المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأولمحمد بن تومرت نشأته وظهوره - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٣

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌العصر الثالثعصرُ المرابطين والمُوَحّدينْ في المغرب والأندلس

- ‌القسْم الأولعصْر المُرابطين وبدَاية الدّولة الموحّدية

- ‌مقدمة

- ‌تمهيدالأوضاع العامة لشبه الجزيرة الأندلسية في عصر المرابطين والموحدين

- ‌الكِتاب الأولالدولة المُرابطية في أوج سُلطانها

- ‌الفصْل الأوّليوسف بن تاشفين

- ‌الفصْل الثانيأمير المسلمين علي بن يوسف وأحداث عصره

- ‌الفصل الثالِثسقوط سرقسطة

- ‌الفصل الرابعالصراع بين ألفونسو المحارب وبين المرابطين

- ‌الفصل الخامِسُالأمير تاشفين بن علي وغزواته وأعماله في شبه الجزيرة

- ‌الفصل السادِسشرق الأندلس

- ‌الكتابُ الثانيالمهْدي محمّد بن تومَرت والصِّراع بين المرابطين والموحّدين وقيام الدّولة الموحّدية بالمغرِب

- ‌الفصل الأوّلمحمد بن تومرت نشأته وظهوره

- ‌الفصل الثانيالصراع بين المرابطين والموحدين

- ‌الفصل الثالثعقيدة المهدي ابن تومرت وتعاليمه الدينية والسياسية

- ‌الفصل الرابعالصراع بين المرابطين والموحدين

- ‌الفصل الخامِسُنهاية الدولة المرابطية في المغرب

- ‌الفصل السادِسالدولة الموحدية في سبيل التوطد

- ‌الفصْل السّابعفتح المهدية وإجلاء الفرنج عن إفريقية

- ‌الكِتابُ الثالِثثورة القوى الوطنيّة بالأندلسْ وتغلّب الموحّدين على شبه الجزيرة

- ‌الفصل الأوّلالثورة في الأندلس وانهيار سلطان المرابطين

- ‌الفصل الثانيعبد المؤمن وشئون الأندلس وافتتاح إشبيلية وقرطبة وغرناطة وألمرية

- ‌الفصل الثالثالثورة في شرقي الأندلس وظهور محمد بن سعد بن مردنيش

- ‌الفصل الرابعأعوام عبد المؤمن الأخيرة وفاته وخلاله

- ‌الكتابُ الرابعنظم الدّولة المرابطيّة وخواصّ العهْد المرابطيّ

- ‌الفصل الأوّلطبيعة الحكم المرابطي وأوضاعه العسكرية والإدارية والمالية

- ‌الفصل الثانيْالحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطي

- ‌الفصل الثالثالحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطي

- ‌الكتابُ الخامِسالممَالك الإسْبانيّة النصْرانية خلال العصْر المُرابطي وأوائل العصْر الموحّدي

- ‌الفصْل الأوّلألفونسو المحارب وأورّاكا ملكة قشتالة وبداية عهد ألفونسو ريمونديس

- ‌الفصل الثانيالممالك الإسبانية النصرانية في عصر القيصر ألفونسو ريمونديس وقيام مملكة أراجون الكبرى

- ‌الفصل الثالثقيام مملكة البرتغال وبداية عصر ملكها ألفونسو هنريكيز

الفصل: ‌الفصل الأولمحمد بن تومرت نشأته وظهوره

‌الفصل الأوّل

محمد بن تومرت نشأته وظهوره

حركة ابن تومرت وخصائصها المحلية. أول ظهور لابن تومرت في مراكش. أصله ومولده. معنى كلمة " تومرت ". نسبته البربرية. انتسابه إلى آل البيت. ما يحيط بهذه النسبة من الريب. نشأته. رحلته في طلب العلم إلى الأندلس، ثم المشرق. قصة لقائه بالإمام الغزالي. سقم هذه القصة وبطلانها. ما ينقضها من الناحية الزمنية. ما يطبعها من ألوان الأسطورة. نفي البحث الحديث لصحتها. تأثر ابن تومرت بتعاليم الأشعرية وبآراء الغزالي. عوده بعد إتمام دراسته إلى المغرب. دعوته إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. نزوله بالمهدية. سفره إلى بجاية. ما وقع بها من هرج من جراء دعايته لإزالة المنكر. المناظرة بينه وبين طلبتها. مغادرته لبجاية، ونزوله بملالة. لقاؤه بعبد المؤمن بن علي وما يقال في ذلك من روايات وأساطير. مسيره إلى وانشريش ثم إلى فاس ومكناسة. نظرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. تفسيرها وفقاً لابن حزم. تعليق العلامة جولدسيهر على النظرية. نزول ابن تومرت بمراكش. استمراره في حملته دون هوادة. مظاهر الخلل والفساد في العاصمة المرابطية. تعرضه لأخت الأمير وما وقع بسبب ذلك من الهرج. أمير المسلمين يأمر بمناظرته. قبول ابن تومرت. ما وقع في هذه المناظرة. الأصول والفروع. تحريض الفقهاء للأمير على قتل ابن تومرت. اقتصاره على اعتقاله ثم نفيه من مراكش. مسيره إلى أغمات ثم إلى السوس. تجوله في بلاد المصامدة. نزوله بجبل إيجليز في هرغة. عكوفه على ربث دعوته والتبشير بنظرية المهدي. إعلانه لإمامته وأنه هو المهدي. مبايعة أصحابه له بهذه الصفة. أصحاب المهدي ومراتبهم. تلقيبه بالمهدي والإمام المعصوم. ملخص شريعته. وضعه لكتب الدعوة لأصحابه. ما يدل على أن ابن تومرت كان يضمر مشروعه ويعمل له.

ننتقل الآن إلى ناحية أخرى من تاريخ الدولة المرابطية، وهي ناحية طارئة عليها، وقد شاء القدر بأن تحول وجهة سيرها من التقدم والتوطد، إلى الإدبار والانحلال المفاجىء، فبينما هي في أوج قوتها ورسوخها، إذا بها تجد نفسها فجأة أمام فورة دينية صغيرة، يضطلع بها فقيه متواضع، وتضطرم بسرعة مدهشة، حتى تغمر كل شىء فيها، وتستغرق كل قواها ومواردها، ثم تنتهي بعد صراع قصير الأمد، بالقضاء عليها: تلك هي ثورة المهدي ابن تومرت.

إن التاريخ الإسلامي، قلما يقدم إلينا حركة أكثر تواضعاً في بدايتها، وأبعد مدى في نتائجها، من تلك الحركة التي قام بها محمد بن تومرت السوسي، المتشح بثوب المهدي، والتي أسفرت عن قيام دولة من أعظم الدول الإسلامية،

ص: 156

وأضخمها رقعة، وأعظمها قوة وسلطاناً، هي الدولة الموحدية الكبرى.

ولقد كانت حركة ابن تومَرت هي الثانية من نوعها في المغرب الإسلامي، وكانت الأولى هي حركة الشيعة، التي أسفرت عن قيام الدولة الفاطمية في إفريقية (تونس)، والتي كان زعيمها الروحي وأول خلفائها عبيد الله يتشح كذلك بثوب المهدي المنتظر. وبالرغم من أن الدولة الفاطمية قد انتقلت بعد ذلك إلى مصر، فإن نشاطها وفتوحاتها، وسلطانها الروحي والسياسي، قد استمرت بالمغرب ردحاً من الزمن، على يد ولاتها من القبائل البربرية، التي كانت هي المادة الآدمية التي استندت إليها في قيامها وتوطدها بالمغرب.

بيد أن حركة المهدي ابن تومرت هي حركة مغربية مستقلة، لم تنبعث كما هو الشأن في قيام الدولة الفاطمية، من الدعوة الشيعية المشرقية، وإن كانت مع ذلك تستند إلى نظرية المهدي المنتظر، وهي بذلك تمتاز بتخصصها القوي وصبغتها المحلية البربرية العميقة، كما تمتاز بأساسها الديني الواضح، الذي انبعثت منه، قبل أن تتطور بسرعة إلى حركة سياسية، يتزعمها الإمام المعصوم والمهدي المنتظر، وهي تتجه في خصومتها المذهبية إلى الصراع المحلي المحض، وتستمد لمقوماتها العوامل الدينية المحلية، التي اختص بها المغرب منذ عصور.

ثم هي فوق ذلك تمثل معركة قومية داخلية، تضطرم بين فريقين من القبائل البربرية، تستظل كل منهما بشعارها الديني الخاص. فقد رأينا كيف قام المرابطون في البداية للجهاد في سبيل الله، وإحياء السنة ومحاربة البدع والضلالات، والانحراف عن أحكام الإسلام، وقد كان يومئذ يسود كثيراً من القبائل البربرية، ثم رأينا كيف استقرت رياسة الدولة المرابطية في قبيلة لمتونة، وحليفاتها كدالة ومسُّوفه وغيرها من بطون صنهاجة. وكذلك فإن حركة ابن تومرت، قامت في البداية على شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبدأت رياسته السياسية في وطنه بالسوس الأقصى، وفي قبيلته هَرْغة، وغيرها من بطون مَصْمودة، وإذن فقد كانت المعركة بين المرابطين والموحدين، تصطبغ في نفس الوقت بالصبغتين الدينية والقومية.

- 1 -

في أواخر سنة 514 هـ (1120 م) وقعت بمدينة مراكش أول بادرة مؤذنة ببداية الثورة الدينية التي اضطلع بها محمد بن تومرت ضد الدولة المرابطية.

ص: 157

ففي ذات يوم جمعة، من هذه السنة، دخل إلى المسجد الجامع رجل صغير القد، متواضع الهيئة، وجلس على مقربة من المحراب بإزاء الموضع المخصص لجلوس أمير المسلمين، فلما اعترض على ذلك بعض سدنة الجامع، تلا الآية " إن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ". ولما حضر أمير المسلمين علي بن يوسف، نهض سائر الحضور، إلا ذلك الرجل، فلما انتهت الصلاة بادر الرجل بالسلام على عليّ، وقال له فيما قال " غير المنكر في بلدك، فأنت المسئول عن رعيتك " وبكى. فلم يجبه أمير المسلمين بشىء. ولما عاد إلى القصر سأل عنه، فقيل له إنه قريب العهد بالوصول، وهو يؤلف الناس ويقول لهم إن السنة قد ذهبت، فأمر علي بن يوسف، وزيره عمر بن ينتان أن يكشف عن أمره ومقصده، فإن كانت له حاجة ينظر في قضائها، فقال الرجل ليس لي حاجة، وما قصدي إلا تغيير المنكر (1).

كان هذا الرجل هو محمد بن تومرت، وكان قد آب من رحلته إلى المشرق، ونزل بمراكش، بعد أن طاف ببعض مدن المغرب الشمالية، وهو يدعو للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأصل هذا الرجل من قبيلة هَرْغة إحدى بطون مصمودة الكبرى، من قوم بها يعرفون " بايسرغينن " وهم الشرفاء في لغة المصامدة. وقد ولد بضيعة، تقع في جنوبي السوس الأقصى، تسمى " بإيجلي ان وارغن "(2). وقد اختلف في تاريخ مولده. وتضعه الرواية فيما بين سنتي 471، و 491 هـ، ويقول لنا ابن الأثير إنه توفي في سنة 524 هـ عن إحدى وخمسين عاماً أو خمسة وخمسين عاماً، مما يجعل تاريخ مولده في سنة 469 هـ، أو 473 هـ، ويضع ابن خلكان تاريخ مولده في العاشر من محرم سنة 485 هـ، وابن الخطيب في سنة 486 هـ، وابن سعيد في سنة 491 هـ، ويضعه الغرناطي في سنة 471، وهو أقدم تاريخ ينسب إليه مولد ابن تومرت (3). وأما عن نسبته فإن الرواية أشد تبايناً واختلافاً. ومن المتفق عليه أنه أبو عبد الله محمد بن عبد الله، ووالداه من أهل السوس، وكان أبوه رجلا فقيراً، وأمه من قوم يعرفون ببني يوسف من مسكالة من عمل السوس، وبنو يوسف هم أخواله، ومولده

(1) البيان المغرب (في الأوراق المخطوطة التي عثرنا بها).

(2)

المعجب ص 99، وابن خلدون ج 6 ص 224 و 225.

(3)

يراجع في مولد ابن تومرت، الزركشي في تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية (تونس 1289 هـ) ص 1، وابن الأثير ج 10 ص 205، وابن خلكان ج 2 ص 52.

ص: 158

بموضع يسمى " نومكران "، وهو موضع لا ماء فيه، وإنما يشرب أهله من ماء المطر. وهنالك كانت دار أسرته (1). وكان يقال لوالده تومَرت وأمغار، ومعناه في لغة المصامدة، الضياء الذي يوقد في المسجد، ومن ثم فقد عرفه التاريخ باسمه الذائع، وهو محمد بن تومرت، كما عرفه بلقبه الديني وهو المهدي، ويفسر لنا مؤرخه " البيذق " معنى كلمة " تومرت " التي لصقت بأبيه، فيقول لنا، إن اسم أبيه عبد الله، شهر في صغره إلى كبره " بتومرت بن وجلّيد ". وذلك أنه لما ولد فرحت به أمه وسرت، فقالت باللسان المغربي " آتومَرت آينُو أيَّسك آييوي "، ومعناه: يا فرحتى بك يا بني. وكانت إذا سئلت عن ابنها وهو صغير، تقول باللسان المغربي " يك تومرت "، ومعناه صار فرحاً وسروراً، فغلب عليه اسم تومرت، وترك دعاؤه باسم عبد الله الذي سمي به أولا (2).

ومن المحقق الذي لا يقبل ذرة من الجدل، أن ابن تومرت بربري الجنس ينتسب إلى هَرْغة ومصمودة، ومع ذلك فإنه نظراً لانتحاله صفة المهدي والإمام المعصوم، لم يعدم رواية تنسبه لآل البيت، إذ لابد، وفقاً لأسطورة المهدي المنتظر، أن يكون المهدي منهم. ومن ثم فإننا نجد إلى جانب نسبة ابن تومرت البربرية المحضة، نسبة أخرى ترجعه إلى آل البيت. أما نسبته البربرية فهي أنه محمد بن تومرت بن نيطاوس بن ساولا بن سفيون بن أنكليدس بن خالد. أو أنه محمد بن عبد الله بن وجلّيد بن يامصال بن حمزة بن عيسى. وهذه النسبة الثانية تمد بعد ذلك على يد بعض الرواة إلى آل البيت على النحو الآتي: ابن عبيد الله ابن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن فاطمة بنت رسول الله (3).

وأما نسبته العربية العلوية فهي أنه محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن هود بن خالد ابن تمام بن عدنان بن صفوان بن سفيان بن جابر بن يحيى بن عطاء بن رباح بن ياسر ابن العباس بن محمد بن الحسن بن علي بن أبي طالب. ويؤيد هذه النسبة ابن رشيق في شجرة أنساب الخلفاء والأمراء، وابن القطان، وابن صاحب الصلاة، مؤرخا

(1) ابن القطان في " نظم الجمان "(المخطوط السابق ذكره لوحة 14 ب).

(2)

كتاب " أخبار المهدي ابن تومرت وابتداء دولة الموحدين " لأبى بكر الصنهاجي المكنى بالبيذق، المنشور بعناية الأستاذ ليفي بروفنسال (باريس سنة 1928) ص 30، وقد قرنت به ترجمة فرنسية.

(3)

أخبار المهدي بن تومرت ص 21.

ص: 159

الدولة الموحدية (1)، ويقول لنا المراكشي، إنه رأى بخط المهدي نسبته المتصلة بالحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (2).

بيد أنه يوجد إلى جانب ذلك من المؤرخين، من ينكر هذه النسبة على

ابن تومرت ويعتبره دعيًّا فيها. ومن هؤلاء ابن مطروح القيسي، وهو يصف ابن تومرت بأنه " رجل من هرغة من قبائل المصامدة يعرف بمحمد بن تومرت الهرغي ". وقال بعضهم إنه من قبيلة جنفيسة (3).

ونحن لا نرى في هذه النسبة العربية النبوية التي يدعيها ابن تومرت لنفسه، والتي يؤيدها بعض المؤرخين من أولياء الموحدين وكتاب دولتهم، إلا نحلة باطلة، وثوباً مستعاراً، أراد به ابن تومرت أن يدعم به صفة المهدي التي انتحلها شعاراً ْلإمامته ورياسته الدينية والسياسية، ومما يلفت النظر أن كثيراً من القبائل والأسر البربرية التي تشق طريقها إلى السلطان، تحاول دائماً أن تنتحل الأنساب العربية، كما هو الشأن في بني حمّود الذين يرجعون نسبتهم إلى آل البيت، وفي قبيلة صَنهاجة ْوهي الأم الكبرى للمتونة، صاحبة الرياسة في الدولة المرابطية، فإنها تزعم أنها تنتمي في الأصل إلى العرب اليمانية (4).

وليست لدينا أية تفاصيل شافية عن نشأة ابن تومَرت وحداثته. وكل ما يقال لنا من ذلك أنه نشأ في بيت نسك وعبادة، وشب قارئاً محباً للعلم، وكان يسمى في حداثته " أسافور"، ومعناه الضياء لكثرة ما كان يسرج القناديل بالمساجد التي يلازمها (5). ولكن الرواية تتبع سيرة حياته منذ سنة 500 هـ (1106 م)، ففي تلك السنة، أو السنة التالية (501 هـ) حسبما ينقل إلينا ابن القطان، عن الشيخ يحيى ابن وسنا من أهل خمسين أصحاب المهدي - غادر ابن تومرت وطنه بالسوس في ْطلب العلم، وعبر البحر إلى الأندلس، ودرس في قرطبة حيناً، ثم جاز من ثغر ألمرية إلى المشرق (6)، ومر في طريقه على المهدية، وأخذ بها على الإمام المازري، ثم قصد إلى الإسكندرية ودرس بها على الإمام أبى بكر الطرطوشي، وقضى

(1) الحلل الموشية ص 75، وابن خلدون ج 6 ص 225 و 226، والزركشي ص 1.

(2)

المعجب ص 99.

(3)

روض القرطاس ص 110.

(4)

روض القرطاس ص 75.

(5)

ابن خلدون ج 6 ص 226.

(6)

ابن القطان في " نظم الجمان "(المخطوط السابق ذكره لوحة 2 أ).

ص: 160

بعد ذلك فريضة الحج، ثم سافر إلى بغداد، وهنالك درس الفقه والأصول على أبى بكر الشاشي الملقب بفخر الإسلام، ودرس الحديث على المبارك بن عبد الجبار وغيره (1). وفي بعض الروايات أن ابن تومرت لقي الإمام أبا حامد الغزالي ودرس عليه في بغداد، وقيل بل لقيه بالشام أيام تزهده (2). ونحن نقف قليلا عند هذه الرواية، التي يرددها كثير من مؤرخي المشرق والمغرب، إذ متى وأين كان هذا اللقاء، وفي أي الظروف؟ لقد خرج ابن تومرت من وطنه في طلب العلم في سنة 500 أو 501 هـ، وقضى فترة في الأندلس، وفي المهدية، وفي الإسكندرية، ثم سافر لقضاء فريضة الحج، وقصد على أثر ذلك إلى بغداد، وإذن فيكون من المرجح أنه لم يصل إليها قبل سنة 504 و 505 هـ. وقد كان الإمام الغزالي ببغداد يضطلع بالتدريس في المدرسة النظامية بين سنتي 484 و 488 هـ (1091 - 1095 م). وفي سنة 488 هـ غادر العاصمة العباسية، في رحلته التأملية الشهيرة التي استطالت حتى سنة 499 هـ، والتي زار فيها دمشق وبيت المقدس والإسكندرية ومكة والمدينة. وإذن فيكون من المستحيل مادياً، أن يكون ابن تومرت الذي غادر وطنه لأول مرة في سنة 500 هـ، قد استطاع أن يلتقى بالغزالي في بغداد أو غيرها من المدن التي زارها في خلال رحلته، ثم إنه ليس من المحتمل أن يكون هذا اللقاء قد وقع عند عودة الغزالي إلى بغداد. ذلك أنه لم يمكث بها سوى فترة يسيرة، ثم رحل منها إلى نيسابور حيث قام بالتدريس فيها استجابة لدعوة السلطان ملك شاه، ثم غادرها بعد قليل إلى مسقط رأسه طوس، وانقطع بها للعبادة والتأليف حتى توفي في جمادى الثانية سنة 505 هـ (ديسمبر سنة 1112 م).

ويتضح من ذلك جلياً بطلان قصة اللقاء بين ابن تومرت والإمام الغزالي من الناحية التاريخية. وفضلا عن ذلك فإنه يوجد دليل مادي آخر على بطلان هذه القصة أو الأسطورة. ذلك أنها تقرن بواقعة أخرى خلاصتها أن ابن تومرت حينما لقي الإمام الغزالي، وأخبره بما وقع من إحراق المرابطين لكتابه " إحياء علوم الدين " بالمغرب والأندلس، تغير وجهه، ورفع يده إلى الدعاء، والطلبة يؤمنون، فقال " اللهم مزق ملكهم كما مزقوه، وأذهب دولتهم كما أحرقوه "،

(1) ابن خلدون ج 1 ص 226، والحلل الموشية ص 75، والزركشي ص 1، والمعجب ص 99.

(2)

الحلل الموشية عن ابن القطان ص 75، والمعجب ص 99، وروض القرطاس ص 110 وابن خلكان ج 2 ص 48، والزركشي ص 1.

ص: 161

وأن ابن تومرت، رجا الإمام عندئذ أن يدعو الله أن يكون ذلك على يده، فاستجاب الإمام، ودعا الله بذلك (1).

وينقض هذه الواقعة من أساسها، أن قرار المرابطين بحرق كتاب " الإحياء " قد صدر لأول مرة في سنة 503 هـ في أوائل عهد علي بن يوسف، وذلك حسبما يخبرنا ابن القطان، أعني بعد أن غادر الغزالي بغداد إلى نيسابور لآخر مرة، وقبيل وفاته بنحو عام. فأين إذن ومتى كان لقاء ابن تومرت به؟ وكيف نستطيع إزاء هذه المفارقات الزمنية، أن نصدق تلك القصة التي نسجت حول حرق كتاب الإحياء؟

هي أسطورة إذن، نسجت كما نسجت نسبة ابن تومرت إلى آل البيت، لتغدو هالة تحيط بشخصه وسيرته، وتذكي عناصر الخفاء القدسية، حول شخصه وإمامته. وقد اختير الإمام الغزالي لبطولتها بالذات لتبوئه يومئذ أسمى مكانة من العلم والدين والورع في العالم الإسلامي، ولشهرته الذائعة في المغرب، وصلاته المعروفة بعاهل المرابطين يوسف بن تاشفين، وتأثيره الشرعي لديه، وتأييده لدولته. ويبدو لون الأسطورة في هذه القصة التاريخية بنوع خاص، فيما تزعمه الرواية من أن الإمام الغزالي، حين رؤيته لابن تومرت، شهد من صفاته وشمائله، وتبين فيه من العلامات والآثار، ما يدل على أمره ومستقبله، وأنه كان يقول لجلسائه " لابد لهذا البربري من دولة، أما إنه يثور بالمغرب الأقصى، ويظهر أمره، ويعلو سلطانه، ويتسع ملكه، فإن ذلك ظاهر عليه في صفاته، وباين عنه في شمائله ". ثم تزيد الرواية على ذلك، أن بعض الصحب نقل ذلك إلى ابن تومرت، وأخبره أن ذلك عند الشيخ في كتاب، فلم يزل ابن تومرت يجتهد في خدمة الشيخ ويتقرب إليه، حتى اطلع على الأخبار التي كانت فيه، فلما تحقق من ذلك اعتزم الرحيل إلى المغرب ليتابع قدره، ويبحث عن مصيره (2).

ولم يقف أمر هذه الأسطورة التي تجمع بين الغزالي وابن تومرت عند هذا الحد، بل لقد كان من آثارها أنه يوجد كتاب منسوب للغزالي عنوانه " سر العالمين، وكشف ما في الدارين " أو بعنوان أقصر " السر المكنون " وقد جاء في

(1) الحلل الموشية ص 76 و 377 والبيان المغرب (الأوراق المخطوطة السابق ذكرها - هسبيرس ص 76).

(2)

روض القرطاس ص 110 و 111.

ص: 162

أوله ما يأتي: " أول من استنسخه، وقرأه عليّ بالمدرسة النظامية سراً من الناس في النوبة الثانية بعد رجوعي من السفر، رجل من أرض المغرب يقال له محمد ابن تومرت من أهل سلمية، توسمت فيه الملك "(1).

وليس أشد إمعاناً من ذلك كله في عالم الأسطورة. ومن ثم فإنا نجد كثيراً من المؤرخين والمفكرين يرفضون هذه الأسطورة والأخذ بها، فابن الأثير ينفيها بصراحة ويقول لنا " والصحيح أن ابن تومرت لم يجتمع به (أي الغزالي) "(2).

ويبدي ابن خلدون ريبه فيها، ويحملها على محمل الزعم، وكذلك يعاملها ابن الخطيب (3). وكذلك فإن البحث الحديث ينكرها وينفيها. ومن أصحاب هذا الرأي المستشرق الألماني ميللر (4)، والعلامة المستشرق إجناس جولدسيهر.

ويستعرض جولدسيهر بنوع خاص ما في هذه القصة من مفارقات ومتناقضات تاريخية ثم يقول: " ويبدو من ذلك كله أنه يحق لنا أن نلغي من ترجمة ابن تومرت قصة الغزالي، فهي غير مقبولة إطلاقاً، سواء من حيث ترتيب الحوادث الزمنية، أو من حيث منطق الحوادث نفسها. وكل ما هنالك أننا نرى فيها تحقيقاً لحاجة الناس، بأن يجدوا سبباً موجباً، غير الصفات الشخصية، لارتفاع رجل، وصل في لمعة نور خارقة إلى السلطان، وإلى سحق الدولة القائمة "(5).

على أن ذلك كله لا يعني أن ابن تومرت لم يتأثر في تعاليمه الدينية بآراء الغزالي ونظرياته. ومن المسلم به أن ابن تومرت، قد تأثر خلال درسته بالمشرق بالنظريات المشرقية في علوم الكلام والأصول والسنة. ويقول لنا ابن خلدون، إنه تأثر بتعاليم الأشعرية، وأخذ عنهم، واستحسن طريقتهم في الانتصار للعقائد السلفية والدفاع عنها، وفي تأويل المتشابه من القرآن والحديث (6)، وهي

(1) هذا ما ورد في مقدمة العلامة جولدسيهر الفرنسية لكتاب " أعز ما يطلب " الآتي ذكره (ص 19) ولكنا نجد هذه العبارة في مخطوطي دار الكتب المصرية من هذا الكتاب (رقم 180 و 204 مجاميع).

(2)

ابن الأثير ج 10 ص 101.

(3)

ابن خلدون ج 6 ص 226، وابن الخطيب في الإحاطة في (القاهرة 1956) في ترجمة إدريس بن يعقوب بن عبد المؤمن ج 1 ص 417 و 418.

(4)

A. Muller: Der Islam in Morgen und Abendland (Berlin 1885) B. II. p. 641

(5)

مقدمة العلامة جولدسيهر ( I. Goldziher) لكتاب محمد بن تومرت (أعز ما يطلب) Le Livre de Mohamad Ibn Toumert (Alger 1903) Introduction، p. 12

(6)

ابن خلدون ج 6 ص 226.

ص: 163

مسائل سوف نعود إليها حينما نتحدث عن تعاليم المهدي الدينية. وأما فيما يتعلق بتأثير الغزالي، فإن هذا التأثير يظهر في آراء ابن تومرت ومشاريعه الدينية، وخصوصاً فيما أبداه ابن تومرت من المعارضة للتقاليد الدينية الكائنة بالمغرب، وإن هذه المعارضة كانت تعكس في صور كثيرة، ما كان قائماً من نظرية الغزالي الكلامية، وبعض النظريات الأخرى في المشرق. على أن هذا التأثر بتعاليم الغزالي، لم يصل في رأي جولدسيهر إلى الأعماق، ولم يكن كبيراً، ويلاحظ جولدسيهر بالأخص أن المهدي، بالرغم مما يوصف به في تراجمه من الورع والزهد، لم يبد قط ميلا إلى المعارف الصوفية، وإلى ذلك الجهد النفسي الذي يسمح للإنسان بالحياة في ضمير الحقائق الدينية، وهو الغرض الأساسي في بحوث الغزالي الدينية.

هذا إلى ما كان بينهما من خلاف في المناهج، وفي علم الشريعة، وفي بعض النقط الكلامية الأخرى (1).

- 2 -

ولما أتم محمد بن تومرت بغيته من الدراسة بالمشرق، اعتزم العودة إلى المغرب، وكان قد قطع في دراسته وبحوثه مرحلة بعيدة المدى، حتى غدا على قول ابن خلدون:" بحراً متفجراً من العلم، وشهاباً وارياً من الدين ". وركب ابن تومرت البحر من الإسكندرية في أواخر سنة 511 هـ (1117 م) ، ويقال إنه أخرج منفياً من الإسكندرية، لما ترتب من شغب على نشاطه في مطاردة المنكر. بيد أنه استمر في دعوته إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو على ظهر السفينة التي أقلته، فألزم ركابها بإقامة الصلاة وقراءة القرآن، واشتد في ذلك حتى قيل إن ركاب السفينة ألقوه إلى البحر، فلبث أكثر من نصف يوم يسبح إلى جانبها دون أن يصيبه شىء، فلما رأوا ذلك أنزلوا إليه من رفعه من الماء، وقد عظم في نفوسهم، وبالغوا في إكرامه (2). ولما وصل إلى المهدية، نزل بمسجد من مساجدها، وليس معه سوى ركوة ماء وعصا، فتسامع به الناس، وأقبل الطلاب يقرأون عليه مختلف العلوم، وكان إذا شاهد منكراً من آلات الملاهي، أو أواني الخمر، بادر إلى إزالته وكسرها، وأصابه

(1) مقدمة جولدسيهر الفرنسية لكتاب محمد بن تومرت السابقة الذكر ص 20.

(2)

ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره لوحة 15 ب)، والمعجب ص 99 و 100.

ص: 164

بسبب ذلك بعض الأذى. ووصل خبره إلى الأمير يحيى بن تميم بن المعز بن باديس ملك إفريقية، فاستدعاه مع جماعة من الفقهاء، فلما رأى سمته، واستمع إلى مناقشاته أعجب به وأكرمه سأله الدعاء (1). ثم غادر المهدية إلى بجاية، وجرى فيها على نفس أسلوبه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان يقوم بدعوته بلا كلل، حتى وقعت ذات يوم بسبب تشدده في إزالة المنكر، ضجة وشعب، وكان والي البلدة العزيز بن المنصور بن حماد الصنهاجي، رجلا فظاً قاسياً، فسخط عليه هو وخاصته، وأراد البطش به. ويفصل لنا ابن القطان بعض ما فعله ابن تومرت لإزالة المنكر ببجاية، وبعض ما كان بها من المناكر والبدع، فيقول إن ابن تومرت لما دخل بجاية لقى بها الصبيان في زي النساء بالضفائر والأخراس والزينة، وشواشي الخز، وألفى الأرذال قد فتنوا بذلك، وانهمكوا فيه، فشدد في مطاردته، وفي إزالة هذا الزي المنكر. ثم إنه حضر عيداً فرأى فيه من اختلاط الرجال بالنساء والصبيان المتزينين المتكحلين صوراً مثيرة، فزجرهم، ونغص عليهم اجتماعهم، فوقع الهرج، وسرى الشر، وسُلب النساء حليهن.

وسأل العزيز عن ذلك، فعرف بأنه لا سبب لهذا الهرج سوى الفقيه السوسي، وذلك حسبما كان يعرف ابن تومرت مذ كان بالمشرق. فأمر بجمع الطلبة لمناظرته، فاجتمعوا في دار أحدهم على طعام وشراب، واستدعى ابن تومرت للحضور، فأبى، فقصد إليه الكاتب عمر بن فلفول، فلاطفه وتضرع إليه حتى قبل المناظرة، واجتمع بالطلبة، وسألوه فأجابهم عن كل ما سألوا؛ وسألهم فما استطاعوا الإجابة عن شىء. وتضرع إليه ابن فلفول عندئذ بأن يترك ما هو بسبيله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (2). وخشى ابن تومرت العاقبة، فغادر بجاية إلى ناحية قريبة منها تسمى ملالة، ونزل في كنف أصحابها وهم من أعيان صنهاجة، فآووه وأكرموه، وطلب إليهم والى بجاية تسليمه إليه، فأبوا، ولبث بينهم حيناً يدرس العلم، وكان إذا فرغ يجلس على صخرة بقارعة الطريق قريباً من ملالة. وفي ذات يوم وفد إليه كهل وفتى حسن التكوين، رائع الجمال، ولم يكن هذا الفتى الوسيم سوى عبد المؤمن بن علي بن عَلْوي، الذي شاء القدر أن يغدو فيما بعد أعظم أصحاب المهدي، وأعظم قادته، وخليفة

(1) ابن الأثير ج 10 ص 202، وابن خلكان ج 2 ص 49.

(2)

ابن القطان في " نظم الجمان "(المخطوط السابق ذكره لوحة 16 ب و 17 أ).

ص: 165

تراثه ودولته. وكان قد قدم مع عمه من بلده القريب من تلمسان، في طريقه إلى المشرق، ليطلب العلم، ويقضي فريضة الحج، فسأله ابن تومرت عن شخصه وعن أحواله، ولما وقف على مقصده، قال له إن العلم والشرف والذكر التي يطلبها موجودة، وإنها تنال بصحبته، ودعاه إلى معاونته فيما هو قائم به، من إماتة المنكر، وإحياء العلم، وإخماد البدع. ويقدم إلينا ابن القطان عن لقاء عبد المؤمن بابن تومرت رواية أخرى، خلاصتها أن ابن تومرت حينما خرج من بجاية، واتخذ مقره في رابطة ملالة، وأقبل عليه طلبة العلم، كان ممن وفد عليه منهم الفقيه عبد الواحد بن عمر التونسي، وتعلق به ولازمه حيناً، وكان التونسي من فقهاء رباط تلمسان، فلما توفي، اتفق أصحابه وتلاميذه على استدعاء ابن تومرت ليقوم بالتدريس مكانه، فوجهوا إليه عبد المؤمن، وكان من تلاميذ التونسي المذكور (1). وأعجب عبد المؤمن كذلك بشخصية ابن تومرت وغزير علمه، وعول على البقاء إلى جانبه. وهنا تدخل الأسطورة مرة أخرى، فيقال إن ابن تومرت قد اطلع على كتاب في الجفر من علوم آل البيت، ورأى فيه صفة رجل يظهر بالمغرب الأقصى، من ذرية الرسول، وان إستقامة أمره، وتوطد مركزه، يكون على يد رجل من أصحابه، هجاء اسمه كاسم عبد المؤمن، ويجاوز وقته المائة الخامسة، وأنه، أي ابن تومرت، كان يبحث عن هذا الرجل أينما حل، فلما رأى عبد المؤمن وسمع اسمه " أدرك أنه هو الشخص المبتغى "(2). وقيل إن ابن تومرت التقى بعبد المؤمن بموضع يعرف بفنزارة من بلاد متيجة، وأن عبد المؤمن كان عندئذ يشتغل بتعليم صبيان القرية المذكورة (3). وبقى عبد المؤمن إلى جانب ابن تومرت، وانقطع إليه واختص به، ودرس عليه حيناً بملالة، تم غادرا ملالة معاً، وذهبا إلى وانشريش، وهنالك انضم إليهما رجل من قبيلة هرغة، أي قبيلة ابن تومرت، هو أبو محمد البشير. وقصد ابن تومرت وصحبه بعد ذلك إلى تلمسان، وقد تسامع الناس بخبره، وذاع صيته، فاستدعاه قاضيها، وهو ابن صاحب الصلاة، وأنبه على مسلكه، ومخالفته لعقائد أهل قطره، وطلب إليه العدول عن دعوته، فأعرض

(1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف الذكر لوحة 3 ب).

(2)

ابن خلكان ج 2 ص 49، والمعجب ص 100.

(3)

المعجب عن 100.

ص: 166

عنه ابن تومرت، وسار مع صحبه إلى فاس، ثم إلى مكناسة. وهنالك اشتد في مطاردة المنكر، فاعتدى عليه الغوغاء بالضرب والأذى، فغادرها إلى مراكش (1).

ونظرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي اتخذها ابن تومرت شعاراً له، هي فكرة يختص بها الإسلام، وهي مشتقة مما ورد في القرآن من قوله:" ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر "، وقوله:" كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر "، ومما ورد في الحديث مما شُهد بصحته قوله:" من رأى منكم منكراً فليغيره بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان "، وقوله:" لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف، وعلى أحدكم السمع والطاعة ما لم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة ".

وأساس هذه الفكرة الإسلامية، هو التضامن الاجتماعي، والمسئولية العامة عن حماية المجتمع من المنكر والرذائل التي ينهي عنها الدين. وقد تناول الإمام الفيلسوف ابن حزم القرطبي هذه النظرية في كتابه الجامع " الفِصَلْ " وشرح لنا أصولها ومغزاها، وذكر لنا فيما يتعلق بتطبيق هذا الشعار في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بأنه قد ذهبت طوائف من أهل السنة والمعتزلة والخوارج والزيدية، إلى أن سل السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، إذا لم يمكن دفع المنكر إلا بذلك. فإذا كان أهل الحق في عصابة يمكنهم الدفع، ولاييئسون من الظفر، ففرض عليهم ذلك، وإن كانوا في عدد لا يرجون لقلتهم وضعفهم بظفر، كانوا في سعة من ترك التغيير باليد. ويزيد ابن حزم على ذلك، أنه يجب إن وقع شىء من الجور وإن قل، أن يكلم الإمام في ذلك ويمنع منه، فإن امتنع وراجع الحق وأذعن للقود من البشرة أو من الأعضاء، ولإقامة حد الزنا والقذف والخمر، فلا سبيل إلى خلعه، وهو إمام كما كان لا يحل خلعه، فإن امتنع من إنفاذ شىء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع، وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق لقوله تعالى:" وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان "(2).

ويعلق الإمام الغزالي أهمية كبيرة على تلك الفكرة، ويصف الأمر بالمعروف

(1) راجع الحلل الموشية ص 77 و 78، وابن خلدون ج 6 ص 227.

(2)

ابن حزم في " الفصل في الملل والأهواء والنحل "(القاهرة 1321 هـ) ج 4 ص 171 و173، و 176.

ص: 167

بأنه " هو القطب الأعظم في الدين ". ومن الطبيعي أن يكون الحاكم أو رئيس الدولة (الإمام)، هو المسئول الأول عن تنفيذ هذا المبدأ الأخلاقي، وأن يبذل ما في وسعه في قمع ما يخالف الشرع من الأعمال والذنوب، بيده، أي بواسطة مأموريه، ثم بلسانه أي بالوعظ والحث على التزام أحكام الشرع. وقد كان منصب الحسبة في مختلف الدول الإسلامية في العصور الوسطى، مظهراً من مظاهر العمل على محاربة بعض أنواع المنكر، بيد أن هذه المطاردة للمنكر لم تكن وقفاً على الدولة، أو ممثليها الرسميين، وإنما كان حق الحسبة يمتد إلى كل مسلم، فلكل مسلم أن يعمل أو أن ينبه على الأقل لإزالة كل منكر يراه، أو مخافة لأحكام الشرع.

وهذا المبدأ ما يزال مسلماً به في عصرنا في سائر المجتمعات الإسلامية، وإن كان الشرع يقصر استعماله على التنبيه أو تبليغ السلطات المختصة.

يقول العلامة جولدسيهر معلقاً على هذا المبدأ: " كان أولئك الذين يحاولون تغيير المنكر، وتغيير وجه الأمور، رجال متحمسون مخلصون، ولكنه كان أيضاً ذريعة لمغامرين أذكياء يحاولون الوصول إلى السلطان بطريقة سهلة فيسبغون الصبغة الدينية على حركة ثورية، وقد كان مبدأ الأمر بالمعروف، شعار الحركات لقلب أسر حاكمة، ورفع آخرين إلى مكانها، وهو يبدأ بنقد الأسرة الحاكمة، ثم يتلو ذلك شهر السيف، وإثارة الجموع. فإذا نجح ذلك، تم الوصول إلى الغاية المنشودة ".

" وقد كان هذا الشعار كلمة تجمُّع لثورات أسر في المشرق، وكذلك في إفريقية الشمالية، التي كانت دائماً مهاداً خصبة لأولئك الذين يريدون إقامة صرح سياسي فوق أسس دينية. ولم تكن بين هذه ثمة حركة، لا في أوائلها، ولا في تقدمها، تضارع في اتساع نطاقها، تلك الثورة التي أدت في أعوام قلائل، إلى طرد المرابطين، وتأسيس الإمبراطورية الموحدية القوية في اسبانيا وشمال إفريقية ".

وبالرغم من أن جولدسيهر يرى بصفة عامة أن ابن تومرت لم يتأثر بتعاليم الغزالي، فإنه في هذا الموطن يقول لنا إن ابن تومرت ربما تأثر في نظرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بنفوذ الغزالي، لأنه يعلق على هذه النظرية أهمية قصوى، ويصفها كما تقدم " بالقطب الأعظم للدين "(1).

(1) مقدمة جولدسيهر الفرنسية لكتاب " محمد ابن تومرت " أو أعز ما يطلب: Mohamed Ibn Toumert et la Théologie de l'Islam dans le Magreb au XI Siècle، p. 96-95 & 87-85

ص: 168

ونزل ابن تومرت بالحاضرة المرابطية، وكان ذلك في سنة 514 هـ (1120 م) وعكف على طريقته في مطاردة المنكر وإزالته، كلما استطاع إلى ذلك سبيلا، والتقى في المسجد الجامع بأمير المسلمين علي بن يوسف، وجرى بينهما ما سبقت الإشارة إليه من الأحاديث. واستمر ابن تومرت في حملته الدينية الأخلاقية دون هوادة. وقد كانت مراكش وغيرها من المدن المغربية، تبدي أيام المرابطين كثيراً من مظاهر التسامح الديني، أو بعبارة أخرى كثيراً من مظاهر الاستهتار والفساد، فقد كانت الخمر تباع علناً وفي الأسواق، وكان النبيذ يشرب دون تحفظ، وكانت الخنازير تمرح في أحياء المسلمين، وكان القصف ذائعاً بسائر صنوفه، ومظاهر التدين ضعيفة باهتة، هذا إلى ما كان يسود الإدارة من تفكك، والقضاء من انحلال واغتصاب لأموال اليتامى، وغير ذلك من ضروب الفساد (1)، وهو ما يلخصه المراكشي في قوله مشيراً إلى عهد علي بن يوسف بن تاشفين " واختلت حال أمير المسلمين بعد الخمسمائة، اختلالا شديداً، فظهرت في بلاده مناكر كثيرة، وذلك لاستيلاء أكابر المرابطين على البلاد، ودعواهم الاستبداد .. واستولى النساء على الأحوال، وأسندت إليهن الأمور، وصارت كل امرأة من لمتونة ومسّوفة، مشتملة على كل مفسد وشرير وقاطع سبيل، وصاحب خمر وماخور، وأمير المسلمين في ذلك كله يتزايد تغافله، ويقوي ضعفه "(2).

ووقع ذات يوم حادث زاد في لفت الأنظار لابن تومرت ولدعوته. وذلك أن الصورة أخت أمير المسلمين خرجت في موكبها، ومعها عدد من الجواري الحسان، وهن جميعاً سافرات على عادة المرابطين، من سفور النساء، واتخاذ الرجال اللثام. ورأى ابن تومرت هذا الموكب، وأنكر على النساء سفورهن، وأمرهن بستر وجوههن، وضرب هو وأصحابه دوابهن، فسقطت الأميرة عن دابتها، ووقع الاضطراب والهرج، ورفع الأمر إلى أمير المسلمين علي بن يوسف، ففاوض الفقهاء في شأن هذا الداعية المضطرم. وكانت المعلومات التي جمعت عنه منذ حادثة المسجد، هو أنه حديث العهد بالوصول إلى مراكش، وأنه يؤلف الناس، ويقول لهم إن السنة قد ذهبت. وكان علي بن يوسف قد أمر وزيره ينتان بن عمر أن يكشف عن مذهبه، وعن أحواله ومطلبه، فإن كانت له

(1) مقدمة جولدسيهر الفرنسية لكتاب محمد بن تومرت السالفة الذكر ص 97.

(2)

المعجب ص 99.

ص: 169

حاجة ينظر في قضائها، وكان جواب ابن تومرت حسبما أشرنا من قبل، أن لا حاجة له إلا تغيير المنكر (1).

ورأى أمير المسلمين أن يناظر الفقهاء هذا الرجل. وكان الفقهاء المرابطون يحقدون على ابن تومرت لاعتناقه مذهب الأشعرية، وما يملي به من تأويل المتشابه، ولحملته عليهم، وإنكاره لجمودهم إزاء مذهب السلف، وإقراره كما جاء، وذهابه إلى حد تكفيرهم، فأغروا الأمير باستدعائه للمناظرة معهم (2)، وقبل ابن تومرت هذا التحدي، وأبدى في مناظرته للفقهاء المرابطين تفوقاً ظاهراً. وقد ورد ذكر هذه المناظرة في كتاب " أعز ما يطلب "، الذي دونه الخليفة عبد المؤمن بن علي عن إملاء ابن تومرت، وملخص ذلك أن المهدي، أو " الإمام المعصوم، المهدي المعلوم " كما يوصف، طلب إلى مناظريه أن يختاروا من ينوب عنهم لمناظرته، فقدموا من اختاروه، وكان مما سألهم المهدي، أن قال لهم طرق العلم هل هي منحصرة أم لا، فأجاب مقدمهم المذكور، نعم هي منحصرة في الكتاب والسنة والمعاني التي نبهت عليها، فقال المهدي، إنما السؤال عن طرق العلم هل هي منحصرة أم لا، فلم تذكر إلا واحداً منها، ومن شرط الجواب أن يكون مطابقاً للسؤال، فلم يفهم مناظره قوله، وعجز عن الجواب. ثم سألهم المهدي عن أصول الحق والباطل ما هي، فعاد مناظره إلى جوابه الأول، فلما رأى المهدي عجزهم عن فهم السؤال، وعجزهم عن الجواب، شرع يبين لهم أصول الحق والباطل، فقال إنها أربعة وهي " العلم والجهل، والشك والظن "، ثم أخذ يشرح ماهية كل منها في كلام طويل، ثم يستعرض الكتاب بعد ذلك آراء المهدي مفصلة عن " الجهل " و " الشك "، و" الظن "، ثم عن " الأصل والحقيقة " ويقسمها إلى أقسام عديدة، وكل قسم منها إلى فصول مختلفة (3). وكان جل من حضر ذلك المجلس من الفقهاء المرابطين، من علماء الفروع، وليست لهم معرفة بعلم الأصول. ونقول بهذه المناسبة إن علم الأصول أو أصول الدين، يقوم على دراسة الشريعة واشتقاقها من الكتاب والسنة، ودراسة النصوص الشرعية، والأدلة العقلية، وتفاصيل العقائد، وأصول الفقه

(1) البيان المغرب في الأوراق المخطوطة السالفة الذكر.

(2)

ابن خلدون ج 6 ص 227.

(3)

كتاب محمد بن تومرت أو أعز ما يطلب (الجزائر سنة 1903) ص 1 - 5 و 11 - 18.

ص: 170

أى مصادر الشريعة، ومعرفة النبوة والرسالة، وكل ما يتعلق بذلك. وأما علم الفروع، فإنه يقتصر على دراسة فرائض العبادات والمعاملات وأحكامها، والحدود والأقضية، أو بعبارة أخرى، على دراسة الجانب العملي والدنيوي من الشريعة. وقد كانت الدراسات المفضلة في ظل المرابطين هي علم الفروع. ويقول لنا المراكشي، خلال حديثه عن نفوذ الفقهاء أيام علي بن يوسف، إنه لم يكن يحظى عنده إلا من أتقن علم الفروع أعني فروع مذهب مالك، ثم يستطرد قائلا:" فنفقت في ذلك الزمان كتب المذهب، وعمل بمقتضاها، ونبذ ما سواها، وكثر ذلك حتى نُسي النظر في كتاب الله، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أحد من مشاهير ذلك الزمان يعتني بهما كل الاعتناء "(1). وقد كان أخص ما تمتاز به هذه المناظرة الدينية، هو أن ابن تومرت أبدى في مناقشته تمسكه بأصول الشريعة، إزاء الفقهاء المرابطين، وهم أقطاب علم الفروع، وأراد أن يبين جهلهم بمناهج الشريعة الحقيقية، فجعل المناقشة تجري على الأصول لا الفروع، وأبدى في عرضه لأصول الشريعة، أنه يرجع خاصة إلى القرآن والحديث، ولا يرجع قط قول مستخرج، ولا يعتبر الإجتهاد مرجعاً من مراجع الشريعة (2).

ولم يكن بين الفقهاء المرابطين من استطاع أن يقدر براعة ابن تومرت، وتبحره في علوم الدين، سوى فقيه أندلسي هو مالك بن وهيب قاضي مراكش، وقد كان من أكابر العلماء والأدباء، وكان متمكناً من علوم الدين والفلسفة، ولكنه كان لا يظهر من علمه إلا ما يروج في ذلك الزمان (3). فبين لأمير المسلمين خطورة هذا الرجل، وخطورة دعوته وتعاليمه، وقال له إن هذا رجل، لا يبغي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنه يبغي تضليل العامة، وإثارة الفتنة، والوصول إلى السلطان، وأشار عليه بقتله، وأشار البعض الآخر على أمير المسلمين، باعتقال الرجل وسجنه، وعبر عن ذلك أحدهم بقوله للأمير:" ألقه في الكبول لئلا يسمعك الطبول ". وخالفهم في ذلك الوزير ينتان بن عمر، وقال

(1) المعجب ص 95 و 96.

(2)

جولدسيهر في مقدمته الفرنسية السالفة الذكر لكتاب محمد بن تومرت ص 39 و 40.

(3)

المعجب ص 102، ويقول لنا المراكشي إن مالك بن وهيب هذا، قد وضع كتاباً فريداً في بابه اسمه " قراضة الذهب في ذكر لئام العرب " ضمنه لئام العرب في الجاهلية والإسلام، وأنه رأى هذا الكتاب في خزانة بني عبد المؤمن.

ص: 171

لعلي بن يوسف إن هذا وهن في حق الملك، ونوه بضعف الرجل وضآلة شأنه.

فأمر علي بن يوسف وزيره أن يعتقله لديه أياماً حتى يرى فيه رأيه. ولم تمض أيام على ذلك، حتى جاءت الأنباء بوقوع الفتنة في قرطبة، وأخذ علي بن يوسف في التأهب للعبور إلى الأندلس. فطلب إلى وزيره أن يأتيه بابن تومرت، وحضر بين يديه، وقال له علي بلغني عنك ما صنعت ببجاية وغيرها فتورع الناس عن قتلك، فعرفني بحقيقة غرضك، فقال ابن تومرت غرضي تغيير المنكر، ورفع المغارم، وألا تولي من قبيلتك أحد، وان تتركوا اللثام لأنه من شأن النساء، ولا تجوز به صلاة، فزجره أمير المسلمين، وأمر بإخراجه من مراكش.

وكان ذلك في أوائل سنة 515 هـ (1).

- 3 -

غادر محمد بن تومرت وصحبه مدينة مراكش إلى أغمات، وفي بعض الروايات أنه بالعكس استمر حيناً يقيم في خيمة بين مقابر المدينة، وينهال عليه الناس والطلاب، وهو يبث فيهم الدعوة ضد المرابطين، ويرميهم بالتجسيم والكفر، ثم انتهى بأن أعلن بطلان بيعة علي بن يوسف وخلع طاعته عن أعناق أصحابه وتابعيه (2)، ولكنه اضطر أن يغادر مكانه حينما بلغه أن القوم يضمرون اعتقاله وقتله (3). ولما حل ابن تومرت بأغمات استمر فيها على طريقته من مطاردة المنكر والحملة على المرابطين، واتخذ لصلاته ودعايته مسجداً خارج أغمات، فأمر صاحب المدينة بإخراجه وإبعاده (4). فعندئذ قصد ابن تومرت وصحبه إلى بلاد السوس، ولحق بجبال المصامدة، وذهب أولا إلى مسفيوة، ثم إلى هنتانة، ثم إلى إيكلين، ومر في خلال ذلك بكثير من المحلات البربرية، وهو يتوقف أوقاتاً في بعضها، ويبني المساجد، وينضم إليه الصحب والأتباع. وقد فصل لنا أبو بكر الصنهاجي صاحب ابن تومرت، برنامج رحلته منذ خروجه من أغمات، ومسيره

(1) البيان المغرب (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر)، وروض القرطاس ص 112، والحلل الموشية ص 73 و 74، وابن الأثير ج 10 ص 202، والمعجب ص 102 و 103، وراجع كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 68 و 69.

(2)

ابن القطان نقلا عن ابن الراعي (نظم الجمان المخطوط لوحة 10 ب).

(3)

هذه هي رواية أبى بكر الصنهاجي أحد أصحاب المهدي في كتابه " أخبار المهدي ابن تومرت "(ص 69) ونقلها صاحب روض القرطاس (ص 113).

(4)

البيان المغرب في الأوراق المخطوطة المشار إليها، وابن خلدون ج 1 ص 227.

ص: 172

خلال جبال المصامدة، ومن لقيه خلال رحلته من الصحب والأتباع. ورحل ابن تومرت وصحبه بعد ذلك إلى قرية إيجليز أوجبل إيجليز من بلاد هرغة، بلده وموطن قومه وعشيرته، ونزل في مكان منيع لا يصل إليه أحد إلا من طريق لا يسلكها إلا الراكب بعد الراكب، وتدافع عنها أقل عصبة من الناس (1)، وهنالك انهال إليه المصامدة من كل فج، وكثر صحبه وأتباعه، وهو يدعوهم إلى التوحيد، وإلى قتال المجسمين المرابطين، وعكف على تدريس العلم. وكان يعني بالأخص بأن يشرح لأنصاره وتلاميذه نظرية المهدي المنتظر والإمام المعصوم، وما ورد فيها من الأحاديث والأقوال المأثورة، ويبث الخاصة من دعاته بين رؤساء القبائل يمهدون لتلك الدعوة ويبشرون بها. ولما شعر ابن تومرت بأن دعايته قد أتت ثمرتها، وأضحى الميدان ممهداً للعمل، اعتزم أن يعلن إمامته (2). وفي اليوم الخامس عشر من رمضان سنة 515 هـ (ديسمبر سنة 1121 م) قام ابن تومرت خطيباً في أصحابه وأعلن إليهم أنه المهدي المنتظر (3) في خطبة قصيرة ينقل إلينا نصها ابن القطان في " نظم الجمان " فيما يلي:

" الحمد لله الفعال لما يريد، القاضي بما يشاء، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، وصلى الله على سيدنا رسول الله، المبشر بالإمام المهدي، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلا، كما ملئت جوراً وظلماً، يبعثه الله إذا نُسخ الحق بالباطل وأزيل العدل بالجور. مكانه المغرب الأقصى منبته وزمانه آخر الزمان، واسمه اسم النبي عليه الصلاة والسلام، ونسبه نسب النبي صلى الله تعالى وملائكته الكرام المقربون عليه وسلم، وقد ظهر جور الأمراء، وامتلأت الأرض بالفساد، وهذا آخر الزمان، والإسم الاسم والنسب النسب، والفعل الفعل ". (4)

وعلى أثر ذلك، وفي ظل شجرة خروب وارفة، هرع إلى المهدي عشرة من

أصحابه الملازمين له، وبايعوه على أنه المهدي المنتظر والإمام المعصوم، وهؤلاء العشرة الأوائل من أصحاب المهدي هم: تلميذه وألصق الناس به عبد المؤمن بن علي،

(1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره لوحة 33 أ).

(2)

المراكشي في المعجب ص 103.

(3)

هذه رواية روض القرطاس (ص 113)، ويؤيدها ابن خلدون، (ج 6 ص 228)، والحلل الموشية ص 78، والزركشي ص 4، ويقول ابن عذارى إنها كانت في سنة 518 هـ (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر - هسبيرس ص 82).

(4)

نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره لوحة 23 أ). الحلل الموشية ص 78.

ص: 173

وكان أول من بايعه، وأبو محمد عبد الله بن محسن الوانشريشي المسمى بالبشير، وعبد الله بن ملويات، وأبو حفص عمر بن يحيى الهنتاني، وأبو حفص عمر بن على أزناج (أصناك)، وسليمان بن مخلوف، وإبراهيم بن إسماعيل الخزرجي وأبو محمد عبد الواحد الحضرمي، وأبو عمران موسى بن تمارى، وأبو يحيى أبو بكر بن يكيت. وسمي هؤلاء العشرة بالمهاجرين الأولين وبالجماعة (1)، ثم بايعه من بعدهم خمسون رجلا، فسموا أهل خمسين، وهم الطبقة الثانية من أصحاب المهدي (2). تم بايعه من بعدهم سبعون آخرون فسموا أهل سبعين، وهم الطبقة الثالثة. وكانت هذه الطبقات الثلاث تضم أخلص أنصار المهدي، وأقدرهم.

وقسم ابن تومرت بعد ذلك بقية أصحابه وأنصاره، إلى طبقات تلي هذه، فالطبقة الرابعة تتكون من طلبة العلم، والطبقة الخامسة تتكون من الحفاظ، وهم صغار الطلبة، والطبقة السادسة تتكون من أهل الدار وهم أقارب المهدي وعشيرته وخاصة خدمه. وقد ذكر لنا ابن القطان نقلا عن ابن صاحب الصلاة أسماء هؤلاء الخدم الذين كانوا يلازمونه ليل نهار. والطبقة السابعة تتكون من أهل هرغة بلد المهدي وموطن قبيلته، والطبقة الثامنة تتكون من أهل تينملّل، والطبقة التاسعة من أهل جدميوه، والطبقة العاشرة من أهل جنفيسة، والطبقة الحادية عشرة من أهل هنتانة، والثانية عشر تتكون من الجند، والثالثة عشرة من الغزاة والرماة. ويقول ابن القطان إن الطبقة الثانية عشر كانت تتكون من أهل القبائل، والثالثة عشرة من الجند. ويضيف إلى ذلك طبقة أخرى، هي الرابعة عشرة، وهي طبقة " الفرات "، وهم الأحداث الصغار الأميون، ووضع المهدي فيما بعد نظاماً خاصاً لمهام هذه الطبقات ورُتَبها، وجعل لكل منها مهمة تختص بها، ورتبة لا تتعداها، سواء في السفر أو الحضر، وشرع القتل جزاء لمن خالف الأوامر؛ ومن تخلف عن الحضور أدب، فإن تمادى قتل،

(1) الحلل الموشية ص 79، وروض القرطاس ص 113. ويذكر لنا ابن القطان اسمين آخرين هما أبو الربيع سليمان بن الحضرمي، وأبو عبد الله محمد بن سليمان مكان أبي محمد عبد الواحد الحضرمي، وسليمان بن مخلوف (نظم الجمان لوحة 33 ب). ويورد أبو بكر الصنهاجي في كتابه أخبار المهدي بن تومرت أسماء أخرى، ويذكر نفسه ضمن العشرة الأوائل (ص 73). وكذلك يذكر ابن خلدون بعض أسماء أخرى (ج 6 ص 228).

(2)

ذكر لنا أبو بكر الصنهاجي صاحب كتاب أخبار المهدي ابن تومرت أسماء " أهل خمسين " ص 33 و 34.

ص: 174

ومن لم يحفظ حزبه عزر بالسياط، وكل من لم يتأدب بما أدب به، ضرب بالسوط مرة أو مرتين، فإن تمادى في تصرفه وترك امتثال الأوامر قتل، ومن داهن على أخيه أو أبيه أو ابنه أو من يكرم عليه قتل. وشدد المهدي في تنفيذ شريعته وضبط الأمور بحزم، وكان هذا النظام هو أساس الدولة الموحدية المستقبلة (1).

ولما كملت بيعة ابن تومرت على هذا النحو، لقبه أنصاره بالمهدي والإمام المعصوم، وكانوا من قبل يقتصرون على تلقيبه بالإمام. وسمي المهدي وأصحابه وأهل دعوته بالموحدين. ويقول لنا ابن خلدون، إنه اختار لهم هذه التسمية تعريضاً بلمتونة في أخذهم بالعدول عن التأويل وميلهم إلى التجسيم (2). ووضع لهم في التوحيد كتاباً باللغة البربرية سماه " المرشدة " يحتوي على معرفة الله تعالى، والعلم بحقيقة القضاء والقدر، والإيمان بما يجب لله تعالى، وما يجب على المسلم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتضمن الأعشار والأحزاب والسور، وقال لهم إن من لا يحفظ هذا التوحيد، فليس بموحد، وإنما هو كافر لا تجوز إمامته، ولا تؤكل ذبيحته. قال صاحب روض القرطاس " فصار هذا التوحيد عند قبائل المصامدة كالقرآن العزيز، لأنه وجدهم قوماً جهلة لا يعرفون شيئاً من أمر الدين ولا من أمر الدنيا "(3). ووضع لهم بالبربرية كتباً أخرى في العقيدة منها كتاب سمي " بالقواعد " وآخر سمي " بالأمانة "، ودونها كذلك بالعربية، وكان ابن تومرت أبرع أهل عصره في إتقان اللغتين العربية والبربرية. ثم وضع بالعربية فيما بعد، كتابه في العقيدة والعلم والإمامة الذي رواه عنه تلميذه وخليفته عبد المؤمن بن علي والذي يفتتحه بقوله " أعز ما يطلب " وهي عبارة أصبحت تعتبر عنواناً للكتاب ذاته (4). وسوف نتحدث في فصل خاص عن محتويات هذا الكتاب، وعن عقائد المهدي وآرائه الدينية والسياسية بصفة عامة.

ولبث المهدي بن تومرت يبث دعوته، ويعمل على توطيدها في نفوس أنصاره، بفصاحته وذلاقته، ورقيق وعظه، وأعوانه من المخلصين القادرين يجوبون جبال المصامدة، ويدعون إلى إمامته ومهديته، والناس يفدون عليه من كل صوب جموعاً غفيرة، يبايعونه بالإمامة، ويتبركون برؤيته، حتى

(1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف الذكر لوحة 10 أوب).

(2)

ابن خلدون ج 6 ص 229.

(3)

ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط لوحة 34 أ). وروض القرطاس ص 114.

(4)

روض القرطاس ص 80، وابن خلدون ج 6 ص 226.

ص: 175

استفحل أمره، وعلا صيته، وكثر جمعه، وأضحى يمثل بما تنطوي عليه حركته من القوى الأدبية والمادية الضخمة، خطراً داهماً على سلطان المرابطين.

وإنه ليحق لنا أن نتساءل هنا، هل كان محمد بن تومرت يضمر منذ الساعة الأولى مشروعه في انتحال صفة المهدي توسلا إلى نيل السلطان، وأنه مذ عاد عقب دراسته بالمشرق إلى المغرب، كان يضطرم بهذه الأمنية الكبيرة، أم أنه حمل على مشروعه، بما رآه من نجاح دعوته، وتكاثر أتباعه، وشعوره بقوة ملأه؟

يلوح لنا أن ابن تومرت كان يضطرم بأطماعه منذ الساعة الأولى، وأنه كان في بداية أمره يتخذ الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ستاراً يتحسس به طريقه، حتى تسنح له فرصة العمل المثمر. يؤيد ذلك ما سبق أن نقلناه عن المراكشي من أن ابن تومرت، كان خلال محادثاته لتلاميذه وأنصاره، يعني بأن يشرح لهم بالأخص نظرية المهدي المنتظر، والإمام المعصوم، ويبعث رسله ودعاته لإذاعتها بين القبائل. وتؤيده كذلك رسالة أشار إليها ابن القطان، قال إنها وجهت من المهدي في آخر شهر رمضان سنة 511 هـ إلى الفقيه القاضي علي بن أبي الحسن الجذامي وفيها يقول بعد البسملة:" أقول، وأنا محمد بن عبد الله بن تومرت، وأنا مهدي آخر الزمان "(1). وقد يؤيده أيضاً ما تردده تراجمه المختلفة من قصة لقائه بالإمام الغزالي، وما ينسب إلى الغزالي، حينما وقف منه على ما فعل المرابطون بكتبه، من دعائه بتمزيق دولتهم، وزوال ملكهم، وأن يكون ذلك على يده، أي على يد ابن تومرت، وما تردده هذه التراجم أيضاً من أن ابن تومرت، قد اطلع في بعض كتب الجفر والملاحم السرية على ما رود فيها بشأن قدره ومصيره، وأنه وقف منها على العلامات والشواهد الخاصة التي يتميز بها المهدي المنتظر، وهي علامات كانت كلها متوفرة فيه (2).

(1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف ذكره لوحة 14 أ).

(2)

المراكشي في المعجب ص 103. وراجع أيضاً جولدسيهر في مقدمته الفرنسية لكتاب محمد بن تومرت التي سبقت الإشارة إليها ص 99.

ص: 176