الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والاستدلال والاجتهاد والاستنباط وتمهيد القواعد والأصول وترتيب الأبواب والفصول وتكثير المسائل بأدلتها وإيراد الشبه بأجوبتها وتعيين الأوضاع والاصطلاحات وتبيين المذاهب والاختلافات وكان ذلك مصلحة عظيمة وفكرة في الصواب مستقيمة فرأوا ذلك مستحبا بل واجبا لقضية الإيجاب المذكور مع قوله صلى الله عليه وسلم "العلم صيد والكتابة قيد قيدوا - رحمكم الله تعالى - علومكم بالكتابة" الحديث. قلت: ولعل هذا الحديث لم يصح.
الإشارة الثالثة: في أول من صنف في الإسلام.
اعلم أنه اختلف في أول من صنف فقيل: الإمام عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج البصري المتوفى سنة خمس وخمسين ومائة وقيل أبو النضر سعيد بن أبي عروبة المتوفى سنة ست وخمسين ومائة ذكرهما الخطيب البغدادي وقيل ربيع بن صبيح المتوفى سنة ستين ومائة قاله أبو محمد الرامهرمزي ثم صنف سفيان بن عيينة ومالك بن أنس بالمدينة المنورة وعبد الله بن وهب بمصر ومعمر وعبد الرزاق باليمن وسفيان الثوري ومحمد بن فضيل بن غزوان بالكوفة وحماد بن سلمة وروح بن عبادة بالبصرة وهشيم بواسط وعبد الله بن مبارك بخراسان وكان مطمح نظرهم ومطرح بصرهم بالتدوين ضبط معاقد القرآن والحديث ومعانيهما ثم دونوا فيما هو كالوسيلة إليهما.
الإشارة الرابعة: في اختلاط علوم الأوائل والإسلام
اعلم أن علوم الأوائل كانت مهجورة في عصر الأموية ولما ظهر آل العباس كان أول من عني منهم بالعلوم الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور وكان - رحمه الله تعالى - مع براعته في الفقه مقدما في علم الفلسفة وخاصة في النجوم محبا لأهلها ثم لما أفضت الخلافة إلى السابع عبد الله المأمون بن الرشيد تمم ما بدأ به جده فأقبل على طلب العلم في مواضعه واستخراجه من معادنه بقوة نفسه الشريفة وعلو همته المنيفة فداخل ملوك الروم وسألهم وصلة ما لديهم من كتب الفلاسفة فبعثوا إليه منها بما حضرهم من كتب أفلاطون وأرسطو وبقراط وجالينوس وإقليدس وبطليموس وغيرهم وأحضر لها مهرة المترجمين فترجموا له على غاية ما أمكن ثم كلف الناس قراءتها ورغبهم في تعلمها إذ المقصود من المنع هو إحكام قواعد الإسلام ورسوخ عقائد الأنام وقد حصل وانقضى على أن أكثرها مما لا تعلق له بالديانات
فنفقت له سوق العلم وقامت دولة الحكمة في عصره وكذلك سائر الفنون فأتقن جماعة من ذوي الفهم في أيامه كثيرا من الفلسفة ومهدوا أصول الأدب وبينوا منهاج الطلب ثم أخذ الناس يزهدون في العلم ويشتغلون عنه بتزاحم الفتن تارة وجمع الشمل أخرى إلى أن كاد يرتفع جملة وكذا شأن سائر الصنائع والدول فإنها تبتدئ قليلا قليلا ولا يزال يزيد حتى يصل إلى غاية هي منتهاه ثم يعود إلى النقصان فيؤول أمره إلى الغيبة في مهاد النسيان
والحق أن أعظم الأسباب في رواح العلم وكساده هو رغبة الملوك في كل عصر وعدم رغبتهم فإنا لله وإنا إليه راجعون.
الفصل الرابع: في أن التعليم للعلم من جملة الصنائع
وذلك أن الحذق في العلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه
وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق ذلك الفن المتناول حاصلا وهذه الملكة هي في غير الفهم والوعي لأنا نجد فهم المسألة الواحدة من الفن الواحد ووعيها مشتركا بين من شدا في ذلك الفن وبين من هو مبتدئ فيه وبين العامي الذي لم يحصل علما وبين العالم النحرير والملكة إنما هي للعالم أو الشادي في الفنون دون من سواهما فدل على أن هذه الملكة غير الفهم والوعي والملكات كلها جسمانية سواء كانت في البدن أو في الدماغ من الفكر وغيره كالحساب والجسمانيات كلها محسوسة فتفتقر إلى التعليم ولهذا كان السند في التعليم في كل علم أو صناعة إلى مشاهير المعلمين فيها معتبرا عند كل أهل أفق وجيل ويدل أيضا على أن تعليم العلم صناعة لاختلاف الاصطلاحات فيه فلكل إمام من الأئمة المشاهير اصطلاح في التعليم يختص به شأن الصنائع كلها فدل على أن ذلك الاصطلاح ليس من العلم وإلا لكان واحدا عند جميعهم ألا ترى إلى علم الكلام كيف تخالف في تعليمه اصطلاح المتقدمين والمتأخرين وكذا أصول الفقه وكذا العربية وكذا كل علم تتوجه إلى مطالعته تجد الاصطلاحات في تعليمه متخالفة فدل على أنها صناعات في التعليم والعلم واحد في نفسه وإذا تقرر لك هذا فاعلم أن سند تعليم العلم لهذا العهد قد كاد أن ينقطع عن أهل المغرب باختلال عمرانه وتتاقض الدول فيه وما يحدث عن ذلك من نقص الصنائع وفقدانها كما مر وذلك أن القيروان وقرطبة كانتا حاضرتي المغرب والأندلس واستبحر عمرانهما وكان فيهما للعلوم والصنائع أسواق نافقة وبحور زاخرة ورسخ فيهما التعليم لامتداد عصورهما وما كان فيهما من الحضارة فلما خربتا انقطع التعليم من المغرب إلا قليلا كان في دولة الموحدين بمراكش مستفادا منها ولم ترسخ الحضارة بمراكش لبداوة الدولة الموحدية في أولها وقرب عهد انقراضها بمبدئها فلم تتصل أحوال الحضارة فيها إلا في الأقل وبعد انقراض الدولة بمراكش ارتحل إلى المشرق من إفريقية القاضي أبو القاسم بن زيتون لعهد أواسط المائة السابعة فأدرك تلميذ الإمام ابن الخطيب فأخذ عنهم ولقن تعليمهم وحذق في العقليات والنقليات ورجع إلى تونس بعلم كثير وتعليم حسن وجاء على أثره من المشرق أبو عبد الله بن شعيب الدكالي كان ارتحل إليه من المغرب فأخذ عن مشيخة مصر ورجع إلى تونس واستقر بها وكان تعليمه مفيدا فأخذ عنهما أهل تونس واتصل سند تعليمهما في تلاميذهما جيلا بعد جيل حتى انتهى إلى القاضي محمد بن عبد السلام شارح مقدمة ابن الحاجب وتلميذه وانتقل من تونس إلى تلمسان في ابن الإمام وتلميذه فإنه قرأ مع ابن عبد السلام على مشيخة واحدة وفي مجالس بأعيانها وتلميذ ابن عبد السلام بتونس وابن الإمام بتلمسان لهذا العهد إلا أنهم من القلة بحيث يخشى انقطاع سندهم ثم ارتحل من زواوة في آخر المائة السابعة أبو علي ناصر الدين المشدالي وأدرك تلميذ أبي عمرو بن الحاجب وأخذ عنهم ولقن تعليمهم وقرأ مع شهاب الدين القرافي في مجالس واحدة. وحذق في العقليات والنقليات ورجع إلى المغرب بعلم كثير وتعليم مفيد ونزل ببجاية واتصل سند تعليمه في طلبتها وربما انتقل إلى تلمسان عمران المشدالي من تلميذه وأوطنها وبث طريقته فيها وتلميذه لهذا العهد ببجاية وتلمسان قليل أو أقل من القليل وبقيت فاس وسائر أقطار المغرب خلوا من حسن التعليم من لدن انقراض تعليم قرطبة والقيروان ولم يتصل سند التعليم فيهم فعسر عليهم حصول الملكة والحذق في
العلوم وأيسر طرق هذه الملكة فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرامها فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية سكوتا لا ينطقون ولا يفاوضون وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة فلا يحصلون على طائل من ملكة التصرف في العلم والتعليم ثم بعد تحصيل من يرى منهم أنه قد حصل تجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو علم. وما أتاهم القصور إلا من قبل التعليم وانقطاع سنده وإلا فحفظهم أبلغ من حفظ سواهم لشدة عنايتهم به وظنهم أنه المقصود من الملكة العلمية وليس كذلك ومما يشهد بذلك في المغرب أن المدة المعينة لسكنى طلبة العلم بالمدارس عندهم ست عشرة سنة وهي بتونس خمس سنين وهذه المدة بالمدارس على التعارف هي أقل ما يتأتى فيها لطالب العلم حصول مبتغاه من الملكة العلمية أو اليأس من تحصيلها فطال أمدها في المغرب لهذه المدة الأجل عسرها من قلة الجودة في التعليم خاصة لا مما سوى ذلك.
وأما أهل الأندلس فذهب رسم التعليم من بينهم وذهبت عنايتهم بالعلوم لتناقص عمران المسلمين بها منذ مئين من السنين ولم يبق من رسم العلم فيهم إلا فن العربية والأدب اقتصروا عليه وانحفظ سند تعليمه بينهم فانحفظ بحفظه وأما الفقه بينهم فرسم خلي وأثر بعد عين وأما العقليات فلا أثر لها ولا عين وما ذاك إلا لانقطاع سند التعليم فيها بتناقص العمران وتغلب العدو على عامتها إلا قليلا بسيف البحر شغلهم بمعايشهم أكثر من شغلهم بما بعدها والله غالب على أمره.
وأما المشرق فلم ينقطع سند التعليم فيه بل أسواقه نافقة وبحوره زاخرة لاتصال العمران الموفور واتصال السند فيه وإن كانت الأمصار العظيمة التي كانت معادن العلم قد خربت مثل بغداد والبصرة والكوفة إلا أن الله تعالى قد أبدل فيها بأمصار أعظم من تلك وانتقل العلم منها إلى عراق العجم بخراسان وما وراء النهر من المشرق ثم إلى القاهرة وما إليها من المغرب فلم تزل موفورة وعمرانها متصلا وسند التعليم بها قائما فأهل المشرق على الجملة أرسخ في صناعة تعليم العلم بل وفي سائر الصنائع حتى إنه ليظن كثير من رحالة أهل المغرب إلى المشرق في طلب العلم أن عقولهم على الجملة أكمل من عقول أهل الغرب وأنهم أشد نباهة وأعظم كيسا بفطرتهم الأولى وأن نفوسهم الناطقة أكمل بفطرتها من نفوس أهل المغرب. ويعتقدون التفاوت بيننا وبينهم في حقيقة الإنسانية ويتشيعون لذلك ويولعون به لما يرون من كيسهم في العلوم والصنائع وليس كذلك وليس بين قطر المشرق والمغرب تفاوت بهذا المقدار الذي هو تفاوت في الحقيقة الواحدة اللهم إلا الأقاليم المنحرفة مثل الأول والسابع فإن الأمزجة فيها منحرفة والنفوس على نسبتها كما مر وإنما الذي فضل به أهل المشرق أهل المغرب هو ما يحصل في النفس من آثار الحضارة من العقل المزيد كما في تقدم الصنائع ونزيده الآن تحقيقا وذلك أن الحضر لهم آداب في أحوالهم في المعاش والمسكن والبناء وأمور الدين والدنيا وكذا سائر أعمالهم وعاداتهم ومعاملاتهم وجميع تصرفاتهم فلهم في ذلك كله آداب يوقف عندها في جميع ما يتناولونه ويتلبسون به من أخذ وترك حتى كأنها حدود لا تتعدى وهي مع ذلك صنائع يتلقاها الآخر عن الأول منهم ولا شك أن كل صناعة مرتبة يرجع منها إلى النفس أثر يكسبها عقلا جيدا تستعد به لقبول صناعة أخرى ويتهيأ بها العقل لسرعة
الإدراك للمعارف. ولقد بلغنا في تعليم الصنائع عن أهل مصر غايات لا تدرك مثل أنهم يعلمون الحمر الإنسية والحيوانات العجم من الماشي والطائر مفردات من الكلام والأفعال يستغرب ندورها ويعجز أهل المغرب عن فهمها وحسن الملكات في التعليم والصنائع وسائر الأحوال العادية يزيد الإنسان ذكاء في عقله وإضاءة في فكره بكثرة الملكات الحاصلة للنفس إذ النفس إنما تنشأ بالإدراكات وما يرجع إليها من الملكات فيزدادون بذلك كيسا لما يرجع إلى النفس من الآثار العلمية فيظنه العامي تفاوتا في الحقيقة الإنسانية وليس كذلك ألا ترى إلى أهل الحضر مع أهل البدو كيف تجد الحضري متحليا بالذكاء ممتلئا من الكيس حتى إن البدوي ليظنه أنه قد فاقه في حقيقة إنسانيته وعقله وليس كذلك وما ذاك إلا لإجادته في ملكات الصنائع والآداب في العوائد والأحوال الحضرية مالا يعرفه البدوي فلما امتلأ الحضري من الصنائع وملكاتها وحسن تعليمها ظن كل من قصر عن تلك الملكات أنها الكمال في عقله وأن نفوس أهل البدو قاصرة بفطرتها وجبلتها عن فطرته وليس كذلك فإنا نجد من أهل البدو من هو في أعلى رتبة من الفهم والكمال في عقله وفطرته إنما الذي ظهر على أهل الحضر من ذلك هو رونق الصنائع والتعليم فإن لها آثارا ترجع إلى النفس وكذا أهل المشرق لما كانوا في التعليم والصنائع أرسخ رتبة وأعلى قدما وكان أهل المغرب أقرب إلى البداوة ظن المغفلون في بادئ الرأي أنه لكمال في حقيقة الإنسانية اختصوا به عن أهل المغرب وليس ذلك بصحيح فتفهمه والله يزيد في الخلق ما يشاء وهو إله السموات والأرض.
قف: إن العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة والسبب في ذلك أن تعليم العلم من جملة الصنائع وأن الصنائع إنما تكثر في الأمصار وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلة والحضارة والترف تكون نسبة الصنائع في الجودة والكثرة لأنه أمر زائد على المعاش فمتى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان وهي العلوم والصنائع ومن تشوف بفطرته إلى العلم ممن نشأ في القرى والأمصار غير المتمدنة فلا يجد فيها التعليم الذي هو صناعي لفقدان الصنائع في أهل البدو ولا بد له من الرحلة في طلبه إلى الأمصار المستبحرة شأن الصنائع كلها واعتبر ما قررناه بحال بغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة لما كثر عمرانها صدر الإسلام واستوت فيها الحضارة كيف زخرت فيها بحار العلم وتفننوا في اصطلاحات التعليم وأصناف العلوم واستنباط المسائل والفنون حتى أربوا على المتقدمين وفاقوا المتأخرين ولما تناقص عمرانها وابذعر سكانها انطوى ذلك البساط بما عليه جملة وفقد العلم بها والتعليم وانتقل إلى غيرها من أمصار الإسلام.
ونحن لهذا العهد نرى أن العلم والتعليم إنما هو بالقاهرة من بلاد مصر لما أن عمرانها مستبحر وحضارته مستحكمة منذ آلاف من السنين فاستحكمت فيها الصنائع وتفننت ومن جملتها تعليم العلم وأكد ذلك فيها حفظه ما وقع لهذه العصور بها منذ مائتين من السنين في دولة الترك من أيام صلاح الدين بن أيوب وهلم جرا وذلك أن أمراء الترك في دولتهم يخشون عادية سلطانهم على من يتخلفونه من ذريتهم لما له عليهم من الرق أو الولاء ولما يخشى من معاطب الملك وكباته فاستكثروا من بناء المدارس والزوايا والربط ووقفوا عليها الأوقاف المغلة يجعلون فيها شركا لولدهم ينظر عليها أو يصيب منها مع ما فيهم غالبا من الجنوح إلى الخير والتماس الأجور في المقاصد والأفعال فكثرت الأوقاف
لذلك وعظمت الغلات والفوائد وكثر طالب العلم ومعلمه بكثرة جرايتهم منها وارتحل إليها الناس في طلب العلم من العراق والمغرب ونفقت بها أسواق العلوم وزخرت بحارها والله يخلق ما يشاء وهو العليم الحكيم1.
1 في هامش الأصل تعقيب نصه: وكان دار بمملكة الهند بلدة دهلي، ثم جونفور ثم إله آباد ثم بهادر ثم بلجرام وما إليها من القصبات، ثم لكهنو وما ضاهاها من القرى المتصلة بها، زخرت في هذه البلاد بحار العلوم العقلية والنقلية ونفقت أسواقها زمناً طويلاً حين كانت بها سلطنة الإسلام، ثم زالت تلك العلوم أهلها بزول دولة الإسلام إلى أن لم يبق منها أثر ولا عين كما قيل:
ثم انقضت تلك السنون وأهلها
…
فكأنها وكأنهم أحلام
مولوي عبد الصمد مشاوري سلمه الله تعالى.