإذا أراد به أن ما سماه الوهم والخيال يحكم حكماً كلياً يناقض حكماً كلياً للعقل، وهذا هو مرادهم - كان هذا تناقضاً منهم وذلك أنهم قد فسروا حكم الوهم، المناقض للعقل عندهم، بأنه يقضي قضاء كلياً يناقض القضاء الكلي المعلوم بالعقل، مثل أنه يقضي أنه ما من موجود إلا ويمن الإشارة إليه، وما من موجودين إلا وأحدهما محايث للآخر أو مباين له، ويمنع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه، وأمثال ذلك.

فيقال لهم: هذه قضايا كلية وأحكام عامة، وأنتم قلتم: إن الوهم هو الذي يدرك في المحسوسات الجزئية معاني جزئية غير محسوسة ولا متأدية من طريق الحس، كإدراك الصداقة والعداوة إدراكاً جزئياً يحكم به كما يحكم الحس بما نشاهده.

وكذلك الخيال عندكم يحفظ ما يتصوره من المحسوسات الجزئية، فإذا كان الوهم والخيال إنما يدرك أموراً جزئية، بمنزلة الحس، وهذه القضايا التي تزعمون أنها تعارض حكم العقل قضايا كلية، علم بذلك أن هذه ليست من إدراك الوهم والخيال، كما أنها ليست من إدراك الحس، وإنما هي قضايا كلية عقلية، بمنزلة أمثالها من القضايا الكلية العقلية، وهذا لا محيد لهم عنه، وهذا بمنزلة الحكم بأن كل وهم وخيال فإنما يدرك أموراً جزئية.

ص: 39