الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلا توغلن إذا ما سبحت
…
فإن السلامة في الساحل
فيكون مأمونا من النظر في سياسته مستقيم النظر في معاملة أبناء جنسه فيحسن معاشه وتندفع آفاته ومضاره باستقامة نظره وفوق كل ذي علم عليم.
ومن هنا: يتبين أن صناعة المنطق غير مأمونة الغلط لكثرة ما فيها من الانتزاع وبعدها عن المحسوس فإنها تنظر في المعقولات الثواني ولعل المواد فيها ما يمانع تلك الحكام وينافيها عند مراعاة التطبيق اليقيني وأما النظر في المعقولات الأول - وهي التي تجريدها قريب - فليس كذلك لأنها خيالية وصور المحسوسات حافظة مؤذنة بتصديق انطباقه - والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق1.
1 آخر كلام ابن خلدون.
المنظر السادس: في موانع العلوم وعوائقها
وفيه فتوحات:
فتح: اعلم أنه على كل خير مانع وعلى العلم موانع منها: الوثوق بالمستقبل والوثوق بالذكاء والانتقال من علم إلى علم قبل أن يحصل منه قدرا يعتد به أو من كتاب إلى كتاب قبل ختمه.
ومنها: طلب المال أو الجاه أو الركون إلى اللذات البهيمية.
ومنها: ضيق الحال وعدم المعونة على الاشتغال.
ومنها: أفعال الدنيا وتقليد الأعمال ومنها: كثرة التأليف في العلوم وكثرة الاختصارات فإنها مخلة عائقة.
فتح: أما الوثوق بالمستقبل: فلا ينبغي للعاقل لأن كل يوم آت بمشاغله فلا يؤخر شغل يومه إلى غد.
فتح: وأما الوثوق بالذكاء: فهو من الحماقة وكثير من الأذكياء فاته العلم بهذا السبب.
فتح: وأما الانتقال من علم إلى علم قبل أن يستحكم الأول فهو: سبب الحرمان عن الكل فلا يجوز وكذا الانتقال من كتاب إلى كتاب كذلك.
فتح: وأما طلب المال أو الجاه أو الركون إلى اللذات البهيمية فالعلم أعز من أن ينال مع غيره أو على سبيل التبعية ولذلك ترى كثيرا من الناس لا ينالون من العلم قدرا صالحا يعتد به لاشتغالهم عنه بطلب المنصب والمدرسة وهم يطلبونه دائما ليلا ونهارا سرا وجهارا ولا يفترون وكان ذكرهم وفكرهم تحصيل المال والجاه مع أنها لهم في اللذات الفانية وعدم ركونهم إلى السعادة الباقية ومناصبهم في الحقيقة مناصب أجنبية لأنها شاغلة عن الشغل والتحصيل على القانون المعتبر في طريقه.
فتح: وأما ضيق الحال وعدم المعونة على الاشتغال فمن أعظم الموانع وأشدها لأن صاحبه مهموم ومشغول القلب أبداً.
فتح: وأما إقبال الدنيا وتقلد العمل فلا شك أنه يمنع صاحبه عن التعليم والتعلم.
فتح: وأما كثرة المصنفات في العلوم واختلاف الاصطلاحات في التعليم فهي عائقة عن التحصيل لأنه لا يفي عمر الطالب - بما كتب في صناعة واحدة - إذا تجرد لها لأن ما صنفوه في الفقه مثلا من المتون والشروح لو التزمه طالب لا يتيسر له مع أنه يحتاج إلى تمييز طرق المتقدمين والمتأخرين وهي كلها متكررة والمعنى واحد والمتعلم طالب والعمر ينقضي في واحد منها ولو اقتصروا على المسائل المذهبية فقط لكان الأمر دون ذلك ولكنه داء لا يرتفع ومثله علم العربية أيضا في مثل كتاب سيبويه وما كتب عليه وطرق البصرييين والكوفيين والأندلسيين وطرق المتأخرين مثل: ابن الحاجب وابن مالك1 وجميع ما كتب في ذلك: كيف يطالب به المتعلم؟ وينقضي عمره دونه ولا يطمع الذي هو آلة من آلات ووسيلة فكيف تكون في المقصود الذي هو الثمرة؟ - ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين.
فتح: وأما كثرة الاختصارات المؤلفة في العلوم فإنها مخلة بالتعليم فقد2 ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق والأنحاء في العلوم يولعون بها ويدونون منها برنامجا مختصرا في كل علم يشتمل على حصر مسائله وأدلتها باختصار في الألفاظ وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن وصار ذلك مخلا بالبلاغة وعسرا على الفهم
وربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة في الفنون للتفسير والبيان فاختصروها تقريبا للحفظ كما فعله ابن الحاجب في الفقه وأصول الفقه وابن مالك في العربي والخونجي3 في المنطق وأمثالهم وهو فساد في التعليم وفيه إخلال بالتحصيل وذلك لأن فيه تخليطا على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه وهو لم يستعد لقبولها بعد وهو من سوء التعليم ثم فيه - مع ذلك - شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتزاحم المعاني عليها وصعوبة استخراج المسائل من بينها لأن ألفاظ المختصرات تجدها - لأجل ذلك - صعبة عويصة فينقطع في فهمها حظ صالح من الوقت ثم بعد ذلك: فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات إذا تم على سداده ولم تعقبه آفة فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة بكثرة ما يقع في تلك من التكرار والإحالة المفيدين لحصول الملكة التامة وإذا اقتصر على التكرار قصرت الملكة لقلته كشأن هذه الموضوعات المختصرة فقصدوا إلى تحصيل الحفظ على المتعلمين فأركبوهم صعبا يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة وتمكنها4
ومن ذلك القبيل: كتاب: التهذيب في المنطق لسعد الدين التفتازاني والسلم والمسلم لمحب الله البهاري والفصول الأكبري في الصرف والفوائد الصمدية في النحو - ومن يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له والله سبحانه أعلم.
1 ابن الحاجب هو جمال الدين عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس، فقيه مالكي من كبار العلماء بالعربية له فيها مصنفات كثيرة منها "الكافيه" في النحو و"الشافية" في الصرف 570-646هـ = 1174-1249م.
وابن مالك هو جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني، أحد الأئمة في علوم العربية، أندلسي المولد دمشقي الوفاة له كتب كثيرة في علوم العربية واشتهر بألفيته وكافيته: 600-672هـ = 1203-1274م.
2 من هنا كلام ابن خلدون صفحة 1352.
3 هو محمد بن ناماور بن عبد الملك الخونجي، أفضل الدين، عالم بالحكمة والمنطق وله فيهما مصنفات، توفي في القاهرة: 590-646هـ = 1194-1248م.
4 آخر كلام ابن خلدون.