الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصْل السّابع
فتح المهدية وإجلاء الفرنج عن إفريقية
غزوات الفرنج النورمانيين لثغور إفريقية. استيلاؤهم على طرابلس والمهدية. فرار الحسن الصنهاجي أمير المهدية وآله. انتهاء مملكة بني زيري. استيلاء الفرنج على سوسة وصفاقس. التجاء الحسن إلى عبد المؤمن. إحجام عبد المؤمن حين غزوه لبجاية عن مهاجمة الفرنج. استيلاء الفرنج على بونة. وفاة الملك رجار النورماني. بداية الثورة في إفريقية ضد الفرنج. الثورة في جزيرة جربة وصفاقس وطرابلس وقابس. انتزاع الموحدين لبونة. فشل الثورة في المهدية وزويلة. استغاثة أهل إفريقية بعبد المؤمن. تأهبه للجهاد ضد الفرنج. مسير عبد المؤمن في قواته إلى رباط الفتح. تكامل الحشود وتضخمها. مسير عبد المؤمن إلى إفريقية ومعه الحسن الصنهاجي. مسير الأسطول في البحر إلى شاطىء إفريقية. استيلاء عبد المؤمن على تونس. شروط الأمان الممنوح لها. عبد المؤمن يهاجم المهدية ثم يحاصرها. دخول صفاقس وطرابلس وجبال نفوسة في الطاعة. افتتاح الموحدين لقابس. معركة بحرية بين الموحدين والفرنج. تسليم المهدية بالأمان. إتمام تحرير إفريقية من نير الفرنج. المناوشات بين عبد المؤمن وبين العرب. أصل أولئك العرب الأفارقة. نزوحهم إلى مصر. قصة نزوحهم إلى إفريقية. عبورهم إلى الغرب ونزولهم به. محاولة استمالة المعز بن باديس لهم وعيثهم بأراضيه. الحرب بينهم وبين البربر. هزيمة المعز وفراره إلى القيروان. حصار العرب للقيروان. دخولهم إياها وتخريبهم لها. تخريبهم لتونس ونهبها. نزولهم في المهدية. قطعهم السبل وبسطهم لحكم الإرهاب في إفريقية. سيطرتهم على طرابلس وقابس وبلاد الزاب. تحولهم إلى عنصر خطر بغيض. اعتداؤهم على قابس، واستنقاذ عبد المؤمن لها. تفكير عبد المؤمن في حشد طوائفهم في عسكره. تظاهرهم بالقبول وغدرهم. محاصرة الموحدين لهم وفتكهم بهم. عبد المؤمن يرد حريمهم ويستميلهم بصلاته. عبور عبد المؤمن إلى الأندلس.
لما افتتح الموحدون بجاية معقل إفريقية (1) من الغرب، في أواخر سنة 547 هـ، وقضى عبد المؤمن على سائر الثورات والمؤامرات التي دبرت ضده سنة 549 هـ، وقصد على أثر ذلك إلى تينملّل، وزار قبر المهدي، كانت الظروف تتهيأ لمرحلة جديدة من الفتح الإفريقي. وكانت الحوادث في إفريقية، قد تطورت خلال هذه الأعوام الأخيرة تطوراً سيئاً، واستفحل عدوان الفرنج النورمانيين أصحاب صقلية، على الثغور التونسية، والشواطىء المجاورة. وكان الفرنج
(1) يقصد بإفريقية هنا " منطقة تونس ".
النورمان قد استولوا على جزيرة جِربة الواقعة في مدخل خليج قابس منذ سنة 529 هـ (1135 م)، بعد أن قاومهم أهلها مقاومة عنيفة، ثم حاولوا الاستيلاء على ثغر طرابلس في سنة 537 هـ (1142 م)، فهاجموه بأسطول قوي، ولكنهم فشلوا وردهم أهله المسلمون بخسارة فادحة، وكانت طرابلس وقتئذ تابعة لمملكة إفريقية (تونس)، ولكنها لم تكن تدين بالطاعة لملكها الأمير الحسن بن على بن يحيى الصنهاجي. ثم عاد رُجّار (روجر) ملك صقلية، فجهز إلى طرابلس أسطولا ضخماً، واستطاع الفرنج هذه المرة الاستيلاء عليها (541 هـ - 1146 م) وولوا عليها رجلا من بني مطروح. وفي العام التالي (542 هـ) أعلن يوسف صاحب قابس المتغلب عليها طاعته للفرنج، فبعث الأمير الحسن جيشاً لقتاله، فنازل قابس وحاصرها، وثار أهل البلد بيوسف، فأسر وعذب وقتل، وفر إخوته وأولاده إلى صقلية، واستغاثوا بملكها رجار الثاني. وكانت الهدنة معقودة بين رجار وبين الحسن لمدة سنتين، ولكن رجار علم ما تعانيه إفريقية والمغرب في هذه الفترة، من شدة الغلاء والقحط، ولم يرد أن تفوته هذه الفرصة السانحة لمهاجمة إفريقية، وانتزاع ما يمكن انتزاعه منها. فسير إلى مياه إفريقية أسطولا ضخماً قوامه مائتي وخمسين سفينة مشحونة بالرجال والسلاح والأقوات، بقيادة أمير البحر جرجي الأنطاكي، وكان قبل التحاقه بخدمة ملك صقلية، أميراً لأسطول إفريقية الإسلامي، ومن ثم كان علمه بأسرار هذه الشواطىء، واستولى الأسطول في طريقه على جزيرة قوصرة (بنتلاريا) الواقعة بين صقلية، وبين الشاطىء التونسي، ثم سار نحو الجنوب الغربي، وقصد إلى ثغر المهدية، وهي قاعدة مملكة بني زيري الصنهاجيين. وكان ذلك في اليوم الثاني من صفر سنة 543 هـ (يونيه 1148 م). وكان أمير البحر جرجي يرجو مفاجأة المدينة، بالوصول إليها في وقت السحر، ولكن الرياح عاكسته، ولم يصل إلا في الضحى، فرآه أهل المدينة، وازعج الأمير الحسن الصنهاجي من قدوم الفرنج، وبعث إليه جرجي يخاطبه باللين، ويقول إنه مازال يحترم الهدنة المعقودة بينه وبين الملك رجار، ولكنه يطالب بثأر صاحب قابس وردها إلى ولده، ويطلب أن تنضم إليه قوة من جند الحسن، فجمع الحسن فقهاء المدينة وأعيانها، وشاورهم في الأمر، وبين لهم حرج الموقف، وتخوفه من قيام الفرنج بحصار المدينة، وقطع الأقوات عنها، ثم اقتحامها عنوة، والفتك بأهلها، ونصح بمغادرة الناس
للمدينة، قبل أن يفوت الوقت، ثم بادر هو بالخروج منها ومعه الأهل والولد، ومن صحبه من الفقهاء والأعيان، وقد حمل معه كل ما يستطاع من المال والذخائر، وتبعه معظم الناس، فخرجوا بأهلهم وأولادهم، ومعهم ما خف حمله من أموالهم ومتاعهم. ولم يكد يأتي العصر حتى كان معظم أهل المهدية قد غادروها، وأقبل الفرنج وعلى رأسهم جرجي ودخلوا المدينة دون ممانعة، ودخل جرجي القصر، وكان ما يزال غاصاً بنفيس المتاع والرياش والذخائر، وبه عدة من جواري الحسن، فاحتاط الفرنج على ما فيه، ونُهبت المدينة مدى ساعتين، ثم نودي بالأمان، فظهر من استخفى من أهل المدينة، واستدعى جرجي العرب القريبين فأحسن إليهم، وفرق فيهم أموالا جزيلة، وبعث طائفة من جند المهدية، في أثر من خرج من أهلها، ومعهم الأمان لهم، ومعهم كذلك دواب يعودون عليها، فعاد معظمهم. أما الحسن، فسار في أهله وولده، وكانوا إثنا عشر ولداً غير الإناث، والخاصة، وقصد إلى أمير من أمراء العرب يدعى محرز، وكان أبو الحسن قد آثره وأحسن إليه، فأكرم محرز وفادته، فأقام لديه شهوراً. ثم بعث إلى ابن عمه يحيى بن العزيز بالله صاحب بجاية، يستأذنه في الوفود عليه والانضواء تحت لوائه، والسفر من لديه إلى الخليفة عبد المؤمن، فأذن له يحيى، ولكنه ما كاد يصل إلى بلاده، حتى سيره إلى جزائر بني مزغنة، أو بني مزغنان (وهي الجزائر الحالية) وأنزله بها هو وأولاده في حالة اعتقال، وضيق عليه.
وهكذا انتهت باستيلاء الفرنج على المهدية، وعزل الحسن، مملكة بني زيري ابن مناد الصنهاجيين، بعد أن لبثت في إفريقية مذ رحل المعز لدين الله عنها إلى مصر، في سنة 361 هـ، وتولى زيري بن مناد حكمها، حتى سقوط المهدية في سنة 543 هـ، مائة وثمانين سنة، ولم تمض أيام قلائل على استيلاء الفرنج على المهدية حتى سير أمير البحر جرجي حملة بحرية إلى سوسة، وكان واليها الأمير علي بن الحسن، فغادرها، وخرج عنها أهلها، ودخلها الفرنج دون قتال في الثاني عشر من شهر صفر. وسير جرجي بعد ذلك حملة أخرى إلى صفاقس، فاستولت عليها بعد مقاومة عنيفة من أهلها ومن حلفائهم العرب، وذلك في الثالث والعشرين من صفر. ثم نودي بالأمان، فعاد الناس إلى سوسة وصفاقس، وافتدوا حريمهم وأولادهم، وأحسن الفرنج معاملتهم. ثم وصلت بعد ذلك كتب الملك رُجّار بمنح الأمان لسائر أهل إفريقية. وهكذا استولى الفرنج النورمانيون على شاطىء
إفريقية من ثغر طرابلس حتى خليج تونس (1).
ولما سار الخليفة عبد المؤمن في جيوشه من سلا في أوائل سنة 546 هـ، متجهاً إلى بجاية بغية فتحها، واستولى في طريقه على جزائر بني مزغنة، خرج إليه منها الحسن بن علي الصنهاجي، وكان معتقلا بها كما تقدم، وبايع عبد المؤمن بالطاعة، ملتجئاً إليه ومستظلا برعايته، فأكرم عبد المؤمن مثواه، وصاهره بأن تزوج ابنة من بناته، واصطحبه معه إلى مراكش. وبالرغم من تقدم الفرنج والنورمانيين على هذا النحو، في امتلاك ثغور إفريقية، فإن الظروف التي كانت تحيط بالموحدين يومئذ، لم تكن تسمح لعبد المؤمن، بأن يدخل في صراع مع الفرنج، وهو مازال يعمل على توطيد أركان الدولة الجديدة، ومطاردة أعدائها في الداخل، ومن ثم فإنه بعد أن افتتح بجاية، وقضى على شغب العرب المحالفين لبني حماد، عاد إلى سلا ثم إلى مراكش، ليواجه أحداثاً جديدة في الداخل.
ولكن الفرنج الصقليين لم يقفوا عند حد. ذلك أنه لم تمض بضعة أعوام على افتتاحهم للمهدية، وباقي ثغور إفريقية (تونس) الشرقية، حتى سار من صقلية أسطول فرنجي جديد بقيادة أمير البحر فيليب المهدوي، وقصد إلى مدينة بونة، الواقعة شرقي بجاية، في منتصف المسافة بينها وبين تونس، فحاصرها واستعان على أخذها بالعرب، وذلك في شهر رجب سنة 548 هـ (أكتوبر 1153 م). وبالرغم من أن فيليب قد سبى أهل بونة، واستصفى أموالها، فإنه أغضى عن جماعة الفقهاء والعلماء، فتركهم يخرجون بأهلهم وأموالهم، فترتب على ذلك أن اتهمه بعض خصومه بأنه نصراني مارق، وأنه يبطن الإسلام هو وفتيانه، فقبض عليه الملك رُجّار، وحكم عليه بالموت حرقاً. وتوفي رُجّار بعد ذلك بقليل (فبراير 1154 م) وخلفه في الملك ولده، وليم، وهو المسمى في الرواية العربية غليالم. ولم يكن وليم يتمتع بكثير من مقدرة أبيه وحزمه فلم تلبث أن اضطربت شئون المملكة، وثارت عليه بعض النواحي، وكان لذلك أثره في تطور الحوادث في إفريقية.
ذلك أن أهل الثغور الإسلامية المفتوحة ما كادوا يشعرون باضطراب الأحوال في صقلية، حتى بادروا بإعلان الخلاف، ونبذ طاعة الفرنج، وكان أول من ثار منهم أهل جزيرة جربة، ثم تلتها مدينة صفاقس، وكان واليها عمر بن
(1) ابن الأثير ج 11 ص 47 - 49.
أبى الحسن الفرياني، قد وُلي عليها من قبل رُجار، وأخذ أبوه الشيخ أبو الحسن إلى صقلية رهينة بحسن طاعته، ولكن أبا الحسن أوعز إلى ولده بأن ينتهز أول فرصة لتحطيم نير الفرنج، ولا يبالي في ذلك بمصيره. فأعلن عمر الخلاف، ودعا أهل المدينة إلى قتل الفرنج وسائر النصارى، ففتكوا بهم، وقتلوهم عن آخرهم، وكان ذلك في أوائل سنة 551 هـ (أوائل 1156 م). واضطرمت الثورة ضد الفرنج في نفس الوقت في طرابلس بقيادة شيخها أبى يحيى بن مطروح، وكان زعيماً شهماً حازماً، وأسرت الحامية النصرانية (أوائل سنة 553 هـ)، وكذلك اضطرمت الثورة ضد الفرنج، في قابس، وسارت قوة موحدية من بجاية إلى مدينة بونة، وانتزعتها من الفرنج، ولم يبق بيد الفرنج من ثغور إفريقية سوى سوسة والمهدية. وحرض عمر بن أبى الحسن والي صفاقس، أهل بلدة زويلة الواقعة على مقربة من المهدية، أن يقتلوا النصارى ففعلوا، وعاونهم العرب على قطع المؤن والأقوات عن المهدية. ولما علم الملك وليم بذلك، حاول أن يدفع الفقيه أبى الحسن إلى نصح ولده، وبعث يتهدد عمراً بالويل، إذا لم يعدل عن سلوكه، فلم تنجح المحاولة، وأمر وليم بأبى الحسن فصلب أو شنق وهو يتلو القرآن (1). واجتمع أهل زويلة وصفاقس ومن معهم من الأعراب، وحاصروا المهدية، وضيقوا عليها، فبعث وليم إلى المهدية عدداً من السفن المشحونة بالرجال والأقوات، واستمال الفرنج الأعراب بالمال والأعطية، فانسحبوا من المعركة وانحصر القتال بين الفرنج وأهل صفاقس وزويلة، واستطاع أهل صفاقس الانسحاب بطريق البحر، ووقع عبء القتال كله على أهل زويلة، فارتدوا إلى بلدهم، وقاتلوا تحت أسوارها حتى فنى معظمهم، ولم ينج منهم إلا القليل، ودخل الفرنج زويلة فقتلوا من وجدوا بها من النساء والأطفال، ونهبوا الأموال، واستقر الفرنج بالمهدية، على أهبة للصراع المرتقب (2).
ووفد على عبد المؤمن، وهو يومئذ بمراكش، وفود من زويلة، وغيرها من الثغور المنكوبة يستغيثون به، ويستصرخونه لرد عادية الفرنج عنهم وعن أرض الإسلام، فأكرم وفادتهم ووعدهم خيراً. وكان الحسن بن علي الصنهاجي أمير المهدية السابق، ما فتىء منذ نزوله في كنف عبد المؤمن، يحرضه
(1) رحلة التجاني (تونس 1958) ص 75 و 242.
(2)
ابن الأثير ج 11 ص 76 و 77.
على استنقاذ إفريقية، وتحريرها من نير الفرنج، وكان عبد المؤمن نفسه، يرقب تقدم الفرنج في هذا الركن من شمال إفريقية، بكثير من التوجس، ويخشى أن يتفاقم عدوانهم بالتوغل في أرجاء أخرى من شمالي المغرب. ومن ثم فإنه ما كاد ينتهي من تنظيم الشئون الداخلية، حتى أمر باتخاذ الأهبة للجهاد، وأن تجمع الأقوات، وتحفر الآبار في الطرق، وبعث كاتبه عبد الملك بن عيّاش، بالكتب إلى سائر قبائل الموحدين، يستنفرهم للجهاد، وادخار المؤن، وكتب إلى أهل الثغور البحرية بإنشاء السفن والأجفان. وكان عبد المؤمن، بعد أن نكب وزيره وكاتبه أبا جعفر بن عطية، وأمر بقتله (صفر سنة 553 هـ) حسبما نفصل في موضعه، قد استوزر مكانه عبد السلام بن محمد الكومي، وعين لكتابته عبد الملك بن عيّاش القرطبي. وفي فاتحة شوال سنة 553 هـ (نوفمبر 1158 م)، غادر عبد المؤمن حضرة مراكش، وسار إلى رباط الفتح، قبالة ثغر سلا، مستخلفاً على مراكش الشيخ أبا حفص عمر بن يحيى الهنتاني ومعه ولده أبو الحسن علي، وعلى فاس أبا يعقوب يوسف بن سليمان. وتوافدت عليه العساكر من كل صوب. فلما تكامل ورود الجيوش الموحدية، تحرك عبد المؤمن من سلا في العاشر من شهر صفر سنة 554 هـ (فبراير 1159 م) ومعه الحسن بن علي الصنهاجي أمير إفريقية السابق (1). وتقدر الرواية هذا الجيش الموحدي الكبير بمائة ألف مقاتل ومعهم مثل هذا العدد من الأتباع والسوقة (2). وفي رواية أخرى أنه كان يضم خمسة وسبعين ألف فارس، وخمسمائة ألف من الرجالة، وكان يضم عدا طوائف الموحدين ومختلف القبائل من زناتة والأغزاز والرماة وغيرها، جموعاً كبيرة من قبائل العرب. وكان ينقسم إلى أربعة جيوش، لكل عسكر يوم يختص به، مسيره في كل مرحلة من السحر إلى وقت الغداة. وتنزل الجيوش مريحة إلى يوم آخر (3). واخترق هذا الجيش الجرار هضاب المغرب، متجهاً نحو إفريقية، واخترق بلاد الزاب من جنوبها، وهو يفتتح المعاقل الممتنعة، ويؤمن من استأمن.
ثم اتجه نحو الشمال فوصل إلى أحواز مدينة تونس في الرابع والعشرين من جمادى الثانية، ومعنى ذلك أنه قطع هذه المسافة الشاسعة، وهي تبلغ نحو ألف
(1) البيان المغرب، القسم الثالث ص 38، وابن الأثير ج 11 ص 91.
(2)
ابن الأثير ج 11 ص 91.
(3)
الحلل الموشية ص 115.
وثلاثمائة ميل في نحو أربعة أشهر ونصف، وقد كانت يومئذ " مسيرة سبعين يوماً للفارس المجد ". وسار الأسطول الموحدي في نفس الوقت قبالة شاطىء البحر المتوسط بقيادة أبى عبد الله بن ميمون، وكان مكوناً من سبعين سفينة حربية، من الشواني والطرائد والشلندرات. ولما وصل الموحدون إلى المدينة، بعث عبد المؤمن إلى أهلها يطلب الطاعة، فرفض أهل المدينة، وعلى رأسهم حاكمها أحمد بن خراسان، فبدأ الموحدون مهاجمة المدينة، وعاقت الرياح الأسطول عن دخولها من ناحية البحر، فلما دخل الليل، أقبل سبعة عشر رجلا من أعيانها يطلبون الأمان لأهلها، فمنحهم عبد المؤمن الأمان المطلوب لأنفسهم، وارتضى الأمان لأهل المدينة في أنفسهم وأهلهم فقط، على أن يقاسمهم الموحدون أملاكهم وأموالهم بحق النصف، وأن يخرج حاكم البلد وأهله منها، فاستقر الرأي على ذلك، ودخل الموحدون المدينة، ورصدت الأملاك والأموال، وأقيم عليها الأمناء لتحصيل ما يستحق منها للموحدين، وأقام بها عبد المؤمن ثلاثة أيام، وعرض الإسلام على من بها من النصارى واليهود، وأمر بقتل كل ممتنع عن اعتناقه، ثم غادر عبد المؤمن تونس في قواته، وسار جنوباً إلى المهدية، والأسطول يلاحقه في البحر، فوصل إليها في الثامن عشر من شهر رجب سنة 554 هـ (5 أغسطس 1159 م).
وكان الفرنج بالمهدية على أهبة للدفاع، وكانت حاميتها تتكون من ثلاثة آلاف مقاتل، وكانت المدينة فوق ذلك تموج بطوائف الأشراف والفرسان الفرنج (1)، وقد أخلى الفرنج ضاحيتها الشمالية زويلة، فدخلها عبد المؤمن، واحتلها الجند الموحدون والسوقة، وانضمت إليهم جموع غفيرة من العرب وصنهاجة. وأخذ الموحدون في منازلة المدينة، ولكنهم لم يستطيغوا خلال ثلاثة أيام من الهجوم المستمر، أن ينالوا منها شيئاً، وكانت بمناعة موقعها الطبيعي، والبحر يكاد يحيط بها إلا من لسان متصل بالبر، وبأسوارها الحصينة العالية، ترد كل محاولة، وكان الفرنج يخرجون منها بين آن وآخر لمقاتلة الموحدين، فينالون منهم، ثم يعودون بسرعة إلى الاعتصام بالمدينة. وعندئذ أدرك عبد المؤمن أنه لا سبيل إلى اقتحام المدينة، وأنه لابد من أخذها بالحصار والمطاولة، وأمر بجمع الغلال والأقوات، فجمعت حتى صارت بين العسكر كالجبال. واستمر
(1) ابن الأثير ج 11 ص 99، والحلل الموشية ص 117.
الحصار زهاء ستة أشهر. وفي أثناء ذلك أعلنت مدينة صفاقس، ومدينة طرابلس، وجبال نفوسة، وقصور إفريقية، كلها الطاعة لعبد المؤمن، وجاء والي صفاقس عمر بن الحسين مع جماعة من الأشياخ فقدموا طاعتهم، وعين لهم عبد المؤمن حافظاً من الموحدين، وترك الشئون المخزنية لعمر، وكذلك جاء وفد من أعيان طرابلس وعلى رأسه واليها أبو يحيى بن مطروح، وبايعوا عبد المؤمن بالطاعة فأقر عبد المؤمن أبا يحيى على ولايته، واستمر في رياسته عصراً وسار جيش موحدي بقيادة السيد عبد الله بن عبد المؤمن، وقيل بقيادة الوزير محمد بن عبد السلام الكومي إلى مدينة قابس، فافتتحها بالرغم من خروج قاضيها وأعيانها لطلب الأمان، ونهبت أموالها، وأبيد من كان حولها من طوائف العرب. وفر واليها مدافع بن رشيد بن مدافع في أهله وصحبه. ثم عاد بعد فترة من التشريد، فاستجار بعبد المؤمن فعفا عنه، وأسكنه بقابس حتى توفي وكان مدافع عالماً حافظاً وأديباً شاعراً (1).
وجاء وفد من أعيان قفصة، وعلى رأسهم واليها يحيى بن تميم بن المعز، ليقدموا طاعتهم إلى عبد المؤمن، فتقبلها منهم، ومدح عبد المؤمن شاعرهم الفقيه أبو عبد الله محمد بن أبى العباس التيفاشي، بقصيدة مطلعها:
ما هَزّ عطفيه بين البيض والأسل
…
مثلُ الخليفة عبد المؤمن بن علي
ويقال إن عبد المؤمن لما سمع هذا البيت، أشار على الشاعر بأن يقتصر عليه، وأمر له بصلة قدرها ألف دينار (2).
ولم تمض بضعة أسابيع على بدء الحصار، حتى قدم أسطول فرنجي كبير، مكون من مائة وخمسين سفينة، مشحونة بالأقوات والمقاتلة لإمداد الفرنج.
وكان هذا الأسطول قد عاد من جزيرة يابسة، إحدى الجزائر الشرقية بعدما أثخن فيها، وسبى أهلها، فلما قرب من صقلية، بعثه الملك وليم لإنجاد حامية المهدية، فلما اقتربوا من الخليج، خرج إليهم الأسطول المغربي بقيادة أبى عبد الله ابن ميمون، ونشبت بين الأسطولين معركة بحرية عظيمة انتهت بهزيمة الفرنج، واستيلاء المسلمين على عدة من سفنهم. ويقال إن عبد المؤمن كان خلال المعركة
(1) رحلة التجاني ص 76 و 101 و 243.
(2)
ابن خلكان ج 1 ص 391، وابن الأثير ج 11 ص 92.
يمرغ وجهه في الأرض باكياً، وهو يدعو للمسلمين بالنصر فحقق الله دعاءه (1) واستمر الحصار على أشده بضعة أشهر أخرى، حتى آخر شهر ذي الحجة من سنة 554 هـ وقد نضبت الأقوات، وأخذ الضيق يرهق المحصورين، فلما رأى الفرنج ما رأوا من ضخامة جيوش عبد المؤمن وأساطيله، وأنه لا أمل لهم في النجاة من مصيرهم المحتوم، خرج منهم عشرة فرسان، وقابلوا عبد المؤمن وسألوه الأمان لمن فيها من الفرنج على أنفسهم وأموالهم، وأن يتركهم أحراراً يخرجون من المدينة، ويذهبون إلى ديارهم، فأجابهم عبد المؤمن إلى ما طلبوه، وجهز لهم السفن ليعبروا البحر فيها. وكان تصرفاً مقروناً بالحكمة، لأن صاحب صقلية الملك وليم، كان قد أنذر بقتل المسلمين في بلاده وانتزاع أموالهم، وسبى حريمهم، إذا أقدم الموحدون على قتل الفرنج في المهدية. ومع ذلك فقد غرق كثير من السفن التي كانت تحمل الفرنج إلى صقلية من جراء العواصف وثورة الموج.
ودخل عبد المؤمن ثغر المهدية في صبيحة يوم عاشوراء من نفس المحرم سنة 555 هـ (21 يناير سنة 1160 م) وقد سماها عبد المؤمن سنة الأخماس. وأقام بالمهدية عشرين يوماً يرتب شئونها، ويصلح أسوارها، ويشحنها بالذخائر والأقوات.
ثم ندب لولايتها أبا عبد الله محمد بن فرج الكومي، وجعل معه صاحبها القديم الحسن بن علي الصنهاجي، وأقطعه بها إقطاعاً حسناً. وهكذا استطاع عبد المؤمن، أن يقضي على عدوان الفرنج الصقليين على ثغور إفريقية، بعد أن كاد يستقر ويتأثل، وأن يحررها من نير النصرانية، وأن يردها إلى صولة الإسلام، بعد أن خرجت عنها اثني عشر عاماً، مذ سقطت في أيدي الفرنج في سنة 543 هـ (1148 م)(2).
وفي فاتحة صفر سنة 555 هـ، غادر عبد المؤمن ثغر المهدية، وسار في قواته عائداً إلى المغرب. بيد أنه قبل أن يغادر أراضي إفريقية، وقعت بينه وبين العرب بعض مناوشات ومعارك.
وكان أولئك العرب ومعظمهم من بطون هلال وسليم من مضر، قد نزحوا إلى إفريقية منذ أوائل القرن الخامس الهجري. وكانت أحياء بني سليم بالحجاز على مقربة من المدينة، وأحياء بني هلال في جبل غزوان عند الطائف، ومنهم جشم
(1) ابن الأثير ج 11 ص 92. وراجع مواقع غزوات المهدية في الخريطة المنشورة في ص 283.
(2)
ابن الأثير ج 11 ص 92، والحلل الموشية ص 117 و 118، والبيان المغرب القسم الثالث ص 39، وروض القرطاس ص 139، والاستقصاء ج 1 ص 155 و 156.
والأثبج وزغبة ورياح وربيعة وعدي. وكانوا يزحفون أحياناً إلى أطراف العراق والشام، ويقطعون الطرق، ويفسدون السابلة، وأحياناً كان بنو سليم يعتدون على الحاج أيام موسمهم بمكة، وأيام الزيارة بالمدينة. واستمرت البعوث والكتائب تجهز لمعاقبتهم، وحماية الحاج من شرهم، ولكن دون جدوى. ولما ظهر القرامطة بالبحرين في أوائل القرن الرابع الهجري لحق بهم بنو سليم، وبنو هلال، وكثير من بطون ربيعة بن عامر. ولما تغلب القرامطة على الشام، وأخذوا يهددون مصر، وظفر الخليفة العزيز بالله بهزيمتهم وردهم، استبقى أشياعهم من العرب من بني هلال وسليم بمصر، وأنزلهم بالصعيد وفي الصحراء الشرقية، فأقاموا هنالك، ولكنهم لم ينقطعوا عن عيثهم وفسادهم.
وهنا تأتي قصة نزوحهم إلى إفريقية. وكان المعز لدين الله الفاطمي، حينما انتقل من إفريقية إلى مصر في سنة 361 هـ، قد استخلف على إفريقية يوسف بن زيري بن مناد الصنهاجي ليحكم باسم الخلافة الفاطمية وتحت سيادتها. ثم تطورت الظروف وعمل آل زيري على تدعيم استقلالهم، حتى فسد الأمر بينهم وبين الخلافة الفاطمية، فخلعوا طاعتها الإسمية، وأعلن المعز بن باديس الصنهاجي انضواءه تحت لواء الخلافة العباسية (سنة 437 هـ)، فعز ذلك على الخلافة الفاطمية، وغضب الخليفة المستنصر بالله، وأخذ البلاط الفاطمي يبحث عما يمكن فعله لمقابلة هذا الإجراء، الذي اعتبر خروجاً على الخلافة الفاطمية، واعتداء على حقوقها الشرعية.
وكان العرب من بني سليم وهلال الذين أنزلوا بالصعيد قد تكاثروا، وتفاقم عيثهم وشرهم، فأشار الوزير أبو محمد الحسن بن علي اليازوري، على الخليفة المستنصر باستمالة أشياخهم، وتقليدهم أعمال إفريقية وشئونها، ليكونوا هنالك أولياء للدعوة الشيعية، وليعملوا على نصرتها إزاء آل زيري المنتزين عليها، فإن نجحت الفكرة وبقى أولئك على ولائهم، كان ذلك كسباً للخلافة الفاطمية وتقوية لجانبها، هذا فضلا عن انقطاع عيثهم بنواحي مصر، وإن كان الأمر بالعكس فهم وشأنهم. فوافق المستنصر على ذلك الرأي، وبعث وزيره إلى العرب في سنة 541 هـ، فسار إلى أحيائهم، وبذل العطاء الوفير لأشياخهم، وفرق في عامتهم بعيراً وديناراً لكل منهم، وأباح لهم عبور النيل، وقال لهم قد أعطيناكم مُلك المغرب، ومُلك المعز بن باديس.
فثارت أطماع أولئك العرب، وأغراهم ما سوف ينالونه في إفريقية من أسباب الثراء والسلطان، وجازت النيل من بطون سليم وهلال جموع غفيرة وساروا إلى برقة، ونزلوا بها، واقتحموا أمصارها، واستباحوها، واستولوا على أسلابها، وبعثوا إلى إخوانهم في شرقي النيل يرغبونهم في اللحاق بهم، فجازت منهم جموع أخرى بعد أن أعطوا دينارين لكل رأس، واقتسموا الأراضي المفتوحة، فحصل لبني سليم الشرق، ولهلال الغرب، وأقامت طوائف من سليم وأحلافها برواحة وناصرة وعمرة من أرض برقة. وسارت قبائل دياب وزغبة وجميع بطون هلال إلى إفريقية، وهم " كالجراد المنتشر لا يمرون على شىء إلا أتوا عليه " حتى وصلوا إلى إفريقية وذلك في سنة 443 هـ.
وكان أول من وصل إليها من أشياخهم أمير رياح موسى بن يحيى الصنبري، وكان المعز بن باديس حينما رأى تقاطر العرب نحو أراضيه، قد فكر في استمالتهم ومحالفتهم، فاستدعى موسى إليه وقربه وأصهر إليه، وحثه على استدعاء العرب، وذلك لكي يقوي جانبه بمؤازرتهم، فاستنصرهم وجلبهم. ولكنهم عاثوا في البلاد أيما عيث، ونادوا بشعار الخلافة الفاطمية، واشتدوا على أحياء صنهاجة، فغضب المعز، وقبض على أخى موسى، وخرج بقواته إلى ظاهر القيروان، واستعان بابن عمه حماد بن بلُكّين صاحب القلعة، فبعث إليه بالأمداد، والتفت حوله زناتة والبربر، وصمد في حشوده الجرارة للعرب، وكانوا وفقاً لأقوال الرواية في ثلاثين ألفاً، وفي مقدمتهم رياح وزغبة وعدى. فلما التقى الفريقان انخذل العرب من أنصار المعز، وخانته زناتة، فكانت عليه الهزيمة ففر في فلوله الباقية إلى القيروان، ونهب العرب جميع محلته، وقتلوا من حشوده أكثر من ثلاثة آلاف. ثم حاصر العرب مدينة القيروان، وطال حصارها، وخرب العرب أحوازها، وعاثوا فيها أيما عيث، وطوقت زغبة ورياح المدينة، ففر منها الأعيان والقرابة من آل زيري، وفر كثير من أهلها إلى تونس. وملك العرب في نفس الوقت قسنطينة وسائر أعمالها، واقتسموا بلاد إفريقية، وذلك في سنة 446 هـ، فكان لزغبة طرابلس وأحوازها، ولمرداس من رياح باجة وما إليها، ثم اقتسموها مرة أخرى، فكان لهلال من تونس إلى الغرب، وبطونهم رياح وزغبة وجشم وقرة والأثبج وسفيان.
وغلب عائد بن أبى الغيث من شيوخهم على تونس، ونهبها، وملك أبو مسعود
سوسة صلحاً. ورأى المعز بن باديس ملكه يتصرم، فحاول التقرب من العرب، وصاهر ببناته الثلاث ثلاثة من أمرائهم، هم فارس بن أبى الغيث وأخوه عائد، والفضل بن أبى علي المرادي، ولكن ذلك لم يحقق له ما أمل، فسار إلى القيروان وسار العرب في أثره، فخشى أمرهم، وانحرف نحو الشاطىء ودخل العرب مدينة القيروان وخربوها ونهبوها، وعاثوا فيها أيما عيث واستباحوا سائر حريمها، واستصفوا سائر أموال المعز وآله، وفر عنها أهلها في سائر الأنحاء. وسار العرب بعد ذلك إلى المهدية، فنزلوها، وضيقوا على أهلها، وكثر فسادهم وعيثهم وتصدت زناتة بعد صنهاجة لمقاومتهم، فغلبوا عليها، واستولوا على سائر الضواحى والأعمال في تلك المنطقة. واضطرب أمر إفريقية. وساد بها الذعر والفزع، وانهارت أركان الأمن، وفسدت السابلة، وبسط العرب عليها حكم عصابات مروع، وغلبوا على صنهاجة وزناتة ومغرواة وغيرها، وسيطروا على نواحي طرابلس، وقابس والزاب، ومعظم أعمال إفريقية (1).
ثم وقع التهادن والصلح بينهم وبين صنهاجة وبقية القبائل البربرية، وتفرقوا في الضواحى والبوادي، فتكاثروا في تلك الجهات، وتأثل نفوذهم وسلطانهم بمضي الزمن، وأضحوا عاملا يحسب حسابه في ميزان القوى، في إفريقية، وفي بلاد الزاب، والمغرب الأوسط. بيد أنهم لبثوا دائماً عنصراً من عناصر الاضطراب والفوضى، يتنقلون بين مختلف الأحزاب والمعسكرات، ويتدخلون في مختلف الحروب التي تنشب على مقربة من ديارهم، لا تحدوهم في ذلك أية مثل سياسية أو دينية، ولا هم لهم إلا اجتناء الكسب والمغانم، من أي جانب وبأي الوسائل، وقد رأينا ما وقع بينهم وبين الموحدين من معارك، على أثر افتتاح عبد المؤمن لبجاية. وقد كانوا أولياء لأمرائها من بني حماد، يعيشون في كنفهم وتحت حمايتهم.
تلك هي قصة نزوح العرب إلى إفريقية وقصة تخريبهم لها. وقد نوه سائر الكتاب والمؤرخين المعاصرين والمتأخرين بتلك الروح العدوانية المخربة، وتلك الخواص الذميمة التي سادت طوائف العرب النازحين، وجعلت منهم عنصراً خطراً، تتوق سائر السلطات وسائر العناصر الأخرى من السكان إلى سحقه
(1) ابن خلدون في كتاب العبر ج 6 ص 13 وما بعدها.
وإبادته، وإنقاذ العباد من شره وعدوانه (1). وسوف نرى فيما بعد أي دور خطير يلعبه أولئك العرب في حوادث إفريقية أيام نزول بني غانية بها.
وكان عبد المؤمن حينما تم له فتح المهدية، وإجلاء الفرنج من إفريقية، يتجه بكل جوارحه نحو شئون الأندلس. وكان يعتقد أنه يستطيع أن يستعين بطوائف المرتزقة من أولئك الأعراب، في حملات الجهاد التي يزمع تسييرها إلى شبه الجزيرة، وكانت طائفة من بني سليم قد اعتدت على مدينة قابس، على أثر افتتاح الموحدين لها، فبعث إليهم عبد المؤمن يعاتبهم ويستدنيهم، ووجه إليهم في ذلك شعراً من نظم القاضي ابن عمران. بيد أنهم تمادوا في عدوانهم، وتغلبوا على قابس، فبعث عبد المؤمن عسكراً لقتالهم، وهو بالمهدية، فهزمهم، واستنقذ قابس من أيديهم (2).
وفكر عبد المؤمن قبل عودته إلى المغرب، أن يدعو العرب إلى الانتظام في عسكره، فجمع زعماء العرب من بني رياح وغيرهم، وحثهم على نصرة الإسلام بالأندلس، وطلب إليهم أن يجهزوا لهذه الغاية عشرة آلاف فارس، من أهل النجدة والشجاعة، ليجاهدوا في سبيل الله، إلى جانب الجيوش الموحدية، فتظاهروا بالموافقة والطاعة، وأقسموا على ذلك، وساروا معه حتى جبل زغوان. وكان من بين زعمائهم، زعيم يدعى يوسف بن مالك، فاتصل بعبد المؤمن بالليل، وأخبره بأن العرب لا يريدون المسير إلى الأندلس، وأنهم يعتقدون أنه يريد بذلك أن يخرجهم من بلادهم، وقد تحقق صدق ذلك في الليلة التالية، إذ هرب العرب تحت جنح الظلام إلى عشائرهم، ولم يبق سوى يوسف هذا، فسماه عبد المؤمن يوسف الصادق، وسار عبد المؤمن في قواته حتى وصل إلى مقربة من قسنطينة، ونزل هناك في وادي مخصب يقال له وادي النساء، بعيداً عن أطراف العمران، واستمر هنالك عشرين يوماً، والسكينة ترفرف على جيوشه، وقد انصرف العرب إلى أحيائهم التي يحتلونها. فلما علم عبد المؤمن باجتماعهم ثانية في أحيائهم بعث إليهم جيشاً من ثلاثين ألف مقاتل، بقيادة ولديه أبى محمد وأبى عبد الله،
(1) يشير ابن خلدون في مواضع كثيرة إلى عيث أولئك العرب وتخريبهم لمدن إفريقية (راجع كتاب العبر ج 6 ص 14 و 15 و 16). ويشير الإدريسي إلى ذلك غير مرة (وصف المغرب وأرض السودان ومصر، الأندلس ص 93 و 105 و 109 و 122)، وكذلك صاحب الاستبصار في عجائب الأمصار (ص 128 و 161)، وغيرهم.
(2)
البيان المغرب - القسم الثالث ص 39.
فسار الموحدون في هدوء، وانعطفوا إلى الصحراء، وراء أحياء العرب، حتى لا يفلتوا بالتوغل فيها، وكان العرب قد احتشدوا جنوبي القيروان عند جبل القرن، تحت إمرة بعض المشاهير من مقدميهم، مثل أبى محفوظ محرز بن زياد، ومسعود بن زمام، وجبارة بن كامل بن سرحان وغيرهم، فلما دهمهم الموحدون اضطربوا واختل نظامهم، وفر مسعود وجبارة ومن معهما من العشائر، وثبت محرز بن زياد ومن معه، واشتبكوا مع الموحدين في معركة عنيفة، وذلك في منتصف شهر ربيع الآخر من سنة 555 هـ، فقتل محرز، وانهزمت جموع العرب، وسقط متاعهم وحريمهم وولدهم في أيدي الموحدين، فأمر عبد المؤمن بالتحفظ عليهم ورعايتهم، حتى أقبلت وفود رياح والأثبج، في طلب حريمهم، فردهن إليهم، وفرق فيهم الصلات، واستمالهم بحسن صنيعه، وانتهى بأن جهز منهم قوة لتشترك في الجهاد في الأندلس (1). وسوف نرى فيما بعد أي دور هام يلعبه أولئك العرب، في حوادث المغرب والأندلس، وكيف تعمد السياسة الموحدية إلى استمالتهم والاستعانة بهم، ولاسيما في عهد الخليفة أبى يعقوب يوسف ولد عبد المؤمن وخليفته.
وفي شهر ذي القعدة سنة 555 هـ (نوفمبر سنة 1160 م) عبر الخليفة عبد المؤمن البحر إلى الأندلس، وكان عبوره إليها حادثاً هاماً من أشهر حوادث العصر، وكانت له نتائج بعيدة المدى.
بيد أنه يجب قبل أن نتحدث عن عبور الخليفة الموحدي إلى شبه الجزيرة، أن نستعرض ما تقدمه من الحوادث المتعلقة بموقف الموحدين من شئون الأندلس.
(1) ابن الأثير ج 11 ص 92 و 93.