المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الرابعالصراع بين المرابطين والموحدين - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ٣

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌العصر الثالثعصرُ المرابطين والمُوَحّدينْ في المغرب والأندلس

- ‌القسْم الأولعصْر المُرابطين وبدَاية الدّولة الموحّدية

- ‌مقدمة

- ‌تمهيدالأوضاع العامة لشبه الجزيرة الأندلسية في عصر المرابطين والموحدين

- ‌الكِتاب الأولالدولة المُرابطية في أوج سُلطانها

- ‌الفصْل الأوّليوسف بن تاشفين

- ‌الفصْل الثانيأمير المسلمين علي بن يوسف وأحداث عصره

- ‌الفصل الثالِثسقوط سرقسطة

- ‌الفصل الرابعالصراع بين ألفونسو المحارب وبين المرابطين

- ‌الفصل الخامِسُالأمير تاشفين بن علي وغزواته وأعماله في شبه الجزيرة

- ‌الفصل السادِسشرق الأندلس

- ‌الكتابُ الثانيالمهْدي محمّد بن تومَرت والصِّراع بين المرابطين والموحّدين وقيام الدّولة الموحّدية بالمغرِب

- ‌الفصل الأوّلمحمد بن تومرت نشأته وظهوره

- ‌الفصل الثانيالصراع بين المرابطين والموحدين

- ‌الفصل الثالثعقيدة المهدي ابن تومرت وتعاليمه الدينية والسياسية

- ‌الفصل الرابعالصراع بين المرابطين والموحدين

- ‌الفصل الخامِسُنهاية الدولة المرابطية في المغرب

- ‌الفصل السادِسالدولة الموحدية في سبيل التوطد

- ‌الفصْل السّابعفتح المهدية وإجلاء الفرنج عن إفريقية

- ‌الكِتابُ الثالِثثورة القوى الوطنيّة بالأندلسْ وتغلّب الموحّدين على شبه الجزيرة

- ‌الفصل الأوّلالثورة في الأندلس وانهيار سلطان المرابطين

- ‌الفصل الثانيعبد المؤمن وشئون الأندلس وافتتاح إشبيلية وقرطبة وغرناطة وألمرية

- ‌الفصل الثالثالثورة في شرقي الأندلس وظهور محمد بن سعد بن مردنيش

- ‌الفصل الرابعأعوام عبد المؤمن الأخيرة وفاته وخلاله

- ‌الكتابُ الرابعنظم الدّولة المرابطيّة وخواصّ العهْد المرابطيّ

- ‌الفصل الأوّلطبيعة الحكم المرابطي وأوضاعه العسكرية والإدارية والمالية

- ‌الفصل الثانيْالحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطي

- ‌الفصل الثالثالحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطي

- ‌الكتابُ الخامِسالممَالك الإسْبانيّة النصْرانية خلال العصْر المُرابطي وأوائل العصْر الموحّدي

- ‌الفصْل الأوّلألفونسو المحارب وأورّاكا ملكة قشتالة وبداية عهد ألفونسو ريمونديس

- ‌الفصل الثانيالممالك الإسبانية النصرانية في عصر القيصر ألفونسو ريمونديس وقيام مملكة أراجون الكبرى

- ‌الفصل الثالثقيام مملكة البرتغال وبداية عصر ملكها ألفونسو هنريكيز

الفصل: ‌الفصل الرابعالصراع بين المرابطين والموحدين

‌الفصل الرابع

الصراع بين المرابطين والموحدين

المرحلة الثانية

خلافة عبد المؤمن. مختلف الروايات حول تاريخها وكيفية وقوعها. أهل عبد المؤمن ونسبته العربية. أساطير حول قدره وتخصيصه بالخلافة. مولده ونشأته. اتصاله بابن تومرت. قيادته للجيوش الموحدية. عزمه على اسئناف الجهاد. خروجه من تينملل في القوات الموحدية. استيلاؤه عل تازاجورت وقصبة تادلة وعلى درعة وحصن تاسغيموت. عودته إلى تينملل. محاولة ابن ملوية وإخمادها. إنسلاخ الفلاكي الأندلسي عن المرابطين وانضمامه للموحدين. اتخاذ عبد المؤمن ألقاب الخلافة. غزواته في الأعوام التالية. استيلاؤه على تارودانت عاصمة بلاد السوس. هزيمة المرابطين وفرارهم. غزوه لأحياء بني ييغز. دفاع بني ييغز ثم جنوحهم إلى الطاعة. خروج عبد المؤمن إلى الغزو ثانية. تحركه إلى أرض حاحة ونزوله في أحياء بني ملول. إغارته عليها وقتله لأهلها. مسيره إلى أجر فرجان. لقاؤه بالمرابطين بقيادة تاشفين بن علي والربرتير. هزيمة المرابطين. مبادرة جزولة لإنجاد المرابطين. هزيمتها ومقتل معظمها. ارتداد تاشفين إلى مراكش. رواية ابن عذارى عن هذه الموقعة. خروج تاشفين والربرتير ثانية لمحاربة الموحدين. اللقاء في تيزغور. هزيمة المرابطين وجرح الربرتير. الربرتير وأصله وظروف التحاقه بخدمة المرابطين. قيادته للمرابطين في معارك أراضي كدميوه والسوس. غزو عبد المؤمن لأرض السوس. تبادل النساء الأسرى بين الفريقين. حملة عبد المؤمن الكبرى. مسيره إلى الشمال الشرقي. غزوه لعدد من القواعد والقلاع المرابطية. اختراقه لأرض فازاز واحتلاله لأزرو. مسيره شمالا نحو فاس. وصول القوات المرابطية بقيادة تاشفين والربرتير. مقاساتها لأهوال البرد. انحدار الموحدين إلى منطقة الأطلس الوسطى. احتلالهم لوادي ملوية. مسيرهم نحو أرض غياثة ونزولهم في جبل عفرا. نزول المرابطين قبالهم في السهل. عصف الرياح والأمطار بالمحلتين. رواية أخرى لابن القطان عن الحملة الموحدية إلى غياثة. مسير الموحدين إلى أرض لكاي. مسير المرابطين بقيادة تاشفين والربرتير في أثرهم. التحام الربرتير في بعض قواته مع الموحدين في تازغدرا. مسير الموحدين نحو القصر الكبير. مسير المرابطين في أثرهم. وصول الموحدين إلى المزمة. قصة مقتل ابراهيم أخى عبد المؤمن. اقتحام الموحدين لثغر مليلة وسبي نسائه. مسيرهم إلى تاجرا. الحملات الموحدية تقتحم وهران وبني واثون وجبل مديونة. ارتداد المرابطين إلى فاس وبقاء الموحدين قرب تلمسان. وفاة أمير المسلمين علي بن يوسف. بلوغ الدولة المرابطية ذروتها في عهده. استخدامه للمرتزقة النصارى. إنشاؤه للفرقة الأجنبية بقيادة الربرتير. عزمه على إقالة ولده تاشفين. بعض الأحداث التي وقعت في أواخر عهده. صفاته وخلاله. حشده لأعلام الكتابة في بلاطه. أولاده. اختلال الدولة المرابطية، وانشقاقها في أواخر عهده. خروج بني ومانو على تاشفين بن علي. مسير الربرتير لعقابهم. إنجاد الموحدين لهم. اقتحام الموحدين لبني عبد الواد وبني بيلومي. هزيمتهم ومصرع معظم أصحابهم على يد المرابطين. مسير عبد المؤمن من تلمسان إلى أرض

ص: 218

بيلومي. مسير تاشفين إلى تلمسان. إرساله حملة قوية ومعها الربرتير إلى منداس. طريقة عبد المؤمن المبتكرة في لقاء خصومه. معركة منداس الكبرى. هزيمة المرابطين الساحقة وغنائم الموحدين الوفيرة. غزو النورمانيين لسبتة ورد الأسطول المرابطي لها. مصرع الربرتير في معركة بينه وبين الموحدين. رواية ابن عذارى عن ذلك. مغادرة النصارى للمعسكر المرابطي. استنفار تاشفين لسائر الحشود المرابطية. مقدم ولده تاشفين إليه وتوليته عهده. سير الموحدين ونزولهم بالصخرتين قرب تلمسان. نزول المرابطين قبالهم في سطفسيف. وصول الحشود المرابطية. اشتباك الفريقين وهزيمة المرابطين في معركة بظاهر الصخرتين. مسير تاشفين في قواته إلى وهران. إرساله ولده ابراهيم إلى مراكش. مقدم بعض سفن الأسطول المرابطي إلى مياه وهران. مسير عبد المؤمن في أثر تاشفين. فتك الموحدين بأحياء لمتونة في تلك الجهة. نزول الموحدين فوق جبل وهران. مغادرة معظم القادة المرابطين لتاشفين. اقتحام الموحدين للمحلة المرابطية. فرار تاشفين وخاصته إلى الحصن المطل على البحر. إضرام الموحدين النار حول الحصن. فرار تاشفين في الليل وسقوطه ومصرعه. روايات أخرى عن مصرع تاشفين. فتك الموحدين بالمرابطين. فرار الفلول المرابطية من تلمسان. دخول عبد المؤمن تاجررت وقتله لأهلها. دخوله تلمسان وقتله لأهلها. روايات أخرى عن دخوله تاجررت وتلمسان. نزوله بتلمسان وتنظيمه لشئون المنطقة. مسيره إلى فاس.

كانت خلافة عبد المؤمن بن علي، للمهدى ابن تومرت، في رياسة الموحدين، حدثاً ذا شأن، وكانت فاتحة عهد جديد في تاريخ الدولة الموحدية، هو عهد التوطد والنماء.

وتختلف الرواية أيما اختلاف في ظروف تولية عبد المؤمن. فهناك القول ْبأن بيعة عبد المؤمن، قد تمت على أثر وفاة، المهدي أو بعدها بأيام قلائل، وأن المهدي هو الذي رشحه لخلافته قبيل وفاته وهذه هي رواية ابن القطان، إذ يقول لنا إنه لما توفي المهدي، كتم أصحابه وأهل الدار، وهم خدمته، وأخته شقيقته، موته، وبايعوا الإمام أمير المؤمنين (يريد عبد المؤمن) في الحين " بيعة سر"، ثم يقول في موضع آخر، إن عبد المؤمن بويع على أثر موت الإمام المهدي عام أربعة وعشرين وخمسمائة " بيعة خاصة ". وهناك قول آخر، بأنه لما توفي المهدي كتم أصحابه موته بعض الوقت، حتى يتفقوا على من يتولى الخلافة من بعده.

ويقول لنا ابن صاحب الصلاة مؤرخ الدولة الموحدية وكذلك ابن القطان، إن هذه المدة استطالت الى عام سبعة وعشرين وخمسمائة، أعني مدى ثلاثة أعوام، بويع من بعدها عبد المؤمن بيعته العامة، وذلك حين أعلن موت الإمام المهدي.

ثم يقص علينا ابن صاحب الصلاة بعد ذلك قصة الحيلة، التي دبرها عبد المؤمن ليقنع الموحدين ببيعته، وهي تتلخص في قصة الطائر والشبل، اللذين دربهما خفية، خلال هذه المدة، الطائر على أن يدعو له بالخلافة، والشبل على أن

ص: 219

يجلس بين يديه وادعاً هادئاً. ثم دعوته بعد ذلك الأشياخ الموحدين إلى مجلسه، واستشارتهم في أمر من يتولى الخلافة، ودعاء الطائر له بنطقه " العز والتمكين للخليفة عبد المؤمن أمير المؤمنين " ومثول الشبل بين يديه، رابضاً مطيعاً لإشارته، وتأثر الحاضرين بذلك ومبايعتهم له (1).

بيد أنه بغض النظر عما يطبع هذه الرواية من مبالغة، وجنوح إلى الأسطورة، فإنه توجد لدينا أكثر من رواية وثيقة تؤيد القول، بأن بيعة عبد المؤمن، قد تمت عقب وفاة المهدي، ووفقاً لسابق إشارته. من ذلك ما ذكره أبو بكر الصنهاجي المكنى بالبيذق، وهو كما تقدم من أصحاب المهدي الأوائل، من أنه عقب وفاة المهدي في يوم الأربعاء أو يوم الخميس الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة 524 هـ، بويع الخليفة أعني عبد المؤمن في يوم السبت الأقرب من هذا التاريخ (2). وما ذكره في موضع آخر من أنه عقب وفاة المهدي، قام عبد المؤمن بإعلان ذلك النبأ للناس، وعندئذ تقدم إليه أربعة من الصحب، اثنان من الجماعة، وهما عمر بن عبد الله الصنهاجي المعروف بعمر أصناك، وأبو إبراهيم إسماعيل، واثنان من أهل خمسين هما عبد الرحمن بن زكو، ومحمد ابن محمد، وبايعوه على ما بايعوا عليه المهدي، ثم تبعهم سائر الناس حتى دخل الليل، واستمرت البيعة ثلاثة أيام متواليات (3).

ويأخذ صاحب " الحلل الموشية " بمجمل هذه الراوية، فيقول لنا إنه " لما توفي المهدي، تفاوض بقية أصحابه وهم أربعة، بمن يكون إمامهم بعده، فوقع اتفاقهم على عبد المؤمن، لما كانوا يشهدونه من تعظيم المهدي له، بمحضر أصحابه وجميع الموحدين، ويقبل عليه، ويستبشر بكلامه، فاتفقوا عليه وقدموه "(4).

وكذلك يذكر لنا صاحب روض القرطاس أن المهدي بويع يوم الخميس الربع عشر من رمضان سنة 524 هـ، ويصف هذه البيعة، بالبيعة الخاصة التي بايعه فيها عشرة من أصحاب المهدي. وأما البيعة العامة فقد وقعت وفقاً لقوله في

(1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره لوحة 45 أو 66 أ). وراجع رواية ابن صاحب الصلاة في روض القرطاس ص 119 و 120.

(2)

كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 83.

(3)

كتاب أخبار المهدي بن تومرت ص 85، والمعجب ص 108، ويورد المراكشي اسمين آخرين مع عمر أصناك، هما عمر بن مرزاك، وعبد الله بن سليمان.

(4)

الحلل الموشية ص 107.

ص: 220

20 من ربيع أول سنة 526 هـ، بعد وفاة المهدي بنحو عامين بجامع تينملّل (1).

وفضلا عن ذلك، فإن لدينا رواية المراكشي، وهو أيضاً من مؤرخي الموحدين، وهي رواية مفصلة واضحة، خلاصتها أن ابن تومرت استدعى قبل موته بأيام يسيرة، أصحابه من الجماعة وأهل خمسين، وهم من قبائل متفرقة لا يجمعهم إلا اسم المصامدة، فلما حضروا بين يديه، نهض متكئاً، وخطب فيهم فذكرهم بما كان عليه السلف الصالح، من الثبات في الدين، والعزيمة في الأمر، وما حدث من بعدهم من ظهور الفتنة، التي أضحى فيها العالم متجاهلا مداهناً، يقصد بعلمه الملوك، ويجتلب الدنيا، وكيف أن الله سبحانه قد خصهم بتأييده، وحقيقة توحيده، وهداهم بعد الضلالة؛ ثم حذرهم من الفرقة واختلاف الكلمة، وأن يكونوا على عدوهم يداً واحدة، ثم أعلن لهم اختياره، عبد المؤمن لخلافته قائلا في تزكيته " وهذا بعد أن بلوناه في جميع أحواله، من ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه، واختبرنا سريرته وعلانيته، فرأيناه في ذلك كله، ثبتاً في دينه، متبصراً في أمره ". وأنه على أثر ذلك قام القوم بمبايعة عبد المؤمن. ودعا لهم ابن تومرت، ومسح وجوههم وصدورهم. ثم توفي ابن تومرت بعد عهده بيسير، واجتمع أمر المصامدة على عبد المؤمن (2).

وهكذا يبدو أن عبد المؤمن، تلقى بيعته عقب وفاة المهدي، وربما قبيل وفاته، وفقاً لرواية المراكشي، وليس من المستبعد أن يكون عبد المؤمن وأصحابه قد كتموا موت المهدي حيناً، حتى يجتنب الخلاف، ويستوثق الأمر؛ ذلك أنه لما توفي المهدي، أخذ كل زعيم، وكل قبيلة، تتطلع إلى اجتناء تراث المهدي، برياسة الموحدين، واشتد التنافس بينهم في ذلك، فخشي الجماعة والخمسون، أن يفسد الأمر، وأن تضطرم الفتنة، فاجتمعوا وتفاوضوا، ووقع اختيارهم على عبد المؤمن. وكان عبد المؤمن في الواقع، منذ البداية أرجح القوم مكانة، إذ كان أوثقهم صلة بالمهدي، وأشدهم اختصاصاً به، واستئثاراً بحبه وثقته، وكان يُنسب للمهدي قوله فيه وإنشاده كلما رآه:

تكاملت فيك أوصاف خصصت بها

فكلنا بك مسرور ومغتبط

السنُّ ضاحكة والكف مانحة

والصدر متسع والوجه منبسط (3).

(1) روض القرطاس ص 121.

(2)

المعجب ص 108 و 109.

(3)

المعجب ص 110، ويقول ابن خلكان إن هذين البيتين ينسبان إلى أبى الشيص الخزاعي الشاعر المشهور (وفيات الأعيان ج 2 ص 391).

ص: 221

وفضلا عن ذلك كله فقد كان عبد المؤمن، غريباً بأصله وقبيلته عن المصامدة، ولم يكن له بينهم قبيل ولا طائفة، فكان ذلك مما شجع القوم على اختياره، اجتناباً لكل منافسة وخلاف (1).

أما عن أصل عبد المؤمن ونسبه، فإن الرواية تختلف أيضاً، فهو وفقاً لرواية أبى بكر الصنهاجي، عبد المؤمن بن علي بن عَلْوي بن يعلي بن علي بن حسن ابن نصر بن الأمير بن نصر بن مقاتل بن كومي بن عون الله بن ورجايغ بن ينفر ابن مراو بن مطماط بن صطفور بن نفور بن رجيك بن يحيى بن هزرح بن قيس ابن عيلان. ثم يقول لنا أبو بكر معلقاً على هذا النسب، إنه صحيح حتى مقاتل ابن كومي بن عون الله، وأما ما ورد بعد ذلك من الأسماء إلى قيس بن عيلان ففيها اختلاف وتصحيف وتقديم وتأخير (2).

وينتمي عبد المؤمن إلى قبيلة كومية، وهي بطن من بطون زناتة، وذلك سواء من أبيه أو أمه، إذ هي كومية أيضاً، فهو بذلك بربري الأصل، وحسبما تدلى بذلك أيضاً نسبته. ولكن عبد المؤمن هو خليفة المهدي، وهو أمير المؤمنين، وإذاً فلا بد أن يكون له - حسبما حدث في شأن المهدي - نسبة عربية أولا، ثم لابد أن تكون هذه النسبة متصلة بآل البيت. ومن ثم فإن الرواية تقول لنا إنه من ولد سليم بن منصور بن قيس بن عيلان بن مضر. وأما كيف تحولت نسبته العربية إلى النسبة البربرية، فهو أن جَدًّا من أجداده العرب، نزل بساحل تلمسان، فارًّا من بعض الفتن بالأندلس، وجاور بعض أحياء مطماطة، إخوة زناتة، فنسب بذلك إليهم بالجوار والحلف. وفي رواية أخرى أن نسبته ترجع مباشرة إلى آل البيت بانتسابه إلى جدته كنونة بنت إدريس بن إدريس بن عبد الله بن القاسم بن محمد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وإلى كنونة هذه أيضاً يرجع نسبة أمه تعلو بنت عطية، فهو إذن، وفقاً لهذه النسبة سليل آل البيت عن طريق أبيه وأمه (3). وقد كان عبد المؤمن نفسه، حسبما يروى لنا المراكشي، ينكر نسبته البربرية، ويقول إذا ذُكرت كمية (كومية) " لست منهم وإنما نحن لقيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. ولكُمية علينا حق الولادة بينهم،

(1) روض القرطاس ص 119، وابن خلدون ج 6 ص 229.

(2)

كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 21 و 22.

(3)

المعجب ص 109، وروض القرطاس ص 119.

ص: 222

والمنشأ فيهم، وهم الأخوال ". ويزيد المراكشي على ذلك، أنه أدرك من أولاد عبد المؤمن وأحفاده، من ينتسبون لقيس عيلان بن مضر (1).

وكما نُسجت حول ابن تومرت ودعوته، واختيار القدر له ليكون مهدي آخر الزمان، هالة من الأساطير، لتؤكد قدسيته وصدق رسالته، فكذلك نسجت مثل هذه الهالة حول عبد المؤمن وخلافته للمهدي، لتؤكد أن القدر قد اختاره، كما اختار المهدي منذ الأزل، ليقوم بهذه الرسالة. وقد أورد لنا ابن القطان بعض ما ذكره أبو القاسم المؤمن في كتابه المسمى " فضائل الإمام المهدي "، من أقوال وأمارات للتدليل على صدق رسالته. ومن ذلك أنه جاء في كتاب أبى عبد الله الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين، الحض على الإيمان بالمهدي وطائفته، وذكر عبد المؤمن بن علي القيسي، وأنه هو الذي وعد بالنصر والتأييد والفتح.

ويقول أبو القاسم، ان ذلك قد ورد أيضاً في كتاب يحيى بن زيد، وفي كتاب القاسم الأكبر، وفيه جميع ما ذكر من فضائل الإمام المهدي، وعلاماته ومواضعه ورجاله، والخليفة الآخذ عنه. وقد شرح ذلك كله صاحب كتاب " النصر" إدريس بن إدريس، وأورد لتأييده أحاديث عديدة.

ثم ينقل إلينا ابن القطان بعد ذلك قول ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد في أرجوزة نظمها بعد ذكر " المهدي " ووفاته (2)، حيث يقول:

ويرجع الأمر إلى عدنان

لماجد قد خص من عيلان

رب الفتوح صاحب الملاحم

وقامع الأعراب والأعاجم

وقول عبد الملك بن حبيب:

صاحب المهدي يأتي بعده

خيرة الأعراب طرا والعجم

أقبل الملك به من نعته

أشيب اللحية ليس بالهرم

وأنه قد ورد ذلك أيضاً في بعض الأراجيز القديمة، وفيها شرح صفاته وأفعاله وفتوحه. ويزيد أبو القاسم المؤمن على ذلك كله أنه رأى بالقدس في رباط للنصارى اسم المهدي منقوشاً على رخامة بيضاء، كما رأى اسم عبد المؤمن خليفته، وأنه أي

(1) المراكشي في المعجب ص 109.

(2)

المقصود هنا " المهدي " بصفة عامة، وليس المهدي بن تومرت، لأن ابن عبد ربه قد عاش قبل المهدي ابن تومرت بنحو قرنين.

ص: 223

أبو القاسم ذكر ذلك للإمام المهدي، فأمر بكتمانه حتى يحين الوقت الذي يكون فيه ظهوره (1).

وهكذا نرى كُتاب الدولة الموحدية ومؤرخيها يجدون في تقصي الأساطير، ونسجها حول إمامة المهدي ابن تومرت، وحول خلافة عبد المؤمن، حتى تتخذ الدعوة الموحدية، ومن بعدها الخلافة الموحدية، مكانتها من الرسوخ والقدسية.

وكان مولد عبد المؤمن في آخر سنة 487 هـ (أول سنة 1095 م) بموضع يعرف بتاجرا على مقربة من مرسى هنين شمالي تلمسان، وقيل إنه ولد سنة 490 هـ، أو سنة 500 هـ (2). ويبدو سقم هذه الرواية الأخيرة، إذا ذكرنا أن عبد المؤمن قد لقي المهدي ابن تومرت عقب عوده من المشرق إلى المغرب في سنة 512 هـ، وكان يومئذ شاباً، ولم يكن غلاماً حدثاً. وكان والد عبد المؤمن فخّاراً يصنع الآنية من الطين، وهي المعروفة بالنوابيخ، وكان بالرغم من ضعته رجلا عاقلا محترماً من قومه (3). ويذكر لنا البيذق أن والد عبد المؤمن كان بالعكس قاضياً في زمانه وفي قومه (4). ونشأ عبد المؤمن منذ البداية محباً للقراءة والدرس، يلازم المساجد لتلاوة القرآن، ولما بلغ نحو العشرين من عمره، اعتزم الرحلة إلى المشرق ليتابع الدرس، وقد رأينا فيما تقدم كيف التقى هو وعمه بملالة على مقربة من بجاية بمحمد بن تومرت، وكان يومئذ يقود حملته المعروفة ضد المنكر، وكيف آنس فيه ابن تومرت نجابة وذكاء، وشعر أنه سوف يغدو أعظم معاونيه، وكيف استطاع أن يقنعه بالبقاء إلى جانبه يطلب العلم على يديه، ويعاونه فيما هو قائم به " من إماتة المنكر، وإحياء العلم، وإخماد البدع ". كان ذلك في أوائل سنة 512 هـ. وقد بقي عبد المؤمن من ذلك التاريخ إلى جانب ابن تومرت، ولازمه واختص به، يؤازره في دعوته، ويشاطره مصيره أينما حل، حتى كان من أمر ابن تومرت ما سبق ذكره من اشتداد دعوته الدينية ضد المرابطين، ثم التجاؤه وصحبه إلى تينملّل، وإعلانه أنه هو المهدي المنتظر، ومبايعة أصحابه وفي مقدمتهم عبد المؤمن له على ذلك.

(1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف الذكر لوحة 53 ب و 54 أ).

(2)

الأولى هي رواية المراكشي (ص 109)، والثانية والثالثة أوردهما ابن خلكان في الوفيات (ج 2 ص 391).

(3)

ابن خلكان ج 2 ص 391، وروض القرطاس ص 119.

(4)

كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 27.

ص: 224

وقد رأينا فيما تقدم. كيف كان عبد المؤمن، إلى جانب أبى محمد البشير، أعظم قادة الموحدين. وكيف أنه عقب هزيمة البحيرة الساحقة (أوائل سنة 524 هـ) ومقتل البشير، استطاع أن يجمع فلول الموحدين وأن ينقذها من الفناء المحقق، وأن يقودها بالرغم من مطاردة المرابطين إلى تينملل، وكيف أن المهدي، وقد كان في مرض موته، حينما أبلغ أمر الهزيمة، سأل عن عبد المؤمن، ولما علم بأنه سالم، قال لأصحابه " الحمد لله قد بقي أمركم ".

- 1 -

لم تخب فراسة المهدي في تلميذه وصاحبه الأثير، وخليفته من بعده، فقد شاءت العناية الإلهية أن يغدو عبد المؤمن مؤسس دولة الموحدين الحقيقي، وأن يقود الموحدين إلى ميادين النصر الباهر، وأن يحقق لهم سلطان الإمبراطورية الموحدية الكبرى في المغرب والأندلس.

قضى عبد المؤمن بعد توليه الخلافة زهاء عام ونصف، ينظم شئون الموحدين ويؤلف قلوبهم، ويحشد جموعهم، ويستنفرهم إلى الجهاد. ولما كملت أهباته، اعتزم أن يستأنف الجهاد لمقاتلة أعداء الدولة الموحدية - المرابطين - وافتتاح البلاد من أيديهم، وإرغامهم على الطاعة، واستقر رأى الموحدين بعد البحث والتشاور على أن تكون أولى غزاتهم لقصبة تادلة في وادي درعة (1). فخرج عبد المؤمن من تينملّل في شهر ربيع الأول (وقيل في شوال) سنة 526 هـ (يناير سنة 1132 م) في جيش ضخم من الموحدين، قوامه ثلاثون ألف مقاتل، وسار أولا إلى قلعة تازاجورت، وكانت تدافع عنها حامية مرابطية بقيادة يدِّر بن ولجوط، فاقتحمها واستولى عليها، وسبى أهلها (2). وفي رواية أخرى أن قائد تازاجورت المرابطي كان يدعى يحيى بن مريم، وأن عبد المؤمن قتله وقتل معه نحو عشرين ألفاً من المجسمين، وأسر زوجته ميمونة بنت ينتان بن عمر، وصحبها معه إلى الجبل، حتى افتديت فيما بعد بمن كان من أسرى الموحدين في تلمسان (3) وسار عبد المؤمن

(1) إن تادلة التي يذكرها بهذه المناسبة صاحب الحلل الموشية (ص 107)، وروض القرطاس (ص 121)، وابن خلدون (ج 6 ص 229) ليست هي بلدة تادلا الواقعة شمال شرقي مراكش، ولكنها هي المحلة الحصينة الواقعة شرقي وادي درعة، وذلك حسبما يستدل من سير الحملة الموحدية والمواقع التي استولت عليها، ومنها مدينة درعة.

(2)

كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 85.

(3)

هذه رواية ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره لوحة 70 أ).

ص: 225

بعد ذلك إلى درعة، واستولى عليها وعلى أحوازها، ثم غزا سائر محلات تلك المنطقة وعاد إلى تينملّل.

وافتتح الموحدون في هذا العام حصن تاسغيموت، وهو حصن منيع يقع فوق الجبل، وبه حامية من هزرجة، فتواطأ معهم الموحدون على فتحه، واستطاعوا أن يدخلوه ليلا، وقتلوا واليه المرابطي أبا بكر بن وارصول ومن معه من المرابطين، وحملوا بابه الحديدي الضخم، وركب فيما بعد على سور تينملل.

وكذلك افتتح الموحدون في نفس العام حصن جلاوة، افتتحه الشيخ أبو حفص عمر وجماعة من وجوه الموحدين، ودخلوه عنوة وقتلوا كل من فيه. وكان أهل جلاوة هم الذين جرحوا المهدي في إحدى غزواته، وقام الخليفة من ناحيته بافتتاح حصن هزرجة وأحرقه، وقتل معظم أهله. ثم دخل بلدة جشجال، وأحرقها أيضاً، وسار منها إلى أرض غجدامة، وافتتح بلدة أجلاحال.

ودخل في هذا العام في طاعة الموحدين، بعض بطون من هزرجة وهسكورة، ثم ارتدوا وعادوا إلى الخروج والعصيان (1).

ولما عاد عبد المؤمن إلى تينملل، كانت قد وقعت خلال غيبته في تلك الغزوة حادثة خطيرة، كادت تحدث صدعاً في صفوف الموحدين لو لم تخمد في المهد، وذلك أن أبا عبد الله بن يَعْلي الزناتي، الشهير بابن مَلْوية، وهو أحد أصحاب المهدي العشرة، وكان من أشد المعارضين لبيعة عبد المؤمن، انتهز فرصة ابتعاد عبد المؤمن بالجيش، وسار إلى مراكش، وتفاهم مع أمير المسلمين علي بن يوسف على مهاجمة تينملّل، وسحق حكومة الموحدين، فعهد إليه علي بن يوسف بقوة من المرابطين، فسار بها إلى تاماذاجوست مجمع قبيلة كنفيسة على مقربة من تينملّل، لكي يضمها إليه، ويسير بقواته المجتمعة لتدمير العاصمة الموحدية، وكان بتينملل عبد الله بن وسيدّرن أحد زعماء كنفيسة، فجمعهم فأعلنوا تمسكهم بالعهد الذي قطعوه للمهدي، ونعوا على ابن ملوية تلك الخيانة، وفي الحال قام واحد من أهل خمسين هو أبو سعيد يخلف بن الحسن آتيكي ومعه غلامه، وسار إلى محلة ابن ملوية في أسفل الجبل، وقتلاه، وحملا جثته إلى تينملل وصلبت بها، وأخمدت المحاولة في المهد. ولما عاد عبد المؤمن شكر لكنفيسة إخلاصها، وقسم الغنائم. ثم هبط

(1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف الذكر لوحة 71 أ).

ص: 226

ثانية إلى الوادي، واستولى على أراضي صنهاجة القريبة (أصناجان) وولى عليها علي بن ناصر، وهو أحد زعمائها ومن أهل خمسين (1).

ويضع ابن القطان في أخبار هذا العام - سنة 526 هـ - حادثاً من نوع خاص، هو انضمام الفلاّكي الأندلسي، وهو من قادة المرابطين، إلى الموحدين. وكان الفلاّكي حسبما تقدم أندلسي من أهل إشبيلية، وكان في بداية أمره شقياً وقاطع طريق، يتسم بالجرأة والشجاعة، ثم تاب وسلك سبيل الاستقامة، فعفا عنه والي إشبيلية، وقدمه على الرماة والرجّالة. ونمى خبره إلى علي بن يوسف، فاستقدمه إلى مراكش، وقدّمه على فرقة من الجند المرابطين، وعهد إليه بحراسة مخارج جبل دَرَن التي يهبط منها الموحدون إلى السهل لكي يعيق سبيلهم. ثم وجهه إلى السوس لمكافحة الموحدين، ووالي السوس حينئذ وانودين بن سير، فجد الفلاّكي في محاربة الموحدين ومكافحتهم. ثم فسد ما بينه وبين علي بن يوسف، فانضم إلى الموحدين مع طائفة من جنده، وأخذ يغير على حصون لمتونة، ويفعل بها مثلما كان يفعل من قبل بقواعد الموحدين، وأخذ يغير على جهات السوس وأغمات. واستمر في خدمة الموحدين مدى أعوام، ثم ارتد بعد ذلك، وفقاً لقول ابن القطان (2). بيد أنه لا يذكر لنا ماذا كان مصيره بعد هذا الارتداد. ومن جهة أخرى، فإن بعض الروايات تضع انضمام الفلاكي إلى الموحدين في تاريخ لاحق - في سنة 535 هـ - أي بعد التاريخ الذي يقدمه لنا ابن القطان بنحو تسعة أعوام (3).

وفي العام التالي، أعني في سنة 527 هـ أعلنت بيعة عبد المؤمن الخاصة، وعقدت بيعته العامة، وذلك إذا أخذنا برواية كتمان وفاة المهدي مدلا ثلاثة أعوام، وهي حسبما تقدم رواية ابن صاحب الصلاة وابن القطان. ويضع ابن القطان هذا الحادث سهواً في أخبار سنة تسع وعشرين وخمسمائة، ومن الواجب لكي يكون متفقاً مع سابق روايته أن تكون سنة سبع وعشرين. ويقول لنا إنه في هذه السنة،

(1) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 85، هذا ويروي لنا ابن القطان أن ابن ملوية قتل في سنة 518 هـ في مناسبة سابقة، خلاصتها أنه حينما قام المهدي بتدبير اغتيال قبيلة هزميرة وسبي نسائهم، ونهب أراضيهم، اعترض ابن ملوية، ونعى عليه هذا التصرف الدموي، وأنه لا يتفق مع ما يدعيه من العصمة، فأمر المهدي بقتله فقتل وصلب على الفور (نظم الجمان المخطوط لوحة 47 ب).

(2)

ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره لوحة 39 ب و 75 أ).

(3)

هذه رواية صاحب الحلل الموشية (ص 83)، وربما كان هذا الانضمام المتأخر من جانب الفلاكي إلى الموحدين، هو انضمامه الثاني لا الأول.

ص: 227

كان الإعلان بموت المهدي والإعلان ببيعة الخليفة أمير المؤمنين، ثم يعلق على ذلك بعبارات رنانة يقول فيها:" فرفع الغطاء، وسطع الضياء، وبهرت الشمس ما دونها من السحاب، وتبلج الحق واضحاً بغير حجاب "، وبايعه الصحب على ما بايعوا عليه " الإمام المهدي"، واتصلت البيعة ثلاثة أيام " فأشرقت الأرض بنور إمامته، ونال أهلها عظيم حظوته وكرامته ". وعلى أثر ذلك اتخذ عبد المؤمن لقب " أمير المؤمنين "، والظاهر أنه لم يكن يلقب به قبل ذلك (1).

ويوجد شىء من التناقض والغموض حول أعمال عبد المؤمن وحركاته في بضعة الأعوام التالية، من سنة 528 إلى سنة 532 هـ. ويقدم إلينا ابن القطان بعض التفاصيل عن حوادث هذه الفترة، فيقول لنا في أخبار سنة 528 هـ، إن الموحدين اشتبكوا مع المرابطين بقيادة ابراهيم بن يوسف المعروف بابن تاعياشت في معركة هزم فيها المرابطون وقتل قائدهم. ثم ينقل إلينا عن ابن الراعي، خبر فتح الموحدين لمدينة تارودانت. فيقول إنه لما استولى الموحدون على سائر بلاد السوس، ارتد المرابطون منهزمين إلى تيونوين، وعندئذ سار " العلج الأعرج "(والغالب أنه الربرتير الذي سوف يأتي ذكره) من أجرفرجان، فاقتحم طريق ايغيران في غفلة من الموحدين، وسبقهم بمن معه، فأتبعهم الموحدون حتى وصلوا إلى بلاد السوس. وكان العلج في نحو أربعمائة فارس، فلما وصل تيونوين، وعلم بمقدمه من كان قد فر إلى الأطراف من أهل السوس، هرعوا إلى الالتفاف حوله.

ونقتبس هنا وصف ما تلا من أدوار المعركة من رسالة كتب بها الخليفة عبد المؤمن ونقلها إلينا ابن الراعي. وفيها يقول الخليفة: " فميزنا عسكراً مباركاً من خيل ورجل، فخرجوا إلى ناحية تارودانت، وبعثنا تلك الليلة سرية إلى أسفل السوس، فقتلوا وغنموا بقراً وغنماً وعبيداً، وسبو ذراريهم، ثم بعثنا سرية أخرى في الليلة التالية إلى بقية تلك الناحية، أعني أسفل السوس فقتلوا مقتلة أكثر من الأولى، وغنموا أكثر مما غنم أصحابهم.

"وأما العسكر فقصدوا إلى تارودانت ودخلوها، وفر من كان بها من المرابطين، وقتل الموحدون من وجدوا بها، واستقر الموحدون بالمدينة، وأطلقوا النار في القصب، فارتفعت النار في الهواء. كل ذلك والمرابطون في تيونوين يشهدون

(1) نظم الجمان (المخطوط السابق لوحة 74 ب و 75 أ) وراجع روض القرطاس عن ابن صاحب الصلاة ص 122.

ص: 228

النيران تحرق أوطانهم. ولما أيقن البربر وغيرهم بعجز العلج، انكسرت قلوبهم، وحقت الهزيمة عليهم ".

وفي العام التالي سنة 529 هـ، سار عبد المؤمن لغزو بني ييغز، وذلك لأنهم كانوا قد قتلوا أبا محمد عبد العزيز الغيغائي من أصحاب الإمام المهدي، فلما نزل الخليفة على أحيائهم، وضعوا الأحطاب على ظهور الجمال، وأضرموا فيها النار، ودفعوها نحو محلة الموحدين، فوقع الهرج في المحلة الموحدية، وسار بنو ييغز في أثر جمالهم وهاجموا الموحدين، ونشبت بين الفريقين معركة عنيفة. وحاول رجلان من بني ييغز أن ينفذا إلى خيمة عبد المؤمن وأن يقتلاه، ولكن عبد المؤمن كان قد غادر خباءه تحوطاً وحذراً، فأخذ الرجلان وقتلا. وقضى عبد المؤمن في تلك الغزوة أربعين يوماً ثم قفل عائداً إلى تينملل. ويضيف ابن القطان إلى ما تقدم نقلا عن ابن صاحب الصلاة، أن عبد المؤمن كان قد وجه إلى بني ييغز بعض اخوانهم المجاورين لهم، لينصحوهم وينذروهم، وأن مساعيه في ذلك السبيل قد كللت بالنجاح، إذ انقاد بنو ييغيز وأذعنوا، ودخلوا في طاعة الموحدين. وهذا يفسر لنا النتيجة السلبية التي انتهت إليها معركة بني ييغز ضد الموحدين (1).

ويحدثنا اليسع عن موقعة نشبت بين المرابطين والموحدين في سنة 530 هـ، فيقول إن عبد المؤمن سار في قواته إلى أجرفرجان ومصكروطن، فخرج إليه سير بن علي بن يوسف، ولي العهد يومئذ، في القوات المرابطية. ولبث عبد المؤمن حيناً معتصماً بالجبال يطاول العدو، ثم التقى الفريقان في مصكروطن. فهزم المرابطون، واستولى الموحدون على مقادير عظيمة من أسلابهم، من المال والسلاح (2).

ومن جهة أخرى فإن البيذق أبا بكر الصنهاجي، مؤرخ الموحدين المعاصر، فيما يسطره لنا من غزوات عبد المؤمن يؤكد لنا عقب كلامه عن غزوة صنهاجة، أن الخليفة التقى مع الإبرتير وتاشفين، وفتح الله عليه في محاربتهم في البداية.

وهذه أول مرة يلتقي فيها عبد المؤمن بجيش مرابطي يقوده الأمير تاشفين بن علي.

وقد ذكرنا فيما تقدم من أخبار تاشفين، أنه لبث والياً على الأندلس، وقائداً للجيوش المرابطية بها حتى سنة 531 هـ (أو سنة 532 هـ)، وأنه عبر في أواخر

(1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره).

(2)

ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط لوحة 78 ب).

ص: 229

سنة 532 هـ إلى المغرب استجابة لدعوة أبيه، وذلك حينما تفاقمت هجمات الموحدين، وكثرت هزائم المرابطين. وإذن فلابد أن يكون هذا اللقاء الأول بين الموحدين، وبين الجيوش المرابطية بقيادة تاشفين قد وقع على الأقل في أوائل سنة 533 هـ. والواقع أن ابن القطان يقص علينا خبر موقعة حدثت في سنة 533 هـ بين المرابطين بقيادة الأمير تاشفين بن علي والربرتير وبين الموحدين، فيقول إن الخليفة عبد المؤمن تحرك في هذا العام من تينملل، ونزل في بلد بني ملول من منانة في أراضي حاحة، ونزل تاشفين بقواته في تاحكوط من حاحة، وكان علي بن يوسف قد قتل أعيان قبيلة منانة، فدخلت في طاعة الموحدين، ثم ارتدت غير مرة، فأقام عبد المؤمن في بني ملول شهراً وثلاثة أيام، وهو يغير على تلك الأحياء، ويقتلهم قتلا ذريعاً. ثم استولى على سائر أسلابهم من الحلي والثياب والأقوات وغيرها؛ وسار بعد ذلك إلى أحياء بني واجدزان، ثم إلى أحياء بني سوار من منانة الجبل، وقصد بعد ذلك إلى أجرفرجان، فتبعه تاشفين في قواته، وهنالك نشبت بين الفريقين معركة شديدة، هزم فيها المرابطون وقتل منهم عدد جم. ثم تجدد القتال بعد ذلك، فانهزم تاشفين مرة أخرى، وارتد إلى جهة الميزتابوت، واستولى الموحدون على أسلابه من السلاح والثياب والدواب والعبيد.

وهرعت قوات جزولة من مراكش إلى مكان الموقعة لنجدة المرابطين، وطمعت في أن تنتزع الغنائم من الموحدين، فرتب لها عبد المؤمن الكمائن في مضايق الجبل، وقدم الغنائم بين يديه اجتذاباً لها، وخرجت جزولة، وهاجمت ساقة الغنيمة وقتلت بعض حراسها، فخرجت إليها الكمائن الموحدية وأمعنت فيها قتلا حتى أفنتها، واستولت على سائر أسلحتها ودوابها، وكانت جزولة تضم آلافاً من الفرسان والرجالة، وارتد عبد المؤمن صوب بلاد جنفيسة ظافراً.

وجاء في رواية أخرى أن عبد المؤمن أراد أن يبني حائطاً في أضيق موضع من الجبل ليحول دون انصراف المرابطين حتى يهلكوا في تلك الهضاب، فأحس تاشفين بمشروعه، وارتد بقواته صوب مراكش، وتركته جزولة عند أحياء رَجراجة، فتصدت لها قوة من الموحدين، بقيادة الشيخ أبى حفص أصناج، ففتكت بها، واستاقت من خيلها إلى تينملل ثلاثة آلاف قسمت على الموحدين، ثم عادت جزولة بعد ذلك، فمالت إلى التوحيد، ودخلت في طاعة الموحدين (1).

(1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف الذكر لوحة 81 ب إلى 82 ب).

ص: 230

ويتفق ابن عذارى مع ابن القطان في حدوث الموقعة في سنة 533 هـ، ولكنه يقدمها إلينا في صورة أخرى، فيقول إن القوات المرابطية كانت بقيادة الأمير تاشفين، ومنهم جملة وافرة من قبائل جزولة، وإن اللقاء وقع بين المرابطين وبين عبد المؤمن في موضع ببني ملول، وان موقعة عظيمة نشبت بين الفريقين، في مفاوز وجبال ضيقة، استمرت شهراً وثلاثة أيام، ثم انجلت عن هزيمة تاشفين.

فطارده عبد المؤمن حتى موضع يسمى إيمران تانورت. ويزيد ابن عذارى على ذلك، بأن أبناء جزولة رغبوا في الرجوع إلى بلادهم، فأذن لهم تاشفين، ونصحهم ألا يسلكوا طريق الجبال الوعرة، حتى لا يتعرضوا لمهاجمة الموحدين، ولكن جزولة لم يصغوا إلى نصحه. وكان عبد المؤمن قد رتب كمائنه في هذا الطريق الجبلي، فما كادت جزولة تسلك هذا الطريق، حتى انقض عليها الموحدون وفتكوا بهم فتكاً ذريعاً، واستولوا على نسائهم وخيلهم وسلاحهم، واستاقوهم إلى تينملل. ثم رغب أشياخ جزولة بعد ذلك في مسالمة الموحدين، والدخول في طاعتهم، فأصدر لهم عبد المؤمن أماناً وظهيراً بذلك (1).

وفي سنة 534 هـ خرج تاشفين بجيش ضخم من لمتونة والحشم وزناتة، لقتال الموحدين ومعه فرقة من النصارى المرتزقة بقيادة " الإبرتير "، واستمرت المعارك بينه وبين الموحدين زهاء شهرين. ووقعت المعركة الأخيرة بينهما في شوال من هذا العام، وقتل فيها كثير من الفريقين. وعلى أثر ذلك ارتد تاشفين إلى مراكش وعاد الموحدون إلى تينملل (2).

ويبدو من أقوال البيذق أنه قد وقعت في ذلك الوقت معارك أخرى، بين المرابطين والموحدين، بأرض " حاحة " غربي تينملل، وشمالي السوس الأدنى بموضع يسميه البيذق " تيزغور "، وأن الموحدين انتصروا أولا وأحرزوا بعض الغنائم، ولكن المرابطين استطاعوا أن يحاصروا الموحدين بعد ذلك بهذا الموضع زهاء ستين يوماً، حتى استنفد الموحدون غنائمهم. ثم نشبت بعد ذلك بين الفريقين موقعة جديدة، هزم فيها الموحدون أولا، ثم انقلبت الآية ووقعت الهزيمة على المرابطين. وعلى أثر ذلك ارتد تاشفين في قواته إلى مراكش، ومعه

(1) ابن عذارى في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة التي سبق ذكرها - هسبيرس ص 103)، وكذلك في القسم الثالث من البيان المغرب (نسخة تامجروت التي نشرت في تطوان ص 11).

(2)

ابن عذارى في الأوراق المخطوطة السالفة الذكر (هسبيرس ص 104 و 105).

ص: 231

زميله قائد الروم المسمى " الإبرتير " جريحاً، وارتد عبد المؤمن في قوات الموحدين إلى تينملل (1).

ويجدر بنا قبل الكلام عن المعارك التي اضطرمت بين الفريقين في تلك الفترة، والتي كان يشترك فيها " الإبرتير " قائد الروم باستمرار، أن نذكر كلمة عن هذا القائد النصراني.

إن الإبرتير أو الربرتير (2) حسبما تسميه الرواية العربية، هو بالإفرنجية El Reverter أو Roberto، هو في الأصل سيد (فيكونت) من أشراف برشلونة، حدث بينه وبين أميرها برنجار رامون نزاع، فنزعه ألقابه وأمواله، فغادر برشلونة، وعبر البحر إلى المغرب، والتحق بخدمة الأمير علي بن يوسف.

ونحن نعرف أن علي بن يوسف، كان يضم إلى حرسه الخاص، فرقة كبيرة من المرتزقة النصارى، وقد كانت هذه الفرقة الأجنبية تشترك إلى جانب الحشم، أو جند الحرس الخاص، في كثير من المعارك، وتبدي في القتال براعة وبسالة، وتعرف الرواية العربية هذه الفرقة " بالجند الروم "، وتذكر أعمالها في مواطن كثيرة. فلما وفد الربرتير، أو الكونت روبرتو، على بلاط مراكش، عهد إليه علي بن يوسف بقيادة حرسه من النصارى، لما آنسه من براعته وشجاعته. ويقول ابن صاحب الصلاة في وصف الربرتير " أنه كان من أكبر الطغاة بالأندلس نجدة وظهوراً متصلة "(3). وظهر الربرتير في الواقع في معظم المعارك التي اضطرمت بين المرابطين والموحدين. وترك الربرتير عند مقتله ولدين، اعتنق أحدهما الإسلام، وتسمى باسم على الربرتير، واشتهر فيما بعد بمشاركته في حوادث ميورقة والجزائر الشرقية حسبما نذكر في موضعه.

ويبدو مما يذكره لنا البيذق، وابن عذارى أيضاً، أن الربرتير، هو الذي كان يقود الجيوش المرابطية في المعارك التي وقعت بين المرابطين والموحدين في أراضي كَدْميوَه والسوس، في ذلك العام أو في العام التالي، وتفصيل ذلك، هو أن الربرتير، التقى بقواته مع الموحدين بقيادة عبد المؤمن أولا في مكان يسمى

(1) أخبار المهدي ابن تومرت ص 86. والبيان المغرب في الأوراق المخطوطة (هسبيرس ص 105).

(2)

ويسميه ابن الأبار " الربرتير "، ويقول إنه كان علماً لبني تاشفين من كبار قوادهم، وأبطال رجالهم كانت له في الحروب مقاوم شهيرة (الحلة السيراء ص 197 و 198).

(3)

ابن عذارى في القسم الثالث البيان المغرب (نسخة تامجروت) ص 16.

ص: 232

أمسيميصي، وهو يقع في أراضي كدميوه، شمال تينملّل، ولم تقع بين الفريقين موقعة حاسمة، فارتد كل منهما إلى أراضيه. ثم عاد الربرتير فخرج في قوات لمتونة، وخرج عبد المؤمن للقائه، فالتقيا بموضع يسمى آجظرورر، فهُزم المرابطون، وقتل منهم عدد جم، وارتد الربرتير في فلوله جريحاً إلى مراكش، وعاد الموحدون إلى تينملل. ويضع البيذق وكذلك ابن عذارى تاريخ هذه الموقعة في سنة 535 هـ (1).

وخرج عبد المؤمن بعد ذلك في قواته إلى أرض السوس، وهاجم حصن تنلين، وكان يدافع عنه حاكمه المرابطي يرجين بن ويدّرن، فبدأ الموحدون بحصاره، ولكن قدمت القوات المرابطية عندئذ بقيادة الربرتير، فغادر الموحدون الحصن، ودخلوا أرض السوس، واستولوا تباعاً على إيرمناد ميمون، وتاسلولت ثم على تارودَنت قاعدة السوس الأدنى، ثم على حصن تيونوين. وهزم اللمتونيين في كل المواقع التي نشبت، واستولى الموحدون خلال ذلك على كثير من الغنائم، وسبوا النساء، وعادوا بالغنائم والأسرى إلى تينملّل. وكان من الحوادث التي وقعت في تلك الغزوة، وفقاً لرواية صاحب الحلل الموشية أن الفلاّكي الأندلسي انضم بمن معه إلى الموحدين (2)، وقد سبق أن ذكرنا أن هذا الانضمام قد وقع في تاريخ سابق، قبل ذلك بعد أعوام. وفي نفس الوقت هاجم الربرتير محلة تيغيغايين الموحدية، وسبى نسائها، وفي جملتهن زوجة يعزّي بن مخلوف، وأخذهن معه إلى مراكش، ولما عاد عبد المؤمن بالسبايا إلى تينملل، خاطبته تماجونت ابنة الوزير ينتان بن عمر، وكانت بين الأسرى، وذكرته بما قام به والدها ينتان من الشفاعة في المهدي، وقت أن كان بمراكش، وحرض الفقهاء عليّ بن يوسف على التنكيل به، وناشدته أن يسرحها هي وسائر النساء اللائي معها، فاستجاب عبد المؤمن إلى ضراعتها، وأطلق النساء، وبعثهن إلى مراكش معززات مكرمات، فبادر علي بن يوسف من جانبه، بإطلاق سراح نساء تيغيغايين، وفي مقدمتهن زوجة يعزّي بن مخلوف، وأرسلهن كذلك في أمن وكرامة إلى تينملل. وكان هذا عمل فروسية مشكورة من الجانبين (3).

(1) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 87، وابن عذارى في الأوراق المخطوطة (هسبيرس ص 105).

(2)

الحلل الموشية ص 83.

(3)

راجع كتاب المهدي ابن تومرت ص 87 و 88.

ص: 233

- 2 -

لبثت المعارك التي تضطرم بين المرابطين والموحدين، منذ وفاة المهدي ابن تومرت زهاء عشرة أعوام، منحصرة في مناطق الأطلس، جنوبي مراكش، في وادي درعة وبلاد السوس، وفي بلاد حاحة من أحواز تينملل، وقد كان النصر حليف الموحدين في معظم هذه المعارك. بيد أن انحصار الصراع في هذا النطاق المحدود من الإمبراطورية المرابطية، لم تترتب عليه أية نتائج حاسمة، ومن ثم فقد كان لزاماً على الموحدين أن ينقلوا مسرح الصراع إلى قلب الإمبراطورية المرابطية، حتى يتاح لهم أن يضربوها في الصميم. وأن يقضوا عليها القضاء الأخير.

وهذا ما اعتزمه عبد المؤمن في الواقع، واستدعى من أجله سائر حشود الموحدين، من كل صوب وقبيل. وفي سنة 535 هـ (1140) خرج من تينملل بعد أن استخلف عليها صهره أبا عمران موسى بن سليمان، في جيش ضخم، يضم مجموعة كبيرة من الفرسان والرجّالة، وسار في طرقات الجبل نحو الشمال الشرقي. ويفصل لنا البيذق، وقد كان من شهود هذه الحملة الكبيرة، خط سير الجيش الموحدي، فيقول لنا إن عبد المؤمن سار أولا إلى موضع يسمى وانزال، ثم إلى موضع يسمى وفاد، وسار من وفاد إلى أشبار، وهي محلة تقع على مقربة من جنوب شرقي مراكش. وفي تلك الأثناء خرج جيش المرابطين بقيادة تاشفين من مراكش، فغادر الموحدون أشبار إلى مكان قريب يقع في الشمال الشرقي، ويسمى تاساوت، ولحق المرابطون بأشبار. ثم غادر الموحدون تاساوت إلى دمنات الواقعة شرقي مراكش، على قيد نحو سبعين كيلومتراً منها، وسار المرابطون في نفس الوقت إلى يمللُّو الواقعة شمال شرقي دمنات. ولم تقع خلال ذلك معارك ذات شأن بين الفريقين، ولكن القبائل والعشائر الواقعة في طريق الموحدين، كانت تدخل في طاعتهم تباعاً، واستمر الموحدون في مسيرهم شمالا بشرق حتى واويزغت، ثم إلى داي الواقعة جنوب تادلا. ووقعت خلال ذلك بين الفريقين معركة محلية في موضع يقال له تيزي، انتهت حسبما يقول البيذق بهزيمة " الفئة الباغية " أي المرابطين. ولما وصل الموحدون إلى داي، فر حاكمها المرابطي على بن ساقطرا، واستولى عليها الموحدون دون مقاومة. وأعلن من كان بها من

ص: 234

صنهاجة بيعتهم للموحدين، وطالبوا عبد المؤمن بالافراج عمن كان معه من أسرى صنهاجة، فأجاب مطلبهم.

وسار الموحدون بعد ذلك حتى تازاجارت، وكان يدافع عنها حاكمها المرابطي يحيى بن ساقطرا، فاقتحموها، واستولوا على خيلها وغنائمها، واقتحموا من بعدها قلعة واوْما، وكان يدافع عنها يحيى بن سير، واستولوا عليها، ثم استمروا في سيرهم حتى آزروا، التي تقع في قلب منطقة فازاز على قيد نحو مائة كيلومتر من شمالي شرقي تادلا، فدخلوها ونزلوا بها. وبعث عبد المؤمن، بضعة فرق من جيشه لتخضع الأنحاء المجاورة فقامت بمهمتها، وعادت إلى آزور، وأرسل في نفس الوقت بعض الأشياخ إلى تينملل يحملون إليها أخبار الحملة، وليطمئنوا على أحوالها. ودخل أهل فازاز جميعاً في طاعة الموحدين (1).

وغادر عبد المؤمن والموحدون آزور شمالا نحو فاس التي تبعد عنها زهاء ستين كيلومتراً. وكان تاشفين قد وصل في تلك الأثناء في القوات المرابطية ومعه الربرتير إلى فاس. ويصف لنا صاحب البيان المغرب سير الجيشين على هذا النحو في قوله: " كان الموحدون يمشون في الجبال المانعة حيث الأرزاق الواسعة، وكان تاشفين ينزل البسائط بعساكره، فما يجد من البرابر من يداخله ولا من يستعين به، فيواصله، وذلك بسبب إدباره إلى أن استقر عبد المؤمن بالجبال المجاورة لجهة فاس المعروفة بكراندة، ونزل تاشفين بحصن بالموضع المذكور "(2).

وهكذا عسكرت الجيوش المرابطية والموحدية، كل منها على مقربة من

فاس عاصمة المغرب القديمة، وكان ذلك حسبما يستخلص من أقوال البيذق، وابن عذارى، في أواخر سنة 535 هـ (1141 م). وكان الوقت شتاء، والشتاء قاسياً، والمطر ينهمر بشدة. والظاهر أن المرابطين لم يحتاطوا لقسوة الطقس فعصف بهم البرد، وأقاموا شهوراً دون حطب ولا فحم، حتى أنهم اضطروا لحرق أوتاد أخبيتهم، وخشب أبنيتهم، ومات كثير منهم من البرد. وفي أثناء ذلك خرجت القوات المرابطية من فاس ومكناسة، ومعها المؤن والميرة، تقصد إلى محلة المرابطين، ولكنها اختلفت أثناء الطريق واقتتلت، ففر البعض منها، وسار

(1) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 89 و 90.

(2)

القسم الثالث من البيان المغرب (نسخة تامجروت) ص 12. وراجع أيضاً الحلل الموشية ص 96 و 97.

ص: 235

أحد قادتها. وهو يحيى بن علي، هو ومن معه إلى محلة الموحدين، وسلموا، واعترض الموحدون قوة أخرى منها يقودها ابن ولجوط على طريق مكناسة، وفتكوا بها، وقتلوا معظمها واستولوا على ما معها من المؤن والعتاد.

وعبر الموحدون بعد ذلك إلى جبال الأطلس الوسطى، وهاجموا القواعد المرابطية في غريس الواقعة جنوب آزروا، وتودجا الواقعة شمال سجلماسة، وسيطروا على وادي مَلْوية الواقع في شرق آزروا، ودخل القادة المرابطون في تلك الأنحاء في طاعتهم. ولما شعر والي سجلماسة المرابطي أبو بكر بن صارة، باقتراب الموحدين من قاعدته، خرج إليهم، وقصد عبد المؤمن، وأعلن خضوعه، فتقبل منه ذلك عبد المؤمن، وصرف النظر عن مهاجمة سجلماسة، وعاد إليها واليها (1).

وفي أواخر سنة 535 هـ، وأوائل سنة 536 هـ (صيف سنة 1141 م) نرى عبد المؤمن وجيوشه الموحدية تندفع نحو الشمال في غزوات مستمرة، تستغرق بضعة أعوام، وتشتبك مع الجيوش المرابطية المختلفة، في معارك متعاقبة، في أواسط المغرب وشماله، وقد بدأت هذه المعارك منذ المحرم من العام المذكور، حيث خرجت قوة موحدية بقيادة عبد الرحمن بن زجّو أحد أهل خمسين، وهاجمت صفرو واقتحمتها، واستولت على غنائمها. ثم لحقت ببقية الجيش الموحدي في جهة الفلاج، الواقعة شمال شرقي صفرو. وكان تاشفين قد غادر عندئذ أحواز فاس، وعسكر في جبل العرض الواقع في شرقها. وبعث الربرتير قائد الجند النصارى في قوة إلى الفلاج. فخرج إليه الموحدون بقيادة يحيى آغوال، ونشبت بين الفريقين معركة، هزم فيها الموحدون وقتل قائدهم، واحتز رأسه وأرسل إلى فاس.

وعلى أثر ذلك سار الموحدون نحو أرض غيّاثة الواقعة شرقي فاس، وجنوبي رباط تازة، وهي من أرض زنانة، وضربوا محلتهم بها فوق جبل عفرا، وسار المرابطون في نفس الوقت إلى موضع في السهل يسمى النواظر، يقع على مقربة من جبل عفرا من ناحية تازا. وهنا دخل الشتاء بقره. وكان شتاء قاسياً توالت فيه الرياح العاصفة، والأمطار الغزيرة، بضعة أسابيع، فأغرقت السهول واكتسحت الوديان والقرى، وقاسى منها العسكران أيما عناء وشدة، وكان وقعها على

(1) كتاب المهدي ابن تومرت ص 90.

ص: 236

المرابطين في السهل أشد وأنكى، حيث تساقطت الخيام، وعامت أوتادها لرخاوة الأرض، وغرقت الدور، ومات كثير من المرابطين برداً وجوعاً، وعزت الأقوات والوقود في المعسكرين، وبلغ سعر الشعير وفقاً لقول البيذق في معسكر الموحدين " ثلاثة دنانير للسطل، وبلغ الحطب عند تاشفين ديناراً للرطل "، ولم ترفع هذه الغمة إلا حينما دخلت طوالع الربيع، وكان ذلك حسبما يحدثنا البيذق سنة ست وثلاثين وخمسمائة (أوائل سنة 1142 م)(1).

هذا ما يقوله لنا البيذق عن حملة الموحدين إلى غياثة، فهو أولا يضع تاريخها في سنة 539 هـ، وهو ثانياً لا يذكر لنا أنه قد وقعت هنالك أية معارك بين الموحدين والمرابطين، وإنما وقعت بعد ذلك في أماكن أخرى. ولكن ابن القطان يقدم إلينا رواية أخرى تختلف عن رواية البيذق اختلافاً بيناً، وهو أولا يضع تاريخها في سنة 532 هـ، ثم يقول لنا إنه لما نزل الموحدون بجبل غياثة خرج إليهم سير بن علي بن يوسف في القوات المرابطية، ونزل بجراندة عند وادي أبى جلوا، وهنالك وافته حشود المغرب بقيادة عبد الله بن يحيى بن تيفلويت، واجتمعت من حشود زناتة قوة أخرى من نيف وخمسة آلاف فارس بقيادة يحيى ابن فانّو، وفي أثناء ذلك وحّد زيري بن ماخوخ من أشياخ زناتة، ولحق بعبد المؤمن، وطلب عسكراً يقوده ضد المرابطين، فأسعفه الخليفة بما طلب، وقدم إليه عسكراً تحت إمرة أحد أشياخ الموحدين، فأخذ يهاجم الحشود المرابطية، ويقتل العدد الجم من رجالها، وينتهب سلاحها ومتاعها. ثم توفي قائد عسكر زناتة يحيى بن فانو، فخفله في القيادة ولده محمد. وأرسل زيري إلى إخوانه من مشايخ زناتة يحرضهم على النكث، وأن يعملوا لهزيمة المرابطين. ثم وجه الخليفة قوة موحدية مختارة مع زيري، فقصدت إلى محلة زناتة، وهاجمتها، ونشبت بين الفريقين معركة هزمت فيها زناتة، وانتصر الموحدون.

وكان سير بن علي، قد علم أن عبد المؤمن يزمع السير إلى أرض غُمارة، فرتب له في الطريق ألفي فارس، تقيم وتستبدل باستمرار لتعيق سيره، واستمر ذلك مدى شهرين (2).

(1) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 91، وابن الأثير ج 10 ص 305. وكذلك ابن عذارى في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر).

(2)

ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف ذكره لوحة 79 ب و 80 أ).

ص: 237

وهذا ما يقوله ابن القطان عن حملة غياثة. وربما اختلط عليه القول هنا بأخبار حملة موحدية أخرى. ونحن على أي حال نفضل الأخذ برواية البيذق، وهو معاصر وشاهد عيان.

يقول البيذق إنه لما هدأت الرياح، وبدأ الربيع، استأنف الموحدون زحفهم. ويمضي البيذق، وقد كان من شهود هذه الحملة الشهيرة، فيصف لنا سير عبد المؤمن نحو الشمال تفصيلا. وكان أول موضع قصده الموحدون عندئذ، أرض لُكاي الواقعة شمالي شرقي فاس، في منتصف المسافة بينها وبين البحر المتوسط. وهنالك استولوا على قلعة الولجة من حصونها. وسار المرابطون بقيادة تاشفين والربرتير في أثر الموحدين، وحاولوا تطويقهم في أرض بني سلمان، ولكن الموحدين أحبطوا هذه الحركة بالسير إلى أرض بني غُمارة، من بطون صَنهاجة، الذين انضموا إليهم، ودخلوا في طاعتهم، ثم جازوا منها إلى أرض لُجاية. وعندئذ سار تاشفين والربرتير إلى أرض بني تاودا ونزلوا بها، فكان بينهم وبين الموحدين نهر ورغة وواديه .. وهنا خرج الربرتير في قوة مختارة من المرابطين والجند النصارى، واشتبك مع الموحدين في موضع يقال له تازغدرا، في معركة عنيفة، قتل فيها كثير من الفريقين، ثم ارتد الربرتير إلى بني تاودا، وسار الموحدون إلى تاغزوت، ثم إلى بني مزكلدة، ثم إلى إيلانة ثم إلى أيجن على مقربة من القصر الكبير. وسار تاشفين والربرتير في أثر الموحدين حتى موضع قريب من المعسكر الموحدي يسمى " نهليط ". وفي أيجن مرض عمر أزناج (أصناك) أحد الجماعة العشرة، ولما شعر بدنو أجله، قام فوعظ الموحدين وعظاً طويلا، وحثهم على طاعة الخليفة عبد المؤمن، ثم توفي مساء ذلك اليوم.

وسار الموحدون بعدئد إلى تامقريت، ثم إلى وادي لو، أرض بني سعيد، وسار الربرتير في أثرهم حتى وصل إلى تيطاوين (تطوان)، فارتد الموحدون نحو الشمال حتى قلعة باديس الواقعة على شاطىء البحر المتوسط، ودخل في طاعتهم أهل تلك الأنحاء، ثم ساروا بعد ذلك إلى ثغر المزمّة (1)، في شرقي باديس ونزلوا به أياماً، هبت عليهم فيها رياح شديدة، كادت أن تهلك دوابهم، فسماها عبد المؤمن تاغزوت، ثم أقلع عنها إلى جبل تمسامان (2).

(1) المزمة هي التي تسمى في الجغرافية الحديثة محرفة " الحُسيمة " Alhucemas.

(2)

أخبار المهدي ابن تومرت ص 92 و 93، والبيان المغرب في الأوراق المخطوطة السالفة الذكر.

ص: 238

خريطة:

المغرب مواقع غزوة عبد المؤمن الكبرى سنة 535 هـ - 540 هـ.

ص: 239

وهنا يقص علينا البيذق قصة غريبة، خلاصتها أنه قد وفد عندئذ على الخليفة عبد المؤمن أخوه إبراهيم، فغمره الخليفة بإكرامه، وأعطاه الخيل والعبيد والخباء، وأنزله في موضع محمد بن أبى بكر بن يكيت، وقد كان أبوه ابن يكيت من أصحاب المهدي العشرة، فاستاء لذلك محمد ووثب بإبراهيم فقتله، فغضب الخليفة لمقتل أخيه أيما غضب، وطالب بقتل ابن يكيت، فاعترض عليه أبو حفص عمر اينتي، وابن واجاج، وقالا له، ألم يقل المهدي، " بأن أهل الجماعة وصبيانهم، عبيدهم كل من في الدنيا "، فصمت الخليفة عندئذ، وعدل عن قراره، ولكنه أمر أن يقسم المعسكر الموحدي إلى فرق أو بنود. وأن يكون لكل قبيلة بندها الخاص (1). وهنا يلاحظ الأستاذ هويثي بحق " أنه ليس أقطع دليلا من ذلك على التعصب الأعمى، الذي كان يضطرم به الموحدون الأوائل، ويدافعون به عن مزايا وامتيازات نظامهم الديني "(2).

وفي أثناء ذلك خرج عبد الرحمن بن زجّو في قوة من الموحدين، وزحف على ثغر مليلة، واقتحمه، وحصل على غنائم كثيرة، كان من بينها مائة بكر، قسمها عبد المؤمن على أعيان الموحدين، فتزوجوهن، وبقيت منهن أميرتان، هما فاطمة بنت يوسف الزناتية، وابنة ماكسن بن المعز صاحب مليلة، فأخذ الشيخ اسماعيل أبو ابراهيم أحد العشرة فاطمة، وأخذ الخليفة بنت ماكسن.

ثم رحل الموحدون بعد ذلك إلى ندرومة وبلاد كومية، قبيلة عبد المؤمن، فدخلت جميعاً في طاعة الموحدين. وسار الموحدون بعد ذلك إلى تاجرا الواقعة على البحر شرقي مليلة، فنزلوا بها (3).

وكان الجيش الموحدي قد تضخم عندئذ، ودخل في طاعة الموحدين، عدد كبير من القبائل والبطون الشمالية. ومن تاجرا خرجت ثلاث قوات موحدية، الأولى بقيادة عبد الرحمن بن زجّو، وقد سارت شمالا بشرق، وهاجمت ثغر وهران، واقتحمته واستولت على غنائمه، والثانية بقيادة الشيخ أبي إبراهيم، وقد سارت إلى أرض بني وانوان واستاقت غنائمها، وخرجت الحملة الثالثة بقيادة

(1) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 93 و 94.

(2)

راجع: A. Huici Miranda: Historia Politica del Imperio Almohade (Tetuan 1956) V. I. p. 126

(3)

البيان المغرب (في الأوراق المخطوطة - هسبيرس ص 106).

ص: 240

يوسف بن وانودين، وسارت إلى جبل مديونة من أحواز تلمسان، فخرج إليها المرابطون من نلمسان بقيادة أبى بكر بن الجوهر، ومحمد بن يحيى بن فانّو، ونشبت بين الفريقين معركة عنيفة في وادي الزيتون، هزم فيها المرابطون، وقتل قائداهما. ووفد على الخليفة عندئذ، عدد من زعماء القبائل المجاورة، وأعلنوا خضوعهم.

ثم رحل الخليفة من تاجرا إلى تيفسرت من أرض مديونة، وخرجت عندئذ قوة موحدية بقيادة الشيخ أبى حفص عمر اينتي ويصلاصن بن المعز إلى العيون من أراضي قبيلة صاء غربي وجدة، وغلبت على قبائل تلك الناحية، وهم أربعة، واستولت على غنائمهم.

وكانت الجيوش المرابطية بقيادة تاشفين والربرتير، قد ارتدت عند دخول الشتاء إلى مراكزها في فاس، وبقي الموحدون في مراكزهم في أحواز تلمسان.

- 3 -

وفي تلك الأثناء تطورت الحوادث بمراكش تطوراً خطيراً، فقد توفي أمير المسلمين علي بن يوسف، في السابع من شهر رجب سنة 537 هـ (يناير سنة 1143 م)، وكانت حوادث الأعوام الأخيرة من حكمه، وما توالى فيها من محن وخطوب، ترتبت على قيام المهدي ابن تومرت، وتوالى ظفر الموحدين، وهزائم الجيوش المرابطية، قد فتت في عضده، وحطمت قواه، وأذكت آلامه المعنوية، فتوفي غماً وألماً، وهو يشهد نذر النهاية المروعة جاثمة في الأفق. فكتم نبأ وفاته ثلاثة أشهر حتى السابع من شوال، ثم أعلنت بعد ذلك ولاية ولده أبى محمد تاشفين، وكان أبوه قد قلده ولاية عهده، وبويع بها منذ سنة 533 هـ (1138 م) حسبما أشرنا إلى ذلك من قبل في موضعه (1).

وكان علي بن يوسف خير أمراء الدولة المرابطية، بعد أبيه العظيم يوسف.

ونستطيع أن نعتبر حكمه، الذي امتد سبعة وثلاثين عاماً مذ ولي الملك بعد وفاة أبيه في المحرم سنة 500 هـ، هو عصر الدولة المرابطية الحقيقي، بعد أن توطدت

(1) راجع البيان المغرب (الأوراق المخطوطة هسبيرس ص 107) والحلل الموشية (ص 90)، والزركشي في تاريخ الدولتين (ص 5). ولكن ابن الخطيب يذكر لنا في الإحاطة أن علي بن يوسف توفي في السابع من ربيع (؟)(سنة 537 هـ) ولم يشهر موته إلا في الخامس من شوال (الإحاطة، مخطوط الإسكوريال لوحة 292).

ص: 241

دعائمها في المغرب والأندلس، وفي أوائل عهده، وصلت الدولة المرابطية إلى ذروة قوتها وضخامتها، بيد أنه سرعان ما ظهرت حركة المهدي ابن تومرت حتى انقلبت الآية، وأخذ الانحلال يسري إلى ذلك الصرح الشامخ، وأخذت الدولة المرابطية، تسير سراعاً إلى قدرها المحتوم.

ومما يؤثر عن علي بن يوسف، أنه كان أول من استخدم النصارى في الجيش المرابطي. وقد بدأ في ذلك حينما وقع تغريب النصارى المعاهدين بالأندلس في سنة 521 هـ (1127 م)، حيث استخدم جماعة من الذين قضى بتغريبهم في حرسه الخاص، وكان ما أبداه أولئك الجند النصارى من الغيرة والإخلاص، مشجعاً له على التوسع في استخدامهم، واستقدامهم من شبه الجزيرة، ودعوة أنجادهم من الفرسان، وهكذا انتظمت في الجيش المرابطي فرقة أو فرق خاصة من المرتزقة النصارى. وفي أواخر عهد علي، عهد بقيادة هذه الفرق الأجنبية إلى الفارس القسطلاني الإبرتير أو الربرتير كما تقدم، وأخذت تقوم بدور هام في المعارك التي كانت تضطرم يومئذ بين المرابطين والموحدين. ويقول لنا صاحب البيان المغرب أن علياً كان يؤثر أولئك الجند النصارى، ويمكن لهم، وكانوا في ظل هذه الرعاية الخاصة يتعالون على المسلمين، ويفرضون عليهم المغارم. ولما اضطربت الأمور في أواخر عهد علي، أهمل الجند المسلمين، وعجز الأمير عن الإنفاق عليهم، حتى كان أكثرهم يكرون دوابهم (1).

ومما يذكره لنا ابن عذارى في هذا الصدد أيضاً، أن أمير المسلمين علياً، حينما رأى توالي فشل ولده تاشفين في محاربة الموحدين، ساءه ذلك، وعزم على إقالته، وأن يقدم مكانه ولده إسحاق، وكتب بالفعل إلى عامله على إشبيلية عمر، بالقدوم، ليجعله مدبر ولده، وكان ذلك في سنة 536 هـ. بيد أنه يبدو أنه لم يجد متسعاً من الوقت لتحقيق هذا العزم، إذ توفي بعد ذلك بأشهر قلائل (2).

وكان من الأحداث البارزة في أواخر عهد علي، السيل العظيم الذي وقع بطنجة، في سنة 532 هـ، وقد اكتسح معظم دورها وصروحها، وهلك فيه عدد عظيم من الناس، والدواب (3). ثم الحريق الكبير الذي وقع في العام التالي بسوق

(1) البيان المغرب، في الأوراق المخطوطة التي سبقت الإشارة إليها.

(2)

البيان المغرب (في الأوراق المخطوطة المشار إليها - هسبيرس ص 105).

(3)

البيان المغرب (الأوراق المخطوطة - هسبيرس ص 103).

ص: 242

مدينة فاس (533 هـ)، وتلفت من جرائه طائفة كبيرة من الدروب التجارية، وهلكت فيه أموال جليلة، وافتقر كثير من الناس (1).

وكان منها أيضاً، أنه في سنة 535 هـ، هاجرت جموع عظيمة من أهل المغرب، من مختلف نواحيه، إلى الأندلس. وهذا ما يذكره لنا ابن عذارى نقلا عن ابن حمادة. والظاهر أن ذلك كان راجعاً إلى توالي ظفر الموحدين على المرابطين، وتوجس أنصار المرابطين وأوليائهم مما قد يؤول إليه الأمر من انهيار سلطان المرابطين بالمغرب (2).

وعلي بن يوسف هو الذي وسع مدينة مراكش، وعمرها، ونظم خططها، حتى غدت أضعاف ما كانت عليه عند إنشائها، وأنشأ بها الجامع، والقصر المرابطي، ونظم سقايتها، وأدار أسوارها، حتى غدت في عصره حاضرة عظيمة (3).

وتنوه الرواية بخلال علي بن يوسف، وتصفه بأنه كان ملكاً عظيماً، عالي الهمة، رفيع القدر، فسيح المعرفة عظيم السياسة (4)، وكان فوق ذلك ورعاً متعبداً، يحب العلماء ويؤثر مجالسهم (5). بيد أنه لم يكن في ذلك صنو أبيه العظيم في الاقتصار على الاسترشاد بآرائهم دون خنوع واستسلام، بل كان يخضع لأهوائهم، ويترك لهم الكلمة العليا. وقد رأينا ما كان في استسلامه لهم، من الحجر على حرية الفكر، ومطاردة كتب الغزالي وإحراقها، لما كانت تتسم به من إيثار لعلم الأصول، وقد كان هذا من أكابر أخطائه، ومن دلائل استسلامه لأهوائهم وتعصبهم.

وكان البلاط المرابطي في عهد علي بن يوسف، يزدان سواء في المغرب أو الأندلس بعدة من أكابر الكتاب، وأعلام البلاغة في ذلك العصر. وكان في مقدمة هؤلاء أبو بكر بن القصيرة المتوفى سنة 508 هـ، وقد كتب عن يوسف ابن تاشفين، ثم عن ابنه علي، وأبو القاسم ابن الجد المعروف بالأحدب، وأبو بكر بن عبد العزيز البطليوسي، المعروف بابن القبطُرنة، وأخواه أبو الحسن

(1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره).

(2)

البيان المغرب (في الأوراق المخطوطة - هسبيرس ص 105).

(3)

الزركشي في تاريخ الدولتين ص 5.

(4)

ابن الخطيب في ترجمة علي بن يوسف في الإحاطة (مخطوط الإسكوريال السالف الذكر لوحة 292).

(5)

المعجب للمراكشي ص 99، والحلل الموشية ص 61.

ص: 243

وأبو محمد، وأبو عبد الله بن أبى الخصال وأخوه أبو مروان، وأبو محمد عبد المجيد بن عبدون وزير بني الأفطس السابق (1). وأبو جعفر أحمد بن محمد ابن عطية القضاعي، وقد خدم تاشفين بن علي من بعد أبيه، ثم انتقل فيما بعد إلى خدمة عبد المؤمن حسبما يجىء (2).

وكان أنبههم وآثرهم لدى علي بن يوسف، أبو عبد الله بن أبى الخصال المتوفى سنة 540 هـ. وقد كان من أعظم علماء العصر وكتابه وبلغائه. وكان اجتماع هذه الجمهرة من أعلام البلاغة في البلاط المرابطي، أثر من آثار قصور الطوائف، التي امتازت بحشد أقطاب الكتاب والأدباء من وزرائها، وأغدقت عليهم حمايتها ورعايتها.

وكان على قد استوزر في أواخر عهده، إسحق بن ينتان بن عمر بن ينتان، وكان فتى حدثاً لم يجاوز الثامنة عشرة من عمره، ولكنه كان يتوقد ذكاء وفطنة وعزماً، فأعجب به علي، وولاه خطة المظالم والشكايات، فأبدى في منصبه براعة وكياسة، فانتفع به الناس وأحبوه، وكان حسبما تصفه الرواية " مثل كاهن يأتي بعجائب الأخبار "(3).

هذا، وأما عن شخصه، فإن الرواية تصف علي بن يوسف، بأنه كان أبيض اللون، مشرباً بحمرة، حسن القد، صبوح الوجه، أفلج، أقنى، أكحل العينين، سبط الشعر (4).

وكان لعلي من الولد الذكور، أحد عشر، ولكنه لم يترك من أولاده الأحياء بعده سوى ولي عهده وخلفه تاشفين. أما ولده الأكبر سير، فكان قد توفي قبل وفاته بمدة طويلة، وكذلك توفي أولاده الآخرون قبل وفاته، ومنهم ولده أبو بكر، وقد كان والياً بالأندلس. وفي رواية أنه قد غُرِّب بأمر أبيه إلى الصحراء حينما اعترض على تعيين أخيه تاشفين لولاية الأندلس، وفي أخرى أنه أصيب إصابة أقعدته، فحُمل على أعناق الرجال حتى الجزيرة، ولكنه سجن هناك حتى توفي، واشتد ألم أبيه على فقده.

(1) المعجب ص 96، والإحاطة (1956) ج 1 ص 529.

(2)

الإحاطة (1956) ج 1 ص 270.

(3)

البيان المغرب (في الأوراق المخطوطة السالفة الذكر - هسبيرس ص 107)، والحلل الموشية ص 61.

(4)

روض القرطاس ص 102.

ص: 244

- 4 -

وكانت دولة المرابطين في تلك الأعوام الأخيرة من حكم علي بن يوسف، قد اضطربت أحوالها واهتزت أسسها، وفقدت كثيراً من قواعدها وأراضيها، وسادت الفوضى في كل ناحية، وساءت الأحوال الاقتصادية من توالي الحرب، وعزت الأقوات والموارد، وارتفعت كلفة العيش، وعانى الناس مشقات وشدائد.

وما كاد علي بن يوسف يختفي من الميدان، حتى وقع ما هو أخطر، من تصدع الجبهة المرابطية وتفرق كلمتها. وذلك أن الخصومة قد اضطرمت بين قبيلتي لمتونة ومسّوفة وهما دعامتا العصبة المرابطية، وخرج عدة من زعماء مسّوفة على حكومة مراكش، ورأوا، أن يلوذوا بحماية الموحدين، فسار منهم يحيى ابن تاكفت، وبرّاز بن محمد، ويحيى بن إسحاق المعروف بأنجمار. حاكم تلمسان السابق، في صحبهم وأتباعهم، إلى محلة الموحدين، وقدموا طاعتهم إلى عبد المؤمن، وكانت هذه ضربة جديدة لتاشفين بن علي، فاشتد الاضطراب في الجبهة المرابطية، ووغرت صدور اللمتونيين على مسوفة، وأخذ يتربص بعضهم ببعض، ويقتل بعضهم بعضاً.

وكان ممن انشق على تاشفين في تلك الفترة، بني ومانّو من بطون زناتة، وقدّم أشياخهم طاعتهم إلى عبد المؤمن، فبعثهم مع بعض قواته إلى بلادهم، فأعلنوا طاعتهم جميعاً للموحدين. ولما علم تاشفين بخروج بني ومانّو، وجه إليهم عسكراً على رأسه الرّبرتير، فسارع الموحدون إلى إنجادهم، وتحصن بني ومانّو ببعض التلال، فصعد إليهم المرابطون، يحاولون اقتحام مراكزهم، ولكنهم ردوا المرابطين على أعقابهم. وعلى أثر ذلك سار جيش موحدي بقيادة ابن وانودين، وابن زجّو، وابن يومور، إلى بلاد بني عبد الواد وبني يلومي وهم من أنصار المرابطين، وعاث في تلك المنطقة، واستاق كثيراً من الغنائم، ولكن فاجأته حين العودة قوة من المرابطين من زناتة واستولت على معسكر الغنائم، وقتلت كل حراسه وهم من بني ومانّو وعددهم ستمائة رجل، وتحصن الموحدون بجبل هنالك، وسار عسكر المرابطين إلى موضع يسمى منداس بلد بني يلومي من بطون زناتة، فاجتمع إليه بني يلومي، وعدة أخرى من البطون. ولما علم عبد المؤمن بما حدث، سار بقواته من أحواز تلمسان إلى أرض يلومي، وكان الأمير تاشفين قد قدم في نفس الوقت إلى تلمسان، وحشد فيها

ص: 245

عسكراً، وأرسله على عجل إلى محلة المرابطين في منداس، وكذلك انضم إليهم الرّبرتير في قواته، واجتمعت بذلك للمرابطين حشود ضخمة. فلما شعر عبد المؤمن بتفوق خصومه، لجأ إلى خطة حربية جديدة مبتكرة، هي خطة المربع الموحدي الذي اشتهر فيما بعد، وأضحى عماد خطط الدفاع الموحدية في الميدان المكشوف، وقد وصف لنا ابن اليسع خلاصة هذه الخطة، نقلا عن بعض الموحدين فيما يلي:

" أن تُصنع دارة مربعة في البسيط يجعل فيها من جهاتها الأربع صف من الرجال بأيديهم القنا الطوال، والطوارق المانعة، ومن ورائهم أصحاب الدروق والحراب صفاً ثانياً، ومن ورائهم أصحاب المخالي فيها الحجارة صفاً ثالثاً، ومن وراء هؤلاء الرماة صفاً رابعاً. وفي وسط المربعة، ترابط قوى الفرسان ". يقول ابن اليسع " فكانت خيل المرابطين إذا دفعت إليهم، إلى الموحدين، لا تجد إلا الرماح الطوال الشارعة، والحراب والحجارة والسهام ياسرة. فحين ماتوا من الدفع وتدبر، وأخرج خيل الموحدين من طرق تركوها، وفرج أعدوها، فتصيب من أصابت، فإذا كرت عليهم دخلوا في غاب القنا "(1).

وهكذا فإنه حينما نشب القتال بين المرابطين والموحدين في منداس، ظهرت آثار الخطة الدفاعية الموحدية واضحة في عجز المرابطين على تفوقهم في العدد والعدة، عن النيل من خصومهم. وبالعكس فقد أثخن الموحدون في خصومهم، وردوهم الكرة بعد الكرة بخسائر فادحة، واستمر القتال على أشده ثلاثة أيام.

وفي اليوم الرابع أحرز الموحدون على خصومهم. نصراً باهراَّ، واحتووا على محلتهم، ومحلات حلفائهم من بني يلومي وغيرهم، واستولوا على غنائم فادحة، تقدرها الرواية بثلاثين ألفاً من الغنم، واثني عشر ألفاً من البقر. بيد أنه حينما ارتد عبد المؤمن بغنائمه صوب الصخرتين من أحواز تلمسان، اعترضه الربرتير في قواته، وهاجمه بشدة واسترد معظم الغنائم، وقتل من كومية قبيلة عبد المؤمن نحو أربعمائة رجل. ثم سار في قواته وغنائمه إلى تلمسان، فانضم هناك إلى قوات الأمير تاشفين (2).

وفي خلال ذلك الصراع المرير الذي استغرق قوى المرابطين، وصل إلى

(1) الحلل الموشية ص 98.

(2)

البيان المغرب (القسم الثالث نسخة تامجروت)(تطوان 1963) ص 15.

ص: 246

مياه سبتة أسطول نورماني ضخم قوامه مائة وخمسون سفينة، وأغار أولئك النورمان (المجوس) على سبتة، محاولين اقتحامها، فخرجت إليهم سفن المرابطين بقيادة أمير البحر ابن ميمون، ووقعت بين الفريقين معركة بحرية عنيفة، غرقت فيها من الجانبين سفن عديدة، وقتل من الفريقين خلق كثير.

وكان ذلك في سنة 538 هـ (1). ودل ذلك الحادث على أن القوات البحرية المرابطية، كانت ما تزال، بالرغم مما حدث في داخل المغرب، يقظة ساهرة، على حراسة الشواطىء والثغور المغربية المرابطية.

ووقع بعد ذلك بقليل حادث كان له في مركز المرابطين أسوأ الأثر هو مصرع الرّبرتير قائد " الروم ". وتختلف الرواية في شرح هذا الحادث وفي تفاصيله.

ويقدم إلينا البيذق رواية خلاصتها، أن عبد المؤمن وجه حشود جزولة لقتال الربرتير، وكانوا بموضع يسمى " بكيرس "، فسار الربرتير في قواته للقائهم، وكانت جزولة تحتمي وراء خندق، فاستطاعوا أن يردوا الربرتير، فولى عنهم مهزوماً، وكتب إلى عبد المؤمن كتاباً يسدي فيه النصح، ويقول إن جزولة، قد غدروا بإخوانهم، وهم بلا ريب سوف يغدرون بك، وعندئذ عمد عبد المؤمن إلى تجريدهم من خيلهم وسلاحهم، ثم قتلهم جميعاً إلا الصبيان الصغار، واستولى على غنائمهم. فلما علم الربرتير بذلك قرر أن يسير لمهاجمة الموحدين، واستخلاص الغنائم منهم، فلم يعترض تاشفين على رغبته، ولكنه لم يسر معه، والتقى الربرتير بالموحدين في موضع يسمى " تاكوط آن تيفسرت " ونشبت بينه وبين الموحدين معركة عنيفة هلك فيها هو ومعظم جنده، ولم يسلم من عسكره حسبما يحدثنا البيذق سوى ستة، ثلاثة من الروم، وثلاثة من المرابطين، يذكر لنا البيذق أسماءهم.

وكان ذلك في سنة 539 هـ (1144 م)(2).

ويذكر لنا ابن عذارى من جهة أخرى مصرع الربرتير في جملة موجزة يقول فيها " في سنة تسع وثلاثين خرج قائد الروم بعسكره، ومعه عسكر لمتونة والحشم، فهزمهم الموحدون، وقتل القائد المذكور". وهذا ما ورد في الأوراق المخطوطة التي بين أيدينا من البيان المغرب. ولكن ابن عذارى يحاول فيما بعد، أن ينقل تفاصيل مصرع الربرتير عن ابن صاحب الصلاة، وذلك في القسم

(1) البيان المغرب (الأوراق المخطوطة - هسبيرس ص 108).

(2)

كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 96.

ص: 247

الثالث من كتابه، بيد أن ما نقله في ذلك قد سقط من نسخة " تامجروت " وهي التي تغدو مرجعنا منذ الآن فصاعداً (1).

ويقدم إلينا ابن خلدون عن مصرع الربرتير رواية ثالثة يقول فيها، إن تاشفين بعث الربرتير في عسكر ضخم فأغار على بني سندم وزناتة الذين كانوا في بسيطهم، وعاد بالغنائم، فاعترضه الموحدون، ونشبت بين الفريقين معركة قتل فيها الربرتير وجنده (2).

ولما رأى الجند النصارى مصرع عميدهم، ورأوا أنهم لا يستطيعون بعد

أن يعملوا لتدعيم إمبراطورية أصبحت وشيكة الانهيار، تفرقوا تباعاً، وغادر الكثير منهم المغرب إلى اسبانيا ومعهم أسرهم وقساوستهم، وساروا إلى طليطلة ملتجئين إلى حماية القيصر ألفونسو ريمونديس (ألفونسو السابع) ملك قشتالة، فأحسن استقبالهم، وأنزلهم بدياره، وحمد لهم تمسكهم خلال الحوادث والخطوب بدينهم وولائهم لمذهبهم (3).

وعلى أي حال فقد كان مصرع الربرتير وتبدد جنده، ضربة جديدة أصابت الجيش المرابطي، وكان تاشفين في تلك الأثناء قد كتب إلى الأقطار يستدعي الحشود من كل ناحية، فقدم إليه عسكر سجلماسة، وعسكر بجاية بقيادة طاهر ابن كباب الصنهاجي من بني حماد أصحاب إفريقية، ووصل من الأندلس عسكر آخر بقيادة الأمير إبراهيم بن تاشفين، وكان قد قدم إلى أبيه قبل ذلك على أثر موت جده على وزاره بجهة كراندة، فبعثه والده إلى قرطبة لإتمام دراسته بها، ثم استدعاه بعد ذلك فوصل في عسكره إلى تلمسان في أواخر سنة 538 هـ، فولاه أبوه في الحال عهده، واجتمعت الجيوش المذكورة في ظاهر تلمسان، وميزوا، وبرزوا في نظام متقن وهيئة كاملة، وعجب الناس من كثرتهم، وحسن نظامهم، وجمال هيئتهم، بيد أنها كانت آخر حشود يحتفل بها المرابطون (4).

- 5 -

ولما قتل الربرتير وبدد جيشه، غادر الموحدون " تيفسرت " وساروا إلى

(1) راجع القسم الثالث من البيان المغرب (نسخة تامجروت) ص 16.

(2)

كتاب العبر ج 6 ص 231.

(3)

Simonet: Hist. de los Mozarabes، p. 760 & 761

(4)

القسم الثالث من البيان المغرب (نسخة تامجروت) ص 15، والحلل الموشية ص 97 و 98.

ص: 248

شمال غربي تلمسان ونزلوا " بالصخرتين " القريبة منها، وكان تاشفين قد أقام محلته في " سطفسيف " القريبة، وكانت المعارك والمناوشات تنشب كل يوم تقريباً بين الفريقين، واستمر ذلك مدة شهرين. ولما وصلت حشود الأقطار إلى تاشفين، خرجت منها حشود بجاية، واشتبكت مع الموحدين في معركة عنيفة في ظاهر " الصخرتين "، فهزمت وقتل منها عدد جم، وبعث قائدها سراً إلى عبد المؤمن، يعده بالتوحيد، وأنه متى افتتح المغرب، فإنه إذا ورد المشرق وجده مفتوحاً كذلك.

وعندئذ أدرك تاشفين دقة مركزه، فقرر أن يترك محلته في تلمسان، وغادرها في قواته إلى وهران الواقعة على البحر في شمالها الشرقي. وبعث ابنه وولي عهده إبراهيم إلى مراكش في جماعة من أشياخ لمتونة ومعه كاتبه أحمد بن عطية.

وكان تاشفين قد ابتنى في وهران حصناً منيعاً على البحر كي يحتمي به عند الحاجة، ودبر مع قائد أسطوله محمد بن ميمون، أن يوافيه إلى وهران بجناح من الأسطول فقدم ابن ميمون من ألمرية في عدة من السفن، وأرسى قريباً من المعسكر المرابطي ينتظر تطور الحوادث. وكان ذلك في شهر شعبان سنة 539 هـ (يناير 1145 م).

وكان المرابطون قبل أن يغادروا محلتهم في سطفسيف إلى وهران قد دبروا كميناً لجيش موحدي يقوده ابن زجّو، ففتكوا به وقتلوا ابن زجّو. فكان ذلك عاملا جديداً في إذكاء سخط الموحدين. وما كاد المرابطون يتحركون نحو الشمال، حتى سار في أثرهم عبد المؤمن في قواته، وبعث في مقدمته الشيخ أبا حفص عمر ابن يحيى الهنتاني (عمر اينتي)، وحشود بني ومانّو من زناتة، فنفذوا إلى بلاد بني يلومي، وبني عبد الواد، وبني ورسيفين، وبني توجين، وكلهم من أنصار لمتونة، وأثخنوا فيهم حتى أذعنوا إلى الطاعة، وسار زعماؤهم إلى عبد المؤمن، وقدموا طاعتهم إليه، فتلقاهم بالقبول، وضمهم إلى قواته (1). وأشرف الموحدون على وهران، وعسكروا فوق الجبل المطل عليها.

وكان كل شىء ينذر حينئذ بوقوع المعركة الحاسمة. وكان المرابطون يرقبون تحركات الموحدين في وجوم وتوجس وقد غادر عدة من قوادهم المعسكر المرابطي وتركوا تاشفين لمصيره. وشعر الموحدون من جانبهم أن الفرصة المنشودة قد حلت، ففي ذات صباح أطلقوا من فوق الجبال صيحتهم الحربية بصوت واحد

(1) البيان المغرب القسم الثالث (نسخة تامجروت) ص 16، وكتاب العبر ج 6 ص 231.

ص: 249

ارتجت له المحلة المرابطية، وأمر تاشفين جنده بأن يلزموا أماكنهم خيفة الكمين.

وعند الظهر سار الموحدون إلى عين الماء التي يشرب منها أهل وهران، فسقوا دوابهم دفعة واحدة، ثم قاد الشيخ أبو حفص قواته، واقتحم المحلة المرابطية، حتى أشرف على مكان خباء تاشفين، وكان موقعه بإزاء الحصن المطل على البحر، فوقع الاضطراب في المعسكر المرابطي، وبارد تاشفين وخاصته ومنهم ابن مزدلي، وبشير الرومي، وصندل الفتى، إلى الالتجاء إلى الحصن، ووقع القتل بين المرابطين، وجمع الموحدون الخشب، وأضرموا النار حول الحصن، وما كاد الظلام يرخي سدوله، حتى كانت ألسنة اللهب قد تعالت، فخشي تاشفين الهلاك، وخرج من الحصن فوق فرسه " ريحانة " يطلب النجاة ويرجو أن تصل إليه بعض قطع أسطوله لتحمله إلى الأندلس، وكان معه صحبه الثلاثة، فسقط صندل في النار واحترق، واستطاع ابن مزدلي أن يجوز إلى أسوار المدينة، ولكنه فقد رشده ومات بعد ثلاثة أيام. وسار تاشفين وبشير إلى مرتفعات الجبل، فقيض لبشير النجاة، ولكن تاشفين، تردت به فرسه تحت جنح الظلام، فسقطت في هوة سحيقة فهلكت الفرس، وهلك تاشفين. وفي الصباح عثر الموحدون على جثة تاشفين في تلك الحافة فصلبوا الجثة، واحتزوا رأسه، وبعث بها عبد المؤمن إلى تينملل، فعلقت في الشجرة التي بإزاء مسجد المهدي.

وكان مصرع تاشفين في ليلة السابع والعشرين من رمضان سنة 539 هـ (22 فبراير 1145 م)(1)، وذلك بعد أن قضى في مدافعة الموحدين زهاء خمسة أعوام متوالية، لم يأو فيها إلى مكان. ولم ينعم بهدنة، ولم يتصل بأهل ولا ولد (2).

وقد أورد لنا ابن الأبار عن مصرع تاشفين رواية أخرى عن أبى علي بن الأشيرى، وقد كان داخل تلمسان حين نزل الموحدون على مقربة منها في سنة 539 هـ، وكان تاشفين عندئذ في ظاهرها في محلاته وجموعه. وخلاصة هذه الرواية، أن تاشفين بعد أن وجه ابنه إبراهيم ولي عهده إلى مراكش خوفاً عليه في شعبان من تلك السنة، وسير معه كاتبه أبو جعفر بن عطية، سار إلى وهران، ولجأ إلى حصن شرع في بنيانه، فقصده الموحدون، وأضرموا النار حوله،

(1) البيان المغرب، القسم الثالث ص 16 و 17، وأخبار المهدي ابن تومرت ص 98، والحلل الموشية ص 100، وابن خلدون ج 6 ص 231، وابن الخطيب في الإحاطة (القاهرة 1956) ج 1 ص 462.

(2)

ابن الأبار في الحلة السيراء ص 198.

ص: 250

فلما رأى ذلك ودع أصحابه ليلا، واقتحم والنار محتدمة بباب الحصن، فوُجد من الغد ميتاً لا أثر فيه لضربة ولا طعنة، ويقال إن فرسه صرعه. وتتفق هذه الرواية مع الروايات الأخرى في أن مصرع تاشفين وقع في ليلة سبع وعشرين من شهر رمضان سنة 539 هـ (1).

وأورد لنا المراكشي رواية ثالثة خلاصتها أن تاشفين لما ذهب إلى تلمسان لم يرضه موقف أهلها، فغادرها إلى وهران، فحاصره الموحدون بها، فلما اشتد عليه الحصار، خرج راكباً فرساً شهباء وعليه سلاحه، فاقتحم البحر حتى هلك، ويقال إنهم أخرجوه من البحر وصلبوه ثم أحرقوه (2).

هذا ويصف لنا ابن الخطيب مصرع تاشفين بن علي في تلك العبارات الشعرية: " واستقبل تاشفين مدافعة جيش أمير الموحدين، أبى محمد عبد المؤمن بن علي خليفة مهديهم، ومقاومة أمر قضى الله ظهوره، والدفاع عن ملك بلغ مداه وتمت أيامه، كتاب الله عليه، فالتأث سعده، وفل جده ولم تقم له قائمة، إلى أن هزم، وتبدد عسكره، ولجأ إلى وهران، فأحاط به الجيش، وأخذه الحصار، قالوا فكان في تدبيره أن يلحق ببعض السواحل، وقد تقدم به وصول ابن ميمون قائد أسطوله لرفعه إلى الأندلس، فخرج ليلا في نفر من خاصته فرقهم الليل، وأضلهم الروع، وبددتهم الأوعار، فمنهم من قتل، ومنهم من لحق بالقطائع البحرية، وتردى بتاشفين فرسه من بعض الحافات، ووجد ميتاً في الغد، وذلك ليلة سبع وعشرين لرمضان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وصلبه الموحدون، واستولوا على الأمر بعده، والبقاء لله تعالى "(3).

وعلى أثر مصرع تاشفين، اقتحم الشيخ أبو حفص بقواته وهران، وأثخن في المرابطين حتى فنى معظهم، والتجأت منهم جماعة إلى الحصن، فحاصرهم الموحدون وقطعوا عنهم الماء حتى أذعنوا إلى التسليم بعد ثلاثة أيام. ومع ذلك فقد قتلهم الموحدون جميعاً كباراً وصغاراً، وكان ذلك في يوم عيد الفطر من سنة 539 هـ. وكانت مذابح وهران هذه، من أفظع المظاهر التي تميزت بها سياسة الموحدين الدموية.

(1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 197 و 198.

(2)

المعجب ص 112 و 113.

(3)

الإحاطة في أخبار غرناطة (القاهرة 1956) ج 1 ص 461 و 462.

ص: 251

ولما وصل خبر مصرع تاشفين إلى تلمسان، مع فلّ لمتونة، أسرع من كان بها وبضاحيتها القريبة تاجررت من لمتونة، فغادروها هائمين على وجوههم يقصدون إلى فاس وغيرها من الأماكن التي مازالت تحت حكم المرابطين. وكان في مقدمة من غادرها الأمير يحيى بن أبى بكر بن علي المعروف بالصحراوي وهو ابن أخى تاشفين، وكان قد وفد إليها قبل ذلك بقليل في بعض قواته لإنجاد تاشفين. فلما وقعت الكارثة أسرع في فلوله إلى فاس، وامتنع بها، وأخذ ينظم الدفاع عنها. ولم يبق بتلمسان سوى العامة وأهل الحضر، وبادر جماعة من أعيانها في نحو ستين رجلا إلى لقاء عبد المؤمن يلتمسون منه الأمان، فلقيهم يصلاتن (يصلاصن) الزناتي في قوة من الموحدين في وادي تافنا القريب، فقتلهم عن آخرهم، وطار نبأ مصرعهم إلى تلمسان. فسرى إلى أهلها الرعب والروع، وسادت بها الفوضى.

ودخل عبد المؤمن وجنده الموحدون تاجررت في غداة عيد الفطر، فقتلوا أهلها، واقتسموا دورها. ثم غادروها إلى تلمسان. وكان يسودها الوجوم والفزع. فلما اقترب الموحدون منها خرج الأعيان والطلبة، يسعون إلى لقاء عبد المؤمن والتماس العفو منه، فأقبل يصلاتن وجنده وجردوهم من ثيابهم، وقتلوا جماعة منهم، تحت نظر الخليفة، والشيخ أبى إبراهيم أحد الصحب العشرة، ثم دخل عبد المؤمن المدينة، وقتل الموحدون كثيراً من أهلها (1). ويؤيد هذه الرواية ويعززها صاحب الحلل الموشية. فيقول لنا إن عبد المؤمن دخل تلمسان عنوة وقتل أهلها وسبى حريمها، ودخل كل واحد من الموحدين من الموضع الذي يليه، فأخذوا منها من الأموال ما لا يحصى، وقد بلغ فيها عدد القتلى، وفقاً لابن اليسع مائة ألف أو تزيد.

وفي رواية أخرى أن عبد المؤمن استباح أهل تاجررت وقتلهم لما كان معظمهم من حشم اللمتونيين، وعفا عن أهل تلمسان. وفي رواية ثالثة أن عبد المؤمن لم يدخل تلمسان فوراً، ولكنها امتنعت عليه، واضطر إلى محاصرتها، وأنه لبث وقتاً على حصارها، وأخبار الفتوح والبيعات ترد عليه، وأنه ترك على حصارها إبراهيم بن جامع وغادرها إلى فاس (2). بيد أنه يبدو أن الرواية

(1) البيان المغرب، القسم الثالث ص 18، والحلل الموشية ص 101.

(2)

ابن خلدون ج 6 ص 231.

ص: 252

الأولى هي الرواية الراجحة، وأنه ليس من المعقول أن تصمد تلمسان في مثل هذه الظروف، أمام جيش مظفر مثل جيش عبد المؤمن، يندفع في فتوحه كالسيل يحمل من يصادره. هذا، وربما كان فيما يقول ابن صاحب الصلاة، مؤرخ الموحدين، ما يرفع هذا التناقض بين الروايتين، فهو يقول لنا إنه لما استقر عبد المؤمن بتلمسان بعد استشهاد من استشهد، امتنعت عليه قصبتها بمن فيها، فوضع عليها الحصار، ولما رحل إلى فاس ترك عسكراً ليتابع حصارها (1).

ومن ثم فقد لبث عبد المؤمن، وفقاً للرواية الأولى في تلمسان سبعة أشهر، ليستريح وليرقب شئون الفتوح في تلك المنطقة. ومن المعروف مما تقدم أن عبد المؤمن كان من أهل تاجرا (تاجررت) وبها كان مسقط رأسه، وأن أمه تنتمى إلى قبيلة كومية، وموطنها يقع في نفس المنطقة جنوب تاجرا. وإذاً فقد كان من الطبيعي أن يتمهل عبد المؤمن قليلا في تلك الربوع، التي نشأ فيها وترعرع، ولما تم تنظيم الشئون، ندب عبد المؤمن للولاية على تلمسان، سليمان بن محمد بن وانودين الهنتاني، ثم غادرها في قواته في ربيع الثاني سنة 540 هـ (أكتوبر 1145 م)، قاصداً إلى مدينة فاس.

(1) أورده البيان المغرب، القسم الثالث - ص 19.

ص: 253