الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعليمها فكان أبلغ في الإفادة ومن هؤلاء المخالطين لكتاب سيبويه: من يغفل عن التفطن لهذا فيحصل على علم اللسان صناعة ولا يحصل عليه ملكة وأما المخالطون لكتب المتأخرين العارية عن ذلك إلا من القوانين النحوية مجردة عن أشعار العرب وكلامهم فقلما يشعرون لذلك بأمر هذه الملكة أو ينتبهون لشأنها فتجدهم يحسبون أنهم قد حصلوا على رتبة في لسان العرب وهم أبعد الناس عنه.
وأهل صناعة العربية بالأندلس ومعلموها أقرب إلى تحصيل هذه الملكة وتعليمها من سواهم لقيامهم فيها على شواهد العرب وأمثالهم والتفقه في الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم فيسبق إلى المبتدئ كثير من الملكة أثناء التعليم فتنقطع النفس لها وتستعد إلى تحصيلها وقبولها وأما من سواهم من: أهل المغرب وإفريقية وغيرهم فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثا وقطعوا النظر عن التفقه في تراكيب كلام العرب إلا إن أعربوا شاهدا أو رجحوا مذهبا من جهة الاقتضاء الذهني لا من جهة محامل اللسان وتراكيبه فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل وبعدت عن مناحي اللسان وملكته وما ذلك إلا لعدولهم عن البحث في شواهد اللسان وتراكيبه وتمييز أساليبه وغفلتهم عن المران في ذلك للمتعلم فهو أحسن ما تفيده الملكة في اللسان وتلك القوانين: إنما هي وسائل للتعليم لكنهم أجروها على غير ما قصد بها وأصاروها علما بحتا وبعدوا عن ثمرتها وتعلم مما قررناه في هذا المقام: أن حصول ملكة اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه ويتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم وخالط عباراتهم في كلامهم حتى حصلت له الملكة المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم والله مقدر الأمور كلها والله أعلم بالغيب1 والشهادة.
1 آخر كلام ابن خلدون.
مطلب: في تفسير الذوق في مصطلح أهل البيان وتحقيق معناه وبيان أنه: لا يحصل غالبا للمستعربين من العجم
1
اعلم: أن لفظة الذوق يتداولها المعتنون بفنون البيان ومعناها حصول ملكة البلاغة للسان
والبلاغة مطابقة الكلام للمعنى من جميع وجوهه بخواص تقع للتراكيب في إفادة ذلك فالمتكلم بلسان العرب والبليغ فيه يتحرى الهيئة المفيدة لذلك على أساليب العرب وأنحاء مخاطباتهم وينظم الكلام على ذلك الوجه جهده فإذا اتصلت مقاماته بمخالطة كلام العرب حصلت له الملكة في نظم الكلام على ذلك الوجه وسهل عليه أمر التركيب حتى لا يكاد ينحو فيه غير منحى البلاغة التي للعرب وإن سمع تركيبا غير جار على ذلك المنحى مجه ونبا عنه سمعه بأدنى فكر بل وبغير فكر إلا بما استفاده من حصول هذه الملكة فإن الملكات إذا استقرت ورسخت في محالها ظهرت كأنها طبيعة وجبلة لذلك المحل ولذلك يظن كثير من المغفلين ممن لم يعرف شأن الملكات أن الصواب للعرب في لغتهم إعرابا وبلاغة أمر طبيعي ويقول: كانت العرب تنطق بالطبع وليس كذلك وإنما هي ملكة لسانية في نظم الكلام تمكنت
1 انظر الفصل في مقدمة ابن خلدون صفحة 1399-1402.
ورسخت فظهرت في بادئ الرأي أنها جبلة وطبع وهذه الملكة - كما تقدم - إنما تحصل بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع والتفطن لخواص تراكيبه وليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها أهل صناعة اللسان فإن هذه القوانين إنما تفيد علما بذلك اللسان ولا تفيد حصول الملكة بالفعل في محلها وقد مر ذلك وإذا تقرر ذلك فملكة البلاغة في اللسان تهدي البليغ إلى وجود النظم وحسن التركيب الموافق لتراكيب العرب في لغتهم ونظم كلامهم ولو رام صاحب هذه الملكة حيدا عن هذه السبيل المعينة والتراكيب المخصوصة لما قدر عليه ولا وافقه عليه لسانه لأنه لا يعتاده ولا تهديه إليه ملكته الراسخة عنده وإذا عرض عليه الكلام حائدا عن أسلوب العرب وبلاغتهم في نظم كلامهم أعرض عنه ومجه وعلم أنه ليس من كلام العرب الذين مارس كلامهم وربما يعجز عن الاحتجاج لذلك كما تصنع أهل القوانين النحوية والبيانية فإن ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء وهذا أمر وجداني حاصل بممارسة كلام العرب حتى يصير كواحد منهم.
ومثاله: لو فرضنا صبيا من صبيانهم نشأ وربي في جيلهم فإنه يتعلم لغتهم ويحكم شأن الإعراب والبلاغة فيها حتى يستولي على غايتها وليس من العلم القانوني في شيء وإنما هو بحصول هذه الملكة في لسانه ونطقه وكذلك تحصل هذه الملكة لمن بعد ذلك الجيل بحفظ كلامهم وأشعارهم وخطبهم والمداومة على ذلك بحيث تحصل الملكة ويصير كواحد ممن نشأ في جيلهم وربي بين أجيالهم والقوانين بمعزل عن هذا واستعير لهذه الملكة - عندما ترسخ وتستقر - اسم: الذوق الذي اصطلح عليه أهل صناعة البيان وإنما هو موضوع لإدراك الطعوم لكن لما كان محل هذه الملكة في اللسان من حيث النطق بالكلام كما هو محل لإدراك الطعوم استعير لها اسمه وأيضا فهو وجداني اللسان كما أن الطعوم محسوسة له فقيل له: ذوق.
وإذا تبين لك ذلك علمت منه أن الأعاجم الداخلين في اللسان العربي الطارئين عليه المضطرين إلى النطق به لمخالطة أهله: كالفرس والروم والترك بالمشرق وكالبربر بالمغرب فإنه لا يحصل لهم هذا الذوق لقصور حظهم في هذه الملكة التي قررنا أمرها لأن قصاراهم بعد طائفة من العمر وسبق ملكة أخرى إلى اللسان وهي لغاتهم أن يعتنوا بما يتداوله أهل مصر بينهم في المحاورة من مفرد ومركب لما يضطرون إليه من ذلك وهذه الملكة قد ذهبت لأهل الأمصار وبعدوا عنها - كما تقدم - وإنما لهم في ذلك ملكة أخرى وليست هي ملكة اللسان المطلوبة ومن عرف تلك الملكة من القوانين المسطرة في الكتب فليس من تحصيل الملكة في شيء إنما حصل أحكامها - كما عرفت - وإنما تحصل هذه الملكة بالممارسة والاعتياد والتكرار لكلام العرب فإن عرض لك ما تسمعه من أن سيبويه والفارسي والزمخشري وأمثالهم من فرسان الكلام كانوا أعجاما مع حصول هذه الملكة لهم فاعلم أن أولئك القوم الذين تسمع عنهم إنما كانوا عجما في نسبهم فقط أما المربى والنشأة فكانت بين أهل هذه الملكة من العرب ومن تعلمها منهم فاستولوا بذلك من الكلام على غاية لا وراء لها وكأنهم في أول نشأتهم من العرب الذين نشؤوا في أجيالهم حتى أدركوا كنه اللغة وصاروا من أهلها فهم وإن كانوا عجما في النسب فليسوا بأعجام في اللغة والكلام لأنهم أدركوا الملة في عنفوانها واللغة في شبابها ولم تذهب آثار الملكة منهم ولا من