الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطالع يعدون ما سوى التحديد من مباحث الحجة ولو أحق القياس. وأما التحديد فشأنه أن يذكر في مباحث المعرف. كذا في شرح التهذيب.
واعلم أنهم إنما اقتصروا على هذه الثمانية لعدم وجدانهم شيئا آخر يعين في تحصيل الفن ومن وجد لك فليضمه إليها. وهذا أمر استحساني لا يلزم من تركه فساد على مالا يخفى هكذا في تكملة الحاشية الجلالية.
واعلم أنهم قد يذكرون وجه الحاجة إلى العلم ولا شك أنه ههنا بعينه بيان الغرض منه. وقد يذكرون وجه شرف العلم ويقولون: شرف الصناعة إما بشرف موضوعها مثل الصياغة فإنها أشرف من الدباغة. فإن موضوع الصياغة الذهب والفضة وهما أشرف من موضوع الدباغة التي هي الجلد. وإما بشرف غرضها مثل صناعة الطب فإنها أشرف من صناعة الكناسة لأن غرض الطب إفادة الصحة وغرض الكناسة تنظيف المستراح. وإما بشدة الحاجة إليها كالفقه فإن الحاجة إليه أشد من الحاجة إلى الطب إذ ما من واقعة في الكون إلا وهي مفتقرة إلى الفقه إذ به انتظام صلاح الدنيا والدين. بخلاف الطب فإنه يحتاج إليه بعض الناس في بعض الأوقات. والمراد بذلك بيان مرتبة العلم على ما يفهم مما سبق ويؤيده ما قال السيد السند في شرح المواقف وأما مرتبة علم الكلام أي شرفه فقد عرفت أن موضوعه أعم الأمور وأعلاها
…
الخ.
الفصل الثامن: في مراتب العلم وشرفه وما يلحق به
وفيه: إعلامات
الإعلام الأول: في شرفه وفضله
واكتفيت مما ورد فيه من الآيات والأخبار بالقليل لشهرته وقوة الدليل. قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} وقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} . فانظر كيف ثلث بأهل العلم وناهيك بهذا شرفا وفضلا وإجلالا ونبلا.
وقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وقال: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} وقال: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ} فيه تنبيه على أنه اقتدر عليه بقوة العلم.
وقال: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} . بين أن عظم قدر الآخرة يعلم بالعلم.
وقال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} .
وقال: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} .
وقال: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} .
وقال: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} .
وقال: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} إلى غير ذلك.
وعن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا العلم فإن تعلمه لله تعالى خشية وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة لأنه معالم الحلال والحرام ومنار سبل أهل الجنة وهو الأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة والدليل على السراء والضراء والسلاح على الأعداء والتزين عند الأخلاء يرفع الله تعالى به أقواما فيجعلهم في الخير قادة وأئمة تقتفى آثارهم ويقتدي بفعالهم ترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم يستغفر لهم كل رطب ويابس وحيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه لأن العلم حياة القلوب من الجهل ومصابيح الأبصار من الظلم يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلي في الدنيا والآخرة والتفكر فيه يعدل الصيام ومدارسته تعدل القيام به توصل الأرحام وبه يعرف الحلال والحرام هو إمام والعمل تابعه ويلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء" أورده ابن عبد البر في كتاب جامع بيان العلم بإسناده وقال: هو حديث حسن جدا وفي إسناده ضعف. وروي أيضا من طرق شتى موقوفا على معاذ. وقد يقال: الموقوف في مثل هذا كالمرفوع فإن مثله لا يقال بالرأي وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم. وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة" رواه مسلم
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم وإن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر" رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة والدارمي.
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الخير". رواه الترمذي.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الناس لكم تبع وإن رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا" رواه الترمذي وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكلمة الحكمة ضالة الحكيم فحيث وجدها
1 هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي المالكي، من كبار حفاظ الحديث مؤرخ أديب بحاثة، يقال له حافظ المغرب 368-463 هـ = 978-1071 م له كتب كثيرة والعنوان الكامل لكتابه هذا هو "جامع بيان العلم وفضله" مطبوع.
فهو أحق بها". رواه الترمذي وقال: غريب وإبراهيم بن الفضل الراوي يضعف في الحديث ورواه ابن ماجة. والمراد بالحكمة في هذا الحديث السنة دون الحكمة اليونانية بدليل قوله سبحانه: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} وقد سافر أهل الحديث - كثر الله تعالى سوادهم - في طلبها إلى أقطار الأرض وكانوا أحق بها وأهلها حيث وجدوها بعد الفحص الكثير والبحث الشديد في بلاد شاسعة ومدائن بعيدة فجمعوها في دواوين الإسلام وامتثلوا قوله صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عني ولو آية" رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو. فجزاهم الله تعالى عنا وعن جميع المسلمين خير الجزاء.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد". رواه الترمذي وابن ماجة. والمراد بالفقه في هذا الحديث وغيره: فهم الكتاب والسنة دون الفقه المصطلح اليوم وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ". رواه ابن ماجة ورواه البيهقي في شعب الإيمان إلى قوله مسلم وقال: هذا حديث متنه مشهور وإسناده ضعيف. وقد روي من أوجه كلها ضعيف.
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع". رواه الترمذي والدارمي وعن سخبرة الأزدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من طلب العلم كان كفارة لما مضى". رواه الترمذي والدارمي وقال الترمذي: هذا حديث ضعيف الإسناد وأبو داود الراوي يضعف.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن يشبع المؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة" رواه الترمذي. والمراد بالخير: العلم. وفيه أن زمان الطلب من المهد إلى اللحد وأن عاقبة طلب العلم الجنة. وهذه بشارة وأي بشارة لمن يعلم أو يتعلم. جعلنا الله من أهليه وحشرنا في زمرة ذويه وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" - يعني ريحها - رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وإذا كان هذا القضاء في حق طالب العلم المحمود فما ظنك بطالب العلم المذموم من علوم اليونان وعن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين". رواه البيهقي في كتاب المدخل مرسلا وعن الحسن مرسلا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحي به الإسلام فبينه وبين النبيين درجة واحدة في الجنة". رواه الدارمي.
اللهم إنك تعلم بطلبي العلم من بدء الشعور إلى هذه الغاية وسأطلبه إن شاء الله تعالى إلى آخر العمر والنهاية. وما مرادي به إلا إحياء السنة المطهرة وإماتة البدعة وهداية المتعلمين ونصيحة المسلمين وإيقاظ النائمين وتنبيه الغافلين. وأنا سمي خليفة رسولك أبي بكر الصديق رضي الله عنه والدرجة الصديقية
تلو الدرجة النبوية فصدقني في هذا الرجاء وأوصلني إلى جنتك برحمتك يا أرحم الراحمين. وقد أحببت رسولك وأصحابه وأئمة السلف وأهل الحق من الخلف الذين قالوا بقول رسولك ولم يشركوا ولم يبدعوا فاحشرني معهم واجعلني في جوارهم في دار النعيم والمرء مع من أحب وإن لم يعمل عمله ولم يجهد جهده في الطاعة. اللهم آمين وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم الرجل الفقيه في الدين - أي العالم بالكتاب والسنة - إن احتيج إليه نفع وإن استغني عنه أغنى نفسه". رواه رزين. وعن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من طلب العلم فأدركه كان له كفلان من الأجر فإن لم يدركه كان له كفل من الأجر" رواه الدارمي.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل أوحى إلي أنه من سلك مسلكا في طلب العلم سهلت له طريق الجنة وفضل في علم خير من فضل في عبادة وملاك الدين الورع". رواه البيهقي في شعب الإيمان
وعن ابن عباس قال: "تدارس العلم ساعة من الليل خير من إحيائه". رواه الدارمي وفي حديث ابن عمرو مرفوعا: "إنما بعثت معلما". رواه الدارمي وعن الأعمش مرفوعا: "آفة العلم النسيان". رواه الدارمي مرسلا والأخبار والآثار في شرف العلم وفضل العالم والمعلم والمتعلم وطالب العلم كثيرة جدا لا يسعها هذا المقام. وقد ألف الحافظ الإمام الحجة هادي الناس إلى المحجة محمد بن أبي بكر القيم1 كتابه مفتاح دار السعادة في مجلدين في فضائل العلم وما يليها وهو كتاب نفيس عزيز المقاصد من الله تعالى به علي وأحسن إلي.
والمراد بالعلم في الأحاديث المذكورة علم الدين والشرع المبين وهو علم الكتاب العزيز والسنة المطهرة لا ثالث لهما. وليس المراد به العلوم المستحدثة في العالم قديمه وجديده التي اعتنى الناس بها في هذه الأزمان وخاضوا فيها خوضا منعهم عن النظر في علوم الإيمان وأشغلهم عن الاشتغال بمراد الله تعالى ورسوله سيد الإنس والجان حتى صار علم القرآن مهجورا وعلم الحديث مغمورا وظهرت صنائع أقوام الكفر والإلحاد وسميت بالعلوم والفنون والكمال المستجاد وهي كل يوم في ازدياد فإنا لله وإنا إليه راجعون هذا وقد تكفل كتاباي الحطة بذكر الصحاح الستة والجنة في الأسوة الحسنة بالسنة ببيان فضيلة علم السنة فإن شئت الزيادة على هذا المقدار فارجع إليهما يزيدانك بصيرة كاملة في هذا الباب والله أعلم بالصواب.
وقال الشافعي: من شرف العلم أن كل من نسب إليه ولو في شيء حقير فرح ومن رفع عنه حزن قال الأحنف: كل عز ولم يؤيد بعلم فإلى ذل مصيره.
1 هو المشهور بابن قيم الجوزية واسمه: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي، شمس الدين، من أركان الإصلاح الإسلامي وأحد كبار العلماء، مولده ووفاته بدمشق. له مؤلفات كثيرة جداً 691-751هـ = 1292-1350م.
ثم إن العلوم مع اشتراكها في الشرف تتفاوت فيه فمنه ما هو بحسب الموضوع كالطب فإن موضوعه بدن الإنسان. والتفسير فإن موضوعه كلام الله سبحانه وتعالى ولا خفاء في شرفهما.
ومنه ما هو بسحب الغاية كعلم الأخلاق فإن غايته معرفة الفضائل الإنسانية ومنه ما هو بحسب الحاجة إليه كالفقه فإن الحاجة إليه ماسة ومنه ما هو بحسب وثاقه الحجة كالعلوم الرياضية فإنها برهانية.
ومن العلوم ما يقوى شرفه باجتماع هذه العبارات فيه أو أكثرها كالعلم الإلهي فإن موضوعه شريف وغايته فاضلة والحاجة إليه ماسة. وقد يكون أحد العلمين أشرف من الآخر باعتبار ثمرته أو وثاقة دلائله أو غايته. ثم إن شرف الثمرة أولى من شرف قوة الدلالة فأشرف العلوم ثمرة العلم بالله سبحانه وتعالى وملائكته ورسله وما يعين عليه فإن ثمرته السعادة الأبدية.
الإعلام الثاني: في كون العلم ألذ الأشياء وأنفعها وفيه: تعليمات
الأول: في لذته
اعلم أن شرف الشيء إما لذاته أو لغيره والعلم حائز الشرفين جميعا لأنه لذيذ في نفسه فيطلب لذاته لذيذ لغيره فيطلب لأجله أما الأول: فلا يخفى على أهله أنه لا لذة فوقها لأنها لذة روحانية وهي اللذة المحضة وأما اللذة الجسمانية فهي دفع الألم في الحقيقة كما أن لذة الأكل دفع ألم الجوع ولذة الجماع دفع ألم الامتلاء. بخلاف اللذة الروحانية فإنها ألذ وأشهى من اللذائذ الجسمانية. ولهذا كان الإمام الثاني محمد بن الحسن الشيباني1 يقول عندما انحلت له مشكلات العلوم: أين أبناء الملوك من هذه اللذة سيما إذا كانت الفكرة في حقائق الملكوت وأسرار اللاهوت ومن لذته التابعة لعزته أنه لا يقبل العزل والنصب مع دوامه لا مزاحمة فيه لأحد لأن المعلومات متسعة مزيدة بكثرة الشركاء.
ومع هذا لا ترى أحدا من الولاة الجهال إلا يتمنون أن يكون عزهم كعز أهل العلم إلا أن الموانع البهيمية تمنع عن نيله.
وأما اللذائذ الحاصلة لغيره: أما في الأخرى فلكونه وسيلة إلى أعظم اللذائذ الأخروية والسعادة الأبدية ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل ولا يتوصل إلى العمل أيضا إلا بالعلم بكيفية العمل. فأصل سعادة الدارين هو العلم فهو إذا أفضل الأعمال. وأما في الدنيا فالعز والوقار ونفوذ الحكم على الملوك ولزوم الاحترام في الطباع فإنك ترى أغبياء الترك وأجلاف العرب وأراذل العجم يصادفون طباعهم مجبولة على التوقير لشيوخهم لاختصاصهم بمزيد علم مستفاد من التجربة بل البهيمة تجدها توقر الإنسان بطبعها
1 هو محمد بن الحسن بن فرقد من موالي بني شيبان، إمام بالفقه والأصول وهو الذي نشر علم أبي حنيفة ولذا نعت بالإمام الثاني، أصله من قرية حرسته في غوطة دمشق وولد بواسط ونشأ بالكوفة، ولي القضاء للرشيد في الرقة، مات في الري. له مؤلفات كثيرة 131-189هـ = 748-804م.
لشعورها بتمييز الإنسان بكل مجاوز لدرجتها حتى إنها تنزجر بزجره وإن كانت قوتها أضعاف قوة الإنسان.
التعليم الثاني: في نفعه:
اعلم: أن السعادة منحصرة في قسمين: جلب المنافع ودفع المضار وكل منهما دنيوي وديني فالأقسام أربعة:
الأول: هو ما ينجلب بالعلم من المنافع الدينية
وهو خفي وخلقي أشار إلى نفعه الأول قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: "فإن تعلمه لله خشية
…
" إلى آخره
…
وإلى نفعه الثاني قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة وبذله لأهله قربة".
الثاني: وهو ما ينجلب بالعلم من المنافع الدنيوية وهو وجداني وذوقي وجاهي رتبي والوجداني: إما راحة أو استيلاء والراحة إما من مشقة وجود ظاهر للنفس أو من فقد سار لها بالأنس. وكل منهما إما خارجي وإما ذاتي.
فالراحة أربعة أقسام:
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وهو الأنيس في الوحشة" إشارة إلى الأول لأنه يريح بأنسه من كل قلق واضطراب" وقوله: "والصاحب في الغربة" إشارة إلى الثاني فانه يقر من الغريب عينه ويريحه من كمود النفس من الحزن وانكسارها لفقد سرور الأهل والوطن.
وقوله: "والمحدث في الخلوة" إشارة إلى الثالث لأن العلم يريح المنفرد عن الناس بتحديثه من انقباض الفهم وخموده وهو ألم ذاتي لأهل الكمال وهذا هو السر في استلذاذ المسامرة والمنادمة
وقوله: الدليل على السراء والضراء أي في الماضي والآتي إشارة إلى الرابع الذي هو فقد سار ذاتي أي أن العلوم تقوم مقام الرأي السديد إذا استبشر إذ هو دال لصاحبه على السراء وأسبابها وعلى الضراء وموجباتها فالحيرة وجهل عواقب الأمور مؤلم للنفس لفقد نور البصيرة فالعلم يريح من تلك الهموم والأحزان.
والاستيلاء قسمان:
أحدهما: استيلاء يمحق الشر ويدفع الضر وإليه أشار قوله: والسلاح على الأعداء فبالعلم يزهق الباطل وتندفع الشبهة والجهالة. قيل: لبعض المناظرين فيم لذتك؟ فقال: في حجة تتبختر إيضاحا وشبهة تتضاءل افتضاحا.
وثانيهما: استيلاء يجلب الخير ويذهب الضر وإليه أشار قوله: والزين عند الأخلاء أي أن العلم جمال وحسن وكمال يجذب القلوب من الأخلاء كما قيل:
العلم زين وكنز لا نفاد له
…
نعم القرين إذا ما عاقلا صحب
القسم الثاني: ما يجلبه العلم من الوجاهة والرتبة وهي إما عند الله سبحانه وتعالى وإما عند الملأ الأعلى وإما عند الملأ الأسفل.
الأول: أشار إليه قوله: يرفع الله سبحانه وتعالى به أقواما أي يعلي مقامهم ورتبتهم فيجعلهم في الخير قادة وأئمة أي شرفاء الناس وسادتهم والقادة جمع قائد وهو الذي يجذب إلى الخير إما مع الإلزام كالقاضي والوالي اللذين إلزامهما على الظاهر وكالخطيب والواعظ اللذين إلزامهما على
الباطن وكالأئمة الذين بعلمهم يهتدي وبحالهم يقتدي.
والثاني: أشار إليه قوله: ترغب الملائكة في خلتهم أي لهم من المنزلة والمكانة في قلوبهم ما استولى على غيوب بواطنهم فرغبوا في محبتهم وأنسوا بملازمتهم وما استولى على ظواهرهم فيتبركون بمسحهم.
والثالث: أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم: "يستغفر لهم كل رطب ويابس" فشمل الناطق والنافس. قيل: سبب استغفار هؤلاء رجوع أحكامهم إليه في صدهم وقتلهم وحلهم وحرمتهم.
القسم الثالث: ما يندفع بالعلم من المضار الدنيوية وهو أيضا نوعان:
الأول: جلب المصالح والمقاصد ودفع المعائب والمفاسد وإليه. أشار قوله صلى الله عليه وسلم: "به توصل الأرحام" أي بالعلم توصل الأرحام بين الأنام وتدفع مضرة القطيعة وحقدهم وحسدهم ومحاربتهم.
والثاني: مضرة اجتلاب المفساد برفض القانون الشرعي العاصم. من كل ضلال وإليه أشار قوله صلى الله عليه وسلم: "وبه يعرف الحلال والحرام" أي بالعلم يتبين أحدهما من الآخر وهو أساس جميع الخيرات فتأمل في بيان منافع العلم وكيفية جوامع الكلم وأكثر الصلاة على صاحبه عليه الصلاة والسلام.
الإعلام الثالث: في دفع ما يتوهم من الضرر في العلم وسبب كونه مذموما
اعلم: أنه لا شيء من العلم من حيث هو علم بضار ولا شيء من الجهل من حيث هو جهل بنافع. لأن في كل علم منفعة ما في أمر المعاد أو المعاش أو الكمال الإنساني وإنما يتوهم في بعض العلوم أنه ضار أو غير نافع لعدم اعتبار الشروط التي تجب مراعاتها في العلم والعلماء فإن لكل علم حدا لا يتجاوزه.
فمن الوجوه المغلطة أن يظن بالعلم فوق غايته كما يظن بالطب أنه يبرئ من جميع الأمراض وليس كذلك فإن منها مالا يبرأ بالمعالجة.
ومنها: أن يظن بالعلم فوق مرتبته في الشرف كما يظن بالفقه أنه أشرف العلوم على الإطلاق وليس كذلك فإن علم التوحيد أشرف منه قطعا ومنها: أن يقصد بالعلم غير غايته كمن يتعلم علما للمال أو الجاه فالعلوم ليس الغرض منها الاكتساب بل الاطلاع على الحقائق وتهذيب الأخلاق على أنه من تعلم علما للاحتراف لم يأت عالما إنما جاء شبيها بالعلماء ولقد كوشف علماء ما وراء النهر بهذا ونطقوا به لما بلغهم بناء المدارس ببغداد أقاموا مأتم العلم وقالوا: كان يشتغل به أرباب الهمم العلية والأنفس الزكية الذين يقصدون العلم لشرفه والكمال به فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم وإذا صار عليه أجرة تدانى إليه الأخساء وأرباب الكسل فيكون سببا لارتفاعه ومن ههنا هجرت علوم الحكمة وإن كانت شريفة لذاتها.
ومنها: أن يمتهن العلم بابتذاله إلى غير أهله كما اتفق في علم الطب فإنه كان في الزمن القديم حكمة موروثة عن النبوة فصار مهانا لما تعاطاه اليهود فلم يشرفوا به بل زال العلم بهم. وما أحسن قول أفلاطون: إن الفضيلة تستحيل في النفس الردية رذيلة كما يستحيل الغذاء الصالح في بدن السقيم إلى الفساد. ومن هذا القبيل الحال في علم أحكام النجوم فإنه لم يكن يتعاطاه إلا العلماء به للملوك ونحوهم فرذل حتى
صار لا يتعطاها غالبا إلا جاهل يروج أكاذيبه.
ومنها: أن يكون العلم عزيز المنال رفيع المرقى قلما يتحصل غايته ويتعاطاه من ليس من أهله لينال بتمويهه عرضا كما اتفق في علوم الكيمياء والسيمياء والسحر والطلسمات. والعجب ممن يقبل دعوى من يدعي علما من هذه العلوم فإن الفطرة قاضية بأن من يطلع على ذبابة من أسرار هذه العلوم يكتمها عن والده وولده.
ومنها: ذم جاهل متعالم لجهله إياه فإن من جهل شيئا أنكره وعاداه كما قيل: المرء عدو لما جهله. أو ذم جاهل متعالم لتعصبه على أهله بسبب من الأسباب فإنك تسمعهم يقولون بتحريم المنطق مع كونه ميزان العلوم وتحريم الفلسفة مع أنها عبارة عن معرفة حقائق الأشياء وليس فيها ما ينافي الشرع المبين والدين المتين غير المسائل اليسيرة التي أوردها أصحاب التهافت وليس في كتب الحنفية القول بتحريم المنطق غير الأشباه فإن كان صاحبه رآه كان المناسب أن ينقل وأما ما في كتب الشافعية من التصريح به فمن رآه كان المناسب أن ينقل. وأما ما في كتب الشافعية من التصريح به فمن قبيل سد الذرائع وصرف الطبائع إلى علوم الشرائع. ولعل المراد من منع الأئمة عن تعليم بعض العلوم وتعلمه تخليص أصحاب العقول القاصرة من تضييع العمر وتوزيبه بلا فائدة فإن في تعليم أمثاله ليس له عائدة وإلا فالعلم إن كان مذموما في نفسه على زعمهم فإنه لا يخلو تحصيله عن فائدة أقلها رد القائلين به قال الغزالي في الإحياء: إن العلم لا يذم لعينه وإنما يذم في حق العباد لأحد أسباب ثلاثة
الأول: أن يكون مؤديا إلى ضرر ما إما لصاحبه أو لغيره كما يذم علم السحر والطلسمات وهو حق إذ شهد القرآن له.
الثاني: أن يكون مضرا لصاحبه في غالب الأمر كعلم النجوم.
الثالث: الخوض في علم لا يستقل الخائض فيه فإنه مذموم في حقه كتعلم دقيق العلوم قبل جليلها وخفيها قبل جليها وكالبحث عن الأسرار الإلهية إلى آخر ما قال وأطال في بيان هذه الأسباب الثلاثة فإن شئت الزيادة فارجع إليه فإنه ينفعك نفعا عظيما.
الإعلام الرابع: في مراتب العلوم من التعليم
ولا يخفى أن يقدم الأهم فالأهم فيه والوسيلة مقدمة على المقصد كما أن المباحث اللفظية مقدمة على المباحث المعنوية لأن الألفاظ وسيلة إلى المعاني. ويقدم الأدب على المنطق ثم هما على أصول الفقه. ثم هو على الخلاف والتحقيق أن تقديم العلم على العلم لثلاثة أمور:
إما لكونه أهم منه كتقديم فرض العين على فرض الكفاية وهو على المندوب إليه وهو على المباح.
وإما لكونه وسيلة إليه كما سبق فيقدم النحو على المنطق. وإما لكون موضوعه جزءا من موضوع العلم الآخر والجزء مقدم على الكل فيقدم الصرف على النحو وربما يقدم علم على علم لا لشيء منها بل لفرض التمرين على إدراك المعقولات كما أن طائفة من القدماء قدموا تعليم علم الحساب. وكثيرا ما يقدم الأهون فالأهون ولذا قدم المصنفون في كتبهم النحو
على الصرف ولعلهم راعوا في ذلك أن الحاجة إلى النحو أمس.
ثم إنه تختلف فروض الكفاية في التأكد وعدمه بحسب خلو الأعصاب والأمصار من العلماء فرب مصر لا يوجد فيه من يقسم الفريضة إلا واحد أو اثنان ويوجد فيه عشرون فقيها فيكون تعلم الحساب فيه آكد من أصول الفقه.
واعلم أن الواجب علمه هو فرض عين وهو كل ما أوجبه الشرع على الشخص في خاصة نفسه وما أوجبه على المجموع ليعملوا به لو قام به واحد لسقط عن الباقين ويسمى فرض كفاية والعلوم التي هي فروض كفاية على المشهور كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمر الدنيا وقانون الشرع كفهم الكتاب والسنة وحفظهما من التحريفات ومعرفة الاعتقاد بإقامة البرهان عليه وإزالة الشبهة ومعرفة الأوقات والفرائض والأحكام الفرعية وحفظ الأبدان والأخلاق والسياسة وكل ما يتوصل به إلى شيء من هذه كعلم اللغة والتصريف والنحو والمعاني والبيان. وكالمنطق وتسيير الكواكب ومعرفة الأنساب والحساب إلى غير ذلك من العوم التي هي وسائل إلى هذه المقاصد. وتفاوت درجاتها في التأكيد بحسب الحاجة إليها
في هذا الباب كتاب أدب الطلب لشيخنا العلامة المجتهد محمد بن علي الشوكاني رحمه الله أبان فيه طريق العلم والتدرج فيه وهو كتاب لم يؤلف قبله مثله وإنه نفيس جداً.
الإعلام الخامس: في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية 1 في طرقه
اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث وصار القرآن أصل التعليم الذي يبتني عليه ما يحصل بعد من الملكات
وسبب ذلك أن تعليم الصغر أشد رسوخا وهو أصل لما بعده لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال ما يبتني عليه.
واختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان باختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التعليم من الملكات فأما أهل المغرب: فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعا عن العلم بالجملة وهذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى البربر أمم المغرب في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة. وكذا في الكبير إذا راجع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره فهم لذلك أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم. وأما أهل الأندلس: فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو وهذا هو الذي يراعونه في التعليم. إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك وأسه ومنبع الدين والعلوم جعلوه أصلا في التعليم فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان
1 انظر هذا الفصل في مقدمة ابن الخلدون صفحة 1359-1363 تحقيق علي عبد الواحد وافي، الطبعة الثانية 1968م.
رواية الشعر في الغالب والترسل وأخذ هم بقوانين العربية وحفظها وتجويد الخط والكتاب
ولا تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه بل عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة وقد شدا بعض الشيء في العربية والشعر والبصر بهما وبرز في الخط والكتاب وتعلق بأذيال العلم على الجملة لو كان فيها سند لتعليم العلوم ولكنهم ينقطعون عند ذلك فانقطاع سند التعليم في آفاقهم ولا يحصل بأيديهم إلا ما حصل من ذلك التعليم الأول وفيه كفاية لمن أرشده الله تعالى واستعداد إذا وجد المعلم
وأما أهل إفريقية: فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب ومدارسة قوانين العلوم وتلقين بعض مسائلها إلا أن عنايتهم بالقرآن واستظهار الولدان إياه ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءاته أكثر مما سواه وعنايتهم بالخط تبع لذلك. وبالجملة فطريقتهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس لأن سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الأندلس واستقروا بتونس وعنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك.
وأما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا ولا أدري بم عنايتهم منها والذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن وصحف العلم وقوانينه في زمن الشبيبة ولا يخلطون بتعليم الخط بل لتعليم الخط عندهم قانون ومعلمون له على انفراده كما تتعلم سائر الصنائع ولا يتداولونها في مكاتب الصبيان. وإذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر عن الإجادة. ومن أراد تعلم الخط فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمة في طلبه ويبتغيه من أهل صنعته.
فأما أهل إفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة وذلك أن القرآن لا ينشا عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها وليس لهم ملكة في غير أساليبه فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي وحظه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام
وربما كان أهل إفريقية في ذلك أخف من أهل المغرب لما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه فيقتدرون على شيء من التصرف ومحاذاة المثل بالمثل إلا أن ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة لما أن أكثر محفوظهم عبارات العلوم النازلة عن البلاغة كما سيأتي في موضعه وأما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم وكثرة رواية الشعر والترسل ومدارسة العربية من أول العمر حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي وقصروا في سائر العلوم لبعدهم عن مدارسة القرآن والحديث الذي هو أصل العلوم وأساسها فكانوا لذلك أهل حظ وأدب بارع أو مقصر على حسب ما يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبا ولقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي1 في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم وأعاد في ذلك وأبدأ وقدم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس: قال لأن الشعر ديوان
1 هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الإشبيلي المالكي، ابن العربي، قاض من حفاظ الحديث ولد في إشبيليه ورحل إلى الشرق، بلغ رتبة الاجتهاد في علوم الدين، وبرع في الأدب. له مصنفات كثيرة في الحديث والفقة والأصول والأدب والتاريخ، هو غير محيي الدين ابن العربي: 468-543هـ = 1076-1148م.
العرب. ويدعو إلى تقديمه وتعليم العربية في التعليم ضرورة فساد اللغة ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر عليه بهذه المقدمة ثم قال: ويا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أول أمره يقرأ مالا يفهم وينصب في أمر غيره أهم عليه قال: ثم ينظر في أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث وعلومه ونهى مع ذلك أن يخلط في التعليم علمان إلا أن يكون المتعلم قابلا لذلك بجوده الفهم والنشاط.
هذا ما أشار إليه القاضي أبو بكر رحمه الله وهو لعمري مذهب حسن إلا أن العوائد لا تساعد عليه وهي أملك بالأحوال ووجه ما اختصت به العوائد من تقدم دراسة القرآن إيثارا للتبرك والثواب وخشية ما يعرض للولد في جنون الصبا من الآفات والقواطع عن العلم فيفوته القرآن فإنه ما دام في الحجر منقاد للحكم فإذا تجاوز البلوغ وانحل من ربقة القهر فربما عصفت به رياح الشبيبة فألقته بساحل البطالة فيغتنمون في زمان الحجر وربقه الحكم تحصيل القرآن لئلا يذهب خلوا منه ولو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم وقبوله التعليم لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى مما أخذ به أهل المغرب والمشرق ولكن الله تعالى يحكم ما يشار لا معقب لحكمه1. وهو أحكم الحاكمين.
الإعلام السادس: في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم 2
وذلك أن إرهاف الحد في التعليم مضر بالمتعلم سيما في أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة
ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى لكسل وحمله على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله وصار عيالا على غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس عاد في أسفل السافلين وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف
واعتبره في كل من يملك أمره عليه ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به وتجد ذلك فيهم استقراء وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالحرج ومعناه في الاصطلاح المشهور: التخابث والكيد وسببه ما قلناه
فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبدوا عليهم في التأديب.
وقد قال محمد بن أبي زيد في كتابه الذي ألفه في حكم المعلمين والمتعلمين: لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئا ومن كلام عمر رضي الله عنه: من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله حرصا على صون النفوس عن مذلة التأديب وعلما
1 آخر كلام ابن خلدون في صفحة 1363.
2 الفصل في مقدمة ابن خلدون صفحة 1363-1364.
بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له فإنه أعلم بمصلحته.
ومن أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده محمد الأمين فقال: يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه فصير يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين أقرئه القرآن وعرفه الأخبار وروه الأشعار وعلمه السنن وبصره بمواقع الكلام وبدئه وامنعه من الضحك إلا في أوقاته وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة1 والله أعلم
الإعلام السابع: في وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته 2
أعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدريج شيئا فشيئا وقليلا قليلا ويلقي عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية وضعيفة وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله. ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ويستوفي الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته. ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصا ولا مبهما ولا مغلقا إلا وضحه وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته.
هذا وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه وقد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفادته ويحضرون المتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها ويحسبون ذلك مرانا على التعليم وصوابا فيه ويكلفونه وعي ذلك وتحصيله ويخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها وقبل أن يستعد لفهمها فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجا ويكون المتعلم أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلا في الأقل وعلى سبيل التقريب والإجمال وبالأمثال الحسية ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل ويحيط بمسائل الفن
وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه وانحرف عن
1 آخر كلام ابن خلدون.
2 الفصل في مقدمة ابن خلدون صفحة 1353-1358.
قبوله وتمادى في هجرانه وإنما أتى ذلك من سوء التعليم.
ولا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته وعلى نسبة قبوله للتعليم مبتدئا كان أو منتهيا ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى آخره ويحصل أغراضه ويستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره لأن المتعلم إذا حصل له ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق حتى يستولي على غايات العلم وإذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم وأدركه الكلال وانطمس فكره ويئس من التحصيل وهجر العلم والتعليم والله يهدي من يشاء.
وكذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد بتفريق المجالس وتقطيع ما بينها لأنه ذريعة إلى النسيان وانقطاع مسائل الفن بعضها من بعض فيعسر حصول الملكة بتفريقها وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان كانت الملكة أيسر حصولا وأحكم ارتباطا وأقرب صبغة لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكراره وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه والله علمكم ما لم تكونوا تعلمون ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة على المتعلم عدم جمع العلمين معا فإنه قل أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر فيستغلقان معا ويستصعبان ويعود منهما بالخيبة وإذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصرا عليه فربما كان ذلك أجدر بتحصيله والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.
قف: اعلم أيها المتعلم أني أتحفك بفائدة في تعلمك فإن تلقيتها بالقبول وأمسكتها بيد الصناعة ظفرت بكنز عظيم وذخيرة شريفة وأقدم لك مقدمة تعينك في فهمها وذلك أن الفكر الإنساني طبيعة مخصوصة فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته وهو وجدان حركة للنفس في البطن الأوسط من الدماغ تارة يكون مبدأ للأفعال الإنسانية على نظام وترتيب وتارة يكون مبدأ لعلم ما لم يكن حاصلا بأن يتوجه إلى المطلوب وقد تصور طرفيه ويروم نفيه أو إثباته فيلوح له الوسط الذي يجمع بينهما أسرع من لمح البصر إن كان واحدا وينتقل إلى تحصيل آخر إن كان متعددا ويصير إلى الظفر بمطلوبه هذا شأن هذه الطبيعة الفكرية التي تميز بها البشر من بين سائر الحيوانات.
ثم الصناعة المنطقية هي كيفية فعل هذه الطبيعة الفكرية النظرية تصفه ليعلم سداده من خطئه لأنها وإن كان الصواب لها ذاتيا إلا أنه قد يعرض لها الخطأ في الأقل من تصور الطرفين على غير صورتهما من اشتباه الهيئات في نظم القضايا وترتيبها للنتاج فتعين المنطق للتخلص من ورطة هذا الفساد إذا عرض فالمنطق إذا أمر صناعي مساوق للطبيعة الفكرية ومنطبق على صورة فعلها ولكونه أمرا صناعيا استغني عنه في الأكثر ولذلك تجد كثيرا من فحول النظار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة المنطق ولا سيما مع صدق النية والتعرض لرحمة الله فإن ذلك أعظم معنى ويسلكون بالطبيعة الفكرية على سدادها فيفضي بالطبع إلى حصول الوسط والعلم بالمطلوب كما فطرها الله عليه.
ثم من دون هذا الأمر الصناعي الذي هو المنطق مقدمة أخرى من التعلم وهي معرفة الألفاظ ودلالاتها على المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب ومشافهة اللسان بالخطاب. فلا بد أيها المتعلم من
مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك فأولا: دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة وهي أخفها. ثم دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة ثم القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق ثم تلك المعاني مجردة في الفكر أشراكا يقتنص بها المطلوب بالطبيعة الفكرية بالتعرض لرحمة الله ومواهبه.
وليس كل أحد يتجاوز هذه المراتب بسرعة ولا يقطع هذه الحجب في التعليم بسهولة بل ربما وقف الذهن في حجب الألفاظ بالمناقشات أو عثر في أشراك الأدلة بشغب الجدال والشبهات وقعد عن تحصيل المطلوب ولم يكد يتخلص من تلك الغمرة إلا قليل ممن هداه الله فإذا ابتليت بمثل ذلك وعرض لك ارتباك في فهمك أو تشغيب بالشبهات في ذهنك فاطرح ذلك وانتبذ حجب الألفاظ وعوائق الشبهات واترك الأمر الصناعي جملة واخلص إلى فضاء الفكر الطبيعي الذي فطرت عليه وسرح نظرك فيه وفرغ ذهنك له للغوص على مرامك منه واضعا لها حيث وضعها أكابر النظار قبلك مستعرضا للفتح من الله كما فتح عليهم من ذهنهم من رحمته وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظفر بمطلوبك وحصل الإلهام الوسط الذي جعله الله من مقتضيات ذاتيات هذا الفكر وفطره عليه كما قلنا فارجع به إلى قوالب الأدلة وصورها فأفرغه فيها ووفه حقه من القانون الصناعي ثم اكسه صور الألفاظ وأبرزه إلى عالم الخطاب والمشافهة وثيق العرى صحيح البنيان.
وأما إن وقفت عند المناقشة والشبهة في الأدلة الصناعية وتمحيص صوابها من خطئها - وهذه أمور صناعية وضعية تستوي جهاتها المتعددة وتتشابه لأجل الوضع والاصطلاح - فلا تتميز جهة الحق منها إذ جهة الحق إنما تستبين إذا كانت بالطبع فيستمر ما حصل من الشك والارتياب وتسدل الحجب عن المطلوب وتقعد بالناظر عن تحصيله وهذا شأن الأكثرين من النظار والمتأخرين سيما من سبقت له عجمة في لسانه فربطت عن ذهنه ومن حصل له شغف بالقانون المنطقي تعصب له فاعتقد أنه الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع فيقع في الحيرة بين شبه الأدلة وشكوكها ولا يكاد يخلص منها والذريعة إلى درك الحق بالطبع إنما هو الفكر الطبيعي كما قلناه إذا جرد عن جميع الأوهام وتعرض الناظر فيه إلى رحمة الله تعالى وأما المنطق فإنما هو واصف لفعل هذا الفكر فيساوقه لذلك في الأكثر فاعتبر ذلك واستمطر رحمة الله تعالى متى أعوزك فهم المسائل تشرق عليك أنواره بالإلهام إلى الصواب والله الهادي إلى رحمته وما العلم إلا من عند الله تعالى1.
قف: 2اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين: علوم مقصودة بالذات كالشرعيات من التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة.
1 انتهى كلام ابن خلدون.
2 جاء هذا الكلام من هنا في مقدمة ابن خلدون صفحة 1358 تحت عنوان "فصل في أن العلوم الآلية لا توسع فيها الأنظار ولا تفرع المسائل".
وعلوم هي آلية وسيلة لهذه العلوم كالعربية والحساب وغيرهما للشرعيات وكالمنطق للفلسفة وربما كان آلة لعلم الكلام ولأصول الفقه على طريقة المتأخرين.
فأما العلوم التي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها وتفريع المسائل واستكشاف الأدلة والأنظار فإن ذلك يزيد طالبها تمكنا في ملكته وإيضاحا لمعانيها المقصودة وأما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية والمنطق وأمثالهما فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط ولا يوسع فيها الكلام ولا تفرع المسائل لأن ذلك مخرج لها عن المقصود إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير فكلما خرجت عن ذلك خرجت عن المقصود وصار الاشتغال بها لغوا مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها وربما يكون ذلك عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها مع أن شأنها أهم والعمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصورة فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعا للعمر وشغلا بما لا يعني وهذا كما فعل المتأخرون في صناعة النحو وصناعة المنطق وأصول الفقه لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها وأكثروا من التفاريع والاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة وصيرها من المقاصد وربما يقع فيها أنظار لا حاجة بها في العلوم المقصودة فهي من نوع اللغو وهي أيضا مضرة بالمتعلمين على الإطلاق لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها فإذا قطعوا لهذا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقصاد فلهذا يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية أن لا يستبحروا في شأنها وينبهوا المتعلم على الغرض منها ويقفوا به عنده فمن نزعت به همته بعد ذلك إلى شيء من التوغل فليرق له ما شاء من المراق صعبا أو سهلا وكل ميسر لما خلق له1.
الإعلام الثامن: في آداب المتعلم والمعلم
أما المتعلم: فآدابه ووظائفه كثيرة ولكن ينظم تفاريقها عشر جمل:
الأولى: تقديم طهارة النفس عن رذائل الخلاق ومذموم الأوصاف إذ العلم عبادة القلب وصلاح السر وقربة الباطن إلى الله تعالى فلا تصح هذه العبادة إلا بعد طهارة القلب عن خبائت الأخلاق وأنجاس الأوصاف.
الثانية: أن يقلل علائقه من الاشتغال بالدنيا ويبعد عن الأهل والوطن فإن العلائق شاغلة وصارفه وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ومهما توزعت الفكرة قصرت عن درك الحقائق ولذلك قيل: العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك فإذا أعطيته كلك فأنت من إعطائه إياك بعضه على خطر والفكرة المتوزعة على أمور متفرقة كجدول تفرق ماؤه فنشفت الأرض بعضه واختطف الهواء بعضه فلا يبقى منه ما يجتمع ويبلغ الزرع.
1 آخر كلام ابن خلدون في صفحة 1359.
الثالثة: أن لا يتكبر على العلم ولا يتأمر على المعلم بل يلقي إليه زمام أمره بالكلية في كل تفصيل ويذعن لنصيحته إذعان المريض الجاهل للطبيب المشفق الحاذق وينبغي أن يتواضع لمعلمه ويطلب الثواب والشرف بخدمته.
الرابعة: أن يحترز الخائض في العلم في مبدأ الأمر عن الإصغاء إلى اختلاف الناس سواء كان ما خاض فيه من علوم الدنيا أو من علوم الآخرة فإن ذلك يدهش عقله ويحير ذهنه ويفتر رأيه ويؤيسه من الإدراك والاطلاع بل ينبغي أن يتقن أولا الطريقة الحميدة الواحدة المرضية عند أستاذه ثم بعد ذلك يصغي إلى المذاهب والشبه وإن لم يكن أستاذه مستقلا باختيار رأي واحد وإنما عادته نقل المذاهب وما قيل فيها فليحترز منه فإن إضلاله أكثر من إرشاده فلا يصلح الأعمى لقود العميان وإرشادهم ومن هذا حاله بعد في عمى الحيرة وشبه الجهل.
الخامسة: أن لا يدع طالب العلم فنا من العلوم المحمودة ولا نوعا من أنواعها إلا وينظر فيه نظرا يطلع به على مقصده وغايته ثم إن ساعده العمر طلب التبحر فيه وإلا اشتغل بالأهم منه واستوفاه وتطرف من البقية فإن العلوم متعاونة وبعضها مرتبط ببعض ويستفيد منه في الحال الانفكاك عن عداوة ذلك العلم بسبب. جهله فإن الناس أعداء ما جهلوا
قال تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} .
فالعلوم على درجاتها إما سالكة بالعبد إلى الله تعالى أو معينة على السلوك نوعا من الإعانة ولها منازل مرتبة في القرب والبعد من المقصود والقوامون بها حفظة كحافظ الرباطات والثغور ولكل واحد رتبة وله بحسب درجته أجر في الآخرة إذا قصد به وجه الله تعالى.
السادسة: أن لا يأخذ في فن من فنون العلم دفعة بل يراعي الترتيب ويبتدئ بالأهم
فإن العمر إذا كان لا يتسع لجميع العلوم غالبا فالحزم أن يأخذ من كل شيء أحسنه ويكتفي منه بشمه ويصرف جمام قوته في الميسور من علمه إلى استكمال العلم الذي هو أشرف العلوم وهو علم الآخرة ولست أعني به الاعتقاد الذي يتلقنه العامي وراثة أو تلقفا ولا طريق تحرير الكلام والمجادلة فيه عن مراوغات الخصوم كما هو غاية المتكلم بل ذلك نوع يقين هو ثمرة نور يقذفه الله تعالى في قلب عبد طهر بالمجاهدة باطنه عن الخبائث حتى ينتهي إلى رتبة إيمان الصديق رضي الله عنه الذي لو وزن بإيمان العالمين لرجح.
السابعة: أن لا يخوض في فن حتى يستوفي الفن الذي قبله فإن العلوم مرتبة ترتيبا ضروريا وبعضها طرق إلى بعض والموفق من راعى ذلك الترتيب والتدريج1 وليكن قصده في كل علم يتحراه الترقي إلى ما هو فوقه وبنبغي أن يعرف الشيء في نفسه فلا كل علم يستقل بالإحاطة به كل شخص ولذلك قال علي رضي الله عنه: لا تعرف الحق بالرجال. اعرف الحق تعرف أهله.
الثامنة: أن يعرف السبب الذي به يدرك شرف العلوم وأن ذلك يراد به شيئان:
أحدهما: شرف الثمرة.
1 بإزائة في هامش الأصل تعليق صورته: "وهذا الترتيب قد بينه الإمام العلامة محمد بن علي الشوكاني في كتابة أدب الطلب ومنتهى الأرب، والشاه ولي الله المحدث الدهلوي في وصاياه وقد لخصت الكتاب الأول وسميته طلب الأدب من أدب الطلب وطبع بمصر بهوبال المحروسة فإن شئت الاطلاع عليه فارجع إليه 13 مولوي محمد عبد الصمت بشاوري سلمه الله تعالى".
والثاني: وثاقة الدليل وقوته وذلك: كعلم الدين وعلم الطب.
التاسعة: أن يكون قصد المتعلم في الحال تخلية باطنه وتحميله بالفضيلة
وفي الحال القرب من الله سبحانه والترقي إلى جوار الملأ العلى من الملائكة والمقربين
ولا يقصد به الرياسة والمال والجاه ومجاراة السفهاء ومباهاة الأقران. وإذا كان هذا مقصده - طلب لا محالة - الأقرب إلى مقصوده وهو علم الآخرة ومع هذا فلا ينبغي أن ينظر بعين الحقارة إلى سائر العلوم كالنحو واللغة المتعلقين بالكتاب والسنة وغير ذلك.
العاشرة: أن يعلم نسبة العلوم إلى المقصد كما يؤثر القريب الرفيع على البعيد الوضيع والمهم على غيره ومعنى المهم ما يهمك ولا يهمك إلا شأنك في الدنيا والآخرة وإذا لم يمكنك الجمع بين ملاذ الدنيا ونعيم الآخرة كما نطق به القرآن وشهد له نور البصائر ما يجري مجرى العيان فالأهم ما يبقى أبد الآباد وعند ذلك تصير الدنيا منزلا والبدن مركبا والأعمال سعيا إلى المقصد ولا مقصد إلا لقاء الله تعالى ففيه النعيم كله وإن كان لا يعرف في هذا العالم قدره إلا الأقلون.
وأما: وظائف المعلم المرشد
فالأولى: الشفقة على المتعلمين وأن يجريهم مجرى بنيه
ولذلك صار حق المعلم أعظم من حق الوالدين. ولولا المعلم لانساق ما حصل من جهة الأب إلى الهلاك الدائم وإنما المعلم هو المفيد للحياة الأخروية الدائمة كما أن الوالد سبب الوجود الحاضر الفاني والمراد معلم علوم الآخرة أو علوم الدنيا على قصد الآخرة لا على قصد الدنيا. فأما التعليم على قصد الدنيا فهو هلاك وإهلاكه نعوذ بالله منه.
الثانية: أن يقتدي بصاحب الشرع فلا يطلب على إفادة العلم أجرا ولا يقصد به جزاء ولا شكرا بل يعلم لوجه الله تعالى وطلبا للتقرب إليه ولا يرى لنفسه منة عليهم وإن كانت المنة لازمة لهم بل يرى الفضل لهم وثوابه في التعليم أكثر من ثواب المتعلم عند الله تعالى ولولا التعلم ما ثبت هذا الثواب فلا يطلب الأجر إلا من الله تعالى.
الثالثة: أن لا يدع من نصح المتعلم شيئا وذلك بأن يمنعه من التصدي لرتبة قبل استحقاقها والتشاغل بعلم خفي قبل الفراغ من الجلي ثم ينبهه على أن يطلب العلوم للقرب إلى الله دون الرئاسة والمباهاة والمنافسة ويقدم تقبيح ذلك في نفسه بأقصى ما يمكن فليس ما يصلحه العالم الفاجر بأكثر مما يفسده. فإن علم من باطنه أنه لا يطلب العلم إلا للدنيا نظر إلى العلم الذي يطلبه فإن كان هو علم الخلاف في الفقه والجدل في الكلام والفتاوى في الخصومات والأحكام فيمنعه من ذلك فإن هذه العلوم ليست من علوم الآخرة ولا من العلوم التي قيل فيها: تعلمنا العلم لغير الله فأبى العلم إلا أن يكون الله وإنما ذلك علم التفسير وعلم الحديث وما كان الأولون يشتغلون به من علم الآخرة ومعرفة أخلاق النفس وكيفية تهذيبها فإذا تعلم الطالب وقصده الدنيا فلا بأس أن يتركه.
الرابعة: وهي من دقائق صناعة التعليم أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن ولا يصرح وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ فإن التصريح بهتك حجاب الهيبة ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف ويهيج الحرص على الإصرار.
الخامسة: أن المتكفل ببعض العلوم ينبغي ألا يقبح في نفس المتعلم العلوم التي وراءه كمعلم اللغة إذ عادته تقبيح علم الفقه ومعلم الفقه عادته تقبيح علم الحديث والتفسير ذلك نقل محض وسماع بحت وهو شأن العجائز ولا نظر للعقل فيه ومعلم الكلام ينفر عن الفقه ويقول: ذلك فروع وهو كلام في حيض النسوان فأين ذلك من الكلام في صفة الرحمن فهذه أخلاق مذمومة للمعلمين ينبغي أن تجتنب بل المتكفل بعلم واحد ينبغي أن يوسع على المتعلم طريق التعليم في غيره وإن كان متكفلا بعلوم فينبغي أن يراعي التدريج في ترقية المتعلم من رتبة إلى رتبة.
السادسة: أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه ولا يلقي إليه مالا يبلغه عقله فينفره أو يخبط عليه عقله كما قيل: كلموا الناس على قدر عقولهم وأشار علي عليه السلام إلى صدره إن ههنا لعلوما جمة لو وجدت لها حملة.
السابعة: أن المتعلم القاصر ينبغي أن يلقي إليه الجلي اللائق به ولا يذكر له أن وراء هذا تدقيقا وهو يدخره عنه فإن ذلك يفتر رغبته في الجلي ويشوش عليه قلبه ويوهم إليه البخل به عنه إذ يظن كل أحد أنه أهل لكل علم دقيق فما من أحد إلا وهو راض عن الله سبحانه في كمال عقله وأشدهم حماقة وأضعفهم عقلا هو أفرحهم بكمال عقله.
الثامنة: أن يكون المعلم عاملا بعلمه فلا يكذب قوله فعله فإن العلم يدرك بالبصائر والعمل يدرك بالأبصار وأرباب الأبصار أكثر فإذا خالف العمل العلم منع الرشد وكل من تناول شيئا وقال للناس: لا تتناولوه فإنه سم مهلك سخر الناس به واتهموه وزاد حرصهم عليه فيقولون: لولا أنه أطيب الأشياء وألذها لما كان يستأثر به.
هذا خلاصة ما في الإحياء وقد أطال في تقرير كل أدب ووظيفة من هذه الآداب والوظائف إطالة حسنة. وعقد الباب السادس من كتاب العلم في آفات العلم وبيان علامات علماء الآخرة والعلماء السوء. والله تعالى أعلم بالصواب.
وللشيخ العالم برهان الإسلام الزرنوجي1 تلميذ صاحب الهداية2 كتاب سماه تعليم المتعلم طريق التعلم وجعله فصولا قال فيه: إنه لا يفترض على كل مسلم طلب كل علم وإنما يفترض عليه طلب علم الحال أي علم ما يقع له في حاله من الصلاة والزكاة والصوم والحج. ولا بد له من النية في زمان تعلم العلم لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" وينوي بطلب العلم رضاء الله تعالى والدار الآخرة وإزالة الجهل عن نفسه وعن سائر الجهال وإحياء الدين وإبقاء الإسلام فإن بقاء الإسلام بالعلم ولا يصح الزهد والتقوى مع الجهل. ولا ينوي به إقبال الناس إليه ولا استجلاب حطام الدنيا والكرامة عند السلطان وغيره. ولا يذل نفسه بالطمع ويتحرز عما فيه مذلة العلم وأهله. ويختار من كل علم أحسنه ويقدم علم
1 هو برهان الدين الزرنوجي صاحب كتاب تعليم المتعلم طريق التعلم المشهور، وقد كان حياً في سنة 593هـ =1196م.
2 هو كتاب الهداية في فروع الفقة الحنفي. جعله شرحاً لكتاب البداية له. وصاحب الهداية هو برهان الدين علي بن أبي بكر المرغيناني الحنفي المتوفى سنة 593هـ = 1196م.
التوحيد والمعرفة وإن كان إيمان المقلد صحيحا ويختار العتيق دون المحدثات ولا يشتغل بهذا الجدل الذي ظهر بعد انقراض الأكابر من العلماء. وأما اختيار الأستاذ فيختار الأعلم والأورع والأسن والمشاورة في طلب العلم أهم وأوجب. وينبغي أن يثبت ويصبر على أستاذ وعلى كتاب حتى لا يتركه أبتر وعلى فن حتى لا يشتغل بفن آخر قبل أن يتقن الأول وعلى بلد حتى لا ينتقل إلى بلد آخر من غير ضرورة ولا ينال ولا ينتفع به إلا بتعظيم العلم وأهله وتعظيم الأستاذ وتوقيره ولا بد لطالب العلم من الجد والمواظبة والملازمة وإليه الإشارة في القرآن الكريم {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} و {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} قيل: اتخذ الليل جملا تدرك به أملا ويواظب على الدرس والتكرار في أول الليل وآخره فإن ما بين العشاءين ووقت السحر وقت مبارك والكسل من قلة التأمل في مناقب العلم وفضائله والعلم النافع يحصل به حسن الذكر ويبقى ذلك بعد وفاته فإنه حياة أبدية. ويوقف بداية السبق على يوم الأربعاء وهكذا كان فعل أبو حنيفة رحمه الله بل كان الشيخ أبو يوسف الهمداني يوقف كل عمل من أعمال الخير على يوم الأربعاء وهذا لأنه يوم خلق فيه النور وهو يوم نحس في حق الكفار فيكون مباركا للمؤمنين. وينبغي أن يكون قدر السبق للمبتدئ قدر ما يمكن ضبطه بالإعادة مرتين بالرفق ويزيد كل يوم كلمة وقد قيل: السبق حرف والتكرار ألف. قال الأستاذ شرف الدين العقيلي: الصواب عندي في هذا ما فعله مشائخنا وإنهم كانوا يختارون للمبتدئ صغارات المبسوط لأنه أقرب إلى الفهم والضبط وأبعد عن الملالة وأكثر وقوعا بين الناس قيل: حفظ حرفين خير من سماع وقرين1 وفهم حرفين خير من حفظ وقرين. فينبغي أن لا يتهاون في الفهم.
ولا بد من المذاكرة والمناظرة والمطارحة لكن بالإنصاف والتأني والتأمل دون الشغب والغضب وهي أقوى من فائدة مجرد التكرار. قيل: مطارحة ساعة خير من تكرار شهر.
ويشتري بالمال الكتب ويستكتب فيكون عونا على التعلم والتفقه وينبغي أن لا يكون لطالب العلم فترة فإنها آفة ويتوكل في طلب العلم ولا يهتم لأمر الرزق ولا يشغل قلبه بذلك.
ووقت التعلم من المهد إلى اللحد دخل حسن بن زياد2 في التفقه وهو ابن ثمانين سنة
وأفضل الأوقات شرخ الشباب ووقت السحر وما بين العشاءين. وينبغي أن يستغرق جميع أوقاته فإذا مل من علم يشتغل بعلم آخر. كان ابن عباس إذا مل من علم الكلام قال: هاتوا ديوان الشعر ويكون مستفيدا في كل وقت حتى يحصل له الفضل.
وطريق الاستفادة أن يكون معه في كل وقت محبرة حتى يكتب ما يسمع من الفوائد قيل: ما حفظ فر وما كتب قر وأقوى أسباب الحفظ الجد والمواظبة وتقليل الغذاء وصلاة الليل وقراءة القرآن نظرا والسواك وشرب العسل وأكل الكندر3 مع السكر وأكل ما يقلل البلغم والرطوبات يزيد في الحفظ،
1 مفردها وقر: وهو الحمل ويريد خير من سماع حملين من الكتب.
2 هو الحسن بن زياد اللؤلؤي الكوفي، قاض فقيه، من أصحاب أبي حنيفة، توفي سنة 204-819م.
3 الكندر: ضرب من اللبان أو العلك.