المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مطلب: في طبقات أهل العلم - أبجد العلوم

[صديق حسن خان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌القسم الأول: الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم

- ‌المقدمة: في بيان ما يطلق عليه اسم العلم ونسبته ومحله وبقائه وعلم الله تعالى

- ‌الباب الأول: في تعريف العلم وتقسيمه وتعليمه

- ‌الفصل الأول: في ماهية العلم

- ‌الفصل الثاني: فيما يتصل بماهية العلم من: الاختلاف والأقوال

- ‌الفصل الثالث: في تقسيم العلم

- ‌الفصل الرابع: في العلم المدون وموضوعه ومباديه ومسائله وغايته

- ‌الفصل الخامس: في بيان تقسم العلوم المدونة وما يتعلق بها

- ‌الفصل السادس: في بيان أجزاء العلوم

- ‌الفصل السابع: في بيان الرؤوس الثمانية

- ‌الفصل الثامن: في مراتب العلم وشرفه وما يلحق به

- ‌الفصل التاسع: في حالة العلماء

- ‌الباب الثاني: في منشأ العلوم والكتب

- ‌الفصل الأول: في سببه

- ‌الفصل الثاني: في منشأ إنزال الكتب واختلاف الناس وانقسامهم

- ‌الفصل الثالث: في أهل الإسلام وعلومهم

- ‌الفصل الرابع: في أن التعليم للعلم من جملة الصنائع

- ‌الباب الثالث: في المؤلفين والمؤلفات والتحصيل

- ‌الترشيح الأول: في أقسام التدوين وأصناف المدونات

- ‌الترشيح الثاني: في الشرح وبيان الحاجة إليه والأدب فيه

- ‌الترشيح الثالث: في أقسام المصنفين وأحوالهم

- ‌الترشيح الرابع: في بيان مقدمة العلم ومقدمة الكتاب

- ‌الترشيح الخامس: في التحصيل

- ‌الباب الرابع: في فوائد منثورة من أبواب العلموفيه مناظر وفتوحات

- ‌المنظر الأول: في العلوم الإسلامية

- ‌المنظر الثاني: في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم

- ‌المنظر الثالث: في علوم اللسان العربي

- ‌المنظر الرابع: في أن الرحلة في طلب العلوم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعلم

- ‌المنظر الخامس: في أن العلماء - من بين البشر - أبعد عن السياسة ومذاهبها

- ‌المنظر السادس: في موانع العلوم وعوائقها

- ‌المنظر السابع: في أن الحفظ غير الملكة العلمية

- ‌المنظر الثامن: في شرائط تحصيل العلم وأسبابه

- ‌المنظر التاسع: في شروط الإفادة ونشر العلم

- ‌المنظر العاشر: فيما ينبغي أن يكون عليه أهل العلم

- ‌المنظر الحادي عشر: في التعلم

- ‌الباب الخامس: في لواحق الفوائد

- ‌مطلب: لزوم العلوم العربية

- ‌مطلب: العلوم العقلية وأصنافها

- ‌مطلب: في أن اللغة ملكة صناعية

- ‌مطلب: في أن لغة العرب لهذا العهد لغة مستقلة مغايرة للغة مضر وحمير

- ‌مطلب: في أن لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها مخالفة للغة مضر

- ‌مطلب: في تعليم اللسان المضري

- ‌مطلب: في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية ومستغنية عنها في التعليم

- ‌مطلب: في تفسير الذوق في مصطلح أهل البيان وتحقيق معناه وبيان أنه: لا يحصل غالبا للمستعربين من العجم

- ‌مطلب: في أن أهل الأمصار على الإطلاق قاصرون في تحصيل هذه الملكة اللسانية التي تستفاد بالتعليم

- ‌الباب السادس: في انقسام الكلام إلى فني: النظم والنثر

- ‌مطلب: أن لسان العرب وكلامهم على فنين

- ‌مطلب: في أنه لا تتفق الإجادة في فني المنثور والمنظوم معا إلا للأقل

- ‌مطلب: في صناعة الشعر ووجه تعلمه

- ‌مطلب: في أن صناعة النظم والنثر إنما هي في الألفاظ لا في المعاني

- ‌مطلب: في أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ وجودتها بجودة المحفوظ

- ‌مطلب: في ترفع أهل المراتب عن انتحال الشعر

- ‌مطلب: في بيان المردف والمستزاد والمزدوجة

- ‌مطلب: في طبقات الشعراء

- ‌مطلب: في مدح المنظوم من الكلام والحمائل المنوطة بعواتق الأقلام

- ‌مطلب: في تعيين العلم الذي هو فرض عين على كل مكلف

- ‌مطلب: في طبقات أهل العلم

- ‌مطلب: في مباحث من الأمور العامة التي يكثر استعمالها والاشتباه بإهمالها

- ‌خاتمة القسم الأول في بيان تطبيق الآراء

- ‌فصل: في ماهية التطبيق وهليته

- ‌فصل: في موازين التحقيق

- ‌فصل: في أسباب الاختلاف

- ‌فصل: في ضوابط التطبيق

- ‌فصل: في الجرح والترجيح

- ‌فصل: في أمثلة التطبيق توضيحا للواهم وتمرينا للفاهم

- ‌خاتمة القسم الأول

- ‌القسم الثاني: السحاب المركوم الممطر بأنواع الفنون وأصناف العلوم

- ‌المقدمة في بيان أسماء العلوم وموضوعاتها وعدم تعين الموضوع في بعضها

- ‌باب الألف

- ‌باب الباء الموحدة

- ‌باب التاء

- ‌باب الثاء المثلثة

- ‌باب الجيم

- ‌باب الحاء المهملة

- ‌باب الخاء المعجمة

- ‌باب الدال المهملة

- ‌باب الذال المعجمة

- ‌باب الراء المهملة

- ‌باب الزاء المعجمة

- ‌باب السين المهملة

- ‌باب الشين المعجمة

- ‌باب الصاد المهلمة

- ‌باب الضاد المعجمة

- ‌باب الطاء المهملة

- ‌باب الظاء المعجمة

- ‌باب العين المهملة

- ‌باب الغين المعجمة

- ‌باب الفاء

- ‌باب القاف

- ‌باب الكاف

- ‌باب اللام

- ‌باب الميم

- ‌باب النون

- ‌باب الواو

- ‌باب الهاء

- ‌باب الياء التحتانية

- ‌القسم الثالث: الرحيق المختوم من تراجم أئمة العلوم

- ‌مدخل

- ‌علماء اللغة

- ‌علماء التصريف

- ‌علماء النحو

- ‌علماء المعاني والبيان

- ‌علماء العروض والقوافي

- ‌علماء الإنشاء والأدب

- ‌علماء المحاضرة

- ‌علماء الشعر

- ‌علماء التواريخ

- ‌علماء الحكمة

- ‌علماء المنطق

- ‌علماء الجدل

- ‌علماء الخلاف

- ‌علماء المقالات

- ‌علماء الطب

- ‌علماء أصول الفقه

- ‌علماء الفقه

- ‌ذكر حفاظ الإسلام

- ‌علماء الفرائض

- ‌علماء النجوم

- ‌علماء الحرمين

- ‌علماء اليمن

- ‌علماء الهند

- ‌علماء قنوج

- ‌علماء بلدة بهوبال المحمية

الفصل: ‌مطلب: في طبقات أهل العلم

‌مطلب: في طبقات أهل العلم

من كتاب أدب الطلب لشيخنا وبركتنا الإمام المجتهد الرباني: محمد بن علي الشوكاني قاضي قضاة القطر اليماني رحمه الله قال رضي الله عنه:

أول: ما على طالب العلم: أن يحسن نيته ويصلح طويته ويتصور أن هذا العمل الذي قصد له والأمر الذي أراده هو الشريعة التي شرعها الله - سبحانه - لعباده وبعث بها رسله وأنزل بها كتبه ويجرد نفسه عن أن يشوب ذلك بمقصد من مقاصد الدنيا أو يخلطه بما يكدره من الإرادات التي ليست منه هذا على. فرض أن مجرد تشريك العلم مع غيره له حكم هذه المحسوسات وهيهات ذاك فإن من أراد أن يجمع في طلبه بين قصد الدنيا والآخرة فقد أراد الشطط وغلط أقبح الغلط فإن طلب العلم من أشرف أنواع العبادة وأجلها وأعلاها وقد قال - تعالى -: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى".

ومن أهم ما يجب على طالب العلم تصوره عند الشروع بل في كل وقت أن يقرر عند نفسه أن هذا العمل هو تحصيل العلم بما شرعه الله لعباده والمعرفة لما تعبدهم به في محكم كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وإن هذا المطلب: هو سبب تحصيله وذلك سبب الظفر بما عند الله من خير ومثل هذا لا مدخل فيه لعصبية ولا مجال عنده لحمية بل هو شيء تعبدهم الله به ليس لواحد أن يدعي أنه غير متعبد به فضلا أن يرتقي إلى درجة تكليف عباد الله بما يصدر عنه من الرأي فإن هذا أمر لم يكن إلا لله - سبحانه - لا لغيره كائنا من كان ولا ينافي هذا وقوع الخلاف بين أئمة الأصول في إثبات اجتهاد الأنبياء ونفيه فإن الخلاف لفظي عند من أنصف وحقق وأهم ما يحصل لك: أن تكون منصفا غير متعصب في شيء من هذه الشريعة فلا تمحق بركتها بالتعصب لعالم من علماء الإسلام بأن تجعل رأيه واجتهاده حجة عليك وعلى سائر العباد فإنه وإن فضلك بنوع من العلم وفاق عليك بمدرك من الفهم فهو لم يخرج بذلك عن كونه محكوما عليه متعبدا بما أنت متعبد به بل الواجب عليك أن تعترف له بالسبق وعلو الدرجة اللائقة به في العلم معتقدا أن ذلك هو الذي لا يجب عليه غيره ولا يلزمه سواه وليس لك أن تعتقد أن صوابه صواب لك أو خطأه خطأ عليك بل عليك بالاجتهاد والجد حتى تبلغ إلى ما بلغ إليه من أخذ الأحكام الشرعية من ذلك المعدن الذي لا معدن سواه والموطن الذي هو أول الفكر وآخر العمل فإذا وطنت نفسك على الإنصاف وعدم التعصب لمذهب من المذاهب ولا لعالم من العلماء فقد فزت بأعظم فوائد العلم وربحت بأنفس فرائده ومن عرف الفنون وأهلها معرفة صحيحة لم يبق عنده شك أن اشتغال أهل الحديث بفنهم لا يساويه اشتغال سائر أهل الفنون بفنونهم ولا يقاربه بل لا يعد بالنسبة إليه كثير شيء وإن إنصاف الرجل لا يتم حتى يأخذ كل فن عن أهله كائنا ما كان وأما إذا أخذ العلم من غير أهله ورجح ما يجده من الكلام لأهل العلم في فنون ليسوا من أهلها وأعرض عن كلام أهلها فإنه يخبط ويخلط ويأتي من الأقوال والترجيحات بما هو في أبعد درجات الإتقان وهو حقيق بذلك وفي علماء المذاهب الأربعة: من هو أوسع علما وأعلى قدرا من إمامه الذي ينتمي إليه ويقف عند رأيه ويقتدي بما قاله في عبادته

ص: 192

ومعاملته وفي فتاواه وقضائه ويسري ذلك إلى مصنفاته فيرجح فيها ما يرجحه إمامه وإن كان دليله ضعيفا أو موضوعا أو لا دليل بيده أصلا بل مجرد محض الرأي ويدفع من الأدلة المخالفة له ما هو أوضح من شمس النهار تارة: بالتأويل المتعسف وحينا: بالزور الملفف وبالجملة فما صنع هذا لنفسه بذلك التصنيف إلا ما هو خزي له في الدنيا والآخرة ووبال عليه في الآجلة والعاجلة.

الثاني: أن للطلبة: ثلاث طبقات:

الأولى: من يقصد البلوغ إلى مرتبة في الطلب لعلم الشرع ومقدماته وترتفع همته فيكون عند تحصيلها إماما مرجوعا إليه مستفادا منه مأخوذا بقوله مدرسا مفتيا مصنفا قاضيا.

والثانية: من تقصر همته عن هذه الغاية فتكون غاية مقصده ومعظم مطلبه ونهاية رغبته أن يعرف ما طلبه منه الشارع من أحكام التكليف والوضع على وجه يستقل فيه بنفسه ولا يحتاج إلى غيره من دون أن يتصور البلوغ إلى رتبة أهل الطبقة الأولى.

والثالثة: من يكون نهاية مرادهم أمرا دون أهل الطبقة الثانية وهو إصلاح ألسنتهم وتقويم أفهامهم بما يقتدرون به على فهم معاني ما يحتاجون إليه من الشرع وعدم تحريفه وتصحيفه من دون قصد منهم إلى الاستقلال.

وثم طبقة رابعة: يقصدون الوصول إلى علم من العلوم أو علمين أو أكثر لغرض من الأغراض الدينية أو الدنيوية من دون تصور الوصول إلى علم الشرع فكانت الطبقات: أربعاً.

وينبغي لمن كان صادق الرغبة قوي الفهم ثاقب النظر عزيز النفس شهم الطبع عالي الهمة سامي الغريزة أن لا يرضى لنفسه بالدون ولا يقنع بما دون الغاية ولا يقعد عن الجد والاجتهاد المبلغين له إلى أعلى ما يراد وأرفع ما يستفاد فإن النفوس الأبية والهمم العلية لا ترضى بدون الغاية في المطالب الدنيوية من: جاه أو مال أو رئاسة أو صناعة أو حرفة وإذا كان هذا شأنهم في الأمور الدنيوية التي هي سريعة الزوال قريبة الاضمحلال فكيف لا يكون ذلك من مطالب المتوجهين إلى ما هو أشرف مطلبا وأعلى مكسبا وأرفع مرادا وأجل خطرا وأعظم قدرا وأعود نفعا وأتم فائدة؟ وهي المطالب الدينية مع كون العلم أعلاها وأولاها بكل فضيلة وأجلها وأكلمها في حصول المقصود وهو الخير الأخروي.

أما الطبقة الأولى: فينبغي لمن تصور الوصول إليها أن يشرع بعلم النحو مبتدئا بالمختصرات كمنظومة الحريري1 المسماة: بالملحة وشرحها فإذا فهم ذلك وأتقنه انتقل إلى كافية ابن الحاجب وشروحها ومغني اللبيب وشروحه.

هذا باعتبار الديار اليمنية2 فإذا كان ناشئا في أرض يشتغلون فيها بغير هذه فعليه بما اشتغل به مشايخ

1 القاسم بن علي صاحب المقامات، توفي سنة 516هـ = 1122م.

2 في هامش الأصل التعليق: "اعلم أن ما يسميه المؤلف هاهنا إنما هو باعتبار ما يشتغل به الناس في الديار اليمنية إذا كان طالب العلم فيها، لأنه يجد شيوخ هذه المصنفات ولايجد شيوخ غيرها من مصنفات النحو إلا باعتبار الوجادة لا باعتبار السماع فمن كان في غيرها فليأخذ عن شيوخها في كل فن مقداراً يوافق ماذكره هاهنا""سيد علي حسن خان ولد المؤلف عافاه الله تعالى عن الفتن".

ص: 193

تلك الأرض ولا يستغني طالب التبحر عن إتقان ما اشتمل عليه شرح الرضي على الكافية1 من المباحث اللطيفة والفوائد الشريفة وكذلك ما في المغني2 من المسائل الغريبة ويكون اشتغاله بسماع الشروح بعد حفظ هذه المختصرات حفظا يمليه عن ظهر قلبه ويبديه من طرف لسانه وأقل الأحوال: أن يحفظ مختصرا منها هو أكثرها مسائل وأنفعها فوائد ولا يفوته النظر في مثل ألفية ابن مالك وشروحها والتسهيل3 وشروحه والمفصل للزمخشري والكتاب لسيبويه فإنه يجد في هذه الكتب من: لطائف المسائل النحوية ودقائق المباحث العربية ما لم يكن قد وجده في تلك.

وينبغي للطالب أن يطلع على مختصر من مختصرات المنطق ويأخذه عن شيوخه ويفهم معانيه ويكفيه في ذلك مثل: إيساغوجي أو تهذيب السعد وشرح من شروحهما وليس المراد هنا إلا الاستعانة بمعرفة مباحث التصورات والتصديقات إجمالا لئلا يعثر على بحث من مباحث العربية من: نحو أو صرف أبو بيان قد سلك فيه صاحب الكتاب مسلكا على النمط الذي سلكه أهل المنطق فلا يفهمه كما يقع كثيرا في الحدود والرسوم فإن أهل العربية يتكلمون في ذلك بكلام المناطقة فإذا كان الطالب عاطلا عن علم المنطق بالمرة لم يفهم تلك المباحث كما ينبغي.

ثم بعد ثبوت الملكة له في النحو وإن لم يكن قد فرغ من سماع ما سميناه يشرع في الاشتغال بكتب علم الصرف ك: الشافية وشروحها والزنجانية ولامية الأفعال ولا يكون الما بعلم الصرف كما ينبغي إلا أن تكون الشافية وشروحها من محفوظاته لانتشار مسائل فن الصرف وطول ذيل قواعده وتشعب أبوابه ولا يفوته الاشتغال بشرح الرضي على الشافية بعد أن يشتغل بما هو أخصر منه من شروحها كشرح الجاربردي ولطف الله الغياث4 فإن فيه من الفوائد الصرفية مالا يوجد في غيره.

ثم ينبغي له بعد ثبوت الملكة له نحوا وصرفا وإن لم يكن قد فرغ من سماع كتب الفنين أن يشرع في علم المعاني والبيان فيبتدئ بحفظ مختصر من مختصرات الفن يشتمل على مهمات مسائله ك: التخليص وشرح السعد المختصر وما عليه من الحواشي وشرحه المطول وحواشيه فإنه إذا حفظ هذا المختصر وحقق الشرحين المذكورين وهوامشهما بلغ إلى مكان من الفن مكين فقد أحاطت هذه الجملة بما في مؤلفات المتقدمين من شراح المفتاح ونحوه وإذا ظفر بشيء من مؤلفات: عبد القاهر الجرجاني أو السكاكي في هذا الفن فليمعن النظر فيه فإنه يقف في تلك المؤلفات على فوائد.

وينبغي له حال الاشتغال بهذا الفن أن يشتغل بفنون مختصرة قريبة المأخذ قليلة المباحث كفن الوضع

1 هو رضي الدين محمد بن الحسن الأستراباذي المتوفى سنة 686هـ = 1287م وضع شرحاً على كافية ابن الحاجب في النحو.

2 "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" لابن هشام جمال الدين عبد الله بن يوسف النحوي المتوفى سنة 761هـ = 1360م.

3 هو تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد لابن مالك صاحب الألفية.

4 واسم شرحه هذا: المناهل الصافية على الشافية.

ص: 194

وفن المناظرة1. ويكفيه في الأول: رسالة الوضع وشرح من شروحها وفي الثاني: آداب البحث العضدية وشرح من شروحها.

ثم ينبغي له أن يكب على مؤلفات اللغة المشتملة على بيان مفرداتها ك الصحاح2 والقاموس وشمس العلوم وضياء الحلوم وديوان الأدب ونحو ذلك من المؤلفات المشتملة على بيان اللغة العربية عموما أو خصوصا كالمؤلفات المختصة بغريب القرآن والحديث ثم يشتغل بعد هذا بعلم المنطق فيحفظ مختصرا منه ك: التهذيب أو الشمسية ثم يأخذ في سماع شروحهما على أهل الفن فإن العلم بهذا الفن على الوجه الذي ينبغي يستفيد به الطالب مزيد إدراك وكمال استعداد عند ورود الحجج العقلية عليه وأقل الأحوال أن يكون على بصيرة عند وقوفه على المباحث التي يوردها المؤلفون في علوم الاجتهاد من المباحث المنطقية كما يفعله كثير من المؤلفين في: الأصول والبيان والنحو.

ثم يشتغل بفن أصول الفقه بعد أن يحفظ مختصرا من مختصراته المشتملة على مهمات مسائله ك: مختصر المنتهى أو جمع الجوامع أو الغاية ثم يشتغل بسماع شروح هذهالمختصرات ك: شرح العضد على المختصر وشرح المحلي على جمع الجوامع وشرح ابن الإمام على الغاية

وينبغي له أن يطول الباع في هذا الفن ويطلع على مؤلفات أهل المذاهب المختلفة ك: التنقيح والتوضيح والتلويح والمنار وتحرير ابن الهمام وليس في هذه المؤلفات مثل التحرير وشرحه ومن أنفع ما يستعان به على بلوغ درجة التحقيق في هذا الفن: الإكباب على الحواشي التي ألفها المحققون على الشرح العضدي وعلى شرح الجمع.

ثم ينبغي له بعد إتقان فن أصول الفقه وإن لم يكن قد فرغ من سماع مطولاته أن يشتغل بفن الكلام المسمى: بأصول الدين ويأخذ من مؤلفات الأشعرية بنصيب ومن مؤلفات المعتزلة3 بنصيب ومن مؤلفات الماتريدية بنصيب ومن مؤلفات المتوسطين بين هذه الفرق: كالزيدية بنصيب فإنه إذا فعل هكذا عرف الاعتقادات كما ينبغي وأنصفكل فرقة بالترجيح والترجيح على بصيرة وقابل كل قول بالقبول أو الرد على حقيقة.

وإني أقول بعد هذا: إنه لا ينبغي لعالم أن يدين بغير ما دان به السلف الصالح من الوقوف على ما تقتضيه أدلة الكتاب والسنة وإمرار الصفات كما جاءت ورد علم المشابه إلى الله - سبحانه - وعدم الاعتداد

1 سوف يعرف المؤلف هذين الفنين في الجزء الثاني من كتابة "أبجد العلوم".

2 بإزائة في هامش الأصل التعليق: قلت: وأجمع كتب اللغة كتاب تاج العروس شرح القاموس للسيد المرتضى البلجرامي الزبيدي المصري قد حوى على جميع كتب هذا الفن، كما قيل: كل الصيد في جوف الفرا. وقد طبع بحمد الله في مصر القاهرة، لكن نصف الكتاب فإن تيسر الكتاب تماماً فمن نعم الله تعالى على المتيسر له ويكفي هو وحده عن جميع أسفار هذا العلم سيد علي حسن خان سلمه الله تعالى.

وقد طبع التاج بكماله في القاهرة وأعيدت طباعته في الكويت منذ عهد قريب.

3 في هامش الأصل: "ومن أحسنها المجبتى ومن أحسن كتب الأشعرية المواقف العضدية وشرحها للشريف والمقاصد السعدية وشرحها له سيد علي حسن خان سلمه ربه.

ص: 195

بشيء من تلك القواعد المدونة في هذا العلم المبنية على شفا جرف هار من أدلة العقل التي لا تعقل ولا تثبت إلا بمجرد الدعاوى والافتراء على العقل بما يطابق الهوى ولا سيما إذا كانت مخالفة لأدلة الشرع الثابتة في الكتاب والسنة فإنها حينئذ حديث خرافة ولعبة لاعب.

ثم بعد إحراز هذه العلوم يشتغل بعلم التفسير فيأخذ عن الشيوخ ما يحتاج مثله إلى الأخذ ك: الكشاف1 ويكب على كتب التفسير على اختلاف أنواعها وتباين مقاديرها ويعتمد في تفسير كلام الله - سبحانه - على ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عن الصحابة فإنهم أهل اللسان العربي فما وجده من تفاسير رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المعتبرة كالأمهات وما يلتحق بها قدمه على غيره وأجمع مؤلف في ذلك الدر المنثور للسيوطي وينبغي له أن يطول الباع في هذا العلم ويطالع مطولات التفسير ك: مفاتيح الغيب للرازي ولا يكتفي على تفسير بعض الآيات مسميا لها بآيات الأحكام كما وقع للموزعي وصاحب الثمرات ويقدم على قراءة التفاسير: الاطلاع على علوم لها مدخل في التلاوة وسائر العلوم المتعلقة بالكتاب العزيز وما أنفع الإتقان للسيوطي في مثل هذه الأمور ثم لا يهمل النظر في كتب القراآت وما يتعلق بها ك: الشاطبية وشروحها والطيبية وشروحها وأعظم العلوم فائدة وأكثرها نفعا وأوسعها قدرا وأجلها خطرا: علم السنة المطهرة فإنه الذي تكفل ببيان الكتاب العزيز ثم استقل بما لا ينحصر من الأحكام فيقبل على سماع الكتب ك: جامع الأصول والمشارق وكنز العمال والمنتقى لجد ابن تيمية رحمه الله وبلوغ المرام لابن حجر والعمدة ثم يسمع الأمهات الست2 ومسند أحمد وصحيح ابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود وسنن الدارقطني والبيهقي وما بلغت إليه قدرته ووجد في أهل عصره شيوخه.

ثم يشتغل بشروح هذه المؤلفات فيسمع منها ما تيسر له ويطالع ما تيسر له سماعه ويستكثر من النظر في المؤلفات في علم الجرح والتعديل بل يتوسع في هذا العلم بكل ممكن وأنفع ماينتفع به مثل: النبلاء وتاريخ الإسلام وتذكرة الحفاظ والميزان وهذا بعد أن يشتغل بشيء من علم اصطلاح أهل الحديث كمؤلفات ابن الصلاح والألفية للعراقي وشروحها.

وينبغي أن يشتغل بمطالعة الكتب المصنفة في تاريخ الدول وحوادث العالم في كل سنة كما فعله الطبري في تاريخه وابن الأثير في كامله فإن للاطلاع على ذلك فائدة جليلة.

فإذا أحاط الطالب بما ذكرناه من العلوم فقد صار حينئذ في الطبقة العالية من طبقات المجتهدين وكمل له جميع أنواع علوم الدين وصار قادرا على استخراج الأحكام من الأدلة متى شاء وكيف شاء ولكنه ينبغي له: أن يطلع على علوم أخر3 ليكمل له ما قد حازه من الشرف ويتم له ما قد ظفر به من بلوغ الغاية فمن ذلك: علم الفقه وأقل الأحوال: أن يعرف مختصرا في فقه كل مذهب من المذاهب المشهورة،

1 للزمخشري.

2 أي كتب الصحاح الستة.

3 في هامش الأصل: "وهي لا تخرج إن شاء الله تعالى عن القسم الثاني من هذا الكتاب وفيه ما لا يحتاج إليه طالب علم الدين وإنما يحتاج إليه طالب علوم الدنيا". حافظ علي حسين كاتب الحروف عفا الله عنه".

ص: 196

فإنه قد يحتاج إليها المجتهد لإفادة المتمذهبين السائلين عن مذاهب أئمتهم وقد يحتاج إليها لدفع من يشنع عليه في اجتهاده كما يقع ذلك كثيرا من أهل التعصب والتقصير فإنه إذا قال له: قد قال بهذه المقالة العالم الفلاني أو عمل عليها أهل المذهب الفلاني كان ذلك دافعا لصولته كاسرا لسورته وما أنفع الاطلاع على المؤلفات البسيطة في حكاية مذاهب السلف وأهل المذاهب وحكاية أدلتهم وما دار بين المتناظرين منهم إما تحقيقا أو فرضا كمؤلفات ابن المنذر وابن قدامة وابن حزم وابن تيمية ومن سلك مسالكهم فإن تلك المؤلفات هي مطارح أنظار المحققين ومطامح أفكار المجتهدين.

ومما يزيد من آراء هذه الطبقة العلية علوا ويفيده قوة إدراك وصحة فهم وسيلان ذهن: الاطلاع على أشعار فحول الشعراء ومجيديهم مع ما يحصل له بذلك من الاقتدار على النظم والتصرف في فنونه فإن من كان بهذه المنزلة الرفيعة من العلم إذا كان لا يقتدر على النظم كان ذلك خدشة في وجه محاسنه ونقصا في كماله.

وهكذا الاستكثار من النظر في بلاغات أهل الإنشاء المشهورين بالإجادة والإحسان المتصرفين في رسالاتهم ومكاتباتهم بأفصح لسان وأبين بيان لأنه ينبغي أن يكون كلامه على قدر علمه وهو إذا لم يمارس جيد النظم والنثر كان كلامه ساقطا عن درجة الاعتبار عند أهل البلاغة والعلم شجرة ثمرتها الألفاظ وما أقبح العالم المتبحر في كل فن أن يتلاعب به في النظم والنثر من لا يجاريه في علوم من علومه ويتضاحك منه من له إلمام بمستحسن الكلام ورائق النظام وأنفع ما ينتفع به في ذلك: منظومة الجزار1 وشرحها والمثل السائر في أدب الكاتب والشاعر لابن الأثير ثم لا بأس على من رسخ قدمه في العلوم الشرعية أن يأخذ بطرف من فنون هي من أعظم ما يصقل الأفكار ويصفي القرائح ويزيد القلب سرورا والنفس انشراحا كالعلم: الرياضي والطبيعي والهندسة والهيئة والطب.

وبالجملة: فالعلم بكل فن خير من الجهل به بكثير ولا سيما من رشح نفسه للطبقة العلية والمنزلة الرفيعة ودع عنك ما تسمعه من التشنيعات فإنها شعبة من التقليد وأنت بعد العلم بأي علم من العلوم حاكم عليه بما لديك من العلم غير محكوم عليك واختر لنفسك ما يحلو وليس يخشى على من قد ثبت قدمه في علم الشرع من شيء وإنما يخشى على من كان غير ثابت القدم في علوم الكتاب والسنة فإنه ربما يتزلزل وتخور قوته فإذا قدمت العلم بما قدمنا لك من العلوم الشرعية فاشتغل بما شئت واستكثر من الفنون ما أردت وتبحر في الدقائق ما استطعت وحارب من خالفك وعذلك وشنع عليك بقول القائل:

أتانا أن سهلا ذم جهلا

علوما ليس يعرفهن سهل

علوما لو دراها ما قلاها

ولكن الرضا بالجهل سهل

وإني لأعجب من رجل يدعي الإنصاف والمحبة للعلم ويجري على لسانه الطعن في علم من العلوم لا يدري به ولا يعرفه ولا يعرف موضوعه ولا غايته ولا فائدته ولا يتصوره بوجه من الوجوه ولقد

1 لعلها المعروفة ب "العقود الدرية في الأمراء المصرية" وهي ليحيى بن عبد العظيم بن يحيى بن محمد الجزار المتوفى سنة 679هـ = 1280م وهو أديب شاعر له ديوان شعر وكتب أخرى.

ص: 197

وجدنا لكثير من العلوم التي ليست من علم الشرع نفعا عظيما وفائدة جليلة في دفع المبطلين والمتعصبين وأهل الرأي البحت ومن لا اشتغال له بالدليل.

وأما الأهلية التي يكون صاحبها محلا لوضع العلم فيه وتعليمه إياه فهي: شرف المحتد وكرم النجار وظهور الحسب أو كون في سلف الطالب من له تعلق: بالعلم والصلاح ومعالم الدين أو بمعالي الأمور ورفيع الرتب فإن هذا أمر يجذب بطبع صاحبه إلى معالي الأمور ويحول بينه وبين الرذائل وأما من كان سقط المتاع وسفساف أهل المهن: كأهل الحياكة والعصارة والقصابة ونحو ذلك من المهن الدنية والحرف الوضيعة فإن نفسه لا تفارق الدناءة ولا تجانب السقوط ولا تأبى المهانة فإذا اشتغل مشتغل منهم بطلب العلم ونال منه بعض النيل وقع في أمور منها: العجب والزهو والخيلاء والتطاول على الناس ويعظم به الضرر على أهل العلم فضلا عن غيرهم ممن هو دونهم.

وأما من كان أهلا للعلم وفي مكان من الشرف فإنه يزداد بالعلم شرفا إلى شرفه ويكتسب به من حسن السمت وجميل التواضع ورائق الوقار وبديع الأخلاق ما يزيد علمه علوا وعرفانه تعظيما.

وبين هاتين الطائفتين: طائفة ثالثة ليست من هؤلاء ولا من هؤلاء جعلوا العلم مكسبا من مكاسب الدنيا ومعيشة من معايش أهلها لا غرض لهم فيه إلا إدراك منصب من مناصب أسلافهم ونيل رئاسة من الرئاسات التي كانت لهم كما يشاهد في غالب البيوت المعمورة بالقضاء أو الإفتاء أو الخطابة أو الكتابة أو ما هو شبيه بهذه الأمور فهذا ليس من أهل العلم في ورد ولا صدر ولا ينبغي أن يكون معدودا منهم ولا فائدة في تعليمه راجعة إلى الدين قط.

والذي ينبغي لطالب العلم أن يطلبه كما ينبغي ويتعلمه على الوجه الذي يريده الله منه معتقدا أنه أعلى أمور الدين والدنيا راجيا أن ينفع به عباد الله بعد الوصول إلى الفائدة منه.

هذا ما ينبغي لأهل الطبقة الأولى وأما أهل الطبقة الثانية: وهو: من يطلب ما يصدق عليه مسمى الاجتهاد ويسوغ به العمل بأدلة الشرع فهو يكتفي بأن يأخذ من كل فن من فنون الاجتهاد بنصيب يعلم به ذلك الفن علما يستغني به عند الحاجة إليه أو يهتدي به إلى المكان الذي فيه ذلك البحث على وجه يفهم به ما يقف عليه منه فيشرع بتعلم علم النحو حتى تثبت له فيه الملكة التي يقتدر بها على: معرفة أحوال أواخر الكلم إعرابا وبناء وأقل ما يحصل له ذلك بحفظ مختصر من المختصرات المشتملة على مهمات مسائل النحو والمتضمنة لتقرير مباحثه على الوجه المعتبر ك: الكافية وشرح من شروحها وأحسنها بالنسبة إلى الشروح المختصرة: شرح الجامي ثم يحفظ مختصرا في الصرف ك: الشافية وشرحها للجاربردي ثم يشتغل بحفظ مختصر من مختصرات علم المعاني والبيان ك: التلخيص للقزويني وشرح السعد المختصر وأنفع ما ينتفع به الطالب الغاية للحسين بن القاسم1 وشرحها له ثم يشتغل بقراءة تفسير من التفاسير المختصرة ك: تفسير البيضاوي مع مراجعة ما يمكنه مراجعته من التفاسير ثم يشتغل بسماع مالا بد من سماعه من كتب

1 هو الحسين بن قاسم بن محمد بن علي اليمني من سادات اليمن، توفي سنة 1050هـ = 1640م وكتابة الغاية في الأصول وقد وضع عليه أيضا شرحاً.

ص: 198

الحديث وهي: الست الأمهات فإن عجز عن ذلك اشتغل بسماع ما هو مشتمل على ما فيها من المتون ك: جامع الأصول ثم لا يدع البحث عن ما هو موجود من أحاديث الأحكام في غيرها بحسب ما تبلغ إليه طاقته ويبحث عن الأحاديث الخارجة عن الصحيح في المواطن التي هي مظنة للكلام عليها من: الشروح والتخريجات ويكون مع هذا عنده ممارسة لعلم اللغة على وجه يهتدي به إلى البحث عن الألفاظ العربية واستخراجها من مواطنها وعنده من علم اصطلاح الحديث وعلم الجرح والتعديل ما يهتدي به إلى معرفة ما يتكلم به الحافظ على أسانيد الأحاديث ومتونها.

وأما أهل الطبقة الثالثة: وهم الذين يرغبون إلى إصلاح ألسنتهم وتقويم أفهامهم بما يقتدرون به على فهم معاني ما يحتاجون إليه من الشرع وعدم تحريفه وتصحيفه وتغيير إعرابه من دون قصد منهم إلى الاستقلال بل يعزمون على التعويل على السؤال عند عروض التعارض والاحتياج إلى الترجيح فينبغي له تعلم شيء من علم الإعراب حتى يعرف به إعراب أواخر الكلم ويكفيه في مثل ذلك حفظ: منظومة الحريري وقراءة شروحها على أهل الفن وتدربه في إعراب ما يطلع عليه من الكلام المنظوم والمنثور ويحفي السؤال عن إعراب ما أشكل عليه حتى تثبت له بمجموع ذلك ملكة يعرف بها أحوال أواخر الكلم إعرابا وبناء ثم يتعلم اصطلاح علم الحديث ويكفيه في مثل ذلك مثل: النخبة وشرحها ثم بعدها يكب على سماع المختصرات في الحديث مثل: بلوغ المرام والعمدة والمنتقى وإن تمكن من سماع جامع الأصول أو شيء من مختصراته فعل فإذا أشكل عليه معنى حديث نظر في الشروح أو في كتب اللغة وإن أشكل عليه الراجح من المتعارضات أو التبس عليه: هل الحديث مما يجوز العمل به أم لا؟ سأل علماء هذا الشأن الموثوق بعرفانهم وإنصافهم ويعمل على ما يرشدونه إليه استفتاء وعملا بالدليل لا تقليدا وعملا بالرأي ويشتغل بسماع تفسير من التفاسير التي لا تحتاج إلى تحقيق وتدقيق ك: تفسير البغوي وتفسير السيوطي المسمى: بالدر المنثور وإذا أشكل عليه بحث من المباحث أو تعارضت عليه التفاسير ولم يهتد إلى الراجح أو التبس عليه أمر يرجع إلى تصحيح شيء مما يجده في كتب التفسير رجع إلى أهل العلم بذلك الفن سائلا لهم عن الرواية لا عن الرأي

وقد كان من هذه الطبقة: الصحابة والتابعون وتابعوهم فإنهم كانوا يسألون أهل العلم منهم عن حكم ما يعرض لهم مما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم فيروون لهم في ذلك ما جاء عن الله - تعالى - وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فيعملون بروايتهم لا برأيهم من دون تقليد ولا التزام رأي كما يعرف ذلك من يعرفه.

وأما الطبقة الرابعة: الذين يقصدون الوصول إلى علم من العلوم أو علمين أو أكثر لغرض من الأغراض الدينية أو الدنيوية من دون تصور الوصول إلى علم الشرع وذلك كمن يريد أن يكون شاعرا أو منشئا أو حاسبا فإنه ينبغي له أن يتعلم ما يتوصل به إلى ذلك المطلب فمن أراد أن يكون شاعرا تعلم من علم النحو والمعاني والبيان ما يفهم به مقاصد أهل هذه العلوم ويستكثر من الاطلاع على علم البديع والإحاطة بأنواعه والبحث عن نكته وأسراره وعلم العروض والقوافي ويمارس أشعار العرب ويحفظ ما يمكنه حفظه منها ثم أشعار أهل الطبقة الأولى من أهل الإسلام كجرير والفرزدق وطبقتهما ثم مثل أشعار بشار بن برد وأبي نواس ومسلم بن الوليد وأعيان من جاء بعدهم كأبي تمام والبحتري والمتنبي ثم

ص: 199

أشعار المشهورين بالجودة من أهل العصور المتأخرة ويستعين على فهم ما استصعب عليه بكتب اللغة ويكب على الكتب المشتملة على تراجم أهل الأدب ك: يتيمة الدهر وذيولها وقلائد العقيان وما هو على نمطه من مؤلفات أهل الأدب ك: الريحانةو النفحة.

كما يحتاج إلى ما ذكرناه: من أراد أن يكون شاعرا فيحتاج إليه أيضا: من أراد أن يكون منشئا مع احتياجه إلى الاطلاع على مثل: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر لابن الأثير والكامل للمبرد والأمالي للقالي ومجاميع خطب البلغاء ورسائلهم خصوصا مثل ما هو مدون من بلاغات الجاحظ والفاضل1 والعماد وأمثالهم فإنه ينتفع بذلك أتم انتفاع.

ومن أراد أن يكون حاسبا اشتغل بعلم الحساب ومؤلفاته معروفة.

وهكذا من أراد أن يطلع على علم الفلسفة فإنه يحتاج إلى معرفة العلم الرياضي والعلم الطبيعي والعلم الإلهي وهكذا علم الهندسة فمن جمع هذه العلوم الأربعة صار فيلسوفا والعلم بالعلوم الفلسفية لا ينافي علم الشرع بل يزيد المتشرع الذي قد رسخت قدمه في علم الشرع غبطة بعلم الشرع ومحبة له لأنه يعلم أنه لا سبيل للوقوف على ما حاول الفلاسفة الوقوف عليه إلا من جهة الشرع وإن كل باب - غير هذا الباب - لا ينتهي بمن دخل إليه إلى غاية وفائدة.

ومن كان مريدا لعلم الطب فعليه بمطالعة كتب جالينوس فإنها أنفع شيء في هذا الفن باتفاق من جاء بعده من المشتغلين بهذه الصناعة إلا النادر القليل وقد انتقى منها جماعة من المتأخرين: ستة عشر كتابا وشرحوها شروحا مفيدة فإن تعذر عليه ذلك فأكمل ما وقفت عليه من الكتب الجامعة بين المفردات والمركبات والعلاجات: كتاب القانون لابن سينا وكامل الصناعة المشهور بالملكي لعلي بن العباس ومن أنفع المختصرات: الذخيرة لثابت بن قرة ومن أنفعها - باعتبار خواص الأدوية المفردة وبعض المركبات -: تذكرة الشيخ داود الأنطاكي ولو كمل بالمعالجات لكان مغنيا عن غيره ولكنه انقطع بعد أن شرع إلى الكلام على معالجات العلل على حروف أبجد فوصل إلى حرف الطاء ثم انقطع الكتاب ومن أنفعها في هذا الفن: الموجز وشروحه.

وبالجملة: فمن كان قاصدا إلى علم من العلوم كان عليه أن يتوصل إليه بالمؤلفات المشهورة بنفع من اشتغل بها المحررة أحسن تحرير المهذبة أبلغ تهذيب وقدمنا في كل فن ما فيه إرشاد إلى أحسن المؤلفات فيه.

وكثيرا ما يقصد الطالب الذي لم يتدرب بأخلاق المنصفين ويتهذب بإرشاد المحققين الاطلاع على مذهب من المذاهب المشهورة ولم تكن له في غيره رغبة ولا عنده لما سواه نشاط فأقرب الطرق إلى إدراك مقصده ونيل مآربه أن يبتدئ بحفظ مختصر من مختصرات أهل ذلك المذهب الكنز في مذهب الحنفية والمنهاج2 في مذهب الشافعية فإذا صار ذلك المختصر محفوظا له حفظا متقنا على وجه

1 أي القاضي الفاضل البيساني. انظره فيما سبق ص52، والعماد هو العماد الأصبهاني.

2 الكنز: هو كنز الدقائق في فروع الفقة الحنفي للشيخ الإمام أبي البركات عبد الله بن أحمد المعروف بحافظ الدين النسفي المتوفى سنة 710هـ. والمنهاج: هو منهاج الطالبين في فروع فقة الشافعية ألفة محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف النووي الشافعي المتوفى سنة 676هـ.

ص: 200