الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
الحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطي
القسم الثاني
أعلام المحدثين والفقهاء. الحافظ أبو على الصدفي. القاضي ابن العربي. أبو الوليد بن رشد الجد. ابن ورد التميمي. أبو العباس أحمد بن الصقر الأنصاري. أبو محمد بن عطيه المحاربي. مديحه للمرابطين. عبد الرحمن بن عبد الله المعافري. عبد الله بن محمد المرسى. ابن الحلال. ابن أبى مروان. أبو جعفر البطروجي. ابن الدباغ. سفيان بن أحمد العاصي. أحمد بن عبد العزيز الأزدي. علي بن صالح بن عز الناس. عبد الله بن خلف القرشي. ابن الباذش. القاضي عياض السبتي، حياته وتراثه. ابن بركة. ابن صاحب الصلاة. ابن اشكبندر. ابن صنعون. ابن هذيل. ابن سيد الجراوي. العلامة الصوفي أبو العباس ابن العريف. نموذج من شعره الروحي. دعوة المريدين وتطورها على يد ابن قسي. ابن المنذر. أبو بكر ابن المنخل. ابن سفيان المخزومي. ابن الإقليشي. علماء اللغة. ابن السيد البطليوسي. يونس بن مغيث. العلوم. ابن باجة. شىء من شعره. ابن يحيى الخزرجي. أبو القاسم خلف بن عباس. أمية بن أبى الصلت. حياته ومؤلفاته. بنو زهر. أبو العلاء بن زهر. ابنه عبد الملك. ولده أبو بكر. أبو عبد الله الطغنري. تأملات.
- 1 -
ظهر في شبه الجزيرة الأندلسية، من أعلام المحدثين والفقهاء، في العصر المرابطي، جمهرة كبيرة، بلغ بعضهم في ميدانه أرفع مكانة. وكان في مقدمة هؤلاء اثنان لمع أحدهما في شرقي الأندلس، ولمع الثاني في غربي الأندلس، وكان لهما أكبر أثر في ازدهار علوم السنة والفقه في ذلك العصر.
أولهما العلامة الحافظ أبو على حسين بن محمد بن فيرُّه الصدفي. أصله من سرقسطة من أهل الثغر الأعلى، وبها كان مولده ونشأته، ودرس في سرقسطة وبلنسية وألمرية، وكان من أساتذته أبو الوليد الباجي، وأبو العباس العذري، وأبو عبد الله بن المرابط. ثم رحل إلى الشرق في سنة 481 هـ، وحج ودرس بمكة وبغداد ودمشق والقاهرة، على أشهر علماء العصر. ثم عاد إلى الأندلس سنة 490 هـ، واستوطن مرسية، وقد ذاع صيته العلمي، واشتهر بالأخص بتبحره في علوم السنة. وولي قضاء مرسية مدة، ولكنه استعفى فأعفي، وانقطع لنشر
العلم وتدريسه، فهرع الناس لسماعه والأخذ عليه، وكان أعظم حفاظ عصره.
وكتب عدة كتب في الحديث. وفي سنة 514 هـ ذهب إلى شاطبة وأقام بها، وكان دائب الحث على الجهاد. ولما سار الأمير إبراهيم بن يوسف بن تاشفين غازياً إلى الثغر الأعلى لإنقاذ دورقة وقلعة أيوب، كان أبو علي ضمن العلماء الذين ساروا في ركبه، وكان ممن استشهد في موقعة كتندة، التي نشبت على أثر ذلك بين المرابطين وبين الأرجونيين، بقيادة ألفونسو المحارب، في ربيع الأول سنة 514 هـ (يونيه 1120 م) وذلك حسبما فصلناه من قبل في موضعه (1).
والثاني هو القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن العربي المعافري، وهو من أعظم فقهاء العصر المرابطي وحفاظه، ولد بإشبيلية سنة 468 هـ وبرع في الحديث والأدب، ورحل إلى المشرق مع أبيه حينما أرسله يوسف بن تاشفين سفيراً عنه إلى الخليفة المستظهر والإمام الغزالي، وذلك في سنة 485 هـ، ودرس بمكة والقاهرة وبغداد ودمشق. وقرأ في بغداد على أبى بكر الشاشي، وأبى حامد الغزالي، وبدمشق علي أبى بكر الطرطوشي، ثم عاد إلى الأندلس سنة 493 هـ، يسبقه صيته العلمي. ويصفه تلميذه ابن بشكوال " بالإمام العالم الحافظ، المستبحر، ختام علماء الأندلس، وآخر أئمتها وحفاظها ". وتولى ابن العربي قضاء بلده إشبيلية لأول مرة في سنة 508 هـ، ولبث به مدة وعرف بحزمه ونزاهته، وتحريه العدل والحق والتزام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى أوذى بسبب ذلك وانتهبت أمواله وكتبه. ثم صرف عن القضاء وانقطع للتدريس ونشر العلم. وكتب عدة مؤلفات منها " كتاب ترتيب الرحلة "، وكتاب " العواصم والقواصم "، وكتاب " أنوار الفجر " في مدح الرسول، وكتاب " قانون التأويل "، وكتاب " التلخيص في النحو"، وكتاب " القبس في شرح موطأ مالك " وبلغت مؤلفاته نحو الأربعين كتاباً. ولما اضطربت أمور الدولة المرابطية بالأندلس، وغلب الموحدون على إشبيلية، عبر القاضي ابن العربي البحر إلى المغرب، على رأس وفد كبير من علماء إشبيلية وأعيانها، ولقى الخليفة عبد المؤمن بمراكش في أوائل سنة 542 هـ، وذلك عقب افتتاحها، وقدم إليه بيعة أهل إشبيلية، ولما غادر الوفد مراكش عائداً إلى الأندلس، توفي القاضي ابن العربي خلال الطريق، ردفن بفاس وذلك في جمادى الآخرة من نفس السنة (1147 م). ومما تجدر ملاحظته
(1) راجع الصلة لابن بشكوال الترجمة رقم 330. وكذلك: Pons Boigues: ibid ; No 143
أن ابن العربي بالرغم من تحوله إلى جانب الموحدين حينما قامت دولهم، لم يضن بمديحه للمرابطين وعهدهم، حسبما أشرنا إلى ذلك من قبل (1).
وكان من أعلام الفقهاء في العصر المرابطي، أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد الجد، قاضي الجماعة بقرطبة، وقد برع بالأخص في الفقه المالكي، وألف فيه عدة مصنفات جليلة، منها " كتاب البيان والتحصيل لما في المستخرجة من التوجيه والتعليل " و " كتاب المقدمات لأوائل كتاب المدونة "، واختصار كتاب المبسوطة، واختصار مشتمل الآثار لأبى جعفر الطحاوي. وكان ابن رشد بجلال بيته، ورفيع خلاله، ورياسته العلمية، من الرؤساء ذوي المكانة والنفوذ، لدى البلاط المرابطي، وقد رأينا فيما تقدم خطورة الدور الذي اضطلع به، في إقناع أمير المسلمين علي بن يوسف بتغريب النصارى المعاهدين. ولد بقرطبة سنة 450 هـ، وتوفي بها في شهر ذي القعدة سنة 520 هـ (أواخر 1126 م)(2).
ومن أشهر الفقهاء المحدثين والحفاظ، في ذلك العصر، أبو القاسم أحمد بن عمر بن يوسف بن ورد التميمي من أهل ألمرية. وكان متمكناً أيضاً من الأدب والنحو والتاريخ، ومتقناً لعلم الأصول والتفسير. انتهت إليه، وإلى زميله القاضي ابن العربي رياسة الفقه المالكي في عصرهما، ولى قضاء غرناطة، فظهر فيه بكفايته وعدله وحسن سيرته؛ وتوفي بألمرية في رمضان سنة 540 هـ (1146 م)(3).
ومن أعلام المحدثين والفقهاء أيضاً، أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن محمد ابن الصقر الأنصاري الخزرجي، أصله من سرقسطة، ومولده بألمرية سنة 502 هـ، وكان محدثاً بارعاً، وفقيهاً متمكناً متقدماً في علم الكلام، وكاتباً بليغاً وشاعراً محسناً، استدعاه أبو عبد الله بن حسون قاضي مراكش المرابطي إلى كتابته، فلما صرف عن القضاء، تولى أبو العباس خطة الإمامة، واستمر بها، حتى سقطت مراكش وآل الأمر إلى الموحدين. ولما وقعت النكبة، واستباح الموحدون دماء أهل المدينة، اختفى أبو العباس حيناً، وكتب له النجاة، حتى نودي بالعفو، ثم استُنقذ من الرق، واتصل بالسادة الجدد، أعني الموحدين.
(1) راجع الصلة الترجمة رقم 1297، ونفح الطيب ج 1 ص 335 - 337، وكذلك: Pons Boigues: ibid ; No 172
(2)
ترجمته في الصلة رقم 1270.
(3)
ترجمته في الإحاطة (القاهرة 1956) ج 1 ص 175 - 177.
فنظمه عبد المؤمن بين طلبة العلم، وأضفى عليه رعايته، ثم ولاه قضاء غرناطة، ثم قضاء إشبيلية. وهنالك توثقت صلاته بجاره وصديقه العلامة أبى بكر بن طفيل. ولما تولى أبو يعقوب يوسف الخلافة، عينه للنظر على الخزانة (المكتبة) وهي عندهم من الخطط الجليلة، لا يتولاها إلا أكابر العلماء. وكتب أبو العباس عدة مصنفات منها " شرح الشهاب " وكتاب " أنوار الأفكار فيمن دخل جزيرة الأندلس من الزهاد والأبرار ". وله شعر جيد معظمه في الإلهيات والزهد. فمن ذلك قوله:
إلهي لك الملك العظيم حقيقة
…
وما للورى مهما منعت نقير
تجافى بنو الدنيا مكاني فسرَّني
…
وما قدر مخلوق جداه حقير
وقالوا فقير وهم عندي جلالة
…
نعم صدقوا إني إليك فقير
وتوفي أبو العباس بمراكش في جمادى الأولى سنة 559 هـ (1164 م).
ورثاه صديقه العلامة ابن طفيل بقصيدة بعث بها إلى ولده بمراكش مطلعها:
لأمر ما تغيرت الدهور
…
وأظلمت الكواكب والبدور
وطال على العيون الليل حتى
…
كأن النجم فيه لا يغور (1).
ومنهم الفقيه الحافظ أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي، من أهل غرناطة، برع في علوم القرآن والسنة وكان فقيهاً متبحراً، وأديباً واسع المعرفة، متقدماً في فنون عديدة، وتولى القضاء بغرناطة وألمرية، وألف في التفسير كتاباً ضخماً لخص فيه كل ما تقدمه من كتب التفسير، واشتهر بالمغرب والأندلس، وألف كتاباً في " الأنساب "، وانتهى إلينا من كل مؤلفاته " معجم شيوخه " وهو محفوظ بمكتبة الإسكوريال.
ولد سنة 418 هـ، وتوفي بلورقة سنة 542 هـ (1147 م)(2). وكان فوق ذلك أديباً ينظم الشعر، ومن قوله في مدح المرابطين:
إذا لثموا بالريط خلت وجوههم
…
أزاهر تبدو من فتوق كمائم
وإن لثموا بالسّابرية أظهروا
…
عيون الأفاعي من جلود الأراقم (3).
(1) أورد لنا ابن الخطيب في الإحاطة ترجمة ضافية لأبى العباس ج 1 ص 189 - 193، وكذا ابن عبد الملك في الذيل والتكملة. ويقول ابن عبد الملك إن مولد أبى العباس كان بألمرية سنة 492 هـ ووفاته سنة 569 هـ، وبذلك يختلف معه ابن الخطيب في التاريخين. وراجع التكملة لابن الأبار رقم 201.
(2)
راجع بغية الملتمس للضبي (المكتبة الأندلسية) ترجمة رقم 1103.
(3)
راجع الصلة الترجمة رقم 829، وكذلك P. Boigues: ibid ; No 109، والمطرب من أشعار أهل المغرب لابن دحية ص 91.
وهذا المديح للمرابطين من الأمور النادرة في الشعر الأندلسي. وقد نجد شاعراً يمتدح أميراً منهم لصلة خاصة. ولكن يندر أن نجد شعراً في مدح المرابطين بصفة عامة.
ومنهم عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله المعافري، وكان من الفقهاء الوزراء.
كان متمكناً من الفقه والحديث، بارعاً في الأدب، محسناً للنظم، كاتباً بليغاً، ولي أيام الأمير علي بن يوسف مستخلص غرناطة وإشبيلية (الأملاك السلطانية) فقام على إدارتها بحزم وكفاية، ثم ندبه الأمير إلى طرطوشة ليشرف على أهلها وتجديد مبانيها، فأدى مهمته خير أداء، وكان جواداً كثير البذل، وتوفي في سنة 518 هـ (1124 م)(1).
ومنهم عبد الله بن محمد عبد الله النفزي المعروف بالمرسي، ولد بمرسية سنة 453 هـ، ودرس بها ثم انتقل إلى سبتة، وتولى الخطابة بجامعها مدة، وكان متفوقاً في علم الحديث، وأخذ الناس عنه، ومنهم صاحب الصلة، وكتب عدة مؤلفات، وتوفي بقرطبة سنة 538 هـ (1143 م)(2).
ومنهم قاضي قضاة الشرق أبو العباس أحمد بن محمد بن زيادة الله الثقفي المعروف بابن الحلاّل. درس الفقه والحديث والأدب، وولي خطة الشورى، ثم ولي قضاء أوريولة، ثم نقل إلى مرسية حيث تولى بها قضاء الجماعة، وعلت مكانته لدى محمد بن سعد أمير الشرق، ولكنه كان سيىء التصرف، كثير الرعونة، ووشى به إلى الأمير، فقبض عليه واستصفى أمواله، واعتقله ببلدة أندة على مقربة من بلنسية، ثم أمر به فقتل، وكان مقتله في سنة 554 هـ (1159 م)(3).
ومنهم أحمد بن عبد الملك بن محمد بن إبراهيم الأنصاري، ويعرف بابن أبى مروان، من أهل إشبيلية، كان حافظاً متقناً، فقيهاً ظاهري المذهب على طريقة ابن حزم القرطبي، وله مؤلف في الحديث عنوانه " المنتخب المنتقى " جمع فيه ما افترق في أمهات المسندات من نوازل الشرع. توفي قتيلا بلبلة خلال ثورة أهلها وتغلب الموحدين عليهم، وذلك في شعبان سنة 549 هـ (1154 م)(4).
(1) الإحاطة (مخطوط الإسكوريال) لوحة 256.
(2)
ترجمته في الصلة رقم 649، وكذلك في P. Boigues: ibid ; No 164
(3)
ترجمته في التكملة لابن الأبار ج 1 رقم 174.
(4)
ترجمته في التكملة لابن الأبار ج 1 رقم 162.
وأبو جعفر أحمد بن عبد الرحمن البطروجي، وقد نبغ في الفقه والحديث، وكتابة السير، وكان من أشهر حفاظ عصره، وتوفي بقرطبة سنة 542 هـ (1147 م)(1).
ويوسف بن عبد العزيز بن يوسف بن فيرُّه الليثي، ويعرف بابن الدباغ، أصله من أهل أندة، وسكن مرسية، ودرس على أبى علي الصدفي، وكان من أنبه تلاميذه. ونبغ في الحديث والرواية، وكتب عدة مصنفات منها " كتاب طبقات المحدثين " و" طبقات أئمة الفقهاء "، ورسالته في الحفاظ، وغيرها. وتوفي سنة 546 هـ (1151 م)(2).
وأبو بحر سفيان بن أحمد العاصي الأسدي، أصله من شرقي الأندلس من مدينة مربيطر من أعمال بلنسية، برع في الحديث والأدب والرواية، وكان حسبما يصفه ابن بشكوال من جلة العلماء، وكبار الأدباء، سمع منه وحدث عنه كثير من أهل عصره. وكان من شيوخ ابن بشكوال. وتوفي بقرطبة سنة 542 هـ (1147 م)(3).
ومنهم أحمد بن عبد العزيز بن محمد الأزدي، وهو شقوري الأصل، نشأ ودرس بمرسية. وكان فقيهاً متمكناً، حافظاً، بصيراً بالفتوى. ولي قضاء شاطبة مدة أيام الأمير محمد بن سعد بن مردنيش، ثم ولي إلى جانبه قضاء أوريولة، ولما نكب قاضي الجماعة أبو العباس بن الحلال، نكب معه، واعتقل شهوراً، ثم أطلق سراحه، وأعيد إلى قضاء أوريولة، ومنصب الشورى بها، إلى أن توفي في سنة 564 هـ (1169 م)(4).
وعلى بن صالح بن أبى الليث الأسعد بن الفرج، أبو الحسن بن عز الناس، أصله من طرطوشة، ونشأ بميورقة، وتجول في بلاد الأندلس يدرس أينما حل، ويتلقى العلم من أقطاب عصره، وكان من أساتذته أبو بكر بن العربي، وأبو القاسم بن ورد، وأبو الوليد بن رشد، وبرع في الفقه والأصول والحديث، وكان في نفس الوقت أديباً شاعراً، خدم الأمير أبى زكريا بن غانية، أيام إمارته
(1) ترجمته في الصلة رقم 179، وكذلك في P. Boigues: ibid ; No 168
(2)
ترجمته في الصلة رقم 1510 وكذلك في P. Boigues: ibid ; No 176
(3)
ترجمته في الصلة رقم 526، وكذلك في P. Boigues: ibid ; No 147
(4)
التكملة لابن عبد الملك - مخطوط خزانة الرباط المصور، السفر الأول لوحة 44، والتكملة لابن الأبار رقم 189.
لبلنسية، ثم صحبه إلى قرطبة، ولازمه إلى أن توفي بغرناطة في سنة 543 هـ، فانتقل إلى شرقي الأندلس، واستقر بدانية، ومن مؤلفاته كتاب " العزلة "، " وشرح معاني التحية ". ولد بطرطوشة سنة 508 هـ، وقتل بدانية بأمر محمد ابن سعد في رمضان سنة 566 هـ (1170 م)(1).
وعبد الله بن خلف بن محمد القرشي، من أهل مورور، وسكن إشبيلية ودرس بها وبقرطبة على أقطاب عصره، ومنهم ابن حمدين، وأبو محمد بن عتاب، وأبو الوليد بن رشد، وكان فقيهاً حافظاً متقناً لفروع المذهب المالكي، ماهراً في استنباط الأحكام، بصيراً بالفتوى، تولى قضاء بلده مورور حيناً، ولد في سنة 493 هـ، وتوفي سنة 576 هـ (1180 م)(2).
ومنهم محمد بن خلف بن صاعد الغساني، من أهل شلب، يكنى أبا الحسين ويعرف اللبلي لأن أصله من لبلة، درس على أقطاب عصره مثل أبى الوليد ابن رشد، وأبى محمد بن عتاب، وأبى عبد الله بن الحاج، وبرع في الفقه، ورحل إلى المشرق ودرس هنالك على طائفة من أعلامه، ثم عاد إلى الأندلس، فعنى بتدريس الفقه والحديث وعقد الشروط، ثم ولي قضاء شلب، وتوفي في سنة 547 هـ (1152 م)(3).
وكان من أشهر أئمة القراءات في ذلك العصر، أحمد بن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري المعروف بابن الباذش، وأصله من جيان، وكان إلى جانب ذلك أديباً متقناً للنحو، بصيراً بالأسانيد، ومن مؤلفاته " كتاب الإقناع " وهو من أجل كتب القراءات، وكتاب " الطرق المتداولة " وهو في القراءات أيضاً، وكانت وفاته في سنة 540 هـ (1145 م)(4).
ونستطيع أخيراً أن نذكر من أكابر الفقهاء والحفاظ، القاضي الأجل، والعلامة الفقيه الحافظ، عياض بن موسى اليحصبي السبتي، وهو إن كان أكثر نسبة إلى المغرب، إلا أنه درس بالأندلس، وشارك في الحياة العقلية الأندلسية مشاركة قوية.
ولد بثغر سبتة في منتصف شعبان سنة 476 هـ، وتلقى العلم حدثاً عن أشياخ
(1) التكملة لابن عبد الملك - مخطوط المتحف البريطاني - السفر الرابع لوحة 48 أ.
(2)
التكملة لابن عبد الملك - مخطوط الإسكوريال (1682 الغزيري).
(3)
ترجمته في التكملة لابن الأبار رقم 671.
(4)
ترجمته في الإحاطة (1956) ج 1 ص 201 - 203.
بلده، ثم عبر البحر إلى الأندلس في أوائل سنة 507 هـ، ودرس أولا بقرطبة، وأخذ فيها عن ابن عتاب وابن حمدين وابن الحاج وغيرهم. وقصد بعد ذلك إلى مرسية، وسمع بها على حافظها أبى علي الصدفي ولازمه حيناً. ثم عاد إلى سبتة بعد أن قضى بالأندلس نحو عام ونصف، وجلس للدرس والمناظرة ثم الشورى.
وفي سنة 515 هـ، ولى القضاء، وكان ما يزال شاباً في الثلاثين من عمره، فسلك فيه طريقة مشكورة، وأبدى حزماً في تطبيق الأحكام والحدود، واشتهر بغزير علمه وحفظه، وصدق طريقته، ودقة فتياه. ثم ولي قضاء غرناطة في سنة 531 هـ، فقام به خير قيام، وأعرض عن الشفاعات والمؤثرات، وصد أهل السلطان عن الباطل، وتسبب في تشريدهم عن الأعمال، فاستاء الأمير تاشفين بن علي، لمسلكه، وضاق به ذرعاً، وسعى في صرفه عن قضاء غرناطة. فصرف عنه في رمضان سنة 532 هـ، وعاد إلى سبتة، ولبث بها مدة وهو عاكف على التدريس والفتيا. ثم ولى قضاء سبتة للمرة الثانية في سنة 539 هـ. ولما ظهر أمر الموحدين، بادر بالدخول في طاعتهم، فأقره عبد المؤمن على ما كان عليه، وصرف إليه شئون سبتة، وحظى لديه بالتنويه والتقدير، ثم رحل إليه ولقيه في سلا، وهو يتأهب للسير لحصار مراكش (سنة 540 هـ)، فأجزل الخليفة صلته وعاد إلى سبتة، وهنا وقع الاضطراب بسبتة وخلع أهلها طاعة الموحدين، وقتلوا عاملها الموحدي، ونسب التحريض في ذلك إلى القاضي عياض.
وكان القاضي قد اتصل بيحيى بن غانية، وانقلب على الموحدين، فلما قدم الموحدون إلى سبتة، وشددوا في حصارها، عاد القاضي فسعى في الاعتذار إليهم، واستدرار عطفهم، فصفحوا عنه، وعن أهل سبتة، وسار القاضي بعد ذلك إلى مراكش (سنة 543 هـ) ليستعطف الخليفة ويلتمس صفحه، فعفى عنه عبد المؤمن، وأكرم وفادته، وعينه بمجلسه، ثم مرض عياض بعد ذلك وتوفي بمراكش، في الليلة التاسعة من جمادى الآخرة سنة 544 هـ (1149 م)، وذلك كله حسبما سبق أن فصلناه في موضعه.
وكان القاضي عياض من أكابر الحفاظ، ومن أعظم أئمة عصره في الحديث، وفي فهم غريبه ومشكله ومختلفه، بارعاً في علم الأصول والكلام، حافظاًْ للمختصر والمدونة، متمكناً من الشروط والأحكام، أبرع أهل زمانه في الفتيا، متقناً للنحو واللغة، أديباً كبيراً، وشاعراً مجيداً، حسن التصرف في النظم،
كاتباً بليغاً، وخطيباً مفوهاً، عالماً بالسير والأخبار، ولاسيما سير العرب وأيامها وحروبها، وأخبار الصالحين والصوفية، مشاركاً في علوم كثيرة أخرى، وكان حسن المجلس، ممتع المحاضرة، فصيح اللسان، حلو المداعبة، بساماً مشرقاً، جم التواضع، يمقت الإطراء والملق، معتزاً بنفسه ومكانته، محباً لأهل العلم، معاوناً لهم على طلبه، جواداً، سمحاً، من أكرم أهل زمانه، كثير الصدقة، والمواساة (1).
وللقاضي عياض ثبت حافل من المؤلفات الجليلة منها كتاب " الشفاء بتعريف حقوق المصطفى " وهو أشهر كتبه. و " مشارق الأنوار "، في تفسير غريب الحديث. وكتاب " التنبيهات ". وكتاب " ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة المالكية " وكتاب " الإكمال " وكتاب " العيون الستة في أخبار سبتة " وغيرها، من كتب الدين واللغة والأنساب والتاريخ. ويعتبر القاضي عياض أعظم حفاظ المغرب وعلمائه في عصره، وقد خصه حافظ المغرب ومؤرخ الأندلس الكبير شهاب الدين المقري بكتابه الضخم " أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض "(2).
وهناك جمهرة من الفقهاء والمحدثين، الذين ظهروا في العصر المرابطي، وتجاوزوه إلى العصر الموحدي، نذكر بعضهم فيما يلي:
كان من هؤلاء، محمد بن سليمان بن خلف النفزي من أهل شاطبة ويعرف بابن بركة، كان فقيهاً متمكناً، حافظاً للمسائل، بصيراً بالفتوى، خبيراً بعقد الشروط، حافظاً لمتون الأحاديث، مستظهراً لمقدمات ابن رشد، ولى خطة الشورى (3) بشاطبة، واشتهر بكفايته وورعه، وزهده، وتوفي في جمادى الأولى سنة 553 هـ (4).
وأحمد بن يوسف بن اسماعيل بن صاحب الصلاة من أهل باجة، وكان
(1) من ترجمة للقاضي عياض بمخطوط المكتبة الكتانية المحفوظ بخزانة الرباط، برقم 553، وعنوانه "كتاب في التعريف بعياض "(لوحة 7 - 14).
(2)
ترجمة القاضي عياض في الصلة، رقم 975، ووفيات الأعيان ج 1 ص 469، وقلائد العقيان من 222 - 226، وابن الخطيب في الإحاطة - مخطوط الإسكوريال السالف الذكر، لوحة 350.
(3)
سوف نتحدث عن خطة الشورى فيما بعد عند الكلام على نظم الحكم الموحدي.
(4)
ترجمته في التكملة (القاهرة) رقم 1343.
من رواة الحديث، وأهل العناية به، وقد توفي شهيداً، حينما دهم النصارى مدينة باجة في ليلة السبت 22 من ذي الحجة سنة 557 هـ (1).
وأبو جعفر أحمد بن مسعود بن إبراهيم بن يحيى القيسي المعروف
بابن اشكبندر، أصله من سرقسطة بالثغر الأعلى، وولد بشاطبة، ودرس بها، ونبغ في الحديث والرواية، وكان من أكثر حفاظ عصره علماً بأسماء الرجال، وموالدهم ووفياتهم، حتى شبه في ذلك بالقاضي عياض، تولى خطة الشورى بشاطبة، وحدث وأخذ عنه بعض علماء عصره، وكان ورعاً منقبضاً زاهداً، وتوفي بالمهدية وهو في طريقه إلى الحج في رمضان سنة 558 هـ (2).
ومحمد بن أحمد بن محمد بن أبى العافية، من أهل مرسية، ويعرف بالقسطلي لأن أصله من قسطلونة، درس الفقه، وبرع في الفقه المالكي، وقام بتدريسه، وتولى الشورى ببلده، وكان موصوفاً بالحفظ، والعدالة والنزاهة وتوفي في شهر ذي الحجة سنة 558 هـ (3).
ومحمد بن عبد الله بن أحمد بن مسعود بن صنعون بن شعبان، وهو من أهل شلب، ويعرف بالقنطري، نسبة إلى قنطرة السيف من أعمال الغرب، وهي دار سلفه. درس بإشبيلية وقرطبة وألمرية على جماعة من أقطاب العصر مثل أبى بكر بن العربي، وابن مغيث، وابن أبى الخصال، وغيرهم، وبرع في الحديث واشتهر بالحفظ والضبط، وبرع كذلك في الفقه، وتولى خطة الشورى، وكتب ذيلا لكتاب " الصلة " لابن بشكوال، نقلها ابن الأبار كلها، وتوفي بمراكش في شهر ذي الحجة سنة 561 هـ (4).
وأحمد بن عبد الرحمن بن عيسى بن إدريس التجيبي من أهل مرسية.
درس على أبيه وعلى أبى علي الصدفي وغيره من شيوخ العصر، وبرز في الفقه، وعلوم القرآن، مع مشاركة في الأدب، وتقلد خطة الشورى وأحكام القضاء بمرسية مدة طويلة، ثم ولى قضاء شاطبة، وعرف بالكفاية والنزاهة، وتوفي بمرسية ثاني عيد الأضحى سنة 563 هـ (5).
(1) ترجمته في التكملة رقم 176.
(2)
ترجمته في التكملة رقم 177.
(3)
ترجمته في التكملة رقم 1363.
(4)
ترجمته في التكملة رقم 1377.
(5)
ترجمته في التكملة رقم 188.
ومن الفقهاء الذين جمعوا بين الفقه والأدب، أحمد بن محمد بن هذيل الأنصاري من أهل بلنسية. درس بها وبقرطبة، وبرع في الفقه، وتولى خطة الشورى ببلنسية، ثم تولى قضاء بعض مدن ولاية قرطبة مثل إستجة وباغة. وكان فوق ذلك شغوفاً بالأدب، بارعاً في الكتابة، محسناً للنظم، وولى في أواخر حياته خطة المواريث ببلنسية في إمارة محمد بن سعد، ثم اضطهد، ونفي إلى جزيرة شُقر، وهنالك توفي في سنة 558 هـ (1).
ومنهم أحمد بن حسن بن سيد الجراوي من أهل مالقة، ويعرف بابن سيد.
درس الحديث واللغة والأدب على أقطاب عصره، وكان بارعاً في اللغة، وفي النحو، وله حظ من قرض الشعر الجيد، وقد أورد لنا صاحب التكملة، من شعره هذين البيتين:
وبين ضلوعي للصبابة لوعة
…
بحكم الهوى تقضي علي ولا أقضي
جنى ناظري منها على القلب ما جنى
…
فيا من رأى بعضاً يُعين على بعض
وتوفي ابن سيد في نحو سنة 560 هـ (2).
وظهرت بالأندلس في العصر المرابطي، حركة دينية خاصة، اتخذت طابع التصوف، وهي التي أسفرت عن قيام طائفة المريدين في غربي الأندلس. وكان إمام هذه المدرسة العلامة الصوفي أبو العباس أحمد بن محمد بن موسى بن عطاء الله الصنهاجي المعروف بابن العريف. وهو من أهل ألمرية، وبها ولد سنة 481 هـ.
ودرس علوم القرآن والسير، وغلب عليه الزهد والورع، ومال إلى طرق الصوفية، حتى غدا من أقطاب نحلتهم. وألف عدة تصانيف منها " كتاب المجالس "، وكتب رسالة يحمل فيها على الفيلسوف ابن حزم، وكانت بينه وبين القاضي عياض السبتي، مراسلات ومجادلات فقهية. والظاهر أنه قد أثار بكتاباته وتعاليمه سخط الفقهاء المرابطين، فسعوا به إلى علي بن يوسف، فاستدعاه إلى مراكش وبقى بها بحالة اعتقال حتى توفي، وذلك في صفر سنة 536 هـ (1141 م)، واحتفل الناس بجنازته، وندم أمير المسلمين على ما كان منه في حقه (3).
(1) ترجمته في التكملة رقم 179.
(2)
ترجمته في التكملة رقم 182.
(3)
راجع ترجمة ابن العريف في وفيات الأعيان (ج 1 ص 67). وكذلك في الصلة لابن بشكوال ترجمة رقم 176.
وكان ابن العريف ينظم الشعر الروحي الجيد ومن ذلك قوله:
سلوا عن الشوق من أهوى فإنهم
…
أدنى إلى النفس من وهمي ومن نفسي
ما زلت مذ سكنوا قلبي أصون لهم
…
لحظي وسمعي ونطقي إذ هُمُوا أنسى
وفي الحشا نزلوا والوهم يجرحهم
…
فكيف قروا على أذكى من القبس
حلّوا الفؤاد، فما أندى ولو وطئوا
…
صخراً لجاد بماء فيه منبجس
لا تنهض إلى حشري بحبهم
…
لا بارك الله فيمن خانهم فنسى
وقد ذكرنا فيما تقدم أن أحمد بن قسيّ زعيم الثورة في غربي الأندلس.
كان من تلاميذ ابن العريف، وأنه أخذ عليه بألمرية تعاليمه وطريقته، وهي التي عرفت بطريقة " المريدين "، واتخذها ابن قسي وأصحابه شعاراً لثورتهم في الغرب.
والظاهر أن ابن قسي، هو المسئول عن تطور الدعوة، إلى هذا الاتجاه الذي اتخذته في الغرب، والذي أسبغ عليها هذا الطابع الثوري الخاص، وأن ابن العريف لم يكن له في صوغها سوى العنصر الروحي. وعلى أي حال فإنه لا توجد لدينا عن دعوة " المريدين " معلومات كافية، تفصح عن مبادئها الحقيقة، وكل ما يقدمه إلينا ابن الأبار في ذلك أنها كانت دعوة شعارها " التهليل والتكبير "(1).
وقد كتب عبد الملك بن صاحب الصلاة، مؤرخ الموحدين عن " ثورة المريدين " ْكتاباً يشير إليه في مواضع كثيرة من تاريخه المسمى " المن بالإمامة "، ولكن هذا الكتاب لم يصل إلينا. وما نود أن نشير إليه هنا، هو أن ابن قسي كان إلى جانب جانب زعامته الثورية، من علماء الدين والكلام، وكان أديباً وشاعراً من شعراء العصر. وقد أوردنا فيما تقدم شيئاً من نظمه.
وكان من زملاء ابن قسيّ في حمل لواء دعوة المريدين، محمد بن عمر ابن المنذر الذي تتبعنا أخباره فيما تقدم. وكان فقيهاً متمكناً، ةأديباً بارعاً، وشاعراً مقتدراً، وقد أوردنا كذلك فيما تقدم شيئاً من نظمه.
وكان من أدباء المريدين وشعرائهم، أبو بكر بن المنخّل الشلبي، وزير ابن المنذر المتقدم وكاتبه. وكان شاعراً جزلا، وقد انضم بعد انهيار الثورة في الغرب إلى الدعوة الموحدية، وكان ممن مدح الخليفة عبد المؤمن خلال وجوده في جبل طارق. وقد أورد لنا ابن الأبار طائفة من نظمه، ومن ذلك قوله مخاطباً ابن المنذر:
(1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 199.
تجاف عن الدنيا وعن برد ظلها
…
فإن برودا لا يدوم حرور
فديتك لا تأسف لدنيا تقلصت
…
وأوحش يوماً منبر وسرير
وإن عريت جرد المذاكي وذُللت
…
أسودٌ فلم يسمع لهن زئير
وغودرت الرايات تهفو كأنها
…
جوانح من ذعر عليك تطير
وكانت ولم تذعر عليك كأنها
…
إذا رفرفت يوم الهياج نسور
طلبت وفاء والوفاء سجية
…
ولكنها أم الوفاء نزور
رأيتك تبغي مثل نفسك في العلا
…
طِلابٌ لعمري ما أردتَ عسير (1).
وظهر من علماء المتصوفة في شرقي الأندلس، أحمد بن محمد بن سفيان المخزومي أصله من جزيرة شقر من أعمال بلنسية، ودرس الأدب، ونظم الشعر، ثم مال إلى التصوف والزهد، وكان يعرف بالعابد. وكان ثرياً، ينفق على الفقراء والمعوذين أموالا جليلة. وأدركته وحشة من أمير الشرق، محمد بن سعد بن مردنيش، فخلع طاعته، ودعا للموحدين، وامتنع بالجزيرة، وذلك في أواخر سنة 566 هـ فأدى ذلك إلى محاصرته حيناً، ولم ينفس عن أهله إلا وفاة ابن سعد بعد ذلك بنحو عام، في رجب سنة 567 هـ.
ولابن سفيان شعر يقتصر على الزهد. ومن ذلك قوله من قصيدة:
كل عطاء فإلى علّة
…
لا شك يقضي ولوجه السقم
إلا الذي منك بلا علة
…
يا خالق العرش ومجرى القلم
كل الورى لابس ثوب الدجا
…
لولا سنى منك يجلّى الظلم (2).
ومن أقطاب المحدثين والمتصوفة بالشرق أيضاً أبو العباس أحمد بن معد ابن عيسى بن وكيل التجيبي المتزهد، ويعرف بابن الأقليشي، أصلهم من أقليش، ونزحوا إلى دانية، وبها ولد أبو العباس ونشأ. ودرس ببلنسية، وإشبيلية، وألمرية، وبرع في الحديث واللغة والأدب، وكان من أساتذته أبو محمد البطليوسي، وأبو بكر بن العربي، وأبو القاسم بن ورد، وغيرهم من أقطاب العصر، ورحل إلى المشرق في سنة 532 هـ، فحج وجاور بمكة. وحدث
(1) راجع الحلة السيراء ص 206 و 207.
(2)
ترجمته في التكملة لابن الأبار ج 1 رقم 200، وفي الذيل والتكملة لابن عبد الملك، المخطوط السالف الذكر.
بالأندلس والشرق، وكان متصوفاً زاهداً، أديباً شاعراً، وله عدة تصانيف منها كتاب " الكواكب " وكتاب " النجم من كلام سيد العرب واللعجم " وكتاب " الغرر من كلام سيد البشر " وكتاب " ضياء الأولياء ". وغيرها ومن نظمه في الزهد قوله:
أسير الخطايا عند بابك واقف
…
له عن طريق الحق قلب مخالف
قديماً عصى عمداً وجهلا وغرّة
…
ولم ينهه قلب من الله خائف
ثلاثون عاماً قد تولت كأنها
…
حلوم تقضت أو بروق خواطف
وجاء المشيب المنذر المرء أنه
…
إذا رحلت عنه الشبيبة تالف
فجد بالدموع الحمر حزناً وحسرة
…
فدمعك يبني أن قلبك آسف
وتوفي أبو العباس عند عوده من المشرق بمدينة قوص من صعيد مصر في سنة 551 هـ (1156 م)(1).
ومنهم محمد بن يوسف بن سعادة، من أهل مرسية، وسكن شاطبة.
برع في الفقه والحديث، وأخذ عن جمهرة من أعلام عصره، منهم أبو علي الصدفي، وأبو محمد بن عتاب، وأبو بكر بن العربي وغيرهم. ثم رحل إلى المشرق، وسمع بالإسكندرية ومكة، وعاد إلى مرسية، وكان فوق براعته في علوم القرآن والتفسير، والحديث، بصيراً باللغة، شغوفاً بالتصوف مؤثرا له. ولي القضاء بمرسية، ثم شاطبة، وعرف بمقدرته ونزاهته، وكان حافظاً متقناً، ثقة، وتوفي مصروفاً عن القضاء في آخر سنة 565 هـ (2).
ونبغ في العصر المرابطي، من أئمة اللغة، أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي. وأصله من بطليوس، من غربي الأندلس، كما يدل على ذلك اسمه. ولد بها سنة 444 هـ، وسكن بلنسية، ودرس بها، وكان فضلا عن أدبه البارع، إمام عصره في النحو وعلوم اللغة، يجتمع إليه الناس من كل فج، ليقرأوا عليه، وليقتبسوا من غزير علمه، وكان حجة ثقة ضابطاً. وله عدة مؤلفات قيمة، اشتهر منها بالأخص شرحه لكتاب " سقط الزند "(3) لأبى العلاء المعري، وهو شرح يصفه ابن خلكان بأنه أجود من شرح أبى العلاء صاحب
(1) ترجمته في التكملة لابن الأبار ج 1 رقم 167.
(2)
ترجمته في التكملة رقم 1390.
(3)
نشر هذا الشرح بالقاهرة بعناية " لجنة إحياء تراث أبى العلاء المعري " وأصدرته وزارة المعارف المصرية (سنة 1945).
الديوان الذي سماه " ضوء السقط ". ومنها كتاب " الإقتضاب في شرح أدب الكتاب " وكتاب في الحروف الخمسة " السين والصاد والضاد والطاء والدال "، وكتاب ". الحلل في شرح أبيات الجمل " و " الحلل في أغاليط الجمل "، وكتاب " شرح الموطأ ". وله أيضاً " كتاب التنبيه على الأسباب الموجبة لاختلاف الأمة ".
وكان ابن السيد فوق ذلك شاعراً مقتدراً، وله نظم حسن، فمن ذلك قوله:
أخو العلم حي خالد بعد موته
…
وأوصاله تحت التراب رميم
ذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى
…
يُظن من الأحياء وهو عديم
وله من قصيدة يمدح فيها المستعين بن هود:
سقى عهدهم بالخيف عهد غمائم
…
ينازعها مزن من الدمع هتان
أأحبابنا هل ذلك العهد راجع
…
وهل لي عنكم آخر الدهر سلوان
ولي مقلة عبرى وبين جوانحي
…
فؤاد إلى لقياكم الدهر حنان
تنكرت الدنيا لنا بعد بعدكم
…
وحلت بنا من معضل الخطب ألوان
وحلنا سوام الحمد عنها لغيرها
…
فلا ماؤها صدا ولا النبت سعدان
إلى ملك حاباه بالحسن يوسف
…
وشاء له البيت الرفيع سليمان
من النفر الشم الذين أكفهم
…
غيوث ولكن الخواطر نيران
وتوفي ابن السيد بمدينة بلنسية في منتصف رجب سنة 521 هـ (يونيه 1127 م)(1).
وكان من أعلام اللغويين أيضاً يونس بن محمد بن مغيث. وقد ولد بقرطبة سنة 447 هـ، ودرس بها وبرع في علوم اللغة، وكذلك في الرواية وعلم الأنساب، وفي الأدب، وكان من أساتذة ابن بشكوال حسبما يحدثنا في " الصلة ".
وتوفي بقرطبة سنة 532 هـ (1137 م)(2).
ومنهم أحمد بن عبد الجليل بن عبد الله، ويعرف بالتدميري لأن أصله من كورة تدمير، ونشأ بألمرية، وبرع في الآداب العربية واللغات، وكان له حظ من قرض الشعر، وسكن بجاية وقتاً في ظل بني حماد. وله عدة مؤلفات قيمة منها كتاب التوطئة في العربية، وشرح على كتاب الفصيح لثعلب، وشرح
(1) راجع ترجمة البطليوسي في وفيات الأعيان (ج 1 ص 232 و 233)، وفي الصلة لابن بشكوال الترجمة رقم 643.
(2)
ترجمته في الصلة رقم 1558، وكذلك في Pons Boigues: ibid ; No 161
لأبيات جمل الزجاجي، وكتاب الفوائد والفرائد وغيرها. وتوفي بفاس سنة 555 هـ (1).
ومنهم عبد الله بن الحسن بن عبد الله بن يزيد السعدي، من أهل قلعة يحصب، أبو محمد، درس على أبى جعفر البطروجي، وأبى الحسن بن الباذش، وكان متمكناً من الفقه ومن علم القراءات، بارعاً في اللغة والأدب، متبحراً في النحو، مستظهراً لكتاب سيبويه، مشاركاً في عدة فنون أخرى. غادر موطنه الأصلي إلى بلدة القبذاق (2) من أعمال جيان، فاستوطنها، وتوفي بها في سنة 559 هـ، (1164 م)(3).
- 2 -
وأما عن العلوم، فنستطيع أن نقول إنها حظيت في العهد المرابطي بنهضة زاهرة، وإن لم تكن هذه النهضة في الواقع سوى امتداد للنهضة الفكرية في عصر الطوائف. وظهر في العهد المرابطي عدد من الشخصيات اللامعة التي تعتبر من أقطاب العلم الأندلسي، بل من أقطاب العلم في سائر العصور والأمم.
أولهم الفيلسوف أبو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ التجيبي المشهور بابن باجّة، وهو سرقسطي، نشأ في أواخر دولة بني هود، ونبغ في الرياضة والفلك والطبيعة والفلسفة، في ظل تلك المدرسة الرياضية، التي ازدهرت في ظل المقتدر ابن هود وولده المؤتمن. ولما ولى الأمير أبو بكر بن إبراهيم المسّوفي، وهو ابن عم أمير المسلمين علي بن يوسف وصهره، حكم سرقسطة في سنة 508 هـ، استوزر أبا بكر، واختص به، وأغدق عليه ثقته ورعايته، بالرغم مما كان ينسب إليه من الآراء الإلحادية. وقد حمل عليه معاصره الفتح بن خاقان في كتابه المطمح، ورماه بالإلحاد وانحلال العقيدة، وقال في حقه:" نظر في تلك التعاليم، وفكر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم، ورفض كتاب الله الحكيم ". ولما سقطت سرقسطة في أيدي الإسبان في سنة 512 هـ (1118 م)، غادرها ابن باجّة إلى إشبيلية، ثم إلى شاطبة، ثم نزح إلى المغرب، وتوفي بفاس سنة 533 هـ (1138 م). ويعتبر ابن باجة من أعظم فلاسفة الأندلس ومفكريها. وقد كتب
(1) ترجمته في التكملة رقم 175.
(2)
القبذاق هي بلدة Alcaudete الحديثة، وهي تقع على مقربة من جنوب غربي جيان.
(3)
التكملة لابن عبد الملك، مخطوط الإسكوريال (رقم 1682 الغزيري).
نحو خمسة وعشرين كتاباً لم يصلنا منها سوى القليل، وكان ابن باجة فضلا عن ذلك أديباً شاعراً، وله طائفة من الشعر الرصين الجيد، فمن ذلك قوله في رثاء حاميه الأمير أبى بكر:
سلام وإلمام ووسمي مزنة
…
على الجدث الثاني الذي لا أزوره
أحق أبو بكر تقضي فلا ترى
…
ترد جماهير الوفود ستوره
لئن أنست تلك اللحود بلحده
…
لقد أوحشت أقصاره وقصوره
وقوله:
ضربوا القباب على أقاصي روضة
…
خطر النسيم بها ففاح عبيرا
وتركت قلبي سار بين حمولهم
…
داعي الكلوم سيوف تلك العيرا
لا وافد جعل الغصون معاطفا
…
لهم وصاغ الأقحوان ثغورا
ما مر بي ريح الصبا من بعدهم
…
إلا سهرت له فعاد سعيرا (1).
ومنهم علي بن عبد الرحمن بن يوسف بن مروان بن يحيى الخزرجي الطبيب، أصله من طليطلة، ونشأ بها ودرس، وبرع إلى جانب تمكنه من الفقه، في علم الطب، درسه على أبى المطرف بن وافد، وهو يومئذ من أشهر أطباء الأندلس وعلمائها. واشتهر بمهارته، في طرق العلاج. ولما استولى القشتاليون على طليطلة في سنة 478 هـ (1085 م) غادرها، وتجول في مختلف ربوع الأندلس، ونزل بطليوس ثم إشبيلية، ثم قرطبة، وبها توفي سنة 499 هـ (1105 م)(2).
ومنهم العلامة الطبيب والفلكي أمية بن عبد العزيز بن أبى الصلت. وقد ولد بثغر دانية سنة 460 هـ، ودرس على أقطاب عصره، ولاسيما أبى الوليد الوقّشي قاضي دانية. وبرع في الأدب والفلسفة والطب والفلك. غادر وطنه دانية، وقد اضطربت بها الأمور، ونزح إلى مصر في سنة 489 هـ، في خلافة المستعلي الفاطمي ولد المستنصر، ووزيره الأفضل شاهنشاه، تحدوه آمال كبيرة في الظفر بحياة أكثر استقراراً، وأوفر رزقاً ورغداً، ونزل بثغر الإسكندرية، وعاش به حيناً، ثم قدم إلى القاهرة، واتصل بالأفضل بواسطة بعض حاشيته، فلم يفز بشىء مما كان يؤمل، وأدركته خيبة أمل يعبر عنها في شعره:
(1) راجع الإحاطة (1956) ج 1 ص 412 - 416. وقد سبق أن تحدثنا عن ابن باجة في تاريخ مملكة سرقسطة في كتابنا " دول الطوائف ". ويعرف ابن باجة في البحث الغربي باسمه اللاتيني Avempace
(2)
ترجمته في الذيل والتكملة لابن عبد الملك - مخطوط المتحف البريطاني - السفر الرابع.
وكم تمنيت أن ألقي بها أحداً
…
يسلي من الهم أو يعدي على النوب
فما وجدت سوى قوم إذا صدقوا
…
كانت مواعيدهم كالآل في الكذب
وفي قوله: " ولم تطل مدة اللبث حتى تبينت بما شاهدته أني فيها مبخوس البضاعة، موكوس الصناعة، مخصوص بالإهانة والإضاعة ". وأكثر من ذلك أن الأفضل أمر باعتقاله، لأسباب لم توضحها لنا الرواية توضيحاً كافياً. وأمضى في هذا الاعتقال بضعة أعوام، وكتب في معتقله عدة من مؤلفاته، منها رسالة في العمل بالاصطرلاب، وكتاب الوجيز في علم الهيئة، وكتاب الأدوية المفردة، وكتاب تقويم الذهن، وهو في المنطق. وفي سنة 505 هـ، أفرج عنه، وأمر الأفضل بنفيه من مصر، فسار إلى الإسكندرية ومنها إلى إفريقية، حيث نزل بالمهدية ضيفاً على أميرها أبى الطاهر يحيى بن تميم الصنهاجي، فأكرم وفادته، وعلت لديه منزله، وكتب له عن مصر رسالته الموسومة " بالرسالة المصرية "، وفيها يصف " ما عاينه من أرض مصر، وما عاناه "، ويصف جغرافية مصر، ونيلها، وسكانها، وآثارها، ويحمل على سكان مصر، وينعتهم " باتباع الشهوات، والانهماك في اللذات، والاشتغال بالترهات، والتصديق بالمحالات، وضعف المرائر والعزمات "، ويحمل على علمائها المعاصرين، وينعتهم بأنهم " رعاع وغثاء، وجهلة ودهماء "(1). ولما توفي الأمير يحيى بن تميم، استمرت حظوته ومكانته لدى ولده علي بن يحيى. وكتب له كتاب الحديقة أو " حديقة شعراء الأندلس " على نمط كتاب " يتيمة الدهر " للثعالبي. وكان أمية ابن أبى الصلت، فوق علمه الغزير، أديباً ممتازاً وشاعراً جزلا. وله ديوان شعر أشار إليه ابن خلكان، وأورد لنا طرفاً من نظمه، ومنها تلك الأبيات التي قالها قبيل وفاته، وأوصى بأن تكتب على قبره:
سكنتك يا دار الفناء مصدقاً
…
بأني إلى دار البقاء أصير
وأعظم ما في الأمر أني صائر
…
إلى عادل في الحكم ليس يجور
فياليت شعري كيف ألقاه عندها
…
وزادي قليل والذنوب كثير
فإن أك مجزياً بذنبي فإنني
…
بشر عقاب المذنبين جدير
وإن يك عفو عني ورحمة
…
فثم نعيم دائم وسرور
(1) راجع الرسالة المصرية، وقد نشرت بعناية الأستاذ عبد السلام هارون، ص 24 و 30.
وتوفي ابن أبي الصلت سنة 529 هـ (1135 م) أو في سنة 546 هـ (1151 م) وفق رواية أخرى (1).
ومنهم بنو زهر، وهي الأسرة الشهيرة التي لمعت في ميدان الطب والعلوم الطبيعية والكيمائية. وأصلهم من إشبيلية، ولكن عميدهم الأكبر، وهو عبد الملك ابن محمد بن مروان بن زهر الأيادي، نزح من إشبيلية إلى دانية. وكان فقيهاً حافظاً، روى بالأندلس عن طائفة من أهلها، ثم رحل إلى المشرق، وحج، ودرس بمصر والقيروان، ثم عاد إلى الأندلس، واستوطن دانية. وكان متفنناً في علوم كثيرة، ولاسيما الطب، الذي عنى بدراسته في المشرق على يد أقطابه، حتى نبغ فيه، وكان ذلك بداية هذه البراعة الطبية الفائقة، التي شملت أسرته الشهيرة، وامتدت إلى أبنائه وأحفاده. وتوفي عبد الملك بدانية، وجاء من بعده ولده أبو العلاء زهر بن عبد الملك، فكان صنو أبيه في دراسة الطب، والنبوغ فيه، وبدأ حياته بدراسة الحديث في قرطبة، ثم مال إلى علم الطب، فتلقاه عن أبيه، وبرع فيه براعة غلبت لديه على كل صفة أخرى، حتى غدا عمدة عصره في الطب والعلوم الطبيعية؛ ومن مؤلفاته " كتاب الطرر "، الذي كُتب عنه، و" كتاب في الأدوية ". وكان مع براعته في الطب أديباً، وشاعراً مقتدراً، ومن نظمه قوله:
يا راشقي بسهام ما لها غرض
…
إلا الفؤاد وما منه لها عوض
وممرضي بجفون كلها غنج
…
صحت وفي طبعها التمريض والمرض
جُدْ لي ولو بخيال منك يطرقني
…
فقد يسُد مسدّ الجوهر العرض
وتوفي زهر بن عبد الملك، منكوباً على قول ابن الأبار، بقرطبة في سنة 525 هـ (1131 م)، ثم احتمل رفاته ودفن في إشبيلية.
وجاء من بعده ولده أبو مروان عبد الملك بن زهر، وهو المعروف في الغرب باسم Avenzoar. وقد برع عبد الملك في الطب براعة أبيه وجده، وذاع صيته في الأندلس والمغرب. ويعتبر عبد الملك بن زهر أعظم طبيب في العصور الوسطى بعد أبى بكر الرازي، ويعتبره تلميذه ابن رشد أعظم طبيب بعد جالينوس. وقد عاش ابن زهر في إشبيلية، واتصل بالمرابطين وصنف
(1) ترجمته في ابن خلكان ج 1 ص 99، والقفطي في أخبار العلماء ص 57، وكذلك في P. Boigues: ibid ; No 159
للأمير أبى إسحاق بن يوسف بن تاشفين كتابه المسمى " الاقتصار في صلاح الأجساد ". على أن أعظم مؤلفات ابن زهر هو كتابه " التيسير " وهو من أعظم مراجع الطب في العصور الوسطى، وقد ترجم إلى اللاتينية في عصر مبكر. ووُشي به إلى أمير المسلمين علي بن يوسف، فاستدعى إلى مراكش وسجن بها مدة ثم أفرج عنه، وعاد إلى بلده إشبيلية وتوفي بها سنة 557 هـ (1162 م). وخلفه في مهنته ولده الطبيب الأشهر أبو بكر بن زهر، وحظى لدى حكومة الموحدين وهو أكثر انتساباً إلى عصر الموحدين، ومن ثم فسوف نعود إلى ذكره في موضعه المناسب (1).
ومنهم العلامة الزراعي أبو عبد الله محمد بن مالك التغنري، أصله من قرية تغنر من أعمال غرناطة. عاش في أوائل القرن السادس الهجري، وسكن إشبيلية، ودرس العلوم الزراعية على ابن بصّال الطليطلي، وبرع فيها، وكتب عنها كتابه المسمى " زهر البستان ونزهة الأذهان " وهو يسمى أحياناً باسم الحاج الغرناطي، وابن حمدون الإشبيلي.
إن هذا الثبت الحافل من المفكرين والعلماء الأندلسيين، الذين ازدهروا في العصر المرابطي، في مختلف ميادين العلوم والآداب، ومنهم عبقريات بارزة يزدان بها تاريخ الحركة العقلية الأندلسية، يحمل على كثير من التأمل. وإنه ليغدو من الصعب علينا إذا ما استعرضناه في شىء من الروية، أن نقول إن الحكم المرابطي، قد جنى بأساليبه الرجعية على سير الحركة الفكرية الأندلسية، وعاقها عن التقدم والازدهار. وكل ما يمكن أن يقال في ذلك هو أن ما اتخذه المرابطون من إجراءات للحجر على الدراسات الكلامية والشرعية والفلسفية، وتوجيهها إلى وجهاتهم الخاصة، ومطاردة كتب الأصول، قد يكون له أثره في سير هذه الدراسات، وإن كان لا يحق لنا أن نبالغ في تقدير هذا الأثر. أولا لأن هذه الدراسات كانت كغيرها من الدراسات العلمية والأدبية، قد تأثلت جذورها منذ بعيد، وثانياً لأن العهد المرابطي لم يطل أمده بالأندلس، ولم يلبث أن زالت بزواله السريع، كل ضروب الحجر والمطاردة التي اتخذت، ثم جاءت ثورة الأندلس ضد الحكم المرابطي، فكانت عاملا له أثره في إذكاء الحركة العقلية، ومدها بعناصر جديدة من القوة والاندفاع.
(1) وردت في الذيل والتكملة ترجمة حسنة لابن زهر وجده عبد الملك - مخطوط المتحف البريطاني السفر الرابع. ووردت في التكملة لابن الأبار ترجمة لزهر بن عبد الملك رقم 907. وراجع عن بني زهر أيضاً " المطرب من أشعار أهل المغرب " لابن دحية ص 203، وفي نفح الطيب ج 1 ص 437 - 439.