الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المنظر السابع: في أن الحفظ غير الملكة العلمية
اعلم: أن من كان عنايته بالحفظ أكثر من عنايته إلى تحصيل الملكة لا يحصل على طائل من ملكة التصرف في العلم ولذلك ترى من حصل الحفظ لا يحسن شيئا من الفن وتجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر كأكثر فقهاء المغرب وطلبة علمه من: أهل بخارى وبغداد وكابل وقندهار ومن إليها من المدن والأمصار ومن ظن أنه المقصود من الملكة العلمية فقد أخطأ وإنما المقصود هو: ملكة الاستخراج والاستنباط وسرعة الانتقال من الدوال إلى المدلولات ومن اللازم إلى الملزوم وبالعكس فإن انضم إليها ملكة الاستحضار فنعم المطلوب وهذا لا يتم بمجرد الحفظ بل الحفظ من أسباب الاستحضار وهو راجع إلى جودة قوة الحافظة وضعفها وذلك من أحوال الأمزجة الخلقية وإن كان مما يقبل العلاج.
المنظر الثامن: في شرائط تحصيل العلم وأسبابه
وفيه فتوحات أيضا:
فتح: اعلم أن شرائط التحصيل كثيرة لكنها مجتمعة فيما نقل عن سقراط وهو قوله: ينبغي أن يكون الطالب شابا فارغ القلب غير ملتفت إلى الدنيا صحيح المزاج محبا للعلم بحيث لا يختار على العلم شيئا من الأشياء صدوقا منصفا بالطبع متدينا أمينا عالما بالوظائف الشرعية والأعمال الدينية غير مخل بواجب فيها ويحرم على نفسه ما يحرم في ملة نبيه ويوافق الجمهور في الرسوم والعادات ولا يكون فظا سيئ الخلق ويرحم من دونه في المرتبة ولا يكون أكولا ولا متهتكا ولا خاشعا من الموت ولا جامعا للمال إلا بقدر الحاجة فإن الاشتغال بطلب أسباب المعيشة مانع عن التعلم. انتهى.
فتح: ومن الشروط: تزكية الطالب عن الأخلاق الردية وهي متقدمة على غيرها كتقدم الطهارة فكما أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب كذلك العلم لا يدخل القلب إذا وجد فيه كلاب باطنية وكانت الأوائل يختبرون المتعلم أولا فإن وجدوا فيه خلقا رديا منعوه لئلا يصير آلة الفساد وإن وجدوه مهذبا علموه ولا يطلقونه قبل الاستكمال خوفا على فساد دينه ودين غيره.
فتح: ومنها: الإخلاص في مقاساة هذا المسلك وقطع الطمع عن قبول أحد فيجب أن ينوي في تعلمه أن: يعمل بعلمه لله تعالى وأن يعلم الجاهل ويوقظ الغافل ويرشد الغوي
فإنه قال عليه الصلاة والسلام: "من تعلم العلم لأربع دخل النار: ليباهي به العلماء وليماري به السفهاء ويقبل به وجوه الناس إليه وليأخذ به الأموال".
فتح: ومن الشروط: تقليل العوائق حتى الأهل والأولاد والوطن فإنها صارفة وشاغلة {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} ومهما توزعت الفكرة قصرت عن درك الحقائق
وقد قيل: العلم لا يعطيك بعضه
حتى تعطيه كلك فإذا أعطيته كلك فأنت على خطر من الوصول إلى بعضه.
فتح: ومنها: ترك الكسل وإيثار السهر في الليالي ومن جملة أسباب الكسل فيه: ذكر الموت والخوف منه لكنه ينبغي أن يكون من جملة أسباب التحصيل إذ لا عمل يحصل به الاستعداد للموت أفضل من العلم والعمل به والخوف منه لا ينبغي أن يتسلط على الطالب بحيث يشغله عن الاستعداد وقوله عليه الصلاة والسلام: "أكثروا ذكر هادم اللذات" يدل على أنه ينبغي أن يكون ذكره سببا للانقطاع عن اللذات الفانية دون الباقية.
فتح: ومن الشروط: العزم والثبات على التعلم إلى آخر العمر كما قيل: الطلب من المهد إلى اللحد وقال سبحانه وتعالى لحبيبه صلى الله عليه وسلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} وقال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} والحيلة في صرف الأوقات إلى التحصيل: أنه إذا مل من علم اشتغل بآخر كما قال ابن عباس رضي الله عنه إذا مل من الكلام مع المتعلمين: هاتوا دواوين الشعراء.
فتح: ومنها: اختيار معلم ناصح نقي الحسب كبير السن لا يلابس الدنيا بحيث تشغله عن دينه ويسافر في طلب الأستاذ إلى أقصى البلاد إن لم يكن ببلده الذي يسكن فيه ويقال: أول ما يذكر من المرء أستاذه فإن كان جليلا جل قدره فإذا وجده يلقي إليه زمام أمره ويذعن لنصحه إذعان المريض للطبيب ولا يستبد بنفسه اتكالا على ذهنه ولا يتكبر عليه وعلى العلم ولا يستنكف لأنه قد ورد في الحديث: من لم يتحمل ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبدا ومن الآداب: احترام المعلم وإجلاله فمن تأذى منه أستاذه يحرم بركة العلم ولا ينتفع به إلا قليلا وينبغي أن يقدم حق معلمه على حق أبويه وسائر المسلمين ومن توقيره: توقير أولاده ومتعلقاته ومن تعظيم العلم: تعظيم الكتب والشركاء.
فتح: ومن الشروط: أن يأتي على ما قرأه مستوعبا لمسائله - من مبادئه إلى نهايته - بتفهم واستثبات بالحجج وأن يقصد فيه الكتب الجيدة وأن لا يعتقد في علم أنه حصل منه على مقدار لا يمكن الزيادة عليه وذلك طيش يوجب الحرمان.
فتح: ومنها: أن لا يدع فنا من فنون العلم إلا وينظر فيه نظر مطلع على غايته ومقصده وطريقته وبعد المطالعة في الجميع أو الأكثر إجمالا - إن مال طبعه إلى فن - عليه أن يقصده ولا يتكلف غيره فليس كل الناس يصلحون للتعلم ولا كل من يصلح لتعلم علم يصلح لسائر العلوم بل كل ميسر لما خلق له وإن كان ميله إلى الفنون على السواء مع موافقة الأسباب ومساعدة الأيام طلب التبحر فيها فإن العلوم كلها متعاونة مرتبطة بعضها ببعض لكن عليه أن لا يرغب في الآخر قبل أن يستحكم الأول لئلا يصير مذبذبا فيحرم من الكل ولا يكن ممن يميل إلى البعض ويعادي الباقي لأن ذلك جهل عظيم وإياه أن يستهين بشيء من العلوم تقليدا لما سمعه من الجهلة بل يجب أن يأخذ من كل حظا ويشكر من هداه إلى فهمه ولا يكن ممن يذم العلم ويعدوه لجهله مثل ذمهم المنطق الذي هو أصل كل علم وتقويم كل ذهن ومثل ذمهم العلوم الحكمية على الإطلاق من غير معرفة القدر المذموم والممدوح منها ومثل ذم علم النجوم مع أن بعضا منه فرض كفاية والبعض مباح ومثل ذم مقالات الصوفية لاشتباهها عندهم والعلم وإن كان مذموما في نفسه - كما زعموا - فلا يخلو تحصيله من فائدة أقلها رد القائلين به.
قف: اعلم أن النظر والمطالعة في علوم الفلسفة يحل بشرطين:
أحدهما: أن لا يكون خالي الذهن عن العقائد الإسلامية بل يكون قويا في ذهنه راسخا على الشريعة الشريفة.
والثاني: أن لا يتجاوز مسائلهم المخالفة للشريعة وإن تجاوز فإنما يطالعها للرد لا غير
هذا لمن ساعده الذهن والسن والوقت وسامحه الدهر عما يفضيه إلى الحرمان وإلا فعليه أن يقتصر على الأهم وهو قدر ما يحتاج إليه فيما يتقرب به إلى الله تعالى وما لا بد منه في: المبدأ والمعاد والمعاملات والعبادات والأخلاق والعادات.
فتح: ومن الشروط المعتبرة في التحصيل: المذاكرة مع الأقران ومناظرتهم كما قيل: العلم غرس وماؤه درس لكن طلبا للثواب وإظهارا للصواب وقيل: مطارحة ساعة خير من تكرار شهر ولكن مع منصف سليم الطبع وينبغي للطالب أن يكون متأملا في دقائق العلوم ويعتاد ذلك فإنما تدرك به خصوصا قبل الكلام فإنه كالسهم فلا بد من تقويمه بالتأمل أولاً.
فتح: ومنها: الجد والهمة فإن الإنسان يطير بهما إلى شواهق الكمالات وأن لا يؤخر شغل يوم إلى غد فإن لكل يوم مشاغل ولا بد أن تكون معه محبرة في كل وقت حتى يكتب ما يسمع من الفوائد ويستنبطه من الزوائد فإن العلم صيد والكتابة قيد وينبغي أن يحفظ ما كتبه من العلم إذ العلم ما ثبت في الخواطر لا ما أودع في الدفاتر بل الغرض منه المراجعة إليها عند النسيان للاعتماد عليها.
فتح: ومن الشروط: مراعاة مراتب العلوم في القرب والبعد من المقصد فلكل منها مرتبة ترتيبا ضروريا بحسب الرعاية في التحصيل إذ البعض طريق إلى البعض ولكل علم حد لا يتعداه فعليه أن يعرفه فلا يتجاوز ذلك الحد مثلا: لا يقصد إقامة البراهين في النحو ولا يطلب وأيضا لا يقصر عن حده كأن يقنع بالجدل في الهيئة وأن يعرف أيضا: أن ملاك الأمر في المعاني هو: الذوق وإقامة البرهان عليه خارج عن الطوق ومن طلب البرهان عليه أتعب نفسه كما قال السكاكي: قبل أن تمنح هذه الفنون حقها فلننبهك على أصل ليكون على ذكر منك وهو أنه ليس من الواجب في صناعة - وإن كان المرجع في أصولها وتفاريعها إلى مجرد العقل - أن يكون الدخيل فيها كالناشئ عليها في استفادة الذوق عنها فكيف إذا كانت الصناعة مستندة إلى محكمات وضعية واعتبارات إلفية؟ فلا بأس على الدخيل في صناعة علم المعاني أن يقلد صاحبها في بعض فتاواه إن فاته الذوق هناك إلى أن يتكامل له على مهل موجبات ذلك الذوق. انتهى.
فتح: ومنها: العلوم الآلية لا يوسع فيها الأنظار وذلك أن العلوم المتداولة على صنفين: علوم مقصودة بالذات كالشرعيات والحكميات وعلوم هي آلة ووسيلة لهذه العلوم كالعربية والمنطق فأما المقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها وتفريع المسائل واستكشاف الأدلة فإن ذلك يزيد طالبها تمكنا في ملكته وأما العلوم الآلية فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة للغير ولا يوسع فيها الكلام لأن ذلك يخرج بها عن المقصود وصار الاشتغال بها لغوا مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها وربما يكون ذلك عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها فيكون الاشتغال