الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أهل الأمصار ثم عكفوا على الممارسة والمدارسة لكلام العرب حتى استولوا على غايته واليوم الواحد من العجم إذا خالط أهل اللسان العربي بالأمصار فأول ما يجد تلك الملكة المقصودة من اللسان العربي ممتحية الآثار ويجد ملكتهم الخاصة بهم ملكة أخرى مخالفة لملكة اللسان العربي ثم إذا فرضنا أنه أقبل على الممارسة لكلام العرب وأشعارهم بالمدارسة والحفظ يستفيد تحصيلها فقل أن يحصل له لما قدمناه من: أن الملكة إذا سبقتها ملكة أخرى في المحل فلا تحصل إلا ناقصة مخدوشة وإن فرضنا عجميا في النسب سلم من مخالطة اللسان العجمي بالكلية وذهب إلى تعلم هذه الملكة بالمدارسة فربما يحصل له ذلك لكنه من الندور بحيث لا يخفى عليك بما تقرر وربما يدعي كثير ممن ينظر في هذه القوانين البيانية حصول هذا الذوق له بها وهو غلط أو مغالطة وإنما حصلت له الملكة أن حصلت في تلك القوانين البيانية وليست من ملكة العبارة في شيء والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم1.
1 آخر كلام ابن خلدون.
مطلب: في أن أهل الأمصار على الإطلاق قاصرون في تحصيل هذه الملكة اللسانية التي تستفاد بالتعليم
1
ومن كان منهم أبعد عن اللسان العربي كان حصولها له أصعب وأعسر والسبب في ذلك: ما يسبق إلى المتعلم من حصول ملكة منافية للملكة المطلوبة بما سبق إليه من اللسان الحضري الذي أفادته العجمة حتى نزل بها اللسان عن ملكته الأولى إلى ملكة أخرى هي لغة الحضري لهذا العهد ولهذا نجد المعلمين يذهبون إلى المسابقة بتعليم اللسان للولدان وتعتقد النحاة أن هذه المسابقة بصناعتهم وليس كذلك وإنما هي بتعليم هذه الملكة بمخالطة اللسان وكلام العرب
نعم صناعة النحو أقرب إلى مخالطة ذلك وما كان من لغات أهل الأمصار أعرق في العجمة وأبعد عن لسان مضر قصر بصاحبه عن تعلم اللغة المضرية وحصول ملكتها لتمكن المنافاة.
واعتبر ذلك في أهل الأمصار فأهل إفريقية والمغرب لما كانوا أعرق في العجمة وأبعد عن اللسان الأول كان لهم قصور تام في تحصيل ملكته بالتعليم
ولقد نقل ابن الرقيق2 أن بعض كتاب القيروان كتب إلى صاحب له: يا أخي ومن لا عدمت فقده أعلمني أبو سعيد كلاما: أنك كنت ذكرت أنك تكون مع الذين تأتي وعاقنا اليوم فلم يتهيأ لنا الخروج وأما أهل المنزل الكلاب من أمر الشين فقد كذبوا هذا باطلا ليس من هذا حرفا واحدا وكتابي إليك وأنا مشتاق إليك إن شاء الله تعالى.
وهكذا كانت ملكتهم في اللسان المضري شبيها بما ذكرنا وكذلك أشعارهم كانت بعيدة عن الملكة نازلة عن الطبقة ولم تزل كذلك لهذا العهد ولهذا ما كان بأفريقية من مشاهير الشعراء إلا ابن رشيق3.
1 الفصل في مقدمة ابن خلدون صفحة 1402-1405.
2 هو أبو إسحاق إبراهيم بن القاسم المعروف بالرقيق أو ابن الرقيق، مؤرخ أديب، من أهل القيروان، له مؤلقات في التاريخ، توفي بعد سنة 417هـ - 1076م.
3 هو الحسن بن رشيق القيرواني صاحب كتاب العمدة في صناعة الشعر ونقده أديب نقاد باحث، نظم الشعر وله ديوان، ألف كتباً في النقد واللغة والرجال: 390-463هـ = 1000-1071م.
وابن شرف1 وأكثر ما يكون فيها الشعراء طارئين عليها ولم تزل طبقتهم في البلاغة حتى الآن مائلة إلى القصور.
وأهل الأندلس أقرب منهم إلى تحصيل هذه الملكة بكثرة معاناتهم وامتلائهم من المحفوظات اللغوية نظما ونثرا وكان فيهم ابن حيان2 المؤرخ إمام أهل الصناعة في هذه الملكة ورافع الراية لهم فيها وابن عبد ربه3 والقسطلي4 وأمثالهم من شعراء ملوك الطوائف لما زخرت فيها بحار اللسان والأدب وتداول ذلك فيهم مئين من السنين حتى كان الانفضاض والجلاء أيام تغلب النصرانية وشغلوا عن تعلم ذلك.
وتناقص العمران فتناقص لذلك شأن الصنائع كلها فقصرت الملكة فيهم عن شأنها حتى بلغت الحضيض.
وكان من آخرهم: صالح بن شريف ومالك بن المرحل5 من تلاميذ الطبقة الإشبيليين بسبتة وكتاب دولة ابن الأحمر في أولها وألقت الأندلس أفلاذ كبدها من أهل تلك الملكة بالجلاء إلى العدوة من إشبيلية إلى سبتة ومن شرق الأندلس إلى إفريقية ولم يلبثوا إلى أن انقرضوا وانقطع سند تعليمهم في هذه الصناعة لعسر قبول العدوة لها وصعوبتها عليهم بعوج ألسنتهم ورسوخهم في العجمة البربرية - وهي منافية لما قلناه ثم عادت الملكة من بعد ذلك إلى الأندلس كما كانت ونجم بها ابن بشرين وابن جابر6 وابن الجياب وطبقتهم ثم إبراهيم الساحلي الطريحي وطبقته وقفاهم ابن الخطيب7 من بعدهم الهالك لهذا العهد شهيدا بسعاية أعدائه وكان له في اللسان ملكة لا تدرك واتبع أثره تلميذه بعده.
وبالجملة: فشأن هذه الملكة بالأندلس أكثر وتعليمها أيسر وأسهل بما هم عليه لهذا العهد - كما قدمناه - من معاناة علوم اللسان ومحافظتهم عليها وعلى علوم الأدب وسند تعليمها ولأن أهل اللسان العجمي الذين تفسد ملكتهم إنما هم طارئون عليهم وليست عجمتهم أصلا للغة أهل الأندلس والبربر في هذه
1 هو محمد بن سعيد ببن أحمد بن شرف الجذامي القيرواني، ابو عبد الله، كاتب مترسل وشاعر أديب، ولد في القيروان وتوفي في إشبيليه، له ديوان شعر وكتب أخرى: 390-460هـ = 1000-1068م.
2 هو حيان بن خلف بن حسين بن حيان الأموي بالولاء، من أهل قرطبة، مؤرخ بحاث، له مؤلفات في التاريخ والرجال منها "لمقتبس في تاريخ أهل الأندلس": 377-469هـ = 987-1076م.
3 هو أحمد بن محمد بن عبدربه بن حبيب بن حدير بن سالم من أهل قرطبة الأديب الإمام صاحب "العقد الفريد" وله ديوان شعر: 246-328هـ = 860-940م.
4 هو ابن دراج، أحمد بن محمد بن القاضي بن دراج القسطلي الأندلسي، شاعر كاتب، له ديوان شعر: 347-421هـ = 958-1030م.
5 هو مالك بن عبد الرحمن بن علي المعروف بابن المرحل، من أهل مالقه، أديب من الشعراء له ديوان شعر، وله مؤلفات أخرى: 604-699هـ = 1207-1300م.
6 هو محمد بن جابر بن محمد بن قاسم الوادي آشي الأصل التونسي، فقيه محدث نحوي لغوي مقرئ ممن أخذ عنهم لسان الدين بن الخطيب، له مؤلفات كثيرة وديوان شعر: 673-749هـ = 1274-1348م.
7 هو لسان الدين محمد بن عبد الله بن سعيد السلماني اللوشي الأصل، الغرناطي الأندلسي، الشهير بلسان الدين ابن الخطيب، وزير مؤرخ أديب كبير، له مؤلفات كثيرة جداً: 713-776هـ. = 1313-1374م.
العدوة وهم أهلها ولسانهم لسانها إلا في الأمصار فقط وهم فيها منغمسون في بحر عجمتهم ورطانتهم البربرية فيصعب عليهم تحصيل الملكة اللسانية بالتعليم بخلاف أهل الأندلس.
واعتبر ذلك بحال أهل المشرق لعهد الدولة الأموية والعباسية فكان شأنهم شأن أهل الأندلس في تمام هذه الملكة وإجادتها لبعدهم لذلك العهد عن الأعاجم ومخالطتهم إلا في القليل فكان أمر هذه الملكة في ذلك العهد أقوم وكان فحول الشعراء والكتاب أوفر لتوفر العرب وأبنائهم بالمشرق وانظر ما اشتمل عليه كتاب الأغاني من نظمهم ونثرهم فإن ذلك الكتاب هو كتاب العرب وديوانهم وفيه: لغتهم وأخبارهم وأيامهم وملتهم العربية وسيرتهم وآثار خلفائهم وملوكهم وأشعارهم وغناؤهم وسائر مغانيهم له فلا كتاب أوعب منه لأحوال العرب وبقي أمر هذه الملكة مستحكما في المشرق في الدولتين وربما كانت فيهم أبلغ ممن سواهم ممن كان في الجاهلية - كما هو المعلوم - حتى تلاشى أمر العرب ودرست لغتهم وفسد كلامهم وانقضى أمرهم ودولتهم وصار الأمر للأعاجم والملك في أيديهم والتغلب لهم وذلك في دولة الديلم والسلجوقية وخالطوا أهل الأمصار والحواضر حتى بعدوا عن اللسان العربي وملكته وصار متعلمها منهم مقصرا عن تحصيلها وعلى ذلك تجد لسانهم لهذا العهد في فني المنظوم والمنثور وإن كانوا مكثرين منه - والله يخلق ما يشاء ويختار والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق لا رب سواه1.
1 آخر كلام ابن خلدون.