الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأوّل
طبيعة الحكم المرابطي وأوضاعه العسكرية والإدارية والمالية
الطابع الديني للدولة المرابطية. استئثار الفقهاء بالنفوذ. ما ترتب على ذلك من الفساد. ضعف الفقهاء وانصرافهم إلى علم الفروع. الطابع العسكري للدولة المرابطية. نزعتها إلى الجهاد. تضاؤل منعتها العسكرية. الدولة المرابطية إمارة ملكية. طابعها الملك الوراثي. عمالات المغرب والأندلس في عهد المرابطين. قرطبة مركز الحكم المرابطي. ولايات الأندلس لذوي القربى. تولى الأندلسيين لمناصب القضاء. القضاة زعماء الثورة فيما بعد. استئثارهم بمناصب الكتابة. لمتونة وشجاعتها في القتال. الجيش عماد الدولة المرابطية. تنظيمه وتكوينه. النصارى المرتزقة. ترتيب المعركة عند المرابطين. القوات الأندلسية. النزعة الجهادية وتضاءلها. الجيش المرابطي بالأندلس. الأساطيل المرابطية. السياسة المالية ونظم الجباية. الضغط على اليهود. التوسع في الجبايات والقبالات أيام علي. الدولة المرابطية ووسائلها في الحكم. حملة العلامة دوزي على المرابطين. ما يطبع هذه الحملة من تحامل. رأى العلامة كوديرا. أقوال المراكشي. قول في مديح المرابطين وعهدهم. شرح لأسباب هذه الحملة ضد المرابطين. الفتح المرابطي الأندلسي وما تخلله من فظائع. قسوة أمير المسلمين نحو المعتمد. مطاردة كتب الدين والفلسفة. حملة المهدي ابن تومرت. فضل المرابطين في الجهاد وإنقاذ الأندلس. تقاعسهم في حرب الإسترداد. مسئوليتهم في سقوط سرقسطة. حكم المرابطين للأندلس. طابعه العسكري الخشن. وثائق رسمية تؤيد اهتمام علي بن يوسف بشئون الأندلس والذود عنها. توصياته بشأن الحكم. اهتمامه بتجنب الاستبداد، واتباع الرفق والعدل. اهتمامه بأمر القضاء. توصيته بحسن اختيار القضاة. حجر المرابطين على حرية الفكر. مطاردتهم لكتب الأصول وكتب الغزالي. إصرارهم على هذه المطاردة حتى أواخر عهدهم. مطاردتهم لكتب الكلام والفلسفة. عيث الجند والعبيد المرابطين. ملاحظات ابن عبدون على ذلك. اشتداد وطأة الحكم المرابطي وأسباب ذلك. الحكم على العصر المرابطي والمبالغة في ذلك. تعليق الأستاذ كوديرا. أحوال الشعب في ظل الحكم المرابطي. الأمة الأندلسية وتحريرها من مظالم الجباية. تمتعها بنوع من الاستقرار والرخاء. وحدة المغرب واستقراره. ما شمله من تعمير ورخاء. الاضطراب والفوضى منذ حركة المهدي.
كان مصرع الدولة المرابطية، حادثاً من أهم الحوادث، الحاسمة في تاريخ المغرب والأندلس، وكان نتيجة لعوامل عديدة، عسكرية وسياسية واجتماعية.
وسوف نحاول في هذا الفصل، أن نستعرض هذه العوامل، التي أدت إلى سقوط هذه الدولة العظيمة الشامخة، التي شادتها عبقرية يوسف بن تاشفين، وهي ما تزال في عنفوان فتوتها، ولما يمض على قيامها وتوطدها أكثر من نصف قرن،
وأن نستعرض في نفس الوقت، طرفاً من المبادىء والنظم التي سار عليها بنو تاشفين في حكم إمبراطوريتهم العظيمة بالمغرب والأندلس، ومن الظروف والأحوال الحضارية التي عاشت في ظلها.
قامت الدولة المرابطية، حسبما رأينا على أساس من العقيدة الدينية، وكان منشؤها الروحي فقيه متعصب، هو عبد الله بن ياسين الجزولي. واحتفظت بهذا الطابع الديني معظم حياتها، وكان يتخذ منذ البداية صورته العملية، في سيطرة الفقهاء على شئون الدولة وتوجيهها، وفي اتجاه الجيوش المرابطية، في المراحل الأولى من حياة الدولة إلى أعمال الجهاد، سواء في المغرب أو الأندلس. وكان نفوذ الفقهاء في تسيير الدولة المرابطية، يتخذ أيام يوسف بن تاشفين، صورة الشورى، فكان العاهل المغربي يستفتيهم في الخطير من الأمور، لا استفتاء المستسلم الخانع، ولكن استفتاء الحذر المستنير، الذي يحاول أن يطمئن على سلامة تصرفاته، وأن يلتمس لها السند الشرعي. ولكن هذا النفوذ لم يلبث أن غدا في عهد ولده علي، نوعاً من الدكتاتورية الدينية (ثيوقراطية). ولم يكن لعلي بن يوسف، بالرغم من ذكائه وجميل صفاته، وبالرغم من ورعه وتقواه، من العزم والحزم، ما يكفي لمغالبة هذا النفوذ الجارف. وهذا ما يصوره لنا المراكشي، عند حديثه عن علي بن يوسف، في تلك الفترة التي تبرز لنا روح الحكم المرابطي على حقيقتها:
" وكان (أي علي بن يوسف) حسن السيرة، جيد الطوية، نزيه النفس، بعيداً عن الظلم، كان إلى أن يعد في الزهاد والمتبتلين، أقرب منه إلى أن يعد في الملوك والمتغلبين. واشتد إيثاره لأهل الفقه والدين، وكان لا يقطع أمراً في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء، فكان إذا ولى أحداً من قضاته، كان فيما يعهد إليه ألا يقطع أمراً، ولا يبت حكمه في صغير من الأمور ولا كبير، إلا بمحضر أربعة من الفقهاء، فبلغ الفقهاء في أيامه مبلغاً عظيماً، لم يبلغوا مثله في الصدر الأول من فتح الأندلس. ولم يزل الفقهاء على ذلك، وأمور المسلمين راجعة إليهم، وأحكامهم صغيرها وكبيرها، موقوفة عليهم، طول مدته. فعظم أمر الفقهاء كما ذكرنا، وانصرفت وجوه الناس إليهم، فكثرت لذلك أموالهم واتسعت مكاسبهم ".
وفي ذلك أيضاً يقول شاعر من شعراء العصر، هو أبو جعفر أحمد بن محمد المعروف بابن البني، من أهل مدينة جيّان:
أهل الرياء لبستموا ناموسكم
…
كالذئب أولج في الظلام العاتم
فملكتموا الدنيا بمذهب مالك
…
وقسمتموا الأموال بابن القاسم
وركبتموا شهب الدواب بأشهب
…
وبأصبغ صبغت لكم في العالم (1)
كانت هذه الثيوقراطية أو الدكتاتورية الدينية، وما ترتب عليها من مثالب وأهواء لا مفر منها، أهم عامل في ضعف الحكم المرابطي وفساده، وكان من جراء ذلك أن تحولت المزية الرئيسية، لصفة الدولة المرابطية، وهي الأساس الديني المغرق، إلى عنصر من عناصر الانحلال الخطر، واستحالت فضائل التقى والزهد والورع، لدى الأمير، إلى نوع من الخضوع الأعمى، لطائفة لا تُؤمَن مطامعها وأهوائها، هي طائفة الفقهاء، الذين غدوا يسيطرون على الأمير، ويحكمون الدولة، لا من وراء ستار فقط، ولكن كذلك في نوع من الجهر، وفقاً لهذه المطامع والأهواء. أضف إلى ذلك أن هذه الطائفة كانت إلى جانب هذا الاستغلال لنفوذها الديني، تتسم خلال العهد المرابطي بالقصور وضيق الأفق، ولم تكن في شىء من ذلك التعمق العلمي، الذي كان يمتاز به جيل الفقهاء القدامى، أيام الدولة الأموية، في دراسة الشريعة وأصول الدين، وذلك حينما كان فقهاء أقطاب مثل عيسى بن دينار، ويحيى بن يحيى، وعبد الله ابن حبيب، وبقي بن مخلد، يتبوأون ذورة النفوذ العلمي، ولكن يقف نفوذهم عند حدود الفتيا والشورى ومزاولة القضاء. بل كان الفقهاء أيام الدولة المرابطية، يقتصرون حسبما أشرنا من قبل على دراسة علم الفروع من العبادات والمعاملات والحدود والأقضية، وعلى مذهب مالك دون غيره. وهذا ما ينوه به المراكشي في قوله:" لم يكن يقرب من أمير المسلمين، ويحظى عنده، إلا من علم علم الفروع أعني فروع مذهب مالك، فنفقت في ذلك الزمان كتب المذهب، وعمل بمقتضاه، ونبذ ما سواها، وكثر ذلك حتى نسى النظر في كتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أحد من مشاهير أهل ذلك الزمان يعتني بها كل الاعتناء، ودان أهل ذلك الزمان بتكفير كل من ظهر منه الخوض في شىء من علوم الكلام، وقرر الفقهاء عند أمير المسلمين، تقبيح علم الكلام، وكراهة السلف له، وهجرهم من ظهر عليه شىء منه، وأنه بدعة في الدين "(2). وقد
(1) المراكشي في المعجب ص 95.
(2)
المراكشي في المعجب ص 96.
ترتب على ذلك ما عمدت إليه الدولة المرابطية بإيعاز فقهائها، من مطاردة العلماء الذين يعنون بعلم الكلام والأصول، ومطاردة الكتب المتعلقة بذلك، وفي مقدمتها كتب الغزالي، وجاء ابن تومرت فاتخذه أيضاً مادة لدعايته الدينية ضد الدولة المرابطية، حسبما فصلنا من قبل في موضعه.
إلى جانب هذا العامل الخطير في تصدع أسس الدولة المرابطية، كان ثمة عامل آخر، يحدث أثره السيىء في تحطيم قواها المادية والأدبية، هو انهيار منعتها العسكرية. ذلك أن الدولة المرابطية نشأت في مهاد التقشف والبداوة، واستمدت من بداوتها ومن حماستها الدينية، صلابتها الحربية، وكانت هذه المَنَعة التي تمتاز بها جيوش لمتونة وزميلاتها من القبائل المختلفة، تذكيها وتضاعفها، نزعة الجهاد في سبيل الله. وفي ظل هذه النزعة الجهادية استطاع المرابطون عند مطلع نهضتهم في مشارف الصحراء الكبرى، أن ينشروا بجهادهم وغزواتهم المستمرة تعاليم الإسلام، في غانة ومالي وموريتانيا. ولما عبرت الجيوش المرابطية إلى شبه الجزيرة لتنقذ الأندلس مما يتهددها من خطر الفناء، على يد اسبانيا النصرانية، كانت هذه النزعة إلى الجهاد، أخص ما يميزها، إلى جانب ما اشتهرت به من المنعة والبسالة. وحتى بعد أن تحولت الجيوش المرابطية، من مهمتها في إنجاد الأندلس، إلى جيوش غازية، وأصبحت الأندلس جزءاً من الدولة المرابطية الكبرى، فإن هذه النزعة إلى الجهاد في سبيل الله، لبثت حيناً آخر شعار الجيوش المرابطية في شبه الجزيرة، فكانت موقعة أقليش، وكانت موقعة إفراغة، وكانت ثمة مواقع محلية أخرى، ظهرت فيها الجيوش المرابطية، ببسالتها، وتفانيها في الجهاد في سبيل الله.
بيد أنه سرعان ما خبت هذه الروح، وخصوصاً بعد أن اختفى من الميدان أقطاب القادة المرابطين، الذين امتازوا بالجرأة والشجاعة والبراعة العسكرية، أمثال سير بن أبى بكر اللمتوني، وأبى محمد مزدلي، ومحمد بن الحاج، ومحمد ابن فاطمة، وسرعان ما تأثر الأمراء والقادة المرابطون، بما انغمسوا فيه من ثروات الأندلس، ونعمائها، وحياتها المرفهة، وتأثر الجند المرابطون، أبناء الصحراء والقفر، بحياتهم الجديدة الرغدة، في هذه القواعد العظيمة، والوديان النضرة، والعيش الرخص، وفت ذلك في مقدرة الجيوش المرابطية، ومنعتها القديمة، وأضحت عاجزة عن أن تقوم بمهمتها الأساسية في حماية الأندلس، ورد عادية
النصارى عنها، كما غدت في نفس الوقت عاجزة عن أن تعمل على توطيد سلطان الدولة المرابطية وهيبتها، بين شعب أضحى يتبرم بحكمها، ويتمنى زوال نيرها، بعد أن ثقلت وطأته، وكثرت مثالبه. وقد كان هذا عاملا له خطره في تحطيم هيبة الدولة المرابطية وسيادتها بالأندلس.
- 1 -
كانت الدولة المرابطية أو الدولة اللمتونية في عهدها الأول، حينما انتهى يوسف بن تاشفين من إنشائها، وتوطيد قواعدها، وتخطيط عاصمتها مراكش، إمارة يتسمى منشؤها بالأمير. وعقب انتصار الزلاّقة، تسمى يوسف " بأمير المسلمين وناصر الدين " وهو اللقب الذي أصبح من بعده لقباً لملوك لمتونة، وهذا إلى اعتراف العاهل المرابطي بطاعة الخليفة العباسي. وهو إجراء لم يتعد الحدود الشكلية، من الدعوة للخليفة العباسي في الخطبة مع الأمير، وذكر اسمه في السّكة.
ثم غدت الدولة المرابطية، مملكة وراثية، منذ اختار يوسف ولده علياً لولاية عهده في سنة 496 هـ (1102 م)، وحذا حذوه في ذلك على، فاختار ولده تاشفين لولاية عهده في سنة 533 هـ (1138 م). واختار تاشفين ولده إبراهيم لولاية عهده في سنة 539 هـ (1145 م)، وهو في وهران يخوض مع الموحدين آخر المعارك الحاسمة، وقد شاء القدر أن يكون إبراهيم خاتمة ملوك الدولة المرابطية.
ولم يكن العاهل المرابطي، يتقيد في هذا الاختيار لولاية العهد، بشروط وتقاليد معينة، ولم يكن يؤثر به الابن البكر، وإنما كان يجري وفقاً لمشيئة الملك القائم، فيختار من ولده من يراه أهلا لخلافته. وكانت ولاية الأندلس، وقيادة الجيوش المرابطية بها، تمنحان للابن البكر، إذا نحى عن ولاية العهد، وذلك حسبما حدث في شأن الأمير أبى الطاهر تميم ولد يوسف الأكبر، حينما انتخب أخوه الأصغر على لولاية العهد، فقد لبث والياً للأندلس وقائداً عاماً للجيوش المرابطية بها حتى وفاته في سنة 520 هـ، وخلفه في منصبه الأمير تاشفين بن علي، في الوقت الذي كان فيه أخوه الأكبر سير بن علي يتشح بولاية العهد، فلما توفي سير في سنة 533 هـ، استدعى تاشفين من الأندلس، ومنح ولاية العهد،
وكانت عمالات المغرب أو ولاياته، وهي نحو ثمانية، مراكش ويتبعها أغمات وبلاد السوس وسائر بلاد المصامدة، وفاس، وسجلماسة ودرعة، ومكناسة، وبلاد فازاز، وتلمسان، وطنجة، وسبتة، تخصص، لأبناء الأمير وقرابته. وقد بدأ يوسف بن تاشفين في ذلك بتقسيم عمالات المغرب على " بنيه وأمراء قومه وذويه "(1). أما الأندلس فكانت تنقسم في عهد الدولة المرابطية، إلى خمس ولايات، هي إشبيلية وغرناطة وقرطبة وبلنسية ومرسية. وكانت سرقسطة قبل سقوطها في أيدي النصارى في سنة 512 هـ (1118 م) تعتبر ولاية سادسة. واتخذ المرابطون في البداية قرطبة مركزاً لحكومتهم بالأندلس، وفيها أصدر يوسف بن تاشفين عهده بولاية عهده لولده علي. ولما تولى علي الملك، أمر بنقل قاعدة الحكم إلى غرناطة، فلبثت كذلك حتى سنة 526 هـ، وفي هذا العام عين أمير المسلمين علي بن يوسف، ولده الأمير تاشفين والياً لقرطبة، وأمره أن يجعل منها " داره وسكناه ومقر مثواه ". وهكذا غدت قرطبة مركز الحكم المرابطي مرة أخرى، واستمرت كذلك حتى سنة 539 هـ (1144 م)، وهي السنة التي اضطرمت فيها قواعد الأندلس، ومنها قرطبة، بالثورة على المرابطين، وكان والى الأندلس يومئذ الأمير أبو زكريا يحيى بن غانية، آخر ولاتها المرابطين.
وكانت مناصب الولاية المحلية بالأندلس، وقفاً على الأمراء والقادة المرابطين ولاسيما ذوى القربى منهم، وقد ذكرنا فيما تقدم أسماء عدد عديد من هؤلاء الأمراء والقادة، الذين تولوا حكم القواعد الأندلسية، منذ الأعوام الأخيرة من حكم يوسف بن تاشفين، حتى نهاية العهد المرابطي، وكان في مقدمة هؤلاء بعض أقطاب القادة المرابطين الأوائل، مثل الأمير سير بن أبى بكر اللمتوني فاتح إشبيلية ثم واليها، ومحمد بن الحاج والي بلنسية، ثم سرقسطة، ومن بعده يحيى بن غانية، والأمير أبو محمد مزدلي والي قرطبة وهو من أبناء عمومة يوسف، وولداه محمد وعبد الله، والامير محمد بن عائشة ولد يوسف، ومحمد بن فاطمة والي إشبيلية، وعبد الله بن تينغمر والي قرطبة، وهو ابن أخت علي بن يوسف، والأمير إبراهيم والى إشبيلية، وهو أخو علي بن يوسف، وأبو بكر بن علي بن يوسف، وقد ولي أيضاً إشبيلية وغيرهم. أما مناصب
(1) روض القرطاس ص 91، وابن خلدون ج 6 ص 185.
القضاء في القواعد الكبرى، فقد تركها المرابطون للأندلسيين، وذلك لسبب واضح، هو أنه لم يكن بين العلماء المرابطين، من يستطيع الاضطلاع بهذه المناصب، في بلد كالأندلس، امتاز قضاته بغزير علمهم، وقد كان أولئك القضاة الأندلسيون يتمتعون لدى العاهل المرابطي، بكثير من النفوذ، ولهم كلمة مسموعة في كثير من الشئون الهامة، وكانوا في نفس الوقت رسله لتدعيم هيبته ونفوذه، لدى الشعب الأندلسي، وكان من أبرز نماذج أولئك القضاة رجال مثل أبى الوليد بن رشد، وأبى القاسم بن حمدين، وقد تولى كلاهما قضاء قرطبة. وقد رأينا فيما تقدم، كيف أخذ بفتوى القاضي أبى القاسم ابن حمدين في حرق كتاب الإحياء للإمام الغزالي (سنة 503 هـ)، وكيف استطاع القاضي ابن رشد، أن يقنع أمير المسلمين علي بن يوسف بتغريب النصارى المعاهدين (520 هـ). ثم كان أولئك القضاة فيما بعد، حينما اضطربت شئون الدولة المرابطية، هم قادة الثورة ضد المرابطين في مختلف القواعد، وهم الذين تولوا حكم المدن الثائرة، حتى مقدم الموحدين.
ونود أن نلفت النظر هنا إلى تلك الظاهرة التي جعلت من قادة الثورة ضد المرابطين إما كتاباً وشعراء، أو قضاة. ففي الغرب كانت ثورة المريدين، وزعماؤها قبل كل شىء، رجال مثل ابن قسي، وابن المنذر، وأبو بكر بن المنخل، يمتازون إلى جانب دعوتهم الثورية، بمواهبهم الأدبية والشعرية. وفي أواسط الأندلس وفي شرقها، كان زعماء الثورة كلهم تقريباً من القضاة. ففي قرطبة، كان زعيم الثورة قاضيها أبو جعفر بن حمدين، وفي غرناطة كان هو القاضي أبو الحسن علي بن أضحى، وفي مالقة كان قاضيها ابن حسون، وفي بلنسية كان قاضيها مروان بن عبد العزيز، وفي مرسية كان قاضيها أبو جعفر الخشني، وكان خلفه في الرياسة بعد مصرعه، قطب بن أقطاب الكتاب والشعر، هو أبو جعفر عبد الرحمن ابن طاهر. وهذه ظاهرة تدعو إلى التأمل، ويمكن أن نرجعها من بعض الوجوه، إلى أن المرابطين استطاعوا خلال حكمهم بالأندلس، أن يقضوا على معظم الزعامات الملوكية والعسكرية القديمة، ولكنهم لم يستطيعوا أن يقضوا على الزعامات الفكرية، ولم يستطيعوا بالأخص، أن يقضوا على نفوذ الفقهاء بالأندلس، وكان نفوذهم المستمر، حسبما تقدم من خواص الحكم المرابطي ذاته.
أما عن الكتابة، فإن الدولة اللمتونية، كانت منذ بدايتها تعتمد في شئون
الكتابة على الكتاب الأندلسيين. فكان كاتب يوسف بن تاشفين، حتى قبل أن يعبر إلى الأندلس، أندلسي من أهل ألمرية هو عبد الرحمن بن أسباط. ولما توفي خلفه في منصب الكتابة أبو بكر بن القصيرة، وهو يومئذ من أئمة البلاغة بالأندلس، ثم كتب بعد وفاة يوسف عن ولده علي. وكان بلاط مراكش في عهد علي بن يوسف، يضم إلى جانب ابن القصيرة، طائفة من أقدر الكتاب الأندلسيين في هذا العصر، مثل أبى القاسم بن الجد، وأبى بكر بن عبد العزيز البطليوسي المعروف بابن القبْطُرنة، وابن عبدون وزير بني الأفطس السابق، وأبى عبد الله بن أبى الخصال، وغيرهم. وقد كان من الطبيعي، أن تعتمد الدولة اللمتونية، التي نشأت في مهاد البداوة والتقشف، في شئون الكتابة، ولاسيما بعد افتتاح الأندلس، على أقطاب البلاغة من الكتاب الأندلسيين، وأن يكون أولئك الكتاب ألسنتها لدى الشعب الأندلسي، الذي اعتاد على أساليب الكتابة العالية، وقد شهد المرابطون كيف كان ملوك الطوائف، يحشدون في قصورهم، أئمة البلاغة والترسل يومئذ، سواء في سلك الوزارة أو الكتابة، فكانت لهم في ذلك أسوة، فاستخدموا معظم أولئك الكتاب في بلاط مراكش.
وكان الجيش هو أهم أجهزة الدولة المرابطية، ودعامتها الأولى، وكانت الدولة المرابطية بالرغم من انضوائها تحت لواء الدعوة الدينية الإصلاحية، التي نظمها عبد الله بن ياسين، قبل كل شىء دولة عسكرية، نشأت في مهاد المعارك التي اضطرمت بين لمتونة وبين القبائل الخصيمة من وثنية وغيرها، وخرجت منها لمتونة ظافرة، واستطاعت أن تبسط سلطانها على أنحاء المغرب، وأن تقيم الدولة المرابطية الكبرى، وكان أولئك البربر الصحريون جنوداً يمتازون بوافر الجرأة والشجاعة. وقد نوه بشجاعة لمتونة في القتال كاتب معاصر هو الجغرافي المؤرخ، أبو عبيد البكري، فوصف لنا لمتونة وشجاعتها وطرائقها في القتال فيما يأتي: " وكان للمتونة، في قتالهم شدة وبأس ليست لغيرهم. وكان قتالهم على النجب أكثر من الخيل، وكان معظم قتالهم مرتجلين، يقفون على أقدامهم صفاً بعد صف، يكون بأيدي الصف الأول منهم القنا الطوال، وما يليه من الصفوف بأيديهم المزاريق، يحمل الرجل الواحد منها عدة، يزرقها فلا يكاد يخطىء ولا يشوى، ورجل قدموه أمام الصف بيده الراية، فهم يقفون ما وقفت منصته، وإن أمالها إلى الأرض جلسوا جميعاً، فكانوا أثبت من الهضاب، ومن فر أمامهم لم
يتبعوه، وكانوا يختارون الموت على الانهزام، ولا يحفظ لهم فرار من زحف " (1)، وقد تطورت أساليب لمتونة في القتال فيما بعد، ولكن هذه الصفة العسكرية لبثت تغلب على الدولة المرابطية، حتى بعد أن استقرت وتوطدت، وقامت بها نظم الحكم المدنية، فكان الجيش هو قوام حياتها الأول، وكان أمير المسلمين هو القائد الأعلى لهذا الجيش، وكان معظم الولاة في المغرب والأندلس، من قادة الجيش البارزين. وكان منشىء الدولة المرابطية الكبرى يوسف بن تاشفين جندياً وقائداً من أعظم قواد عصره، وقد بذل هذا البطل الشيخ في تنظيم الجيش المرابطي، وفي تزويده بالعتاد والسلاح، جهوداً رائعة، حتى غدا من أعظم جيوش العصر. وكانت قوته الرئيسية تتألف من الفرسان، وقد بلغت في عهد يوسف نحو مائة ألف فارس "من مختلف القبائل (2) هذا غير المشاة من الرماة وغيرهم. وأنشأ يوسف فضلا عن ذلك حرسه الخاص الأسود، من عبيد الصحراء من غانة، من نحو ألفي مقاتل، دربوا أعظم دربة، وزودوا بأجود الأسلحة، حتى غدوا قوة ضاربة لها خطرها (3). وقد رأينا كيف أبلى هذا الحرس الأسود الخاص ليوسف، في معركة الزلاّقة عند تحرج الموقف، أعظم البلاء، وساعد ببسالته على تحول مصاير المعركة. وأنشأ يوسف قوة كبيرة خاصة من فرسان جزولة ولمطة وزناتة ْسميت بالحشم (4). وأنشأ كذلك فرقة خاصة لحرسه من النصارى، معظمهم من المعاهدين الذين اعتنقوا الإسلام، وقد نمت هذه الفرقة في عهد ولده علي، حتى غدت جناحاً كبيراً من الجيش المرابطي، يتألف من النصارى المرتزقة، ويقوده القائد القشتالي الذي تسميه الرواية العربية " بالربرتير " والذي تحدثنا عنه فيما تقدم، وقد اشتركت هذه الفرقة الأجنبية التي تسميها الرواية العربية " بالجند الروم " مع الجيش المرابطي، في معارك عديدة، وكانت تمتاز دائماً ببسالتها، وفائق دربتها.
وكان ترتيب المعركة عند المرابطين يقوم على نظام خماسي. فيتقدم الجيش، الجند المشاة ووحدات الفرسان الخفيفة، وحملة القسي، والرماة، ويُرتبون في
(1) أبو عبيد البكري في كتاب " المغرب وذكر بلاد إفريقية والمغرب " المشتق من كتاب " المسالك والممالك "(طبعة دي سلان) ص 166، ونقل بعضه الحلل الموشية ص 10 و 11.
(2)
روض القرطاس ص 89.
(3)
الحلل الموشية ص 13.
(4)
الحلل الموشية ص 20.
الجناحين. ويتكون القلب من وحدات الفرسان الثقيلة، وهي التي كان لها على الأغلب القول الفصل في المعارك. وكانت قوات المؤخرة، أو القوات الاحتياطية يقودها أمير المسلمين بنفسه إذا كان مصاحباً للجيش، وتتألف من صفوة الجند، وقوى الحرس المختلفة صمن العبيد والنصارى المرتزقة. وكان لكل قسم من القوات المقاتلة قائده الخاص، ويجتمع القادة جميعاً في مجلس الحرب الذي يعقد قبل المعركة، وترتب فيه خطط الهجوم والدفاع، وفقاً لأوامر القائد الأعلى. وكان الجند يحتشدون وفقاً لمختلف القبائل والأقاليم. ويؤلف جند الأندلس في الجيش المرابطي المخصص لشبه الجزيرة وحدات خاصة، تحمل أعلام المدن التي تنتمي إليها، مثل إشبيلية وقرطبة وغرناطة ومالقة وبلنسية ومرسية وغيرها.
بيد أن القوات الأندلسية لم يكن لها في الجيش المرابطي كبير شأن، وكانت القيادة العليا بنوع خاص، تركز في أيدي القادة المرابطين. وكانت هذه سياسة موسومة واضحة القصد والمرمى.
وكانت نزعة الجهاد، تغلب في البداية على الجيش المرابطي، وكانت تحدوه هذء النزعة المضطرمة حينما عبر إلى شبه الجزيرة لأول مرة، وانتصر في موقعة الزلاّقة، ضد الجيوش النصرانية المتحدة، واستمر يجيش بهذه النزعة إلى الجهاد، طوال عهد يوسف، وفي أوائل عهد ولده علي. ثم خبت هذه النزعة حينما اضطربت أحوال الدولة المرابطية، منذ فورة المهدي ابن تومرت، وأضحى الجيش المرابطي في المغرب، أداة دفاعية عن كيان الدولة التي أنشأته، ولم يعد له في الأندلس تلك الهيبة القديمة، التي كانت تتوجها غزواته الجهادية ضد النصارى، ولم يلبث أن اضطر غير بعيد أن يشغل بأمر الدفاع عن نفسه في مختلف القواعد الأندلسية.
وكان الجيش المرابطي يستعمل البنود والطبول (1). وقد لعبت طبوله في الزلاّقة دوراً كبيراً في إزعاج الجند النصارى، وبث الرعب في قلوبهم. وكان الجيش المرابطي الدائم بالأندلس يتكون من سبعة عشر ألف فارس، منها سبعة آلاف بإشبيلية وقواعد الغرب، وبقرطبة ألف فارس، وبغرناطة مثلها، وأربعة آلاف بشرقي الأندلس، والأربعة آلاف الباقية موزعة على مختلف القواعد والثغور الأخرى، وكان يعهد بالدفاع عن الحدود والقواعد المتاخمة
(1) روض القرطاس ص 89.
للنصارى إلى الأندلسيين، لما لهم في مقاتلة النصارى ومدافعتهم من خبرة خاصة، وكان الفارس المرابطي في الأندلس يتقاضي خمسة دنانير في الشهر، غير نفقته الخاصة، وعلف فرسه، ومن ظهر منهم بشجاعته وتفوقه، يُعهد إليه بولاية موضع ينتفع بفوائده (1).
ولم ينس المرابطون أهمية الأساطيل، ولاسيما منذ افتتحوا الأندلس، وغدت الأندلس ولاية مغربية، فكانت لهم في سبتة وقادس وألمرية أساطيل دائمة.
وكانت قطائع النقل، تجتمع بنوع خاص في مياه سبتة وطنجة، والجزيرة الخضراء وطريف، لتنقل الجيوش المرابطية إلى شبه الجزيرة، ومن شبه الجزيرة إلى المغرب، وكانت الدولة المرابطية تمتلك في أواخر أيامها أسطولا ضخما من القطائع والسفن المقاتلة، حتى أن الأمير تاشفين بن علي، كان وهو يجوز معركة وهران الفاصلة ضد الموحدين، يعلق أمله في النجاة على الأسطول، وقد استدعاه فعلا إلى مياه بجاية. وقد اختصت أسرة بني ميمون عصراً بقيادة الأساطيل المرابطية، وانتقلت هذه الأساطيل على يدهم، إلى خدمة الدولة الموحدية حينما دالت دولة المرابطين.
وأما فيما يتعلق بالنظم المالية فقد اتبعت الدولة المرابطية، في البداية، نظراً لنشأتها الدينية، حكم الشرع في شئون الجباية، فكان يوسف بن تاشفين يقتصر أولا على تحصيل ما تجيزه الشريعة من الفروض، مثل الزكاة والأعشار وأخماس الغنائم وجزية أهل الذمة. بيد أنه لما ضخمت الدولة المرابطية، وتضاعفت جيوشها ومسئولياتها، ولاسيما بعد افتتاح الأندلس، واتساع نطاق أعمال الجهاد، في شبه الجزيرة، لم تعد هذه الموارد الشرعية المتواضعة تكفي لمواجهة مسئولياتها العظيمة، واضطر يوسف بن تاشفين إلى فرض الإتاوات على أهل المغرب والأندلس، للمساهمة في أعمال الجهاد، ولجأ أيضاً إلى تحصيل الأموال من اليهود، ولاسيما يهود بلدة أليسانة (2)، بمختلف الطرق والوسائل. وكان يوسف بن تاشفين يبغض اليهود، ويرى إرغامهم على اعتناق الإسلام، وشجعه على ذلك بالنسبة ليهود الأندلس، فقيه قرطبي زعم أنه وقع في أحد الكتب، على حديث منسوب إلى النبي، مفاده أن اليهود تعهدوا بأن يؤمنوا بالنبي العربي، وأن يعتنقوا الإسلام،
(1) الحلل الموشية ص 57 و 59.
(2)
تقع بلدة أليسانة أو اللسانة Lucena، شمال غربي لوشة بولاية غرناطة.
إذا حلت الخمسمائة عام من الهجرة، ولم يظهر لهم النبي الرسول، الذي بشر به موسى في التوراة، وبأنه سوف يكون منهم، وان نبيهم يكون عندئذ هو نفسه نبي المسلمين، ويتحتم عليهم اعتناق الإسلام، وكان يهود الأندلس يجتمعون بالأخص في مدينة أليسّانة المتقدمة، وهي مدينة يهودية خالصة، بها ربض واحد يسكنه المسلمون، ولا يختلطون بأحد منهم، وأهلها أغنياء مياسير، ومن أغنى يهود العالم. وكان أمير المسلمين حين مر بتلك المدينة، يريد أن يرغم أهلها اليهود على اعتناق الإسلام وفقاً لما تقدم، ولكن فقيهاً آخر، أفتى بأنه يجوز تركهم على وجه الافتداء، فدفع اليهود مبالغ طائلة لأمير المسلمين ليحتفظوا بدينهم (1).
ثم تمادت هذه السياسة في عهد ولده علي، ولجأ عليّ في نفس الوقت إلى فرض القبالات والإتاوات، على مختلف الصنائع والسلع، فكانت القبالات تفرض على الصابون والعطور والنحاس والمغازل، كما تفرض على كل شىء يباع جل أو صغر، كل شىء على قدر قيمته (2)، كما لجأ على إلى استخدام النصارى والروم في تحصيل الجبايات (3). ولما اضطربت أحوال الدولة المرابطية، على أثر قيام حركة المهدي، اشتد نفود النصارى في الجيش، وفي شئون الجبايات، لما كان يحبوهم به علي بن يوسف من ثقة وحماية، وأساءوا معاملة المسلمين، واشتطوا في تحصيل المغارم والفروض، وغلبت الفوضى على شئون الدولة المالية، كما غلبت على غيرها.
- 2 -
وقد اختلفت الآراء حول طبيعة الدولة المرابطية، وطبيعة وسائلها في الحكم، واشتد بعض المؤرخين في الحكم عليها، ورميها بأقصى النعوت والصفات، وجنح البعض بالعكس إلى امتداحها، وامتداح عهدها وحكمها.
وكانت تعليقات العلامة المستشرق دوزي، وحملته على المرابطين، والدولة المرابطية، من أشد ما صدر من الأحكام في هذا الموضوع. ومن الأسف أن هذه الحملة التي شهرها دوزي على المرابطين، وعلى عهدهم بالأندلس، قد تناقلها
(1) الحلل الموشية ص 58. وراجع في وصف مدينة أليسانة " وصف المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس " المأخوذ من نزهة المشتاق للإدريسي (طبعة دوزي) ص 205.
(2)
الإدريسي في المرجع السابق ص 70.
(3)
الحلل الموشية ص 61.
معظم الكتاب والنقدة المحدثين، واعتبروها حكماً مبرماً، لا يقبل جدلا ولا نقصاً.
ومن ثم فإنه لابد لنا أن ننقل أولا ما تضمنته أقوال دوزي من وجوه الطعن والنقد، ثم نعود بعد ذلك إلى تحليلها ومناقشتها.
يقول دوزي بادىء ذي بدء: " إن الشعب (الأندلسي) لم يكن له أن يهنىء نفسه بالانقلاب الذي وقع (يعني تحول الأندلس إلى سلطان المرابطين). ذلك أن الحكومة والقادة والجند، جميعاً قد فسدوا بسرعة مذهلة.
إن قواد يوسف حينما قدموا إلى اسبانيا، كانوا حقاً أميين، ولكنهم كانوا أتقياء شجعاناً أمناء، وقد اعتادوا على حياة الصحراء البسيطة المتقشفة، فلما أغنتهم كنوز الأمراء الأندلسيين التي أغدقها عليهم يوسف، فقدوا فضائلهم بسرعة، ولم يعودوا يفكرون إلا في أن يتمتعوا في سلام بهذه الثروات التي غنموها.
ولقد كانت حضارة الأندلس بالنسبة لهم مشهداً جديداً، ولما كانوا يخجلون من بربريتهم، فقد أرادوا أن يندمجوا فيها، واتخذوا لهم مثلا من الأمراء الذين خلعوهم. بيد أنهم كانوا لسوء الحظ من ذوي الجلد الخشن، ولم يكن بوسعهم أن يتمشوا مع النعومة، والكياسة، والرقة الأندلسية، وكان كل شىء لديهم يحمل طابع التقليد الخانع القاصر ".
ثم يقول: " ولم يكن الجند (أعني المرابطين)، بالرغم من كونهم أكثر محافظة، أفضل من رؤسائهم، وقد كانوا يمتازون بالقحة نحو الأندلسيين، وبالجبن إزاء العدو. والواقع أن جبنهم كان فادحاً، حتى أن الأمير علي، اضطر أن يتغلب على بغضه للنصارى، وأن يحشد في جيشه أولئك الذين كان قائد أسطوله ابن ميمون يجىء بهم من شواطىء جليقية، وقطلونية وإيطاليا، وبلاد بيزنطية. وأما عن قحتهم، فإنه لم يكن لها حد. فقد كانوا يعاملون الأندلس كبلد مفتوح، ويأخذون منها كل ما راق لهم، من نقد ومال ونساء، وكانت الحكومة تتركهم يفعلون ذلك، ولا تستطيع ضدهم شيئاً. وكان ضعفها في ذلك يدعو إلى الرثاء. وقد اضطر الفقهاء إلى ترك السلطان للنساء، أو على الأقل إلى أن يشاطروهن هذا السلطان. وكان الأمير على يترك لزوجته قمر كل شىء، وثمة نسوة أخريات كن يحكمن وفقاً لأهوائهن كبار الأعيان، وما دام في وسعهم أن يحققوا جشعهن، ففي وسعهم أن يفعلوا ما شاءوا. بل لقد كان في وسع قطاع
الطريق أن يؤملوا النجاة، إذا استطاعوا أن يشتروا حماية أولئك السيدات " (1).
هذا ما يقوله دوزي في " تاريخه ". وإليك ما يقوله في " بحوثه ":
" في نحو أواخر القرن الحادي عشر، حينما استبدلت الأندلس أمراءها الوطنيين، بمملكة إفريقية، جاءت كحليفة، ثم انتهت بأن فرضت سيادتها، حدثت في هذا البلد ثورة سريعة محزنة. فقد حلت البربرية مكان التمدن، وحل التخريف مكان الذكاء، وحل التعصب مكان التسامح. وأضحت البلاد تئن تحت النير المرهق الذي يفرضه رجال الدين والجند، فلم يعد يسمع مكان المناقشات العلمية الروحية في المعاهد، وأحاديث الفلاسفة العميقة، وأناشيد الشعراء، سوى صوت الفقهاء الرتيب، وضجيج السيوف تجر على الإفريز "(2).
ونكتفي بنقل ما تقدم من أقوال دوزي وتعيلقاته عن المرابطين بالأندلس.
والواقع أنه يشهر مثل هذه الحملة، في مواطن كثيرة من تاريخه (3). وهو بصفة عامة شديد الوطأة على المرابطين، وعلى عاهلهم يوسف، ينتقص منهم كأمة، وكدولة وحكومة، وهو قد يكون على حق في بعض الأحيان، وقد يجد سنداً لحملته في بعض الوقائع. ولكن حملته تنم على الأغلب عن روح واضح من التحامل.
ولقد رمى من قبل، دوزي بهذا التحامل العلامة المستشرق كوديرا، فهو يقول معلقاً، على تلك الأحكام التي أصدرها دوزي في حق المرابطين:
" لقد صيغت أحكام قاطعة جداً، مجحفة بالنسبة لحكم المرابطين. ولما كنا نعتقد أنه لا مبرر لهذه الأحكام، بالرغم من مكانة دوزي العظيمة، الذي حذا حذوه معظم الكتاب المتأخرين، فإنا نعتقد أنه يجب علينا أن نقول شيئاً من عندنا، لأنه إذا كان يبدو أن العلامة الهولندي يستند في أقواله إلى وقائع مأخوذة من الكتاب المسلمين والنصارى، فإني أشعر أنه يجيش بكثير من التحامل، وهذا يرجع بالأخص إلى تعصبه ضد رجال الدين، وإلى تطبيق هذا التعصب بالنسبة للأمة الإسلامية، وإلى ميله الواضح إلى التعميم، وإلى أن يستخرج النتائج بالاستناد إلى قليل من الوقائع "(4).
(1) Dozy: Histoire des Musulmans d'Espagne (1932) V. III. p. 162-164
(2)
Dozy: Recherches (Ed. 1881) Vol. I. p. 348
(3)
انظر مثلا: تاريخه (ج 3 ص 155 و 157 و 168).
(4)
F. Codera: Decad. y Desp. de los Almoravides، p. 190 & 191
والواقع أن دوزي لا يجد في أقوال الرواية العربية كثيراً من الأسانيد المؤيدة لحملته، ولا يعتمد في ذلك إلا على ملخص لفقرتين أوردهما المراكشي في " المعجب "، يقول في أولاهما ما يأتي:
" واختلت حال أمير المسلمين رحمه الله (مشيراً إلى علي بن يوسف) بعد الخمسمائة اختلالا شديداً، فظهرت في بلاده مناكر كثيرة، وذلك لاستيلاء أكابر المرابطين على البلاد، ودعواهم الاستبداد، وانتهوا في ذلك إلى التصريح، فصار كل منهم يصرح، بأنه خير من أمير المسلمين، وأحق بالأمر منه، واستولى النساء على الأحوال، وأسندت إليهن الأمور، وصارت كل امرأة من أكابر لمتونة ومسّوفة تشتمل على كل مفسد وشرير وقاطع طريق، وصاحب خمر وماخور، وأمير المسلمين في ذلك كله يتزيد تغافله، ويقوي ضعفه، وقنع باسم إمرة المسلمين، وبما يرفع إليه من الخراج، وعكف على العبادة والتبتل، فكان يقوم الليل ويصوم النهار، مشتهراً عنه ذلك. وأهمل أمور الرعية غاية الإهمال، فاختل لذلك عليه كثير من بلاد الأندلس، وكادت تعود إلى حالها الأولى، ولاسيما مذ قامت دعوة ابن تومرت بالسوس "(1).
ويقول في الثانية: " وكان (أي علي بن يوسف) رجلا صالحاً مجاب الدعوة، يعد في قوام الليل، وصوام النهار، إلا أنه كان ضعيفاً مستضعفاً، ظهرت في آخر زمانه مناكر كثيرة، وفواحش شنيعة، من استيلاء النساء على الأحوال، واستبدادهن بالأمور، وكان كل شرير من لص أو قاطع طريق، ينتسب إلى امرأة قد جعلها ملجأ له وزراً على ما تقدم "(2).
هذا ما يقوله المراكشي. ولنلاحظ أولا أن المراكشي يجانب الدقة التاريخية في أحيان كثيرة، وهو ما يعترف به ويعتذر عنه في مقدمته، ثم هو بعد ذلك كاتب ومؤرخ موحدي من أولياء الدولة الموحدية وصنيعة بعض أمرائها، ومن ثم فإنه يصعب علينا أن نتخذ من أقواله دائماً حجة قاطعة، ومن جهة أخرى فإنه يوجد إلى جانب هذه الأقوال، أقوال أخرى لمؤرخين وكتاب، عاش بعضهم في العهد المرابطي أو قريباً منه، تشيد بحكم المرابطين وأيامهم، فمن ذلك ما يقوله صاحب الحلل الموشية، معلقاً على عهد يوسف بن تاشفين:
(1) المعجب ص 98 و 99.
(2)
المعجب ص 103.
" أقامت بلاد الأندلس في مدته سعيدة حميدة، في رفاهية عيش، وعلى أحسن حال، لم تزل موفورة محفوظة إلى حين وفاته، وقد كان الجهاد انقطع بها منذ تسع وسبعين سنة من مدة آل عامر إلى حين دخوله إليها. قدم أشياخ المرابطين فيها وكانوا أقواماً ربتهم الصحراء، نيتهم صالحة لم تفسدها الحضارة، ولا مخالطة الأسافل "(1).
وما ينقله إلينا عن القاضي أبى بكر بن العربي، وهو ما جاء في كتابه في شرح الترمذي، وهو قوله:
" المرابطون قاموا بدعوة الحق، ونصرة الدين، وهم حماة المسلمين، الذابون والمجاهدون دونهم، ولو لم يكن للمرابطين فضيلة ولا تقدم إلا وقيعة الزلاّقة التي أنسى ذكرها حروب الأوائل، وحروب داحس والغبراء مع بني وائل، لكان ذلك من أعظم فخرهم، وأربح تجرهم "(2).
والقاضي ابن العربي من أعلام فقهاء الأندلس في العصر المرابطي، وقد توفي في سنة 542 هـ، على أثر عوده من لقاء عبد المؤمن، عقب افتتاحه لمراكش، وكان قد وفد إليه على رأس زعماء إشبيلية، ليقدم إليه بيعة أهلها، حسبما أشرنا إليه في موضعه. هذا وينقل إلينا صاحب روض القرطاس عن ابن جنّون الفقرة الآتية:
" كانت لمتونة أهل ديانة ونية صادقة خالصة، وصحة مذهب، ملكوا بالأندلس من بلاد الفرنج إلى البحر الغربي المحيط، ومن مدينة بجاية من بلاد العدوة، إلى جبال الذهب من بلاد السودان. لم يجر في عملهم طول أيامهم رسم مكروه، معونة ولا خراج في بادية ولا في حاضرة، وخطب لهم على أزيد من ألفي منبر. وكانت أيامهم دعة ورفاهية ورخاء متصل، وعافية وأمن. . كان ذلك مصطحباً بطول أيامهم، ولم يكن في بلد من أعمالهم خراج ولا معونة، ولا تقسيط، ولا وظيف من الوظائف المخزنية، حاشا الزكاة والعشر، وكثرت الخيرات في دولتهم، وعمرت البلاد، ووقعت الغبطة، ولم يكن في أيامهم نفاق ولا قطاع طريق، ولا من يقوم عليهم، وأحبهم الناس إلى أن خرج عليهم محمد بن تومرت مهدي الموحدين سنة خمس عشرة وخمسمائة "(3).
(1) الحلل الموشية ص 59.
(2)
الحلل الموشية ص 105.
(3)
راجع روض القرطاس ص 108، ونقله أيضاً السلاوي في الإستقصاء ج 1 ص 128.
ويبدو من كل ما تقدم أن الحكم على العهد المرابطي، كالحكم على أي عهد آخر من عهود التاريخ، يتردد بين القدح والمديح. ونحن لا نود أن نقف اعتباطاً عند إحدى الوجهتين. بيد أنه يلوح لنا أنه إذا كان حكم المرابطين، ولاسيما في الأندلس، قد ينطوي من بعض نواحيه على أخطاء ومثالب، فإنه من الناحية الأخرى، قد أغمط حقه وبولغ في انتقاصه والحملة عليه.
ولنقف هنا لحظة لنحاول أن نستعرض بعض العوامل والأسباب التي هيأت ذلك الجو المجحف بسمعة المرابطين، وأذكت ضدهم حملة الانتقاص والتشهير التي ما زال صداها يتردد حتى يومنا. ويلوح لنا أن هذه العوامل ترجع إلى ثلاثة أمور يمكن أن نلخصها فيما يلي:
الأول، هو ما اقترن بالفتح المرابطي لممالك الطوائف الأندلسية من مظاهر القسوة البالغة، ومن قتل عدد من أمراء الطوائف بصورة مثيرة، مثل بعض أبناء المعتمد بن عباد، والمتوكل بن الأفطس وولده وغيرهم من الأمراء والأكابر، ونهب الأموال، ومعاملة الجند المرابطين لقواعد الأندلس معاملة المدن المفتوحة، والعيث فيها دون وازع. وقد كان المسئول الأول في ذلك هو سير بن أبى بكر اللمتوني كبير القادة المرابطين وفاتح إشبيلية وبطليوس. وفي اعتقادنا أنه لو كان عاهل المرابطين يوسف بن تاشفين موجوداً في شبه الجزيرة في تلك الفترة، لأمكن اجتناب كثير من هذه الحوادث الدموية، وهذا العيث الفظيع. على أنه يمكن أن نقول من جهة أخرى أن قسوة أمير المسلمين في معاملة المعتمد بن عباد وهلاكه في سجنه بأغمات، على النحو المؤسي الذي وقع، كانت أيضاً مادة خصبة لتغذية هذه الحملة المرة على المرابطين. وقد كان لما صدر من المعتمد في سجنه من النظم المبكي، أعمق وقع وأبعد صدى في تصوير هذا الأمير الشاعر، بالرغم من كل ما أحاق بسيرته وسلوكه من أخطاء ومثالب، في صورة الشهيد الذي يستحق أبلغ عطف. ونحن نجد ذلك الصدى بالأخص، فضلا عن الأدب والشعر الأندلسي، ماثلا لدى الكتاب والمؤرخين المشارقة. وقد كان لحملاتهم العنيفة على أمير المسلمين وعلى المرابطين، أكبر الأثر في إذكاء هذه الحملة التي صدعت من هيبة المرابطين وهيبة عاهلهم حتى عصرنا.
والأمر الثاني، هو ما وقع منذ بداية عهد علي بن يوسف من مطاردة كتب الدين والفلسفة وغيرها، ولاسيما كتب الأصول وفي مقدمتها كتب الغزالي. وقد
أشرنا فيما تقدم إلى ما كان من تأثير الفقهاء على أمير المسلمين علي بن يوسف. ولم يك ثمة شك في أن مطاردة الحركة الفكرية على هذا النحو يرجع قبل كل شىء إلى وحي الفقهاء وتدبيرهم. وقد كان لهذه السياسة، أثر بالغ في إذكاء عاطفة السخط ضد المرابطين بالأندلس، ولاسيما في البيئة الفكرية، وفي توجيه الأقلام ضدهم أو على الأقل في حرمانهم من عطف هذه الأقلام. ومما هو جدير بالذكر أنه فيما عدا أمثلة قليلة، يندر أن نجد في الأدب الأندلسي من نظم أو نثر خلال العهد المرابطي، مدائح شعرية أو رسائل نثرية تشيد بالمرابطين أو أمرائهم.
والأمر الثالث، هو الحملة العنيفة المضطرمة التي شهرها المهدي ابن تومرت ضد المرابطين، ونحن نعتقد أن هذه الحملة كانت أخطر عامل في القضاء على هيبة الدولة المرابطية، وسمعتها الدينية، وهي الدعامة التي قامت عليها. والواقع أن ابن تومرت قد لمس في دعايته ضد المرابطين أشد النواحي حساسية وتأثيراً، وذلك حينما صور المرابطين بأنهم كفار خوارج على شريعة الإسلام، وأنهم قد ارتكبوا كثيراً من المناكر المثيرة، من إباحة للمحرمات من ذيوع الخمر، والقصف والفسق، واغتصاب أموال الناس بالباطل، وغير ذلك مما كانت مظاهر العاصمة المرابطية، وأحوال الدولة المرابطية، والمجتمع المرابطي، تؤيده في ذلك الوقت بصفة فعلية. وقد استمرت هذه الدعاية الملتهبة التي شهرها المهدي ضد المرابطين طول حياته، واستمرت من بعده، وحتى بعد أن سقطت الدولة المرابطية ومحيت آثارها، وكان لها أبلغ الأثر في القضاء على هيبة المرابطين وسمعتهم بصفة نهائية.
تلك هي العوامل التي اجتمعت لتصدع من هيبة الدولة المرابطية، ولتسبغ على سيرتها، وعلى ذكرياتها لدى الأجيال اللاحقة، ذلك اللون القاتم، الذي تأثل بمضي الزمن، وبما جنحت إليه التواريخ والكتابات المتعاقبة، من الأخذ به دون تمحيص أو تفنيد.
وما من شك في أن الدولة المرابطية قد لبثت طوال عهد مؤسسها العظيم يوسف بن تاشفين، وهو نصف حياتها، دولة مجاهدة، تحتفظ بكثير من فضائلها الأولى، من التقشف والمَنَعة والعدالة والتمسك بأحكام الكتاب والسنة. وقد كان افتتاح المرابطين للأندلس على النحو الذي تقدم، بعده عبورهم إليها إخوة منقذين، أول سحابة قاتمة أسبلت على دولتهم، وعلى سياستهم ومراميهم. وقد ناقشنا هذه المسألة في موضعها من كتابنا " دول الطوائف "، وأوضحنا ما لها وما عليها، على ضوء
الظروف التي أحاطت بها. بيد أنه مهما قيل في هذه المسألة، فإن الفتح المرابطي للأندلس، فضلا عن كونه حدث يتفق مع روح العصر الذي وقع فيه، لا يمكن أن يُمحي ما تقدمه، وما أعقبه من فضل المرابطين في الجهاد، وسحقهم لجيوش اسبانيا النصرانية، في موقعة الزلاّقة العظيمة، التي كانت أروع مثل لبطولتهم، وجهادهم في سبيل الله، وإنقاذهم الأندلس بذلك من خطر الفناء الداهم. ولا يمكن أن يمحى فضلهم بعد ذلك في الذود عن الأندلس، وحمايتها من مطامع ألفونسو المحارب ملك أراجون، وألفونسو ريمونديس ملك قشتالة. ويكفي أن نستعرض في تلك الحقبة، مراحل جهادهم وغزواتهم في أراضي اسبانيا النصرانية، منذ موقعة أقليش (501 هـ) حتى موقعة إفراغة (528 هـ)، وهي تنطوي على صفحات مشرقة من الجهاد في سبيل الله، والذود عن الدين والوطن، وفيها تبدو بسالة هذه الجمهرة الممتازة من القادة المرابطين، الذين سبق أن ذكرناهم غير مرة فيما تقدم.
ومن المسلم به أن هذه الصفحات من جهاد المرابطين في سبيل إنقاذ الأندلس والذود عنها، هي أنصع ما في تاريخهم من تلك الفترة التي حكموا فيها الأندلس.
على أنه يجب من جهة أخرى ألا نبالغ في تقدير هذه النزعة الجهادية، وهذه الصفحة من الجهاد المرابطي في الأندلس، فإنه يوجد ثمة ما يغشى صفاءها، وينتقص من عظمتها. ذلك أن المرابطين كانت لديهم بعد نصر الزلاّقة الحاسم، أكثر من فرصة لمهاجمة اسبانيا النصرانية وضربها في الصميم، وكان بوسعهم، لو صدقوا العزم، وضاعفوا الهمة، أن يستردوا مدينة طليطلة العظيمة، قبل أن تنتعش قوى اسبانيا النصرانية من ضربة الزلاقة. ولكنهم لم يبذلوا هذه المحاولة في وقتها. وقد ناقشنا هذه المسألة في موضعها عند الكلام على نتائج موقعة الزلاقة.
أجل إن المرابطين، حاولوا في بداية عهد علي بن يوسف، استرداد طليطلة، وهاجموها، حاصروها مرتين، الأولى في سنة 503 هـ (1109 م)، والثانية في سنة 507 هـ (1114 م)، ولكنهم أخفقوا في المرتين، بالرغم مما بذلوه في كل مرة من الجهود العنيفة. ذلك أن الفرصة كانت قد ولّت، والوقت قد فات.
ولما اضطربت شئون اسبانيا النصرانية بعد ذلك بقليل، وشغلت بحروبها الأهلية، لم يكن بوسع المرابطين أن يستغلوا هذه الفرصة، لما دهمهم بالمغرب من ثورة المهدي ابن تومرت، وعجزهم عن أن يبعثوا إلى شبه الجزيرة بقوات كبيرة.
وثمة سقطة أخرى تصدع من قيمة جهاد المرابطين بالأندلس، هي موقفهم من الدفاع عن مدينة سرقسطة. فقد رأينا فيما تقدم، كيف تخلى المرابطون، وأميرهم أبو الطاهر تميم بن يوسف، عن الاستجابة إلى صريخ المدينة المنكوبة، ورفضوا بذل أية محاولة لإنقاذها، وآثروا الانسحاب والسلامة، مع أنهم كانوا يرابطون في ظاهرها على مقربة من النصارى المحاصرين لها، وترتب على ذلك أن اضطرت المدينة العظيمة المسلمة إلى التسليم (سنة 512 هـ). وتنوه الرواية الإسلامية بما ينطوي عليه هذا الموقف من الجبن والخزى، وهو موقف كان له أكبر الأثر في النيل من هيبة المرابطين العسكرية.
أما حكم المرابطين للأندلس، فإنه يبقى من الناحيتين الإدارية والاجتماعية، عرضة لكثير من وجوه المؤاخذة والنقد. ومن الواضح أن المرابطين وضعوا الأندلس، عقب افتتاحها، تحت حكم عسكري مطلق، ونزعوا أبناءها كل سلطة فعلية في حكم بلادهم، واحتفظوا للمرابطين بسائر المناصب العليا من ولاية وقيادة، وبالرغم من أن أولئك الولاة والقادة المرابطين، كانوا على الأغلب رجالا، من ذوي الحزم والبراعة العسكرية، والصفات البدوية النقية، فإنه كان ينقصهم المرونة والكياسة في حكم أمة متمدنة كالأمة الأندلسية، وكانت أساليبهم العنيفة الخشنة في ذلك، تجافى ما طبعت عليه الأمة الأندلسية من الأساليب الرفيقة المصقولة. ولم تظهر آثار هذا الحكم المطلق في صورها البغيضة، أيام يوسف بن تاشفين، حيث كانت هيبة البطل المرابطي، وحزمه وبعد نظره، وميله إلى تحقيق العدالة، ورفع المظالم، تلطف كثيراً من وقع الحكم الجديد، على الأمة التي كانت تشعر نحوه بشكر الصنيعة. واستطاع ولده على في أوائل حكمه، أن يحتفظ بقسط من محبة أهل الأندلس وتقديرهم. وقد كان في الواقع أميراً صالحاً، محباً للخير، يضمر أحسن النيات بالنسبة للأندلس، والذود عنها، وبالنسبة لطرائق حكمها، وذلك حسبما تدل عليه عدة من الرسائل الرسمية، التي صدرت عن ديوانه في شئون الأندلس، والتي وفق البحث أخيراً إن نشرها، لتلقي ضوءاً جديداً، على كثير من النواحي السياسية والنظامية المتعلقة بتاريخ العهد المرابطي في الأندلس (1).
(1) عنى بتحقيق هذه الرسائل ونشرها الدكتور محمود علي مكي في صحيفة معهد الدراسات الإسلامية بمدريد، وذلك عن مخطوط مغربي كان ضمن تركة المرحوم الأستاذ ليفي بروفنسال، وحصل عليه معهد =
ففي إحدى هذه الرسائل، وهي المؤرخة في شوال سنة 507 هـ، ينوه على ابن يوسف، بالحركة التي يعدها للجهاد، وبكونه قد بالغ الاحتشاد والاستعداد، ويؤكد لمن وجهت إليهم الرسالة، إخلاص نيته، وصدق حميته " في نصر دين الإسلام، ومنع جانبه أن يضام، أو يناله من عدوه اهتضام "(1).
وفي رسالة أخرى، وهي التي يشير فيها إلى ما عرضه عليه القاضي أبو الوليد ابن رشد، عن شئون الأندلس (والمرجح أنها وجهت أوائل سنة 520 هـ) يبدي على عطفه وإشفاقه على الأندلس، ويؤكد أنه لن يدخر وسعاً " في الذود عن حوزة الملة "(2). وتوجد ثمة رسائل أخرى، تنم عن يقظة الأمير واهتمامه بشئون الأندلس، وتنبهه لما يدبره أعداؤها ضدها (3). وإلى جانب ذلك توجد عدة رسائل تنم عن صفة الحكم المرابطي وطبيعته الدكتاتورية المطلقة. من ذلك ما ورد في الرسالتين السادسة والسابعة، من حث الأمير على طاعة الحاكم. واعتباره في كل ما يصدر عنه متحكم باسمه، ومنفذ لرأيه (4)، ليس لأحد معه في ذلك من يد، ولا مصدر ولا مورد، " قد فوضنا إليه ذلك كله، وأفردناه النظر في دقه وجله، وكثره وقله، وحكمناه في جميعكم، يثيب من استحق الثواب، ويعاقب من استحق العقاب "(5)، وكذا في الرسالة الثالثة عشرة، وهي الصادرة في شهر المحرم سنة 500 هـ، ولعلها أول رسالة وجهها علي بن يوسف عقب توليه الملك، وفيها يوصى بالطاعة والولاء للوالي أبى محمد ابن فاطمة " ما أمركم به أتيتموه، وما نهاكم عنه تركتموه "(6).
بيد أنه توجد طائفة أخرى من هذه الرسائل، تدل على أن الأمير كان يعني في نفس الوقت بالعمل على تجنب الاستبداد، واتباع الشورى، وعدم الاستئثار بالرأي. وهذا ما يوصي به ولده أبا بكر في الرسالة التي يوجهها إليه بتاريخ
= الدراسات الإسلامية، وقد نشرت بالمجلدين السابع والثامن في الصحيفة المذكورة، تحت عنوان " وثائق تاريخية جديدة عن عصر المرابطين "(ص 109 - 198).
(1)
صحيفة معهد الدراسات الإسلامية (المجلد المشار إليه ص 168).
(2)
صحيفة معهد الدراسات الإسلامية (المجلد السالف) ص 167.
(3)
راجع بالأخص الرسالة الثانية عشرة (ص 180 و 181).
(4)
راجع الرسالة السادسة ص 175.
(5)
راجع الرسالة السابعة ص 176.
(6)
الرسالة الثالثة عشرة ص 182.
صفر سنة 520 هـ، بمناسبة تعيينه قائداً عاماً للجيوش المرابطية بالأندلس (1).
وثمة رسالة موجهة من الأمير إلى محمد بن فاطمة، يحثه فيها على أن يستعمل من العمال، من يتبع الرفق والعدل، وأن يعزل منهم من ينحرف عن الأحكام ومن يأخذ أموال الرعية ظلماً، وأن يعاقبه على ذلك ويلزمه برد ما أخذ (2).
هذا وتوجد ثمة رسالة هامة، تدل على عناية عليّ بأمر القضاء، وحسن تنظيمه، وبإقامة العدل واستتبابه، وهي رسالة موجهة منه إلى الوحيدي قاضي مالقة، في شهر ذي الحجة سنة 523 هـ، وذلك على أثر ما قام بعض المرافعين (المتقاضين) من السفر إلى مراكش، والتظلم لدى الأمير، وفيها يعرف موضوع القضاء بأنه " رفع المشكلات، وتمييز الحقائق من المتشابهات والفصل بعد التبرم في الدعاوي والمنازعات "، ويطلب أن تنظر " شكاوي العامة في اللطيف والجليل "، وأن يجري التعرف على شئون الرعية، وأن يجري الحق في كل ما رفع من أحوالها، وما وقع فيه التظلم من عمالها، وأن الأمر في ذلك معلق على حسن اختيار النواب في الأقطار، وأنه يجب أن يتوفر في هؤلاء " الثقة والديانة والصون والأمانة "، فإذا وقع من أحدهم تعد أو جور، كان له أن يطلب عزله إلى الحاكم الذي يتبعه، فإن توانى في ذلك، فله أن يرفع الأمر إلى الأمير مباشرة. وفي الرسالة بعد ذلك حث على تحصيل الزكوات، على تباين أنواعها، وموجب فريضتها دون تحريف ولا تبديل (3).
هذا مجمل ما تدلى به هذه المجموعة من الرسائل المرابطية: فهي من جهة تدلى بما كانت تنطوي عليه نفس أمير المسلمين من نيات صادقة في الأخذ بيد الأندلس، والذود عنها، وتدلى من جهة أخرى بما كانت تحرص عليه الحكومة المرابطية من جمع سائر السلطات بين يديها.
وكان الحجر على حرية الفكر من أسوأ صور الحكم المرابطي المطلق. ونحن نعرف ما عمد إليه أمير المسلمين علي بن يوسف، بتحريض فقهائه، من مطاردة كتب الأصول، وفي مقدمتها كتب الإمام الغزالي، ولاسيما كتاب " إحياء علوم الدين "(سنة 507 هـ). وقد لبثت هذه المطاردة طوال العهد المرابطي،
(1) راجع الرسالة الثالثة ص 169.
(2)
الرسالة الخامسة عشرة ص 183 و 184.
(3)
تراجع هذه الرسالة الهامة وهي الرابعة من المجموعة في ص 170 - 174.
فنرى مثلا في الرسالة التي وجهها أمير المسلمين تاشفين بن علي بن يوسف، إلى فقهاء بلنسية وأعيانها وأهلها، في جمادى الأولى سنه 538 هـ، إلى جانب ما تحض عليه من وجوب الرفق بالرعية، وإجراء العدل، وتحقيق المساواة بين الناس، والأخذ بمذهب مالك، دون غيره، في الفتيا وسائر الأحكام، حثاً على مطاردة كتب البدعة، " وخاصة كتب أبى حامد الغزالي "، وأنه يجب " أن يتتبع أثرها، ويقطع بالحرق المتتابع خبرها، ويبحث عليها، وتغلظ الأيمان على من يتهم بكتمانها "(1).
ومن الواضح أن هذه المطاردة الفكرية لم تكن تقف عند كتاب الأصول وكتب الغزالي، ولكنها كانت تشمل سائر المصنفات الكلامية والفلسفية، التي تنكرها التعاليم المرابطية، وغيرها مما تصفه الرسالة " بكتب البدعة ". وكان من ضحايا هذه المطاردة، عدة من المفكرين الأندلسيين، ومنهم العلامة الصوفي أبو العباس أحمد بن محمد الصنهاجي الأندلسي المعروف بابن العريف، حيث نفاه أمير المسلمين علي بن يوسف من بلده ألمرية إلى مراكش (2).
ثم إنه يبدو من جهة أخرى أن الحكام المرابطين بالأندلس، لم يبدو حزماً كافياً في قمع طغيان الجند والعبيد التابعين لهم، وأن هؤلاء كانوا يرتكبون ضد أبناء الشعب الآمنين، ضروباً مثيرة من التعدي والأذى. وهذا ما يسجله لنا وزير وكاتب أندلسي كبير معاصر، هو أبو محمد عبد المجيد بن عبدون، المتوفى سنة 520 هـ، (1126 م) وقد كان من كتاب الأندلس الذين خدموا في بلاط علي بن يوسف، يسجله لنا في رسالته التي وضعها عن القضاء والحسبة، حيث يقول عند " ذكر المرابطين ":
" يجب ألا يُلثم إلاّ صنهاجي أو لمتوني أو لمطي، فإن الحشم والعبيد ومن لا يجب أن يُلثم، يلثمون على الناس ويهيبونهم، ويأتون أبواباً من الفجور كثيرة، بسبب اللثام، وهماً، ويُكلم في ذلك مع السلطان، فإنهم عتاة. ويمتاز بذلك من عسى أن يُكرم أو يُوقر، أو تُقضى له حاجة من المرابطين، لأن العبيد
(1) وردت هذه الرسالة في المخطوط رقم 538 الغزيري بالإسكوريال وقام بنشرها الدكتور حسين مؤنس ضمن مجموع النصوص السياسية المرابطية، وذلك في مجلة المعهد المصري بمدريد (العدد الثالث سنة 1955) ص 110 - 113. وقد نشرناها نحن في باب الوثائق.
(2)
راجع في ترجمة ابن العريف ابن خلكان ج 1 ص 67، والصلة لابن بشكوال (القاهرة) الترجمة رقم 176.
أو الحشم إذا تلثم وغيّر شكله، حسبته رجلا مثيلا، فتجري إلى برِّه وإكرامه، وهو لا يتأهل لذلك. يجب ألا يمشي أحد في المدينة (1) بسلاح، فإن ذلك داعية إلى الفساد، ولاسيما البربر، فإنهم قوم إذا غضبوا، قتلوا أو جرحوا.
عبيد المرابطين إن تلثموا، فتكون علامة يعرفون بها، مثل أن يتلثموا بخمار أو بمئزر وشبه ذلك. وكذلك الحشم والأتباع، يكون شكلهم غير شكل المرابطين، وهذا أحسن إن قدر عليه، وفيه منافع كثيرة. يجب أن يُحمل مكان السلاح التي يحبسونها، إما أسواط لدوابهم، وإما أقزال، وهو الرمح الصغير " (2).
فهذه الأقوال، تدل على أن طوائف الحشم والعبيد التابعة للحكام والسادة المرابطين، كانت تعتدى على الناس، وتعبث بالأمن، تحت ستار اللثام الوهمي.
كما تدل على أن الجند البربر كانوا يتسمون بالنزق وتوتر الأعصاب، مما يدفعهم إلى القتل والجرح بسهولة ودون تحوط.
وكذلك ليس ثمة شك في أن الحكم المرابطي بالأندلس، أخذت تشتد وطأته شيئاً فشيئاً، ولاسيما مذ بدأ اضطراب أحوال الدولة المرابطية بالمغرب، على أثر ظهور المهدي ابن تومرت، واشتداد حركته في أواخر عهد على بن يوسف، وعمد الحكام المرابطون عندئذ إلى تشديد قبضتهم في مختلف القواعد، واشتدوا في معاملة الأندلسيين، وكانت بوادر الخصومة والجفاء، قد ظهرت قبل ذلك بين الفريقين، وكان أخص مظاهرها ثورة قرطبة التي اضطرمت ضد المرابطين منذ سنة 514 هـ، ودلت بعنفها على حالة الأندلسيين النفسية، وما يضمرونه من بغض للحكم المرابطي ووسائله. وكان انشغال حكومة مراكش بحركة المهدي، وتضاؤل رقابتها، على شئون الأندلس، عاملا له أثره في ازدياد مثالب الحكم المرابطي بالأندلس، وترك حبله على الغارب، إلى الحكام المحليين، وكان من أثر ذلك أن ازداد سخط الشعب الأندلسي وحفيظته، وشعوره باقتراب الفرصة السانحة، للتحرر من نير حكم أجنبي، أضحى يرهقه، وأضحى يتوق هو إلى تحطيمه.
ونحسب أننا بهذا الاستعراض الموجز لظروف الحكم المرابطي وأحواله
(1) وهو يقصد هنا مدينة إشبيلية، حسبما يبدو من سياق ما سبق.
(2)
رسالة ابن عبدون في القضاء والحسبة المنشورة بعناية الأستاذ ليفي بروفنسال ص 28.
بالأندلس، قد أوضحنا ما ينطوي عليه هذا الحكم من مختلف نواحيه الحسنة والسيئة. وإذا كانت حسنات الحكم المرابطي تتلخص قبل كل شىء في أعمال الجهاد التي اقترنت بحقبته الأولى، فإن مثالبه تتلخص في استئثار المرابطين بالسلطان، وفرضهم على الأندلس حكم طغيان مطلق، شديد الوطأة، لم تألفه الأمة الأندلسية، ويزيد من وطأته عدوان الجند والعبيد، ثم حجرهم على العقائد والفكر. بيد أنه يبقى من المبالغة والتحامل، أن يقال إنه بقيام الحكم المرابطي بالأندلس " قد حلت البربرية مكان التمدن، وحل التخريف مكان الذكاء، وحل التعصب مكان التسامح "(1). ذلك أن مثل هذا الحكم الدامغ، لا يسوغ إصداره عن عصر كالعصر المرابطي، تتراوح أحواله وظروفه بين مختلف الظواهر اللامعة والقاتمة. وإذا كان المرابطون، ينتمون إلى القبائل البربرية البدوية، فقد كانوا على بداوتهم وتقشفهم يتمتعون بكثير من الفضائل والخلال الحسنة، من الشجاعة والفروسة والورع، والتعلق بالجهاد في سبيل الله، وقد أتيح لهم بهذه الفضائل، أن يشيدوا دولة من أعظم الدول التي قامت في الغرب الإسلامي، وإن لم يتح لهم أن يشيدوا مدنية خاصة. أجل لقد فقد المرابطون بتعصبهم الجنسي، وتزمتهم الديني، حب الشعب الأندلسي، ولكنهم لم يحاولوا تغيير أساليبه في الحياة الخاصة، ولم يحاولوا وقف تيار الحركة الفكرية والأدبية، بل بالعكس حاولوا أن يوجهوها لمعاونتهم وخدمة قضيتهم، فكان معظم وزراء الدولة المرابطية وكتابها، منذ البداية، من أكابر كتاب الأندلس وأدبائها، وكان بلاط مراكش البربري، يصدر كتبه ومراسيمه لأهل الأندلس، مدبجة بأقلام أقطاب البلاغة في ذلك العصر، مثل أبى بكر بن القصيرة، وأبى القاسم بن الجد، وأبى محمد عبد المجيد بن عبدون، وأبى عبد الله بن أبى الخصال، وغيرهم.
وإذن فإنه يكون من التعسف المحض أن يقال إنه بقيام الحكم المرابطي بالأندلس " قد حلت البربرية مكان التمدن ".
ْويقول الأستاذ كوديرا معلقاً على ذلك: " إن ذلك لم يحدث بأي حال.
فإن حياة المسلمين الإسبان سارت كما كانت تسير حتى يومئذ. وإنه ليمكن أن نتحدى أي شخص يقوم بدراسة سير الشخصيات التي تضمها معاجم التراجم، وأن يجد فيها خلافاً في طريقة تكوين الأدباء، أو بعبارة أخرى، فإن رجال
(1) راجع أقوال دوزي السالفة الذكر.
الأدب حتى عصر الطوائف ومن بعده، كانوا يدرسون ما يشاءون، ومع الأساتذة الذين يختارونهم، إذ كان التعليم بين المسلمين حراً تماماً، إلا في العصور الأخيرة.
" ففي تراجم الشخصيات الكثيرة التي تبدو في ذلك العصر، ومعظمهم من المسلمين الإسبان، وقليل منهم من المرابطين، لا نجد شيئاً أو نجد قليلا مما يدل على حدوث تغيير. وأن أولئك الذين عرفوا حكومات الطوائف، رأوا أنفسهم مرغمين أن يغيروا طريقة حياتهم، ورأى رجال البطانة المداهنون والعاطلون، أن التغيير سوف يسوءهم، إذا لم يملقوا السادة الجدد، بيد أن ذلك يحدث دائماً حينما يتغير أهل السلطان "(1).
- 3 -
وإنه ليبدو من الصعب أن نقدم صورة واضحة عن حياة الشعبين المغربي والأندلسي، في العهد المرابطي. بيد أننا نستطيع على ضوء بعض الإشارات القليلة التي انتهت إلينا، أن نعرف عن هذه الحياة بعض الشىء.
ومن المعروف أن العهد المرابطي لم يطل بالأندلس أكثر من أربعين عاماً، وهو قد بدأ بالمغرب قبل ذلك بنحو عشرين عاماً، فالدولة المرابطية لم تعش في حالة انتظام واستقرار، أكثر من جيلين، هما عصر يوسف بن تاشفين، وعصر ولده علي، وحتى فترة الاستقرار في عهد على لم تطل، ومذ ظهر محمد ابن تومرت، في سنة 515 هـ، تضطرب أحوال الدولة المرابطية بالمغرب، ثم تسوء شيئاً فشيئاً، حتى تنتهي بالانهيار.
في خلال تلك الفترة القصيرة - فترة الاستقرار - مذ أتم يوسف بن تاشفين فتوح المغرب، والتغلب على سائر الإمارات والقبائل الخصيمة، وتأسيس مدينة مراكش، تجوز الأمة المغربية فترة سكينة ورخاء، بعد أن هدأت فترة الحروب الأهلية، وأقبل الناس على الأعمال السلمية. وتمتعت الأندلس، منذ الزلاّقة، ثم بعد ذلك مذ سقطت دول الطوائف، بمثل هذه الفترة من السكينة والرخاء.
وكانت الأمة الأندلسية، أيام الطوائف، تعاني من حكم أولئك الطغاة الأصاغر، كثيراً من ضروب الظلم والإرهاق، ولا تكاد تفيق من الحروب الأهلية التي يشهرها أولئك الأمراء كل على الآخر، والغزوات المتوالية التي
(1) F. Codera، Decad. y Desp. de los Almoravides، p. 199 & 200
كان يشهرها النصارى، والتي كانت تعصف بوديانها النضرة، وتبث إليها الخراب والجدب. فلما قضى المرابطون على دول الطوائف، ووضعوا حداً مؤقتاً لعدوان النصارى، ولما شغلت اسبانيا النصرانية، بحروبها الأهلية، عقب وفاة ألفونسو السادس، استطاعت الأمة الأندلسية، أن تتنفس الصعداء، وأن تستأنف نوعاً من حياة السلم والدعة. وهنالك ما يدل أيضاً على أنها تحررت في ظل العهد المرابطي، أو على الأقل في نصفه الأول، من كثير من المكوس والمغارم الظالمة، التي كانت تفرض عليها أيام الطوائف، لتغذية قصور أولئك الطغاة الأصاغر، بما كانت تنعم به من ضروب الإسراف والبذخ.
على ضوء هذه القرائن والظروف، نستطيع أن نقول إن الأمة الأندلسية، كانت في أعوام يوسف بن تاشفين الأخيرة، وفي أوائل عهد ولده علي، تتمتع بفترة من السكينة والرخاء، لم تعرفها منذ أيام الدولة العامرية، وقبل انهيار الخلافة الأندلسية. وإذا استثنينا ما فرضه المرابطون على الحياة العقلية، وعلى الطبقة المفكرة، من ضروب الحجر، فإنه يبدو أن طبقات الشعب العادية، كانت تشعر بتحسن مادي في حياتها، وكانت بعد أن خفت عنها وطأة الأعباء المالية والعسكرية، بعد اضطلاع المرابطين بشئون الجهاد والدفاع، تستطيع أن تنصرف إلى الأعمال السلمية، وإلى تحصيل أرزاقها وأقواتها، في هدوء وسلام، وأن تتمتع من جراء ذلك بشىء من الرخاء الذي كان ينقصها من قبل.
ومن ثم فإنه يسوغ لنا، بالرغم مما يمكن أن ينسب إلى الحكم المرابطي من صفات العسف والطغيان، أن نصف العهد المرابطي، بأنه كان بالنسبة للأمة الأندلسية عهد استقرار نسبي، تمتعت فيه بنوع من الدعة والرخاء. وهذا ما يؤيده قول المؤرخ معلقاً على حكم أمير المسلمين يوسف بن تاشفين:" أقامت بلاد الأندلس في مدته سعيدة حميدة، في رفاهية عيش، وعلى أحسن حال، لم تزل موفورة محفوظة إلى حين وفاته "(1).
ومن جهة أخرى، فإنه ليس ثمة ريب في أن المغرب، كان يتمتع بمثل هذا الرخاء والدعة، في عهد يوسف بن تاشفين، وأوائل عهد ولده علي، أعني قبل أن تضطرب أحواله من جراء ثورة ابن تومرت. وإنه ليكفي أن نستعرض ما كان عليه المغرب، في أواسط القرن الخامس الهجري قبل قيام
(1) الحلل الموشية ص 59.
الدولة المرابطية بقليل، من ضروب التفكك والفوضى، والحروب الأهلية المتوالية، لندرك أن قيام الدولة المرابطية كان بالنسبة للمغرب نوعاً من الإنقاذ القومي، وأن الأمة المغربية استطاعت أن تعيش في ظل الحكم المرابطي، عزيزة الجانب، موحدة الكلمة، وأن تتمتع بكثير من الأمن والرخاء، وأن تتحرر من كثير من المظالم، وضروب الفوضى، التي كانت تعانيها من قبل. ولدينا ما يؤيد ذلك من النصوص الصريحة. فمن ذلك ما ينقله إلينا صاحب روض القرطاس عن ابن جنّون وهو ما سبق أن اقتبسنا بعضه:
" كانت لمتونة أهل ديانة ونية صادقة خالصة، وصحة مذهب. وكانت أيامهم أيام دعة ورفاهية ورخاء متصل، وعافية وأمن، تناهي القمح في أيامهم إلى أن يباع أربع أوسق بنصف مثقال، والتامر ثمان أوسق بنصف مثقال، والقطاني لا تباع ولا تشترى. كان ذلك مصطحباً بطول أيامهم، ولم يكن في بلد من أعمالهم خراج، ولا معونة، ولا تقسيط، ولا وظيفة من الوظائف المخزنية حاشا الزكاة والعشر. وكثرت الخيرات في دولتهم، وعمرت البلاد، ووقعت الغبطة. ولم يكن في أيامهم نفاق ولا قطاع، ولا من يقوم عليهم، وأحبهم الناس، إلى أن خرج عليهم مهدى الموحدين في سنة خمس عشرة وخمس مائة "(1).
ومن الواضح أن ذلك كله ينصرف إلى عهد يوسف بن تاشفين وأوائل عهد ولده علي. فلما اضطربت الأمور عقب قيام حركة المهدي ابن تومرت تبدلت الأحوال، وغلبت الفوضى، وكثر الفساد، وغاض الأمن والرخاء، على نحو ما يحدثنا المراكشي في قوله، إنه في آخر عهد علي " ظهرت مناكر كثيرة، وفواحش شنيعة، من استيلاء النساء على الأحوال، واستبدادهن بالأمور، وكان كل شرير من لص أو قاطع طريق، ينتسب إلى امرأة قد جعلها له ملجأ وزراً على ما تقدم "(2). ومهما يكن من مبالغة هذا التصوير، فإن الذي لا ريب فيه هو أن حركة المهدي ابن تومرت كانت ضربة قاضية، لكل ما حملته الدولة المرابطية إلى المغرب من أسباب الاستقرار والأمن والرخاء، وأن المغرب لبث خلال المعركة التي اضطرمت بين المرابطين والموحدين، يعاني كثيراً من أسباب الاضطراب والفوضى، إلى أن تم الظفر للموحدين. وتوطدت دعائم الدولة الجديدة.
(1) روض القرطاس ص 108.
(2)
المعجب ص 103.